- الحياة الحقيقية هي التي تحصل بالاستجابة لربنا
- الحياة على نوعين
- العبد بحاجة إلى مزيد من الإقبال على الهدايات بأنواعها
- القلب ملك للجوارح
- وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالله - تبارك، وتعالى - يقول واعظاً لعباده، وموجهاً لهم، ومعلماً يرشدهم إلى ما يكون فيه فلاحهم، وصلاحهم، وهدايتهم، وما يحصل لهم به النُّجْح، والخير، وحُسن العاقبة في الدنيا، والآخرة، يقول الله - تبارك، وتعالى - في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الأنفال:20 - 25] فيقول الله - تبارك، وتعالى - في هذه الآيات آمراً لعباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وقوله - تبارك، وتعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فهذا أمر منه - تبارك، وتعالى - يجب على أهل الإيمان أن ينقادوا له، وأن يستجيبوا، ولا يسع الواحد منهم أن يتخلف عن الاستجابة؛ لأن الله - تبارك، وتعالى - قد يعاقبه بهذه العقوبة المشار إليها في هذه الآية.
هذا أمر لا خيار لنا معه اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ولهذا جاء النداء، والخطاب في هذه الآيات موجهاً لأهل الإيمان، لأن هذا الإيمان له مقتضيات، ومن أعظم مقتضيات هذا الإيمان أن يستجيب المؤمن، وينقاد لما يأمره الله - تبارك، وتعالى - به.
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فالحياة النافعة، الحياة الحقيقية هي التي تحصل بالاستجابة لربنا، وخالقنا، ومليكنا - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - إن أولئك الذين لم تحصل لهم هذه الحياة ليسوا بأحياء على الحقيقة، وإنْ وُجدت لهم حياة يشتركون فيها مع الحيوان، وهي حياة الأجساد، إن الحياة الحقيقية، والحياة الطيبة هي حياة المستجيبين لله، ولرسوله ﷺ استجابة ظاهرة، وباطنة، أن يكونوا مؤمنين حقًّا، منقادين حقًّا بظاهرهم، وباطنهم، فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتت أجسادهم، وغيرهم أموات، وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياة هم أكملهم استجابة لله، ولرسوله ﷺ فكل ما يدعو إليه الرسول ﷺ ففيه الحياة، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فمن فاته جزء من هذه الاستجابة فاته بقدر ذلك من هذه الحياة، ولهذا تفاوت الناس في حياة قلوبهم، تفاوتوا في هذه الحياة الحقيقية غاية التفاوت.
إن الحياة كما لا يخفى على شريفِ علمِكم على نوعين اثنين:
الأول: هي حياة الأبدان، وهذه يعتورها ما يعتورها من النقص بسبب ما يعرض لها من الآفات، والآلام الحسية، والمعنوية، فينقص من حياة الإنسان بقدر ما يحصل له من الأحزان، والضيق، والهموم، وينقص من حياته بقدر ما يحصل له من العاهات، والآفات، والأدواء، والأمراض، كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيحصل من نقص هذه الحياة بقدر ما يعرض من هذه الآفات، فتكون حياة ضعيفة، أو حياة كاملة من هذه الحيثية - يعني حياة البدن - ولهذا كانت حياة المريض، والمحزون دون حياة الصحيح، والسعيد، أو من لم يحصل له شيء من هذه العوارض.
النوع الثاني من الحياة: هي الحياة الحقيقية أعني بها حياة القلوب، التي يحصل بها التمييز بين الحق، والباطل، بين الهدى، والرشاد، بين الهوى، والضلال، ومن ثمّ فإن صاحبها حينما تكتمل له هذه الحياة يكون مؤثراً للحق على الباطل، مختاراً له، مميزاً بين معدن الحق، ومعدن الشبهات، فلا يلتبس عليه بحال من الأحوال، فإذا وقعت الفتن، واختلطت الأمور على كثير من الناس فإن هذا يكون مبصراً عارفاً بالحق متبعاً له منقاداً، ويحصل له بسبب ذلك من قوة اليقين، والإيمان، والإرادة، والمحبة لله - تبارك، وتعالى - ولرسوله ﷺ ولأهل الإيمان بحسب ما في قلبه من هذه الحياة.
