بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ [سورة الأنبياء:36-37].
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه: يقول تعالى لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه: وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ يعني: كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أي: يستهزئون بك وينتقصونك، يقولون: أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم؟ قال تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ أي: وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله، كما قال في الآية الأخرى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً [سورة الفرقان:41، 42].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً، "إن" هذه هي النافية، بمعنى ما يتخذونك إلا هزواً، يعني مهزوءاً بك، يستهزئون به، وهذا الاستهزاء يقولون: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ، أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، والذكر إذا قالت العرب: فلان يذكر فلاناً فإن ذلك يكون في المدح أو الذم، بحسب المقام، فإن كان يحبه فإنه يفهم من ذلك المدح، يذكر فلاناً، فلان يذكرك، ذكرك في مجلسه، بمعنى أثنى عليك، وإذا كان يبغضه ويعاديه، فإن ذلك يعني الذم، فلان يذكرك بمعنى أي أنه يعيبك ويذمك.
إذا قالت العرب: فلان يذكر فلاناً فإن ذلك يكون في المدح أو الذم، بحسب المقام، فإن كان يحبه فإنه يفهم من ذلك المدح، يذكر فلاناً، فلان يذكرك، ذكرك في مجلسه، بمعنى أثنى عليك، وإذا كان يبغضه ويعاديه، فإن ذلك يعني الذم، فلان يذكرك بمعنى أي أنه يعيبك ويذمك.
أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: بالعيب والنقص، ويعيبها ويذمها، ويقول: إنها ليست بآلهة، وإنها لا تنفعهم، والله -تبارك وتعالى- يقول عنهم: وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ، الذكر هنا مصدر يحتمل أن يكون المراد به وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ أي: بكتابه، وهو هذا القرآن، فهو ذكره وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ [سورة الزخرف:44]، فهم كافرون به، ويحتمل أن يكون: وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَنِ أي: أنهم كافرون بالله ، بما ينسبون إليه من النقائص، ويجعلون له الشركاء، فعبدوا معه غيره.
قوله: خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسرها بقوله: وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً قال: "أي في الأمور"، بمعنى أن قوله: خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍالمراد بالعَجل هنا العجلة، ومعلوم أن الإنسان خلق من نطفة، وأن أصله من طين في خلق أبينا آدم ﷺ، ولكن العرب قد تعبر بمثل هذا في ذكر الأوصاف لبيان شدة رسوخها وتعلقها، وملازمتها لهذا الإنسان، خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ لشدة تمكن العجلة فيه كأنه قد خلق منها، وهذا هو الراجح، والمتبادر من معنى الآية.
وبعضهم يقول: خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ أي: من طين، فالطين يقال له: عجل، وهذا وإن كان صحيحاً في كلام العرب، إلا أنه خلاف الظاهر المتبادر، والقرآن لا يجوز حمله على غير الظاهر المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، فالظاهر المتبادر أن المراد بالعجل العجلة، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً.
وبعض أهل العلم يرجع خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ إلى خلْقه، أن الله خلقه في آخر ساعة من الجمعة، يعني خلق في وقت يسير، خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ، لا أن ذلك يدل على صفته هو، وإنما يدل على صفة خلقه، خَلقهُ الله في وقت يسير، خلق في آخر ساعة من الجمعة، خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ يعني: في عجل، في وقت يسير قصير في آخر النهار، بآخر أيام الخلق، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وأظن -والله أعلم- أن هذا القول هو أضعف هذه الأقوال وأبعدها، والله -تبارك وتعالى- خلق كل شيء بقوله: "كن" فكان، فهذه السماوات والأرض خلقها الله جميعاً وما فيها في ستة أيام، وهذا وقت يسير، والإنسان إنما هو واحد مما لا يحصيه إلا الله من المخلوقات المبثوثة في السماوات والأرض، والله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، فهذا لا يختص بالإنسان، وتفسير خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ بهذا مع أن في الآية قرينة تدل على خلافه، وهو قوله: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ فدل على أن ذلك المراد به العجلة، التي هي صفة راسخة فيه، فينهاه عن مقتضياتها وآثارها، سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، ولهذا فإن قول جمهور المفسرين -كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إن المقصود به العجلة التي طبع عليها الإنسان وجبل عليها.
