الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
وقفات مع قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا)
تاريخ النشر: ١٧ / جمادى الآخرة / ١٤٢٧
التحميل: 16839
مرات الإستماع: 9047

من لانت كلمته، وجبت محبته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فنعم الله على عباده كثيرة جدًّا، ومن هذه النعم العظيمة نعمة البيان، حيث إن الله - تبارك، وتعالى - قد امتن على عباده بذلك بقوله في أول سورة الرحمن: الرَّحْمَنُ ۝ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 4] وذلك أن الإنسان يُبين عن مكنونات نفسه، ويفصح عمّا في ضميره، ويستطيع أن يتعامل مع الناس، وأن يُفهمهم مراده، فهي نعمة تحتاج إلى شكر، وعلى قدر النعمة يَعظم حقها، ويُستوجب شكرها، ويُستنكر كُنودها، وجحودها.

والإسلام قد اعتنى عناية كبيرة بما يتعلق بالكلام، واللسان، والأسلوب الذي نؤدي به هذا الكلام، وكلام الإنسان يُبين عن خلقه، ويُبين عن عقله، لربما يكون الإنسان صامتاً فإذا تكلم عرف الناس قدره، وعرفوا ما يحمله من أخلاق، وقيم، ومفاهيم، ومبادئ؛ وذلك حينما عبر بلسانه، وتكلم، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يسأل نفسه قبل أن يتكلم هل هناك ما يستدعي للكلام، وإلا فمن كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت[1] ولذا قيل: "خير الألسن المخزون، وخير الكلام الموزون، فحدث إن حدثت بأفضل من الصمت، وزين حديثك بالوقار، وحسن السمت"[2].

إن الطيش في الكلام يُترجم عن خفة الأحلام، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما زان المتكلم إلا الرزانة كما قالت الحكماء، يقول ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه - : "والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"[3] إن الذين تقودهم ألسنتهم، ولا يقودونها إنما تقودهم إلى مصارعهم، ولذلك فإن اللسان السائب حبل مُرخى في يد الشيطان، يقود الشيطان به العبد حيث شاء، والبعد عن اللغو من أركان الفلاح؛ ولذا ذكره الله بين فريضتين من أجلّ فرائض الإسلام، الصلاة، والزكاة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون: 1 - 4] فجعله بينهما مما يدل على أهمية ذلك، ومنزلته، وقدره، فينبغي على العباد أن يراعوا هذه القضية. 

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه وليس يموت المرءُ من عثرة الرِّجلِ[4].

فالكلام الطيب العف، الكلام اللين يجمُل مع الجميع، يجمُل مع الأصدقاء، والأعداء جميعاً، وله ثماره الحلوة، وظلاله الوارفة، أما مع الأصدقاء فإنه تُستدام به الصداقة، ويُدفع كيد الشيطان. 

وقد قال علي : "من لانت كلمته، وجبت محبته"[5] وهذا شيء مشاهد، فالناس يحبون، ويميلون إلى من يتلطف بهم بالقول، وينفرون غاية النفور ممن يخاشنهم في الكلام، ويزجرهم في المخاطبة

كيف أصبحتَ كيف أمسيتَ مما يُنبت الودَّ في فؤاد الكريمِ[6].

وأما مع الأعداء فإنه يطفئ نار العداوة، ويكسر حدّتها، أو على الأقل يوقف تطور الشر، والله يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53] فإذا تكلم العبد بكلمة قد تُنتقد، وتُعاب فإن الشيطان قد يتخذ ذلك مدخلاً لإثارة الضغائن، وإثارة النفوس فيحصل من الشر، والعداوات ما لا يقادر قدره، وقد أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - مرفوعاً إلى النبي  ﷺ: إن في الجنة غرفة يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها فقال أبو موسى الأشعري وكان حاضراً: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائمًا، والناس نيام[7] وفي الحديث الآخر: أطِب الكلام، وأفشِ السلام، وصل الأرحام، وقم بالليل، والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام[8] وقد قال الله - تبارك، وتعالى - في سورة البقرة في الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل - والمراد بالميثاق هو العهد المؤكد - : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83].

فالله - تبارك، وتعالى - ذكر في هذا الميثاق التوحيد، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا هو الأصل الكبير الذي عليه مدار بعث الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - ثم ذكر لهم الحق الآخر، وهو حق الوالدين، ثم ذكر القرابات، ثم ذكر الضعفاء من الأيتام، والمساكين، ثم أمر بالإحسان إلى سائر الناس وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وهذا أمر من الله والأصل أن الأمر للوجوب، فقضية إحسان القول، والملاطفة بالقول ليست قضية اختيارية إن شاء الإنسان تخلق بها، وإن شاء تخلى عنها، بل هي شيء لازم، واجب، قد أمر الله - تبارك، وتعالى - به، تأملوا في هذه الآية بعد أن بين الله الحقوق العملية من بر، وإطعام، أعقب ذلك بالقول الحسن؛ ليجمعوا بين الإحسانين، يجمعوا بين الإحسان العملي، وبين الإحسان القولي، وذلك أن الإنسان مهما بذل، وفعل، ومهما أوتي من القُدر، والإمكانات، والأموال فإنه لا يستطيع أن يستوعب الجميع بماله، ولن يستطيع أن يستوعب الجميع بخدماته التي يقدمها ببدنه، فإن الوقت يضيق عن ذلك، وطاقة الإنسان تعجز عنه، ولكن هناك أمر لا يعجز عنه إنسان لجميع الخلق، وهو الإحسان بالقول، ولذا قال المتنبي:

  فليُسعِد النطقُ إن لم تُسعِد الحالُ[9].
  1.  أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، برقم (6018)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار، والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، برقم (47).
  2.  أطواق الذهب في المواعظ، والخطب (ص: 28).
  3.  أخرجه ابن أبي شيبة في الأدب، برقم (221)، وأبو داود في الزهد، برقم (149)، والطبراني في المعجم الكبير، (8744)، وأبو نعيم في الحلية (1/134).
  4.  انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (12/19)، وبغية الطلب في تاريخ حلب (8/3768)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (18/318)، ووفيات الأعيان (6/ 399).
  5.  انظر: الآداب الشرعية، والمنح المرعية، لابن مفلح (1/356)، والبيان، والتبيين، للجاحظ (2/174)، وإكمال تهذيب الكمال (9/344).
  6.  انظر: العقد الفريد (2/ 229).
  7.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (6615)، وقال محققوه: "حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف" والحاكم في المستدرك، برقم (270)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين" وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2123).
  8.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (7932)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة، فقد روى له أصحاب السنن الأربعة، وهو ثقة" والحاكم في المستدرك، برقم (7278)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1019).
  9.  انظر: أدب الدنيا، والدين، الماوردي (ص: 346)، والوساطة بين المتنبي، وخصومه، ونقد شعره (ص: 337)، وصدره:
    لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ ***
    نهاية الأرب في فنون الأدب (7/157)، وجواهر الأدب (2/256).
وَقُولُوا لِلنَّاسِ

وقوله - تبارك، وتعالى - في هذه الآية: وَقُولُوا لِلنَّاسِ ظاهرها العموم، حتى الكافر نؤمر أن نقول له قولاً حسناً لطيفاً لينًا، كما قال الله - تبارك، وتعالى - لموسى، وهارون - عليهما الصلاة، والسلام - في مخاطبة أعتى أهل الأرض، وأكفر أهل الأرض ممن ادعى الربوبية: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قال الله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44] وقوله - تبارك، وتعالى - هنا: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا في قراءة حمزة، والكسائي: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَنًا وهذا فيه تأكيد على إحسان القول؛ لأن الله وضع فيه المصدر "حُسنًا" موضع الاسم، كما يقال: رجل عدل بدلاً من أن تقول: رجل عادل، والحَسَن هو النافع في الدين، أو الدنيا، ويشمل ذلك جملة من الأمور:

يشمل ذلك ما يتخاطب به الناس فيما بينهم، ويدخل فيه الكلام الطيب العف الذي لا عيب فيه، ويدخل فيه كل خُلق حسن، يشمل ذلك أن نجازيهم بأحسن ما نحب أن نُجازَى به، أن نبذل السلام، وأن نعلمهم العلم، وفي ضمن ذلك أيضاً النهي عن الكلام القبيح حتى للكفار وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ويدخل فيه أيضاً النزاهة في القول فلا يكون فاحشاً، ولا بذيئاً، هذا فيما نتحدث، ونتخاطب به مع الآخرين، وإذا تردد الإنسان بين كلمتين إحداهما حسنة، والأخرى قوية فينبغي أن يتخير الكلمة الحسنة، فإنه مأمور بذلك: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء: 53] كما يدخل في قوله - تبارك، وتعالى - : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا يدخل فيه ما ندعوهم إليه بحيث يكون صواباً حقًّا مما جاء به الرسول ﷺ لا ندعوهم إلى ضلالة، ولا ندعوهم إلى فجور، لا ندعوهم إلى منكر، لا ندعوهم إلى بدعة، لا ندعوهم إلى معصية الله

 
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

وهكذا أيضاً أسلوب الدعوة الذي نقدم الدعوة به إلى الناس، فالله يقول: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] حينما ندعو المؤمنين فينبغي أن يكون ذلك بغاية اللطف، والله يقول في حق نبيه ﷺ وهو أكمل الخلق عقلاً، وأفصحهم لساناً، وأحرصهم على هداية الخلق: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] فإذا كان هذا في حق النبي ﷺ لو كان فظًّا - وحاشاه من ذلك - لانفض الناس من حوله، فكيف بمن دونه من الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى؟!.

إذا أردنا أن نقدم الدعوة لمن في بيتنا، لمن في المسجد، لمن في الشارع، لمن في النادي، في أي مكان ينبغي أن نقدمها بطبق من ذهب، أن نقدمها محسّنة بالقول الجيد، القول الطيب، والكلام الحسن الذي يأسر القلوب أسراً، أما أن يُقدم ذلك بأسلوب فظ فإن ذلك يكون سبباً لنفرة القلوب، وبعدها، ومجانبتها، ومجافاتها لهذا الذي يدعوها، وهكذا حينما نأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، هل المقصود بذلك هو الإغلاظ، والزجر هل هي قضية نلقيها عن كواهلنا من أجل أن نسلم من التبعة أمام الله - تبارك، وتعالى - أم أننا نقصد بذلك هداية الناس، وتقريبهم للحق، وتكثير المعروف في المجتمع، وتقليل الشر؟

فإذا كان هذا هو المقصود فينبغي أن نسلك له الطريق المناسب الذي يوصل إلى هذا المطلوب، وهذا لا يكون بحال من الأحوال إلا بالكلام الطيب، إلا بالقول الحسن، أما أن نصكّهم صك الجندل، وأن نُنشِّقهم الخردل فإن ذلك يكون سبباً أكيدًا لتركهم، وبُعدهم، وكراهيتهم، ونفرة قلوبهم، ومع الكفار فالله - تبارك، وتعالى - يقول لأنبيائه - عليهم الصلاة، والسلام - لموسى، وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] هذا مع فرعون، ولا شك أن كل داعية منا فإنه دون موسى، وهارون - عليهما الصلاة، والسلام - بمراحل، وأن هؤلاء الذين ندعوهم، ونأمرهم، وننهاهم لا يمكن أن يبلغوا بحال من الأحوال المبلغ الذي وصل إليه فرعون، ولذلك فإن طلب القول اللين مع هؤلاء الناس لا شك أنه من باب أولى، وقد امتثل موسى، وهارون - عليهم الصلاة، والسلام - فقالا له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] بأسلوب العرض، وليس بأسلوب الأمر هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] واختاروا لفظ التزكية الذي يدل على النماء، والبركة، والزيادة وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19] فكأنه دليل بين يديه، وذكر الرب؛ لأن الرب هو الخالق الرازق المنعم المتفضل فهو حري بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، ولا تصرف العبادة لأحد سواه، وإبراهيم ﷺ حينما دعا أباه - وكان كافراً معانداً - كان يُلاطفه، ويخاطبه بألطف عبارة يقول: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم: 42] جاء بأسلوب الاستفهام يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم: 43] ما قال له: أنت جاهل ما تفهم، وقال له: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ  ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم: 45] واختار هذا الاسم الكريم الدال على صفة الرحمة؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبوله، وانقياده، وتسليمه.