إن حياة القلب تعني أن يكون عامراً بكل فضيلة، وبكل صلاح، وبكل معنى يحصل به السمو، والارتفاع، ويحصل لهذا القلب من أنواع النعيم، واللذة، والانشراح، والسرور بقدر ما فيه من هذه المعاني العظيمة، فيكون خوفه من الله، ورجاؤه إلى الله، ويكون حبه، وبغضه في الله، ويكون أمره من أوله إلى آخره لله، وفي الله، فهو لا يرجو شيئاً من المخلوقين أن يعطوه، أو يمنعوه، إنما رجاؤه معلق بربه، وخالقه فيكون لهذا القلب - أيها الأحبة - من الحساسية، والشعور بقدر ما فيه من الحياة، لأن الحياة الكاملة تعني الشعور الكامل، تعني أن يكون هذا القلب حساساً تجاه المنكر، تجاه ما يخالف أمر الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - كما أن البدن الذي تكتمل فيه عافيته، وصحته يكون إحساسه من أضداد عافيته، ومن الآفات العارضة يكون ذلك فيه تامًّا، وكاملاً، أما إذا ضعفت حياة هذا البدن فإن إحساسه يضعف، وقد يتلاشى، وينعدم، فإذا كانت قلوبنا مستجيبة كانت هذه القلوب حية، ومن ثَمّ فإنها تكون مقبلة على ما ينفعها، ويسرها، ويرفعها عند الله - تبارك، وتعالى -.
البدن الذي تكتمل فيه عافيته، وصحته يكون إحساسه من أضداد عافيته، ومن الآفات العارضة يكون ذلك فيه تامًّا، وكاملاً، أما إذا ضعفت حياة هذا البدن فإن إحساسه يضعف، وقد يتلاشى، وينعدم، فإذا كانت قلوبنا مستجيبة كانت هذه القلوب حية، ومن ثَمّ فإنها تكون مقبلة على ما ينفعها، ويسرها، ويرفعها عند الله - تبارك، وتعالى - .
كما أن الإنسان لا تحصل له الحياة إلا إذا نفخ فيه الرسول الملائكي، وهو في بطن أمه حينما يستتم حمله لأربعة أشهر، فتجري فيه الحياة البدنية، فكذلك أيضاً لا تحصل للإنسان هذه الحياة الحقيقية التي هي حياة القلب إلا إذا نفخ فيه الرسول البشري من روحه كما يعبر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وذلك بالوحي، والهدى الذي تحصل به حياة القلوب، فيكون القلب نابضاً بالإيمان، حيًّا فينتقل بذلك من الموت إلى الحياة، ومن الضياع إلى الهدى، والرشاد، والله - تبارك، وتعالى - سمى هذا الوحي روحاً كما قال الله - تبارك وتعالى - : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2] يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15] وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] فأخبر أن وحيه روح، كما أنه نور، فيحصل به الحياة، والاستنارة، ويشرق القلب فتشرق النفس، وتشرق الجوارح، ويشرق الوجه فتشرق الحياة في وجهه، ويشرق قبره، ويشرق طريقه على الصراط في الآخرة، فيكون في نور يغمره يسعى من بين يديه، ومن خلفه، يبصر به في هذه الحياة، ويبصر به في الآخرة بعد الممات، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي، ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان، ومن حصلت له الأولى - أعني نفخ الرسول الملائكي - حصلت له حياة البدن، ولكنه حرم من الحياة الحقيقية التي يحصل بها السعادة، والفلاح، والنُّجْح، والحبور، واللذة الكاملة في الآخرة مع لذات لا يقادر قدرها في الدنيا كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[1].