وأما المناسبة في ذكر هذا الخلق بهذه الصفة خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ وفي هذا السياق من الآيات في الرد على المشركين، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، المشركون لما كانوا يطلبون الآيات، والمقصود بالآيات يعني كتلك التي نزلت على الأنبياء، كناقة صالح، الآيات التي يقترحونها، وعصا موسى، وغير ذلك مما أظهره الله من الخوارق على أيدي الأنبياء السابقين، فهم يطلبونها، ويقولون: أين هذه الآيات، لماذا لا يأتي بآية؟ فالله يرد عليهم يقول: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، وذلك بما يظهره الله على يد رسوله ﷺ من دلائل صدقه، من الحجج والبراهين الدامغة التي لا تترك في الحق لبساً.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي "أي: نقمي"، يعني على من عصاني، فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ حمل الآيات على النقم، كما تقول: اللهم أرنا فيه آية، أي: نقمة، قارعة تنزل به، وهذا باعتبار أنهم استعجلوا العقوبة، وقالوا: أرنا ما تعدنا، قال: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي، والمعنى الثاني هو الذي ذكرته أي ما يدل على صدقه ﷺ.
وقال سبحانه: وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [سورة الأنبياء:37-40].
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستبعاداً، فقال: وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قال الله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ أي: لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به، ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر:16]، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [سورة الأعراف:41]، وقال في هذه الآية: حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ، وقال: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [سورة إبراهيم:50]، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.
ذكر الله -تبارك وتعالى- جهتين حين لا يكفون النار عن الوجوه والظهور، فذكر الوجوه والظهور -والله تعالى أعلم- ليدل على الإحاطة، وهذا يكثر ذكره في القرآن، وهو معروف في كلام العرب، الله يقول: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فهذا لبيان أن جميع ما في هذا الكون ملك لله ، يعني والشمال والجنوب، فيذكر الجهتين ليدل على الباقي، ولهذا أورد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذه الآيات التي تدل على إحاطة النار بهم من كل جانب، أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [سورة الكهف:29]، ومثل هذه النماذج في تفسير ابن كثير وهي كثيرة لا تكاد تخلو منها صفحة، هذه كلها مفيدة في تفسير القرآن بالقرآن، وهو الجانب الذي يعتني به الحافظ ابن كثير -رحمه الله، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ، المهاد الذي يكون تحتهم، مثل مهاد الصبي، كالفراش، وهنا وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ إلى غير هذا من الآيات.
تبهتهم يعني تَفْجؤهم، وبعضهم يقول: تحيرهم، وبين هذه المعاني ملازمة، إذا فجأته فإنه يتحير، لا يدري كيف يصنع، كيف يتصرف للمفاجأة، فهو لم يسبق له استعداد من أجل أن يزوّر في نفسه تصرفاً، يتهيأ لشيء يفعله، فيستسلمون لها حائرين.
قال بعضهم: الضمير في قوله: فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يرجع إلى النار، أي: لا يستطيعون رد النار التي تحرقهم وتحيط بهم من كل جانب، وبعضهم يقول: راجع إلى الوعد، بتأويله بالعدة، فهم يتساءلون يقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، فقال الله: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يعني: العدة، وإن كان هذا يحتمل، لكن الذي قبله أوضح منه -والله تعالى أعلم- في المعنى، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا يعني: النار التي ذكرها الله -تبارك وتعالى.
وقوله -تبارك وتعالى: لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَإلى آخر ما ذكر، لم يذكر جواب "لو"، وجواب "لو" يحذف في مواضع كثيرة ثقة بفهم السامع، إذا كان ذلك يدرك، وذلك يكون في بعض المقامات أبلغ، في أحوال من التخويف والتهويل، أو الترغيب أيضاً، فأنت قد تقول لآخر: لو تعلم ما ينتظرك، لو تدري، يعني لما قلت كذا، يعني لما فعلت كذا، وأحياناً يذكر، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً[1].
وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ أي: ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
وقال سبحانه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ [سورة الأنبياء:41-43].
يقول تعالى مسلياً لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون يعني: من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأنعام:34]، ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام، فقال: قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَنِ أي: بدل الرحمن، يعني غيره.
قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَنِ، يقول هنا: "أي بدل الرحمن"، فيكون المراد بـ"مِن" هنا الدلالة على البدلية، "يكلؤكم من الرحمن" أي: بدلاً منه، وهذا المعنى صحيح في لغة العرب، وقد جاء في القرآن ما يدل على هذا، وله شواهد من العربية، فالله يقول: وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [سورة الزخرف:60]، ومعنى لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً أي: نجعلكم ملائكة، أو أن المقصود أي: بدلاً منكم، لا أنهم يتحولون إلى ملائكة، فيكون معنى: لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً أي: لجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون، على أحد القولين في تفسير الآية، يعني بدلكم، ومن هذا أيضاً قول الشاعر:
جاريةٌ لم تأكل المرقّقاً | ولم تذقْ من البقول الفُستقا |
ولم تذق من البقول، يعني بدلاً منها، فالشاهد أن هذا معنى، وهو معنى قريب -والله تعالى أعلم، ويحتمل أن يكون قوله: قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم مضمناً معنى يجيركم وينجيكم، مَن يَكْلَؤُكُم أي: من يجيركم من الرحمن، يجيركم منه، ومن ينجيكم منه، وسبق الكلام على التضمين، وأن الفعل قد يضمن معنى الفعل فيعدى بتعديته، يعني بتعدية الفعل الذي قد ضمن معناه، فإذا قلت: يجيركم فإن هذا يعدى بمن، يجيركم من الرحمن، إذا قلت: إنه مضمن معنى ينجيكم، يكلؤكم: الكلاءة بمعنى الحفظ، فإذا ضمن معنى ينجيكم، فإن ينجي يعدى بمن، ينجيكم من الرحمن.
قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا، مّن دُونِنَا يحتمل أن يكون متعلقاً بآلهة، فيكون المعنى أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بتمنعهم، فيكون المعنى أي: تمنعهم من الله، تمنعهم تعصمهم فلا يصل إليهم بأس الله ، على المعنى الأول: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ أنه متعلق بآلهة، يعني آلهة من دوننا، وهذا كثير في القرآن وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [سورة مريم:81]، ويمكن أن يفسر بهذا فتكون الآلهة من دونه، ويحتمل المعنى الآخر، والمعنى الأول رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- باعتبار أنه كثيراً ما يرد في القرآن، أن يكون متعلقاً بآلهة، وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً.
قوله: وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ "أي: يجارون"، وهذا هو المعنى المشهور، الذي عليه كثير من المفسرين واختيار ابن جرير، ورجحه الشنقيطي من المعاصرين، وابن جرير -رحمه الله، وبعض الذين رجحوا هذا المعنى مثل الشنقيطي يقولون بأن المعاني الأخرى راجعة إليه، فقول من قال بأن معناه: ينصرون مثلاً فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ، أي: ينصرون، أو يمنعون، المعنى متقارب، فإذا قيل: يجارون فإن إجارتهم تعني منعهم، ونصرهم، فذلك يرجع إلى معنًى واحد، والله تعالى أعلم.
وقال سبحانه: بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْن َأَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قُلْ إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمُّ الدعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ [سورة الأنبياء:44-47].
يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، ثم قال واعظاً لهم: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا يذكر المناسبة بين قوله: بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ وما قبلها فيقول: "إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتعوا في الحياة الدنيا، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء"، فهذا التمتيع الذي حصل لهم والإنعام والإفضال والإمهال بسبب أنهم على جادة؟ وعلى عمل صحيح؟ وعبادة قويمة؟ فالله يرد عليهم بَلْ مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، ولكن هذا لا يعني أنهم على حق، بل وجّه نظرهم إلى ما يحصل حولهم، على أحد الأقوال كما سيأتي، أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فالواجب أن لا يغتر أحد بالإمهال.
ويمكن أن يقال: لما أبطل الله معبودات المشركين وما هم عليه من عبادة غير الله أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتيع والإمهال أن ذلك ليس بسبب مانع يمنعهم من الله -تبارك وتعالى، وإنما الله أمهلهم لعلهم يرجعون ويتوبون، ولكن إذا أراد أخذهم فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا يغتر أحد بإمهال الله ، كما لا يغتر بما يفيض عليه ويدر عليه من النعم، فإذا كان العبد على غير طريقة مستقيمة فإن هذا يكون من قبيل الاستدراج، كما قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183]، فإذا رأيت الله يوالي نعمه على عبده وهو في حال من الإعراض عنه فإن ذلك استدراج، ليزداد إثماً، وإذا كان العبد على طاعة واستقامة ونحو ذلك رُجي أن يكون ذلك من باب الإفضال والإنعام، وما يعجل للإنسان في هذه الدنيا من جزاء الأعمال الصالحة، والله أعلم.
المراد بقوله: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا كقوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ، والمقصود بالقرى المُهلَكة التي نزلت بها المثلات والعقوبات، مثل ثمود، وقوم لوط، وقوم هود، وغير ذلك ممن عذبهم الله ، كما يقول الله : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة الصافات:137، 138]، ولما ذكر قوم لوط قال: مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83] أي: العقوبة، وهذه الآية وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى يعني القرى المهلكة المعذبة، فيكون هذا التفسير باعتبار أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بإهلاك المكذبين والظالمين والمجرمين؛ لأن هناك معنى آخر وهو أن المقصود به الذين في زمن النبي ﷺ تأخذهم سراياه وجيوشه حول مكة، نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، ولهذا يقول: قال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر، فقول الحسن المقصود به: أن نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا يعني: بما يحصل من الانتصارات على الكفار حول مكة، بفتح خيبر، بغزو بني المصطلق، وما حصل من الانتصار عليهم، وما إلى ذلك، والمعنى: أفلا يعتبرون؟
وبعضهم يقول: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أن المقصود بذلك موت العلماء، لكن هذا خلاف الظاهر المتبادر من القرآن، وبعض من يتكلم في التفسير العلمي والإعجاز العلمي يقول: إن اليابسة تتقلص وتقل، وما أشبه ذلك، وليس هذا هو الذي تفسر به الآية، والله أعلم.
ويقول الشيخ محمد الشنقيطي -رحمه الله- في قوله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ": في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء، وبعضها تدل له قرينة قرآنية:
قال بعض العلماء: نقصها من أطرافها موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة، وبُعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.
وقال بعض أهل العلم: نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس، والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية فهو أن معنى نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أي: ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها، وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام، والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ والاستفهام لإنكار غلبتهم، وقيل: لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور.
ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى: وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ [سورة الرعد:31] على قول من قال: إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النبي ﷺ تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم، وممن يروى عنه هذا القول: ابن عباس، وأبو سعيد، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم، وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر " سورة الرعد" أيضا في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُم ُلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة الرعد:41].
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير آية "الأنبياء" هذه: إن أحسن ما فسر به قوله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأحقاف:27].
قال مقيده -عفا الله عنه وغفر له: ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه، وعليه فالمعنى: أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله والكفر بما جئت به أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما أهلكنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق، كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاءوا به، وهذا هو معنى قوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد ﷺ لئلا نُنْزِلَ بكم مثل ما أنزلنا بهم، وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.
