بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلَهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً إِنّمَا إِلَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً [سورة طه:95-98].
يقول موسى للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حُبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر، وقال قتادة: كان من قرية سامراء، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ، أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ، أي: من أثر فرسه، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال مجاهد: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ
القبضة ليست بأطراف الأصابع، وإنما تكون بملء الكف، والقبصة –بالصاد- بأطراف الأصابع، وجاء في قراءة غير متواترة "قبصة".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن السامري: "كان اسمه موسى بن ظفر، قال قتادة: كان من قرية سامراء" إلى آخره: كل هذا متلقى عن بني إسرائيل ولا يثبت فيه شيء، وفيه أقوال غير هذا متعددة، ومثل هذا لا يترتب عليه أثر، ولا يبنى عليه عمل، والبحث عنه غير مجدي، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ، قال: أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، فسرها هنا بَصُرْتُ، أي: علمت، تقول: فلان له بصر في كذا، فلان أبصر كذا، فيمكن أن يكون بمعنى علم، وتقول: تبصرت في كذا، ولهذا حمله ابن جرير -رحمه الله- على معنى علمت، بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ بمعنى علمت ما لم يعلموا.
بعض أهل العلم يقول: إنه عرف ذلك، أُلقي في نفسه -ألقي في روعه، بعضهم يقول: إنه لما رأى الأرض تنبت تحت حافر الفرس وقع في نفسه أنه لا يُلقي ذلك على شيء إلا وجدت فيه الحياة، أو أنه يقول له: كن كذا، فيكون.
والشاهد أنه عرف شيئاً لم يعرفه الآخرون، وسواء كانت من الرؤية البصرية، أو من رؤية القلب والعلم فإنه حينما رأى فرس جبريل ببصره عرف من ذلك أنه يستطيع بهذا الفعل أن يحقق أمراً كهذا، يقول: فَنَبَذْتُهَا، أي: ألقيتها مع من ألقى، وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي".
قوله: أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي لا تماس الناس ولا يمسونك"، يعني: لا يمس الناس ولا يمسونه، فإذا مس أحداً أو مسه أحدٌ حُمَّ، كان يصاب بالحمى، ويتأذى بذلك، فإذا أراد أحد أن يقترب منه قال له: لا مساس، لا تمسني من أجل أن لا أُصاب بالحمى، هكذا قال بعضهم، وبعضهم قال غير هذا، والشاهد أن منهم من يقول: إن ذلك بمعنى أنه لا يختلط بالناس، ولا يجلس معهم، بمعنى أنه يُهجر، فهُجر، فصار لا يجلس معه أحد، لكن المس غير الهجر، فالذي يظهر -والله أعلم- أنها عقوبة حلت به فصار يقول: لا مساس؛ لأنه لا يطيق ذلك لسبب أو لآخر، -والله أعلم.
وبعضهم فسر المساس هنا: بمعنى أنه لا يطيق الجماع، مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة:237] يعني أن تجامعوهن، وهذا بعيد، والله تعالى أعلم.
يعني: أن عقوبته في الدنيا أن يقول: لا مساس، وله عقوبة أخروية لن تتخلف، يقال كما قال الله : وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ، يعني: أن ذلك واقع بك لا مناص ولا محيد من الوقوع فيه، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، هو ليس بإله، ولكنه سماه إلهاً بحسب نظر المخاطب، فهو قال: إنه إله، فخاطبه بما يعتقد أو بما يزعم، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، قال: "أي أقمت على عبادته، يعني: العجل".