وتأملوا قوله - تبارك، وتعالى -: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمعنى أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة، وأبطأتم فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم، وبين قلوبكم فلا يمكّنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق، واستبانته، وبعد أن طرقت الفرصة بابكم فأدرتكم إليها ظهوركم، وإنما أقصد بهذا الخطاب بيان مراد الله - تبارك، وتعالى - ولا أقصد توجيه هذا الخطاب إلى أمثالكم، وإلا فنحن جميعاً مشتركون في ذلك، لكني أفسر معانيَ الآية، كأنه يقول لنا: إنكم إن تركتم الاستجابة لله فإن ذلك قد يعقبه العقوبة بأن يحول الله - تبارك، وتعالى - بين العبد، وقلبه فلا يملك قلبه، ومن ثَمّ فإنه قد يحاول الاستجابة، ولا يستطيع، قد يحاول التوبة، ولا يستطيع، قد يواقع العبد بعض الشهوات، أو قد يُعرض عن بعض الموعظة، والنصيحة، أو عن بعض الفرص التي تحصل بها هدايته، ثم بعد ذلك يُحوَّل قلبه فلا يستطيع بحال من الأحوال أن يكون مستجيباً، وأن يحصِّل من هذه الهدايات قليلاً، أو كثيراً؛ لأن الله - تبارك، وتعالى - قد قلّب قلبه، وصرفه عنها، وحال بينه، وبين الهداية، ففي ضمن هذا الأمر، والخبر أن من ترك الاستجابة لله، ولرسوله ﷺ حال الله بينه، وبين قلبه عقوبة له على ترك الاستجابة، فإنه - تبارك، وتعالى - قد يعاقب القلوب بإزاغتها عن الحق جزاء على إعراضها عن هدايته، وعما جاء به رسله - عليهم الصلاة، والسلام - كما قال الله : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110] فهنا معنى هذه الآية - على قول مشهور معروف، وهو قول قوي صحيح - : أن الله يقلب القلوب، والأفئدة قال: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: جزاء على عدم إيمانهم حينما طرق أسماعهم أول مرة فعاقبهم بتقليب القلوب، فلم تعد هذه القلوب محلًّا قابلاً للهدى، ولم تعد صالحة للاستجابة لله، ولرسوله - عليه الصلاة، والسلام - كما قال الله - تبارك، وتعالى - : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] وقال: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:101] إنها آيات حينما يقف عندها المؤمن يخاف، ويرتجف، الله - تبارك، وتعالى - يُعلل هذا الطبع على القلوب: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأعراف:101] لماذا لما يحصل لهم الإيمان؟.
بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:101] الباء هنا للسببية، سبب عدم الإيمان "ما كانوا ليؤمنوا" بسبب أنهم كذبوا من قبل، فجازاهم الله بالطبع، والختم على قلوبهم كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:101] بهذا الطبع، يطبع على قلوب الكافرين، فأخبر الله - تبارك، وتعالى - أنه عاقبهم على تخلفهم عن الإيمان من أول مرة لما طرق أسماعهم بأن قلّب أفئدتهم، وأبصارهم، وحال بينهم، وبين الهداية، هذا مقام يحتاج العبد أن يقف معه طويلاً، ويتذكر حينما يتلكأ، ويتباطأ عن الاستجابة، والانقياد، والقبول، يتذكر هذه الآيات، وأن الله قد يصرف قلبه، ثم بعد ذلك يطلب الهدى فلا يكون ذلك مستطاعاً بالنسبة إليه، وقد يعافس الإنسان ما يعافس من المعاصي، والذنوب، والشهوات لاسيما شهوات السر، ثم بعد ذلك يحاول أن يتوب فيقع، ثم يحاول أن يتوب فيقع، وكم رأينا من أقوام لربما بكى الواحد منهم، وهو يندب حظه، ويحاول التوبة، ثم بعد ذلك لا يحصل له شيء من مطلوبه، فيُخشى أن يكون الله - تبارك، وتعالى - قد صرف القلب عن التوبة، والهداية، فما عاد صاحبه يملك قلبه، وأنه حق عليه ما ذكر الله - تبارك، وتعالى - في هذه الآيات الكريمات.