والمعنى أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالاً ولا أولاداً، كما قال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ [سورة الدخان:37] الآية، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة غافر:82]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [سورة الروم:9] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وإنذار الذين كذبوه ﷺ بما وقع لمن كذب مَن قبله مِن الرسل كثير جدا في القرآن، وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير -رحمه الله- من تفسير آية "الأنبياء" هذه بآية "الأحقاف" المذكورة كما بينا"[2].
والفرق بين القولين واضح، نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا يعني بظهور المسلمين وأخذ القرى، وذلك بما يتحقق من الانتصارات على يد رسول الله ﷺ وأصحابه، فتأخذهم جيوشه وسراياه قرية بعد قرية حتى يتسع نطاق الإسلام، ويمتد حكمه وهيمنته، والمعنى الثاني: أن الأخذ إنما هو بما ينزل من العقوبات، أو ما نزل من العقوبات على الأمم المكذبة، هذا الذي اختاره ابن كثير وهو الذي رجحه الشنقيطي -رحمه الله، وما ذكره الشنقيطي -رحمه الله- من أن قوله: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قد يكون قرينة للمعنى الآخر، وهو أن المقصود الانتصار الذي يحصل للمسلمين ليس بلازم؛ لأن الله هو الغالب، فالله -تبارك وتعالى- يخبر أنه أخذ القرى المكذبة فيقول: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ، فالله -تبارك وتعالى- غالب على أمره، فيهلك من شاء إهلاكه وينزل به ألوان العقوبات، ولا يستطيع أحد أن يرد ذلك أو يمتنع منه.
ولهذا قال: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ يعني: بل هم المغلوبون، الأسفلون، الأخسرون، والأرذلون.
وقوله: قُلْ إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ أي: إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه، ولهذا قال: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ.
قوله تعالى: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ يحتمل أن يكون من جملة ما أمره الله أن يقوله لهم، قُلْ أي: يا محمد إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمُّ الدّعَاءَ يعني: وقل لهم: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ، ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله ، قُلْ إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ثم الله يقول: وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء يقول: وإن أنذرتهم به مع العلم بأن الصم لا يسمعون الدعاء، فالله -تبارك وتعالى- قد أصم أسماعهم، عن السماع الذي ينفعهم، وهذا يحتمل، وفي قراءة ابن عامر، وهي قراءة متواترة ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ، فعلى هذه القراءة واضح أن هذا من كلام الله ، يعني يكون ما أُمر أن يقوله لهم: إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ فقط، قل لهم: إِنّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ثم قال: ولا تُسمِع الصمَّ الدعاءَ حينما تقول لهم هذا فأنت لا تسمِعهم سماع انتفاع، أو سماعاً أو إسماعاً ينفعهم، فتهتدي قلوبهم وتصلح وتزكو نفوسهم، فهذه القراءة لا احتمال فيها، أما القراءة الثانية فهي تحتمل، ويمكن أن تكون القراءة الأخرى مبينة للقراءة الأولى وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء أنه من كلام الله ، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فإنهما بمنزلة الآيتين.
يقول: "ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء"، باعتبار أن النفحة هي الشيء القليل اليسير، بعضهم يقول: هذا مأخوذ من نفح المسك، وابن جرير -رحمه الله- يفسر النفحة بالحظ والنصيب، وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ يعني: تقول: فلان نفح فلاناً من عطائه، يعني أعطاه قسماً وحظاً ونصيباً من المال، وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌأي: شيء من عذاب الله -تبارك وتعالى، وقد يفهم من هذا اللفظ والتركيب أن المقصود به الشيء اليسير، مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ أصابهم شيء يسير، فإنهم يقولون: يَا ويْلَنَا إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ.
وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ يعني العدل، فالقسط هنا يمكن أن يكون صفة للموازين، فهو مصدر "قِسْط" مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وموازين قسط، يعني ميزان عدل وموازين عدل، تقول: هم قوم عدل، يعني عدول، وهم قوم رضا، يعني أنهم مرضيون، فالمصدر يوصف به، ويكون لفظه مفرداً، ويوصف به الجمع كما يوصف به المفرد
فالقسط هنا يمكن أن يكون صفة للموازين، فهو مصدر "قِسْط" مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وموازين قسط، يعني ميزان عدل وموازين عدل، تقول: هم قوم عدل، يعني عدول، وهم قوم رضا، يعني أنهم مرضيون، فالمصدر يوصف به، ويكون لفظه مفرداً، ويوصف به الجمع كما يوصف به المفرد
، يعني وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ أي: ذوات القسط، لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وبعضهم يقول: فيه تقدير أي: لأهل يوم القيامة، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: لأهل يوم القيامة، وقالوا: هذا محذوف يفهم من السياق، مثلما قال الله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية، وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا أي: واسأل أهل العير، وبعضهم يقول: اللام بمعنى "في" وحروف الجر تتناوب، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: في يوم القيامة، وابن جرير -رحمه الله- يرجح أن يكون المراد: لأهل يوم القيامة، ويحتمل أن تكون اللام هذه للتوقيت، والعلم عند الله ، يقول: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جُمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة"، ويقول العلامة الشنقيطي -رحمه الله: "وقوله في هذه الآية الكريمة: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ جمع ميزان، وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص؛ لقوله: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:8]، وقوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [سورة الأعراف:9]"[3].
فالجمع في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ باعتبار أن كل واحد له ميزان، يحتمل أن يكون ميزان واحد يوزن به الناس جميعاً، ويحتمل أن يكون هناك موازين، الأشخاص يوزنون، والأعمال توزن، كما في حديث البطاقة، والسجلات توزن، والحديث: يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة[4].
وقال -رحمه الله: "فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:
ملكٌ تقوم الحادثات لعدله | فلكل حادثة لها ميزانُ |
والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه، وقد قدمنا في آخر سورة "الكهف" كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية: الْقِسْطَ: العدل، وهو مصدر وصف به، ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة:
ونعتوا بمصدرٍ كثيراً | فالتزَموا الإفراد والتذكيراً |
كما قدمناه مراراً، ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء: إنه المبالغة، وبعضهم يقول: هو بنيّة المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل، وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط"[5].
هذا على تقدير محذوف، موازين القسط أي ذوات القسط، لكن للمبالغة أنها موازين القسط يعني كأنه وصفها بأنها قسط، مبالغة في كونها؛ لأنها آلة العدل.
وقال -رحمه الله: "واللام في قوله: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فيها أوجه معروفة عند العلماء:
منها: أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان:
توهمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع"[6] |
لستة أعوام، اللام للتوقيت، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2]، فإن اللام هذه بعضهم يقول: هي للتوقيت، فهي تدل على الزمن، باعتبار أنه لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي: لأول حشر الجيش لهم، يعني تساقطوا لمجرد حشر الجيش لهم، ويحتمل أن يكون المعنى غير هذا، بل هذا من أبعد المعاني في تفسير هذه الآية: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.
وقال -رحمه الله: "ومنها: أنها لام "كي"، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حساباً في غاية العدالة والإنصاف.
ومنها: أنها بمعنى "في": أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.
والكوفيون يقولون: إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون: إن من ذلك قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أي: في يوم القيامة.
وقوله تعالى: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [سورة الأعراف:187] أي: في وقتها، ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي:
أولئك قومِي قد مضوْا لسبيلهم | كما قد مضى من قبلُ عادٌ وتُبّعُ |
يعني مضوا في سبيلهم، وقول الآخر:
وكل أب وابن وإن عمّرا معاً | مقيميْن مفقودٌ لوقت وفاقدٌ |
أي: في وقت.
وقوله تعالى في هذه الآية: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا يجوز أن يكون شيئاً هو المفعول الثاني لـ تُظْلَمُ"[7].
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101]، برقم (4345)، من حديث أنس ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله، برقم (2309).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4 / 157-158).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4 / 159).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [سورة الكهف:105]، برقم (4452)، من حديث أبي هريرة ، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2785).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4 / 159-160).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4 / 160).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4 / 160).