 
مهما أمكن التوصل إلى المطلوب بلطف فإنه لا يحسن سواه

وهكذا في غير الدعوة في الأمور الدنيوية مهما أمكن التوصل إلى المطلوب بلطف فإنه لا يحسن سواه، إذا كنت تتقاضى من إنسان ديناً، وتستطيع أن تتوصل إليه بألطف عبارة فلا داعي للكلام الجارح، إذا كان هذا في المماكسة في البيع، والشراء فيمكن أن تتوصل إليه من غير أن تخل بالآداب الواجبة، فينبغي أن تفعل ما يليق، وما يجمُل.

وهكذا في سائر المطالبات، والمعاملات ينبغي أن يكون ذلك بالقول الجميل العف الحسن، وإذا كان لِين الكلام يُطلب مع الجميع فإنه يكون من باب أولى مع أصحاب الحقوق، ومن أعظم هؤلاء الوالد، والوالدة، الله يقول في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً [االإسراء: 23] "إما يبلغن عندك الكِبر" الوالد يجب بره سواء كان شابًّا، أو كان شيخاً هرمًا، ولكن الله ذكر حالة الكِبر لأمور، وحكم، ومن ذلك - والله تعالى أعلم - : أن الكبير بحاجة إلى مزيد من الرعاية لضعفه، وقد يحتاج الولد إلى أن يقوم عليه كما قام أبوه عليه حينما كان صغيراً، كما أن الكبير لربما لفراغه يكثر منه الضجر، ولربما يسوء خلقه في تعامله مع أولاده، ومع الناس، فهم بحاجة إلى مزيد من التلطف معه، ولربما دعاه الفراغ إلى أن يسأل كثيراً عما لا يعنيه، من الذي عند الباب؟ ومن الذي يُكلمك؟ ومن الذي اتصل بالهاتف؟ ومن الذي يطرق الباب؟ وما هذا الذي تحمله بيدك؟ ومن الذي كان يركب معك في السيارة؟ ومن أين لك هذا المتاع؟ أسئلة كثيرة جدًّا لا تعنيه، ولربما يُخرج هذا الولدَ عن شعوره، ويُفضي به إلى الضجر، فيزجر أباه، ولهذا فإن الله قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ وقال: أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فإن الولد قد يقوم ببر أحد الوالدين برًّا بالآخر، قد تكون علاقته بأبيه سيئة، وأمه تأمره ببره، أو العكس، فيقوم ببر الطرف الآخر برًّا بأبيه، أو بأمه؛ لأنه أمره ببر صاحبه، وهذا لا يصح، وليس من البر، بل إن حق البر ثابت لكل واحد منهما على سبيل الاستقلال. 

 
فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا

وهكذا فإن الإنسان قد يتثاقل القيام بحق الأبوين معاً حينما يكونان على قيد الحياة، ولكنه قد يسهل عليه القيام بحق واحد منهما، فالله قال: أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] أدنى ما يُتصور من الأذية، وما فوقه من باب أولى، "أُف" منهي عنها فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء: 23] والنهر كأن ينفض يده في وجه أبيه، وأمه، أو أن يأتي بالكلام على سبيل الزجر، والإغلاظ، فتخرج العبارات، والكلمات مكهربة تدل على نفس محتدمة، تدل على نفس قد امتلأت حنقاً على هذا الوالد، أو الوالدة، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، قد يتخير الإنسان العبارات الحسنة، ولكنه يؤديها بلفظ ملْؤُه الزجر، وهذا لا يليق فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء: 23] فيتخير الإنسان الكلمة اللطيفة، الكلمة الجيدة التي لا تعاب، فالقول الكريم يشمل الألفاظ التي تُتخير، ويشمل أيضاً الأسلوب الذي تؤدى به هذه الألفاظ، والله يقول: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] اخفض لهما جانبك الذليل، تذلل لهما تذللاً ناشئاً من الرحمة؛ لأن الإنسان قد يتذلل لأبويه خوفاً، أو قد يتذلل لأبويه طعماً، وذلك كأن يريد من أبيه حاجة من حاجات الدنيا كأن يزوجه، أو يعطيه مالاً، أو يشتري له مركبة، أو نحو ذلك، فيتلطف، ويتذلل بالقول معه، لكن ذلك لا يسوغ، إنما المطلوب أن يكون ذلك ناشئاً من الرحمة بهذا الوالد، أو الوالدة وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] اخفض لهما جناحك الذليل رحمة بهما، وليس ذلك فحسب بل يُعقب ذلك بالدعاء، وهذا يدل على تأصل البر، وتأكده في نفس هذا الولد وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 244] رحمة راسخة ثابتة كما ربياني في حال الصغر، وهذا يدل على أصالة هذا الولد. 