فهذا خبر من الله - تبارك، وتعالى - كما يقول كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - : "أن الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - أنه أملك للقلوب من أصحابها، وأنه يحول بينهم، وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئاً من إيمان، أو كفر، أو أن يعي به شيئاً، أو أن يفهم إلا بإذنه، ومشيئته - تبارك، وتعالى - وذلك أن الله يحجز بين القلب، وصاحبه"[2] وهذا هو المراد بالحول بين القلوب، وأصحابها.
وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد، وقلبه في شيء أن يدركه، أو أن يفهمه لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه لم يعد للعبد إليه سبيل بحال من الأحوال، فهذا معنى هذه الآية، ويدخل فيه قول من قال من السلف : "يحول بين المؤمن، والكفر، وبين الكافر، والإيمان"[3].
وقول من قال: "يحول بينه، وبين عقله"[4] ومن قال: "يحول بينه، وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن، ولا يكفر إلا بإذنه"[5] لأن الله - تبارك، وتعالى - إذا حال بين عبد، وقلبه لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه، وبينه ما مُنع إدراكه به، فيكون هذا القلب معطلاً، لا يحصل به استجابة، ولا انتفاع في قليل، ولا كثير، فكأنه - تبارك، وتعالى - يقول لنا: إياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم فيُحال بينكم، وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء، وقلبه، يقلّب القلوب حيث شاء، ويصرفها حيث شاء، كما يقوله طائفة من المفسرين كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحم الله الجميع - وبناء على ذلك - أيها الأحبة - فإن المؤمن إذا لاحت له فرصة من فرص الهداية كأنْ تيسر له حج بيت الله الحرام، أو لاحت له فرصة في حضور مجالس العلم، أو الموعظة، والتذكير، أو لاحت له فرصة في باب من أبواب البر، والخير، وهو يستطيعه، ويقدر عليه فإنه لا يتردد، ينبغي أن يبادر؛ لأن الله قد يحول بين العبد، وقلبه، لربما كانت هذه الفرص غير مكررة فتحصل مرة، وتطرق أبوابنا، ثم بعد ذلك حينما ندير لها ظهورنا لا تعود إلينا ثانية، فالعبد ينبغي أن يهتبل الفرص، وأن يقبل عليها، وأن يفرح، وأن يغتبط بأفضال الله وألطافه التي ساقها إلى بابه.
- انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153)، وانظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 48)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/ 452).
- تفسير الطبري (11/ 112).
- تفسير الطبري (11/ 107)، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الطبري (11/ 108).
- المصدر السابق (11/112).
- المصدر السابق.