لّنُحَرّقَنّهُ قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سَحَله بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً، فحرقه بالنار، ثم ألقى أي: رماده في البحر، ولهذا قال: ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلاً، قال: فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرّده بها وهو على شط نهر فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا قال السدي، وقد تقدم في تفسير سورة البقرة، ثم في حديث الفتون بسطُ ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، العكوف هو المكث الطويل، ملازمة الشيء، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، وقوله -تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [سورة طه:105]
فالشاهد أن معنى لَنَنسِفَنَّهُ هكذا فسرها طائفة من أهل العلم، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: بمعنى لنذرينّه في البحر تذريةً، يذرى العجل الذي من الذهب في البحر ببرده بالمبارد، ولهذا يقول ابن عباس -ا: "سحَلَه بالمبارد وألقاه على النار" فابتداءً يبرد ثم يحرق، إن صح ذلك عنه، ومهما يكن من أمر فإن قوله: لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ إذا قلنا بأن النسف هو التذرية في الرياح فإن ذلك لا يكون إلا بعد تبريده، لأنه لا يكون إلا للشيء المفتت، وهذا يدل على أنه من ذهب وليس من لحم ودم، فهذا المعنى على قول من قال بأنه برده بالمبارد، وأما إذا كان من لحم ودم فإنه يكون رماداً إذا أحرق، وحديث البخاري: إذا مت فأحرقوني[1]، الشاهد أن هذه التذرية في الريح لابد أن يسبقها شيء آخر غير الإحراق وهو أن يبرد بالمبارد بحيث يتفتت ثم بعد ذلك يطير في الهواء لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا.
هذا تمييز محول عن الفاعل، وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً يعني: وسع علمه.
فـ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سورة سبأ:3]، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام:59]، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة هود:6]، والآيات في هذا كثيرة جداً.
كَذَلِكَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً[سورة طه:99-101].
يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعونَ وجنودِه على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا، أي: من عندنا ذكراً، وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي لم يُعطَ نبيٌّ من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد ﷺ كتاباً مثله، ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه.
قوله -تبارك وتعالى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً القرآن سماه الله بهذا، لأنه متضمن للتذكير والمواعظ وما يحتاجون إليه فيما يكون به صلاحهم في الدنيا وفي الآخرة، كذا قال بعضهم، وبعضهم يقول: قيل له ذكر؛ لأنه يذكر آلاء الله ونعمه على عباده، فهو متضمن لهذه الأمور، وبعضهم يذهب في المعنى إلى غير هذا: أنه ذكْر: بمعنى شرف للنبي ﷺ ولأمته كما فسر بعضهم قوله -تبارك وتعالى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً، القرآن قيل له ذكر؛ لما تضمنه من التذكير بنعم الله ، والتذكير بما فيه من المواعظ والعبر، وقص الله فيه أخبار الأمم وما جرى للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، وذكّر الله فيه بثوابه وعقابه، وبجنته وناره، إلى غير ذلك مما تضمنه هذا القرآن، والله أعلم.
الوزر: هو الحمل، وأصل معناه الحمل الثقيل، ويطلق الوزر على الإثم تقول: فلان يحمل وزر فلان؛ لأنه أضلّه مثلاً، بمعنى أنه يحمل إثماً بسبب ذلك، كما أن الوزر يطلق على نتيجة الإثم وما ينتج عنه، فإن الذي يحمل الأوزار والآثام يعاقب عليها ما لم يحصل مانع يمنع من العقوبة من مغفرة، أو شفاعة، أو ذنوب مكفرة، أو حسنات ماحية، أو غير ذلك من الموانع، فهذه الذنوب والآثام المترتبة على الذنوب تكون أثقالاً يحملونها، كما عبر الله عن ذلك في موضع آخر، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] فهذه الأثقال هي الأوزار، فالوزر لا يكون للحمل الخفيف وإنما يكون للحمل الثقيل فهو يثقل حامله، وقوله: خَالِدِينَ فِيهِ يعني في الوزر، وقيل: في هذا العذاب والعقاب، وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا يعني: هذا الوزر، وسماه حملاً.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن تلاعبه بهم عبادتهم العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة والأخذة الرابية، ونبيهم حي لم يمت، هذا وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ويصليه النار، ويدقه بالمطرقة، ويسطو عليه بالمبرد، ويقلبه بيديه ظهراً لبطن، ومن عجيب أمرهم أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعاً عن نفسه، بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل، فجعلوه إله كليم الرحمن، ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى ضالاً مخطئاً، فقالوا: فنسي، قال ابن عباس: أي ضل وأخطأ الطريق، وفي رواية عنه: أي أن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه.