 
حق القرابات متأكد ثابت

وهكذا القرابات فإن حقهم متأكد ثابت؛ لأن حق هؤلاء بعد الوالدين، فيكون لهم من الملاطفة ما لا يكون لغيرهم من الناس، الملاطفة بالقول، المحاسنة بالكلام، وهكذا أيضاً من له حق كالعلماء فإن الإنسان يتخاطب معهم بأدب، وإذا أراد أن يسألهم فإنه يتلطف بالسؤال، كثير من الناس قد يضجر لأنه يشعر أن سؤاله لم يُجب عليه، لربما يتصل، ولا يجد جواباً، ولا ردًّا، ولربما يرسل رسالة يبعث بها سؤالاً، ولا يجد ردًّا، ينبغي أن يقدر أن هؤلاء الناس تنهال عليهم الأسئلة صباح مساء، ولو فرّغوا أنفسهم للجواب لما استطاعوا أن يقضوا عملاً من الأعمال الأخرى، فينبغي للإنسان أن يتلطف إذا أراد أن يتكلم مع هؤلاء العلماء، ولا يتكلم مع الكبراء، والعظماء بكلام لا يصلح لصغار الناس، فإن كلام الإنسان مع الآخرين - كما ذكرنا - يدل على عقله، وعائشة - رضي الله تعالى عنها - تقول: "أُمرنا أن نُنزل الناس منازلهم"[1]

  1.  أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/6)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (10489)، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (4/ 379)، وضعفه الألباني في تحقيق رياض الصالحين، برقم (360).
خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ

انظروا إلى هؤلاء الذين قص الله خبرهم في القرآن، الذين جاءوا إلى داود ﷺ وتسوروا عليه المحراب أساءوا الأدب في الدخول، ولم يستأذنوا، ولم يدخلوا من الباب، وإنما تسوروا المحراب، وما أحسنوا مخاطبته، بل قالوا: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ [ص: 22] وهل سيحكم بغير الحق؟ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص: 22] فوجهوه، وكأنهم يعلمونه، ويرشدونه كيف يكون الجواب، والحكم بين الخصوم، وهذا لا شك أنه لا يليق.

وهكذا حينما يخاطب الإنسان أحداً من المطاعين فإنه ينبغي أن يتلطف معه بالخطاب، أن يتكلم معه بكلام يصل به إلى قلبه، الإنسان أحياناً قد تأخذه العزة بالإثم، أو قد يلتبس عليه الأمر، ويظن أنه إن خاطب الكبراء بلون من الفوقية أن هذا يدل على أنه لا يخشى في الله لومة لائم، وهذا غير صحيح، انظروا إلى خطاب موسى، وهارون - عليهما الصلاة، والسلام - مع فرعون، فكيف إذا كان المخاطَب من المسلمين؟.

فينبغي للإنسان أن يحدد هدفه ابتداء، إذا كان مقصوده أن يُقبَل قوله، وأن يكثر المعروف، والخير، وأن يزول المنكر، فينبغي أن يتلطف غاية التلطف للوصول إلى هذا المعنى، والمطلوب.

 
التلطف مع طلبة العلم

وهكذا التخاطب مع طلبة العلم، ينبغي أن يُستقبلوا أحسن استقبال، وأن يُتلطف معهم بالكلام، وأن يُشجعوا، وتقوى قلوبهم، فقد يستوحشون في البداية، فإذا صادفوا المعلم الأرعن الذي يقسو عليهم منذ أول مجلس، ويتكلم معهم بكلام فظ غليظ يجرح فيه مشاعرهم، فإن هذا ينفرهم عن العلم، ويكرههم في أهل العلم، وللأسف فإن من طلبة العلم من لا يراعي هذه القضايا، إن الجرح بالكلام أشد من جرح السنان، قد يُجرح إنسان بكلمة لا ينساها حتى يموت، فهذا الإنسان الذي جاء متحمساً يريد العلم، وهو يرى في هذا المعلم أن فيه من الأخلاق، والمثالية، ومكارم، ومحاسن الخلق ما لا يقادر قدره، فإذا رأى منه شيئاً مما لا يجمل، ولا يليق فإن ذلك يزهده بما عنده من خير، وعلم، ودعوة، ولذلك ينبغي أن يُراعَى هذا، وأن يُتلطف بهؤلاء المتعلمين غاية التلطف، وأن لا يعاملوا بأخلاق صحراوية، وأن لا يعاملوا بكلام فيه مكاشرة، وفيه مغاضبة، أو فيه وعيد، وتهديد، وتنفير للقلوب.

 
التلطف مع الصغار

وهكذا الصغار هذا الصغير يحمل مشاعر لربما أرهف، وأرق من المشاعر التي يحملها الكبير، في كثير من الأحيان لا نتلطف بهذا، ونصدر بعض العبارات الجارحة التي تحطم نفوس هؤلاء الصغار، هؤلاء الصغار يفحصون الكلمات، والنظرات، والمعاملات التي نعاملهم بها فحصاً دقيقاً، وإذا أردتم أن تعرفوا ذلك تذكروا أيام الطفولة، إننا نتذكر جيداً أولئك الذين كانوا يتبسمون في وجوهنا من جيراننا، ومن معارفنا، ومن قراباتنا، ونتذكر أولئك الذين كانوا لربما يشاوروننا في بعض الأمور، ولو كانت تافهة، ونتذكر أولئك الذين لم تخلُ جيوبهم قط من حلوى، أو هدية، ولو كانت حقيرة، ولربما شاب الإنسان، وهو يتذكر بعض المواقف من أولئك الذين كانوا يزجرونه، وينهرونه، ويحقرونه، ولربما تصرف الإنسان، وهو يشعر، أو لا يشعر بهذه الطريقة مع أولاده، أو مع أولاد إخوانه، أو قراباته، أو جيرانه، أو غير ذلك، ولربما تكلم ببعض العبارات التي تدل على تهميش، وتحقير، وأنفة منهم، لربما طردهم طرداً، وزجرهم زجراً، وقد جلسوا على الطعام، يأنف أن يجلسوا معه، ولربما طردهم من المجلس أمام الآخرين بكلام يجرح مشاعرهم، هؤلاء يُحسون، ويشعرون، ويتألمون، ويؤثر فيهم ذلك أبلغ التأثير.