فهذه المجالس العلمية، والدورات الشرعية هي من هذه الفرص لاسيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن، وكثر فيه تحول كثير من الناس، فنحن نرى الرجل على حال لربما متألقة من الاستقامة، والصلاح، والإقبال، ثم بعد ذلك نُفجع به، وقد تحول بلون من التحول، إما بنوع من الإغراق بالشهوات، أو كان ذلك بلون من الشبهات، واليوم قد رأينا كثيراً أولئك الذين يتمرغون في شهواتهم ظهراً لبطن يُلبسونها بلبوس الشبهات فيجادلون عنها فيكون ذلك من زيغ القلب - نسأل الله العافية للجميع، وأن يثبتنا، وإياكم بالقول الثابت - فيتحول ذلك إلى لون من الاستحلال، ثم يظهر صاحبه يتبجح أمام الناس، وأنه عرف من حقائق الدين، والهداية ما كان غائباً عنه قبل ذلك، فالحزم كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في انتهاز هذه الفرص، والمبادرة إليها، إنما العجز الحقيقي هو في تأخيرها، والتسويف بها، ولاسيما إذا كان العبد لا يثق بحصولها، وتكررها[1] أو بقدرته عليها في المستقبل، فإن الإنسان لم يزل إلى شغل، ولم يزل الناس كما قال النبي ﷺ : لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم[2] فيحتاج العبد إلى مزيد من الإقبال على الهدايات بأنواعها الهدايات العلمية، والهدايات العملية، وبذلك يحصل له معرفة الطريق الموصل إلى الله - تبارك، وتعالى - ويحصل له بالهدايات العلمية سلوك هذا الطريق، فإذا وُجد مع هذا النية الصحيحة، والإخلاص لله رب العالمين فإن العبد يكون على الجادة الصحيحة، وبهذا يحصل له الخلاص كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] بهذا يحصل الخلاص حينما تلتبس الأمور على كثير من الناس، وتختلط، ونحن نشاهد ما حولنا من البلاد، وما يحصل من الفتن، وكثرة الشرور، فيخشى العبد أن يحوِّل الله عنه عافيته بسبب أنه قد فرط في شكره، والإقبال على ألطافه، وهداياته، فنسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يحفظ لنا إيماننا، وديننا، وأمننا، وأن يحفظ بلاد المسلمين، ودينهم، وأمنهم، وإسلامهم، وأن يخلصهم من كل شر، ومكروه.
العزائم، والهمم سريعة الانتقاف، ومن ثَمّ فإنها قلما تثبت، فينبغي على العبد إذا وجد من نفسه نشاطاً، أو إقبالاً أن يستغل هذا، أن يأخذ من عافيته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن حياته لموته، وإنما هذه الحياة برمّتها من أولها إلى آخرها إنما هي صبر ساعة، وعما قريب سنفارق هذا المجلس، وعما قريب سنفارق هذه الحياة، وننتقل إلى الحياة الآخرة، ونجد ما قدمنا من غير زيادة، ولا نقصان.
فالجدّ الجدّ ينبغي أن لا يكون أحد أحرص من الواحد منا على نفسه على ما يكون فيه خيره، ونفعه، وبره، وصلاحه، ينبغي علينا أن نخاف، وأن نحذر من أن يزيغ الله - تبارك، وتعالى - قلوبنا، أو أن يحول بيننا، وبين هذه القلوب بسبب تأخرنا، وتباطئنا، وتلكئنا عن الاستجابة لله - تبارك، وتعالى - ولرسوله ﷺ إذا كان النبي ﷺ يُكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ولما قالوا له: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ فقال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها[3].
وفي الحديث الآخر، حديث النواس : ما من قلب إلا، وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه وكان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك[4].
وفي حديث أم سلمة: كان أكثر دعائه ﷺ : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ولما قيل له في ذلك؟ قال: إنه ليس آدمي إلا، وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ[5].
وهذه الهداية، والإزاغة إنما هي من كمال عدله - تبارك، وتعالى - والله لا يظلم العباد، والناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
إن هذا القلب الزائغ قلب ضائع لا ينتفع به صاحبه، تطرقه المواعظ، ولكنه لا ينتفع بشيء منها، أولئك الذين كانوا يحضرون مجلس النبي ﷺ ويسمعون الوحي ينزل عليه، فإذا خرجوا من عنده قالوا: ماذا قال آنفا؟! وذلك أن قلوبهم كانت زائغة، فلم تنفعهم رؤية النبي ﷺ ولم ينفعهم حضور مجالسه؛ لأن القلوب معطوبة.
- انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 502).
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم (7068).
- أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم (2140)، وأحمد في المسند، برقم (12107)، وقال محققوه: "إسناده قوي على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7987).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (17630)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7988).
- أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ برقم (3522)، والنسائي في السنن الكبرى عن عائشة - رضي الله عنها - برقم (7690)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4801).