وعنه أيضاً: نسي أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقال السدي: أي ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه، وقال قتادة: أي أن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر، هذا هو القول المشهور، أن قوله: فنسي: من كلام السامري وعباد العجل معه.
وعن ابن عباس رواية أخرى أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري أنه نسي، أي ترك ما كان عليه من الإيمان، والصحيح القول الأول، والسياق يدل عليه، ولم يذكر البخاري في التفسير غيره.
فقال: فنسي موساهم، يقولون: أخطأ الربَّ، فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالاً من بني إسرائيل يوردونه عليه فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟، فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله: فَنَسِيَ، وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم، فانظر إلى هؤلاء كيف اتخذوا إلهاً مصنوعاً من جوهر أرضي، إنما يكون تحت التراب محتاجاً إلى سبك بالنار وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقاً بمطارق الحديد مقلباً في النار مرة بعد مرة، قد نحت بالمبارد وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم، وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال حيث ذهب يطلب إلهاً غيره.
قال محمد بن جرير: وكان سبب اتخاذهم العجب ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثني إبراهيم بن بشار الرمادي حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس ما قال: لما هجم فرعون على البحر -هو وأصحابه- وكان فرعون على فرس أدهم، فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فمثل له جبريل على فرس أنثى، فلما رآها الحصان تقحم خلفها، قال: وعرف السامري جبريل، فقبض قبضة من أثر فرسه، قال: فأخذ قبضة من تحت الحافر، قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ.
قال أبو سعيد: قال عكرمة عن ابن عباس: وأُلقي في رُوع السامري: إنك لا تلقيها على شيء فتقول: كن كذا وكذا إلا كان، فلم تزل القبضة معه -في يده- حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر وأغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ [سورة الأعراف:142]، ومضى موسى لموعد ربه، قال: وكان مع بني إسرائيل حلية من حليّ آل فرعون قد استعاروه فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله، فلما جمعوه قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا، فقذفها فيه وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فصار عجلاً جسداً له خوار، فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [سورة طه:90، 91].
وقال السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط، فلما نجّى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره -ويقال: إنه فرس الحياة- فقال حين رآه: إن لهذا لشأناً، فأخذ من تربة حافر الفرس، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرئيل[2]".
هذه الأشياء متلقاة من بني إسرائيل، فالله تعالى أعلم.
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا[سورة طه:102-104]
ثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ سئل عن الصور فقال: قرن ينفخ فيه، وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم، الدائرة منه بقدر السماوات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل ، وجاء في الحديث: كيف أنعمُ وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنا جبهته، وانتظر أن يؤذن له، فقالوا: يا رسول الله كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا[3].
قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ يحتمل أن يكون ذلك مرتبطاً بما قبله، بمعنى أن الله قال: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ساء لهم يوم القيامة حملاً حين ينفخ في الصور، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
والقول بأنه مستأنف قد يكون أولى -والله تعالى أعلم، وفي مثل قوله: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ، عادة يكون التقدير: واذكر يوم ينفخ في الصور.
قوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا قال: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال، وبعضهم فسره بالعطاش، كالأزهري والزجَّاج، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا أي: عطاشاً، وعلاقة هذا بـ "زرقاً": أن شدة العطش يتسبب عنها تغير في لون العين إلى الزرقة، فقالوا: إن هذا عبر فيه بالنتيجة وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا وسبب هذه الزرقة هو العطش الشديد، فيكون هذا من قبيل التفسير بالمطابق؛ لأنهم يقرون أن العين تتغير إلى لون الزرقة، لكنهم ذكروا سبب زرقة هذه العيون وهو شدة العطش.