هذه التصرفات من شأنها أن تُخرج نفوساً مهزومة، نفوساً منكسرة، نفوساً لا تجرؤ على مقابلة الآخرين، واستقبال الضيوف، والتحدث مع الرجال، والجراءة فيما ينبغي أن تكون الجراءة فيه، إنما تُخرج نفساً منخزلة، صغيرة، متقوقعة لا تصلح لقليل، ولا لكثير من المروءات، والرجولة، والأمور الحميدة، نحن الذين نصنع بهم ذلك، وقد لا نشعر في كثير من الأحيان.

 
التلطف مع الزوجة

وهكذا الزوجة، وهي من أولى الناس بالكلام الطيب، بالمعروف، لربما تشتكي كثير من الزوجات أنها منذ تزوجت هذا الإنسان، وهي تعيش معه في حياة مبهمة، لا تدري عن مشاعره، وماذا يحب، من النساء من تقول: تزوجته منذ عشرين سنة، ولم أسمع منه كلمة واحدة تدل على مشاعر طيبة نحوي.

فأقول: ما الذي يخسره الإنسان حينما يتكلم بالكلام الطيب؟ إذا دخل بيته، يتكلم بالعبارات اللطيفة، إذا رأى أنها قد تزينت له أثنى على هذا، وأثنى على لباسها، وعلى هندامها، وهيئتها، ومظهرها، إذا صنعت له طعاماً يُثني على هذا الطعام، وهو لا يخسر شيئاً، يمكن أن يقول: ما ذقت مثل هذا، هذا من أفضل ما يكون، كيف صنعتِ هذا؟ فإن ذلك يسرها، والإنسان من طبيعته يحب أن يُقدَّر عمله، وأن يُشكر على هذ الجهد الذي قد بذله، نحن لا نخسر شيئاً حينما نقول مثل هذه الكلمات، ولكنها النفس التي تتثاقل في كثير من الأحيان أن تبذل كلاماً لا تدفع فيه مالاً من أجل مؤانسة الآخرين، وإدخال اللطف، والسرور عليهم.

 
التلطف مع أصحاب الحاجات

وهكذا أصحاب الحاجات المنكسرة قلوبهم من الضعفاء في المجتمع، والله يقول لنبيه ﷺ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] وفي قراءة أخرى غير متواترة: فلا تكهر وهي قراءة ابن مسعود فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] فالقهر هو الإذلال، والغلبة، وأما الكهر فهو الدفع، والدعُّ، والإغلاظ على هذا الإنسان، وزجره غاية الزجر فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] لا تُذل هذا اليتيم، ويكون ذلك بالفعل كالدعِّ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] ويكون أيضاً بالقول بالزجر، واستخدام العبارات الغليظة العنيفة التي تجرح مشاعره، وهكذا أيضاً يكون بالهيئة بالعبوس، والتقطيب فيظلم الوجه أمام هذا اليتيم، واليتيم قلبه منكسر، وقد لا نشعر بذلك.

إن الصغير يشعر أن أباه هو سنده في هذه الحياة، يشعر أن أباه هو كل شيء في هذا العالم بعد الله - تبارك، وتعالى - يشعر أن أباه هو الذي يحميه بعد الله من الآخرين، وإذا تأخر أبوه لسبب غامض لا يعلمه فلا تتصور الوحشة التي تقع في قلب هذا الصغير، إنه حينما يريد أن يجامل الآخرين، أو أن لا يُظهر هذه الوحشة، ويحمل نفسه حملاً على الأكل معهم، أو الشرب فكأنما يتجرع الحجارة، ويشعر بمشاعر غريبة لا يمكن أن يصفها، وأن يعبر عنها، فكيف إذا مات أبوه؟ يكون كالغنمة الذليلة في الليلة الشاتية المطيرة، يرى هؤلاء الصغار يفرحون، ويمرحون، وينطلقون، ثم بعد ذلك يفيئون إلى آبائهم، ويرتمون بأحضانهم، وإذا جاء، وقد تخرج من الروضة، أو من المرحلة الابتدائية، أو غير ذلك فكل واحد قد حضر أبوه، وهذا الولد يرمق أباه بين الفينة، والفينة، وأما هذا الصغير فهو منكسر القلب دموعه تُرقرق في عينه ليس له أحد يأتي فيبارك له، ويستلم هذه الشهادة عنه، أو يهنئه، أو يأتي بشهادته إليه ليريها إياه كما يفعل الصغار الآخرون من زملائه، قد لا نشعر بمشاعر هؤلاء، هؤلاء بحاجة إلى رحمة، إلى رأفة، إلى أن نمسح على رؤوسهم، إلى أن نُشعرهم أننا سند لهم بعد الله - تبارك، وتعالى - أن نواسيهم، أن نحميهم من ذئاب البشر، وممن يظلمهم، ولهذا فإن الله أمر بأن يقال لهم القول المعروف، هؤلاء الأيتام إذا طلبوا أموالهم، ولم يصلوا إلى سن الرشد فإنه يقال لهم القول الطيب وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء: 5] سندفع لكم أموالكم - إن شاء الله - بعد حين، ولن يضيع منها شيء، وهي محفوظة، وما إلى ذلك.