هذا القلب هو الملِك لهذه الجوارح، ملك للسمع، وملك للبصر، وملك للأعضاء كلها، فإذا توجه هذا القلب، وكان حيًّا توجهت هذه الأعضاء إلى كل صلاح، وفلاح، فيكون هذا العبد يرى ما يرضي الله - تبارك، وتعالى - ويسمع ما يرضي الله - تبارك، وتعالى - ويمشي إلى ما يرضي الله فيكون الله - تبارك، وتعالى - سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها.
هذا القلب كما يصوره الحافظ ابن القيم كالملِك، قد جلس على سرير الملْك يأمر، وينهى، ويولي، ويعزل، وقد حف به الأمراء، والوزراء، والجند جميعاً، وهم في خدمته، إن استقام استقاموا، وإن زاغ زاعوا، وإذا فسد فسدوا، فعليه المعوَّل أولاً، وآخرًا[1] وهو محل نظر الرب - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - وهو محل معرفة الله رب العالمين، وهو محل تعظيمه، والخوف منه، وإجلاله، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، كل ذلك إنما مستقره هذه القلوب، هي التي ترضى بالله - تبارك، وتعالى - ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ وعليها معوَّل تحقيق العبودية، فإن العبودية أولاً هي عبودية هذا القلب، ومن، ثم تُعبَّد هذه الرعايا لهذا القلب، لهذا الملِك، تُعبَّد هذه الجوارح إذا كان الملِك معبَّداً لربه، وخالقه، ومليكه - تبارك، وتعالى -.
فالخطاب إنما يتوجه أولاً إلى هذا القلب، فإن كان الخطاب نافذاً مؤثراً فيه ظهر ذلك على جوارح الإنسان، وعلى قبوله عن الله - تبارك، وتعالى - ومن ثَمّ فإن الناس يحضرون الموعظة، والخطبة فيخرجون على صنوف شتى، منهم من يزداد إيمانه بمجالس الذكر، ويقوى يقينه، ومنهم من يخرج كما دخل، ومنهم لا يزيده سماع الآيات، والمواعظ، والتذكير إلا زيغاً، وضلالاً، ورجساً كما قال الله عن أشرف الأشياء، وهي آياته - تبارك، وتعالى - هي أشرف ما يُسمع، وأشرف ما يُوعظ به: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125] لأن قلوبهم مرتكسة بالأرجاس، وهي تحوم، وتحلق حول الأرجاس دائماً، وتبحث عنها، وتتطلبها، فإذا وافقها هذا النقاء، والصفاء، والإيمان، والبر فإن المحل لم يكن صالحاً لقبول هذا الطهر، فيحصل منه هذا النفور الذي نجده عند المنافقين، وعند أعداء الله - تبارك، وتعالى - ثم يحصل منه عكس ما كان ينبغي أن يكون، فبدلاً من الاستجابة تحصل السخرية، والاستهزاء، والإعراض، والكذب على الله - تبارك، وتعالى - هذه القلوب التي صارت مظلمة أظلمت معها الألسنة، وأظلمت الأقلام، وأظلمت الجوارح، وأظلمت الأعمال فأظلمت تلك الوجوه فلم تعد بحال مرضية - نسأل الله العافية - كحال من كان قابلاً عن الله - تبارك، وتعالى - فجاءت نتائجهم كما قال الله - تبارك، وتعالى - : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58] فإن كثيراً من المفسرين قالوا بأن هذا من قبيل المثل المضروب بأحوال العباد، وقلوبهم، البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، إذا كانت القلوب طيبة عامرة بالإيمان ظهر ذلك على الألسن فصارت تلهج بذكر الله وإذا كان القلب أرضاً طيبة فإن ذلك يظهر على ما يكتبه الإنسان، ويزاوله من الأعمال، فجاءت كتابته نظيفة هادية مشرقة، وكانت أعماله زاكية كذلك؛ ولهذا قال الله : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور:26] وهذا كما يكون في الذوات فالطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وكذلك الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وهكذا أيضاً الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، فإنه يكون أيضاً بالأقوال، والأوصاف، والأعمال على ما ذكره جمع من المحققين من المفسرين، فلكلٍّ ما يلائمه.