وتفسير ابن كثير -رحمه الله- يقول: "زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال"، وكثير من أهل العلم يفسرونها بزرقة العيون، سواء كان ذلك بسبب العطش، أو كان من شدة الأهوال، أو غير ذلك، علامة فارقة يُعرفون بها، والعرب تقول لمن كانت عينه خضراء: أزرق، أصحاب العيون الرزق أو الخضر، يقال للرجل: أزرق، كما في الحديث: يطلع عليكم رجل ينظر بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه[4]، فجاء رجل أو طلع رجل أزرق، يعني أزرق العينين، ويعتقدون أن زرقة العين تدل على الغدر وهو شيء مكروه عندهم، لكن هذا ليس بلازم، فهذا خلق الله ، ومن هؤلاء من يوجد فيه غدر، ومنهم من لا يوجد فيه غدر، كما أن سواد العين ليس بلازم أن يكون صاحبه سالماً من هذه الأوصاف، فقد توجد وقد لا توجد.
وبعضهم فسر الزرقة في قوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا قال: أي عمياً، وهؤلاء يستندون إلى بعض ما جاء عن العرب في التعبير، وهذا القول قال به الفراء، فالعرب لربما قالوا للأعمى: أزرق، يعني: أعمى، ولكنه خلاف الظاهر المتبادر، وكأن هذا القائل قال بذلك ليجمع بين الآيات ويخرج من الإشكال، فإن الله -تبارك وتعالى- قال عن المجرمين: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا، ولهذا سئل ابن عباس عن: يحشرون عمياً، وهنا قال: يحشرون زرقاً، فعلى قول الفراء لا منافاة "زرقاً" بمعنى "عمياً": فتفسر هذه الأخرى، وعلى قول الجمهور -كما قال ابن عباس -ا: لأن يوم القيامة يوم طويل فيحصل لهم هذا وهذا، والله أعلم.
قال بعض أهل العلم: إنهم قصدوا أن المدة التي بقوا في القبور كانت مدة يسيرة، وبعضهم يقول: إن المقصود ما بين النفختين، وهذا أبعد هذه الأقوال، ولعل الأقرب أن المقصود بذلك الدنيا، أن مدة المكث في الدنيا كانت قصيرة، -والله أعلم، وقول من قال: إن ذلك كان في القبور مبني على أن المكث في القبور وبقاء الإنسان الميت -كما يقال في النائم- يقصر عليه، يعني هؤلاء الذين ماتوا من ألف سنة أو من ألفي سنة هي بالنسبة إليهم ليست مثل الأحياء طويلة جداً، فمن يريد أن يقصِّر الأوقات ويختصر يومه ينام، فربما ينام يوماً وليلة كاملة ويستيقظ ويظن أنه ما نام إلا خمس دقائق، وهذا يحصل للإنسان وهو شيء مجرب، فلو أن شخصاً ابتلي ببعض أنواع المرض التي تسبب له النوم الكثير، فإذا نام واستيقظ في مثل هذا الوقت من الغد لربما ينظر فيظن أنه نام في الصباح والآن هو في الضحى أو العصر، نام ساعة أو قريباً منها فقط، يتعجب أنه ما نام أصلاً، والمقصود بذلك والأقرب: أنهم قصدوا: في الدنيا، والله أعلم.
قال الله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ أي: في حال تناجيهم بينهم، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: العاقل الكامل فيهم إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا أي: لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد؛ لأن الدنيا كلها -وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها- كأنها يوم واحد، ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة، وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، ولهذا قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ إلى قوله: وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [سورة الروم:55، 56].
وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [سورة فاطر:37] الآية، وقال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة المؤمنون:112-114] أي: إنما كان لبثكم فيها قليلاً، لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15]، برقم (7069)، من حديث أبي سعيد الخدري .
- انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم الجوزيه (2/300-302).
- رواه أحمد في المسند برقم (3008)، من حديث ابن عباس -ا، وقال محققوه: حسن لغيره.
- رواه أحمد في المسند برقم (2147)، وقال محققوه: إسناده حسن، والطبراني في المعجم الكبير برقم (12307)، من حديث ابن عباس -ا.