وهكذا أيضاً من هؤلاء الضعفاء: الفقراء، والله يقول: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] هذا الإنسان الفقير منكسر القلب، وجهه يتلفع، وكأن الناس يلطمونه على وجهه، فإذا جاء يسأل، فهو يتوقع كل شيء، يتوقع الزجر، يتوقع الإغلاظ، يتوقع القهر، والكهر، والدفع، وجرح المشاعر، يكفيه ذل المسألة، والحاجة فلا يحتاج معه إلى إذلال آخر، أن نُذله بما نُسمعه من القول الجارح، ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة: 263] قول كلام طيب تقول له: إن جاءنا شيء أعطيناكم، أبشر، سيكون لك ما تحب بإذن الله أحسن من أن نعطيه، وأن نُتبع ذلك بقول نجرح به مشاعره قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة: 263] لأن هذا الفقير قد يحصل منه شيء من الإلحاح، قد يأتي إليك في وقت غير مناسب، قد يطرق بابك في وسط الظهيرة في وقت ارتياح الناس، قد يطرق بابك، وأنت نائم، قد يأتيك بأساليب مختلفة، وبإلحاح، وقد يقوم أمام الناس خطيباً، والناس يقولون الأذكار بعد الصلاة، لا يُحسن كيف يسأل، فلا ينبغي زجره.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة: 263] نغفر له هذا الخلل، والخطأ، والتجاوز خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263] "يتبعها أذى" يعني أنك تعطيه، وتقول: خذ، ولا ترجع مرة أخرى، أو أنك تعطيه، وتُتبع ذلك بالمن أن نمن عليه، كأن يعطيه عطية، ويقول: أنا أعطيتك ذلك اليوم، أن يعطيه شيئاً يعطيه طعاماً أن يعطيه قوت سنة، ثم يقول: ما شاء الله، قد تحسنت حالك، وعافيتك، يذكره بما أعطاه من الطعام، أو يعطيه ثوباً، ثم يقول: ما أجمل هذا الثوب عليك، يذكره بهذا الثوب الذي أعطاه إياه، أن يعطيه غسالة مثلاً، ثم يقول: ما شاء الله، بماذا تغسلون هذه الثياب؟ ثيابكم ناصعة، هو يريد أن يذكره بعطيته التي أعطاها إياه، والله قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [الإسراء: 28] يعني: المحتاجين ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا [الإسراء: 28] يعني: ما عندك شيء تعطيهم، وأنت تنتظر توسعة الله وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء: 28].

فهؤلاء أصحاب الحاجات ينبغي أن يُتلطف بهم، وأن لا يُذَلوا وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] السائل بنوعيه الذي يسأل المال فلا يُنهر، والسائل الذي يسأل عن العلم؛ لأنه كذلك أيضاً حينما يأتي، ويرفع السماعة، ويسأل هذا العالم، أو حينما يأتي إليه فهو يتوقع منه أشياء، قد يتوقع منه الزجر، قد يغلق السماعة - كما يقال - في وجهه، قد يعامله معاملة غليظة، عنيفة، هذا الإنسان مسكين قد لا يحسن السؤال فينبغي أن يُراعَى مثل هذا، فالسائل بنوعيه وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] إذا كان فقيراً فتكلم معه بالكلام الطيب، أعطيتَه، أو لم تعطه

إلا تكن وَرِقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإني ليّن العودِ
لا يعدم السائلون الخيرَ من خلقي إما نوالي وإما حُسنُ مردودِ[1]

الوَرِق يعني الفضة، وفي الحديث: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق[2].

  1.  انظر: تفسير القرطبي (10/ 249).
  2.  أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (427)، وبرقم (428)، وقال: "هذا حديث صحيح معناه يقرب من الأول غير أنهما لم يخرجاه" والبزار في مسنده، برقم (8544) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (634)، وفي ضعيف الجامع، برقم (2043).
التلطف مع الموظف

وهكذا حينما يكون الإنسان موظفاً يواجه الناس، ويترددون عليه في حوائجهم، ومطالبهم فينبغي أن يتلطف بهم، القاضي مثلاً هؤلاء الناس قد لا يحسنون الدعوى، وقد لا يحسنون المطالبة، وقد لا يحسنون الإبانة عن حقوقهم، وقضاياهم، فينبغي أن يتلطف بهم، وأن يعاملهم معاملة كريمة، وأن يحصلوا على حقوقهم، وأن يحكم بينهم بأخلاق نزيهة لطيفة طيبة دون أن يزجر هذا، ويجرح مشاعر هذا، أو أن يتعامل معهم بشيء من الفوقية، والعلو، وكأن هؤلاء الناس ليسوا بشيء أمامه، هذا أمر لا يليق. 

وهكذا حينما يكون الإنسان مديراً فإن الهيبة لا تعني السلاطة مع الناس، ولا تعني سوء الخلق، بل إن معاملة الناس معاملة طيبة تكون سبباً لأسر قلوبهم، ما الذي يضر هذا الإنسان حينما يكون مديراً أن يتعامل بأخلاق فاضلة كريمة مع هؤلاء الذين تحت يده، إن كانوا من الطلاب، أو كانوا من المعلمين، أو كانوا من الموظفين في هذه الشركة، أو في هذه الدائرة، بل حتى مع السفهاء، هذا الإنسان السفيه الله يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] ولكنها أخلاق، كما قال الله : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] يعني: هذه الخصلة، والخلّة وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] وهكذا يقول الله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] لا تطاولهم، ولا تقف معهم؛ لأن من الناس من يعيش صفيق الوجه، شرس الطبع، لا يحجزه عن المباذل يقين، ولا تُلزمه المكارم مروءة، ولا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالاً يُشبع به طبيعته النَّزقة الجهول انطلق على وجهه، لا ينتهي له صياح، ولا تنحبس له شِرّة، والرجل النبيل لا ينبغي أن يشتبك في حديث مع هؤلاء فإن استثارة نَزَقهم فساد كبير، وسد ذريعته واجب، ومن ثمّ شرع الإسلام مداراة السفهاء، وهذا مسلك تصدقه التجارب، والرجل منا لا يسوغ أن يفقد خلقه مع من لا خلق له، ولو أن الإنسان شغل نفسه بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحيل من كثرة ما سوف يلقى من هؤلاء الناس، هذا لا يتأدب في سيره في سيارته، وهذا يلقي عليه كلمة، وهذا يعطله في هذا المكان، وهذا لا يتعامل معه معاملة حسنة في السوق، وهذا لربما تصرف معه تصرفاً يسيء إليه، فإذا أراد أن يؤدب ذلك الإنسان الذي لا يُحسن قيادة السيارة، وهذا الذي ألقى عليه كلمة فيطارده ليؤدبه، ويوقفه عند حده فإنه سيتحول إلى سفيه بل إلى مجنون، يتهارش مع هذا، ويتخاصم مع هذا، ويشتبك مع هذا، فيفقد مروءته، وكرامته، وأخلاقه، ونبله، ولكن: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34] وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان: 63] وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72].

 
التلطف مع الزملاء

وهكذا مع أصحابنا، مع إخواننا، مع زملائنا، قال رجل للحسن البصري - رحمه الله - : "يا أبا سعيد، قال: لبيك، قال: تقول لي: لبيك، قال: إني أقولها لخادمي"[1] يقول: أنا أقولها لجميع الناس، الكلام لا نخسر به شيئًا.

وهذا رجل سيد من السادة، كبير، نال مرتبة عالية بين قومه، فجاءه رجل سمع به، فقال له: بماذا نلت هذا الشرف؟ قال: بلا ثمن، فبينما السائل قاعد في مجلسه إذ دعا هذا الرجل جاريته، فقيل: نائمة، فقال: أنام الله عينها عن الشر، فدعا غلامه، فقيل: مشغول، قال: شغله الله بطاعته، يقول السائل: فتبسمتُ، فالتفت إليّ، وقال: أضحك الله سنك[2] هذا إنسان يوزع الكلمات الطيبة في مجلسه، لماذا يدعو الإنسان على هذا، ويسب ذاك، ويشتم الآخر، هل يستفيد شيئاً؟:

أنا أقول للناس مثلاً: في الحج، تجد كثيرًا من الناس يخرج من طوره، ويغضب في أماكن الزحام، ويتصرف بتصرفات غير لائقة حتى إن الإنسان من ذوي المروءات يخجل أنه ابتلي بصحبة هؤلاء مما يسمع من مهاترات، وسب، وشتم، ولربما أراد الواحد منهم أن ينزل، ويهارش الآخرين، وعليه إحرامه، نحن نقول لهؤلاء الناس: بدلاً من هذا الكلام السيئ لو قلتم للناس كلاماً طيباً، ما الذي يضركم؟! حينما تتكلمون بهذه العصبية، وتزجرون الناس، وتشتمون هذا، وتسبون هذا، وتتحملون الأوزار، وتفسدون الإحرام، هل ينفرج عنكم ذلك كله؟ هل يذهب الزحام؟ هل يقول الناس: تفضلوا، وتنقشع الزحمة عن عرفة، ومزدلفة، ومنى، وتصلون بلحظات إلى مطلوبكم؟.

أبداً، لا يحصل شيء من ذلك، فلماذا الإنسان يتخير العبارات السيئة، ولا يتخير العبارات الطيبةالنتيجة واحدة، لا يحصل مطلوبه من جهة ذلك الأمر الذي أغضبه، لكنه يؤجر، ويجاهد نفسه، وترتقي مرتبته، ويكون ممن يحملون أخلاق الأنبياء.

وهكذا نبتعد دائماً عن الكلمات الموهمة، قد يتكلم الإنسان بكلامٍ يُفهَم منه الباطل، هذا الربيع بن سليمان من أخص أصحاب الشافعي، يقول: "أتيته، وهو مريض، فقلت له: قوى الله ضعفك، فقال: لو قوى ضعفي لقتلني، يعني: لو زاد ضعفي لمت، فقال: والله ما أردت إلا الخير" يعني: أنا لم أقصد هذا المعنى السيء، فقال الشافعي - رحمه الله - لثقته به: "أعلم أنك لو شتمتني لم تُرد إلا الخير"[3].

فالإنسان يتكلم بالعبارات التي لا تجرح، العبارات المناسبة، جاء أحد الأبناء، وهو أكبر أبناء ذلك الرجل المريض الذي قد أعياه المرض في جوفه، أصيب بالسرطان - عافانا الله، وإياكم، وسائر المسلمين - فجاءه ابنه الكبير يزوره في المستشفى، فقال له الأب: انظر إلى هذا المرض كيف بلغ مني؟ 

فهذا الابن أراد أن يواسيه لكنه لم يُحسن استعمال العبارة، فقال له: إن تركك الموت ما تركك الهرم، يريد أن يعزيه، يقول له: صبراً على المرض فإن الإنسان مفارق لهذه الحياة الدنيا، إن لم يمت بالمرض جاءه الهرم، الأب فهمها على شيء آخر أنه لا يبالي به، وغير مكترث، فصار كلما دخل عليه إنسان قال له نفس الكلام، قال له: انظر ماذا يقول هذا الولد العاق.

وهكذا رجل آخر جاء لأبيه، وهو في المستشفى، وقد نُقل من منطقة بعيدة، فالأب مودع، يشعر أن أيامه قريبة قليلة فقال له: يا بني، إذا مت فلا تدفنوني هاهنا، يقول: هذه الأرض رملية، ادفنوني هناك في نجد من أجل اللحد، وأرض صلبة، فقال له: أنا سمعت أن الثُّقبة صَلاب، الثقبة تعرفونها، الثقبة يقولون: صَلاب أي صلبة، يقول: إذا متَّ سندفنك في الثُّقبة، الأب حزن من هذه الكلمة، وجرحته جرحاً عميقاً، الأب ما مات، برئ، وعاش سنين فكان دائماً يذكر هذا للناس، ويقول: هذا الولد العاق انظروا يريد أن يدفنني بالثُّقبة، الولد ما وفق في العبارة، ما تكلم بكلام لطيف لائق جيد، وغير هذا.

وكانوا في القرى قديماً يجتمعون لصلاة الجمعة في إحدى القرى الصغيرة، ويأتون من قرى بعيدة من الفلاحين، وغيرهم، وهذا أمه في حال صعبة من المرض، كان يظن أنها تموت في وقت صلاة الجمعة، فما ماتت، فقال للناس الذين حضروا يريد أن يكثر المصلين عليها، فقال: لا تبرحوا، الوالدة على وشك أن تفارق، فنريد منكم الانتظار من أجل أن يكثُر المصلون عليها، فانتظروا إلى العصر ما ماتت، انتظروا إلى المغرب ما ماتت، ثم تفرقوا، برئت هذه الوالدة بعد ذلك فكانت تذكر ذلك من صنيع ولدها، تقول: حبس الناس من أجل أن يتخلص مني من أجل أن يصلوا عليّ، هي ما فهمت مراده.

والأمثلة على هذا كثيرة من الكلام الذي قد لا يقصده الإنسان، الصغار اجتمعوا عند جدتهم، وأغضبوها فغضبت، وقالت: اذهبوا لا أساوي عندكم نواة، ولا عبسة - نواة التمر - فصاحت إحدى البُنيات، وقالت: والله إنكِ تساوين مائة عبسة، فازداد غضبها، وقالت: الآن عرفت قدري عندكم، مائة نواة من التمر هذا قدر الجدة، البنت ما قصدت هذا الكلام، إنما تحمست، واندفعت فقالت مثل هذه الكلمة لتبين، وتبرهن على محبتها لهذه الوالدة، أو الجدة، فعلى الإنسان أن يبتعد عن العبارات الموهمة، وانظروا إلى الأدب القرآني الله ذكر لنا خبر إبراهيم ﷺ ماذا قال؟ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فما نسب المرض إلى الله مع أن المرض من الله، قال: وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء: 80] فنسب المرض إلى نفسه، ونسب الشفاء إلى الله - تبارك، وتعالى - والله حينما خاطب نبيه ﷺ قال: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 3] التوديع نسبه إليه، وكلمة قلى كلمة قوية لم ينسبها إليه، قال: وَمَا قَلَى هذا على قول بعض المفسرين، وليس هذا محل اتفاق، وكذلك أيضاً في قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ۝ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 8] ما قال: فآواك، فهداك، فأغناك، وكذلك قول الخضر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] نسب العيب إلى نفسه، وفي الكنز قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] إلى آخر ما قال، فأضاف ذلك إلى الله - تبارك، وتعالى - والله يقول في الحديث القدسي: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً - إلى أن قال - : فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك[4] ما قال: فمن وجد شرًّا، مع أنه نفس المعنى، لكن راعى العبارة، راعى اللفظة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة: 104] "راعنا" كلمة تحتمل معنيين معنى جيدًا، ومعنى سيئًا.

المعنى السيئ كان يستعمله اليهود نسبة للنبي ﷺ إلى الرعونة، ينسبونه إلى الرعونة - الجفاء، والغلظة، والشدة - يقولون: راعنا، يعني: يقولون للبعيد: يا أرعن يصفونه بالرعونة، وحاشا النبي ﷺ من ذلك، ويمكن للإنسان أن يقول: راعنا، يعني لا تعجل علينا، فالله جاء بلفظة بديلة لا تحتمل المعنى الباطل وَقُولُوا انظُرْنَا هذه لا غضاضة فيها، وكذلك لما قال الله لأمهات المؤمنين: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] فقد تتوهم الواحدة أنها تتكلم مع الرجال الأجانب بغلظة كأنها مغضبة، لا، بدليل: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32] ولذلك أقول: ينبغي أن نراعي هذا دائماً.

والناس منابت للأخلاق، من الناس من تجد الأسرة بكاملها، وقراباتهم يتميزون بالكلام الذي هو في غاية اللطف، ويخجل الكبير حينما يقف مع أصغرهم مما يسمع من لطفه في الكلام، ومن الناس من تكون الأسرة فيها جفاء، ويستحي الواحد منهم أن يعبر بالكلمة الطيبة، بل يستحي أن يكني أخاه، يستحي من هذا، ومن الناس من يستحي أن يقبل رأس أبيه، أو أن يقبل رأس أمه؛ لأنه لم يعتد على هذا، أخلاق جافة، الناس منابت، لكن النبي ﷺ يقول: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[5].

وهذه أشياء - كما قلت - لا يخسر الإنسان منها لكنها النفس تحتاج إلى مجاهدة، فما الذي يضر الإنسان إذا أراد أن يتكلم أن يتخير العبارات اللطيفة، ويدرب نفسه عليها، وإذا كان لم يعتد هذا أبداً، ولا تقوى نفسه على فعله فيمكنه إذا جلس لوحده يجلس يتكلم كأنه يخاطب إنسانًا، يتخير عبارات في غاية اللطف، ثم يبدأ يطبق هذا مع الصغير، ومع الكبير، يجلس مع الأطفال، ويتلطف معهم، ويسألهم عن حالهم بكلام لطيف رقيق، وما أشبه ذلك، ويتكلم مع الكبار كذلك، كلٌّ بما يليق به، ثم بعد هذا يصبح هذا سجية راسخة له، وبهذا تُؤسَر القلوب، ويتأثر الناس بهذه المعاملة أكثر مما يتأثرون من كلامنا، وهذا شيء مشاهد، والناس من طبيعتهم لا يحبون الغليظ الجافي الذي يجفوهم بالقول، وينفرون منه، ويتحاشونه، ولا يحبون الاحتكاك به أبداً، وإذا رأوه في طريق سلكوا طريقاً آخر.

فأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته. 

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

  1.  انظر: العقد الفريد (2/ 263).
  2.  لم أقف عليه.
  3.  انظر: آداب الشافعي، ومناقبه (ص: 209)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/135).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  5.  أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2663)، وفي الكبير، برقم (929)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (10254)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2328).

مواد ذات صلة