وينبغي على العبد أن ينظر ما يصدر منه من الأقوال، وما يشتغل به لسانه، وما يشتغل به بصره، وأين يقلبه في المواقع على الشبكة، وماذا يكتب في تلك المنتديات، أو غيرها فإن ذلك يُنبئ عن حاله، وإنك لتعرف حال الرجل حينما تنظر ما كتبتْ، وسطرت يمينه، وما نطق به لسانه فيُعرف حاله من طيب، وضده، وهذا أمر لا يخفى على أحد، ثم بعد ذلك يقوى مثل هذا، فيظهر على وجه الإنسان حتى لا تخطئه العين، ولا يحتاج إلى قليل من الفراسة، فيُعرف حاله من الصلاح، أو الفساد، والضلالة، والبدعة، والهوى بمجرد النظر إلى وجهه، ومن هنا فإن القلب إذا أظلم فإن ذلك يسري إلى الجوارح، فتكون مظلمة، وإذا استنار سرى ذلك إلى الجوارح فصارت مستنيرة، فيكون الإشراق في القلب أولاً، ثم بعد ذلك يكون على الجوارح ثانياً، ثم بعد ذلك يظهر على الوجه ثالثاً، ثم يُرجى لصاحبه أن يُزرق البصيرة، فيميز بين الحق، والباطل، والهدى، والضلال إذا وقعت الشرور، والفتن، والمصائب التي يتحير فيها كثير من الناس، فهذا يحتاج إلى استجابة، هذه الاستجابة تكون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لا يكون إلا بالعلم الصحيح، ويكون ذلك جميعاً مبنيًّا على الإخلاص لله - تبارك، وتعالى - فالله مطلع على القلوب، وعلى أعمال العباد، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
فأولئك الذين لم يرد الله - تبارك، وتعالى - أن يطهر قلوبهم ثبطهم، فقعدوا عن البر، والمعروف، والخير، والصلاح، والإصلاح، وصارت جوارحهم مشتغلة بأضداد ذلك وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46].
- انظر: مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/ 271)، والتبيان في أقسام القرآن (ص: 412).
إن العبد حينما يتثبط عن حضور مجالس العلم، حينما يتثبط عن الحضور للجمع، والجماعات، حينما يتثبط العبد عن الحج، والعمرة، والأعمال الصالحات من الإنفاق في سبيل الله، وغير ذلك فإنه ينبغي أن يخشى أن يكون ممن قال الله عنهم: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46] فماذا يمكن، وماذا عسى أن يقال أمام هذه النصوص المحذرة؟! وماذا عسى أن يملك العبد من أمره، وناصيتُه بيد ربه، وقلبه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف شاء، وحياته بيده، وموته بيده، وسعادته بيده، وشقاوته بيده؟!.
فهو لا يسعى إلى شيء إلا بإذنه، إن وكله إلى نفسه، وكله إلى عجز، وضيعة، وتفريط، وخطيئة، وإن وكله إلى غيره، وكله إلى من لا يملك له ضرًّا، ولا نفعًا، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشورًا، وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه، وجعله أسيراً له فهو لا غنى له عن ربه - تبارك، وتعالى - طرفة عين.
نحن مضطرون إلى ألطاف الله غاية الاضطرار، مضطرون إليه على مدى الأنفاس، مضطرون إليه في أحوالنا الظاهرة، والباطنة، وفاقتنا إلى هداياته، وألطافه تامة.
نحن فقراء ضعفاء ينبغي أن نعرف حالنا، وقدرنا، وعجزنا، وضعفنا، وما يحصل لنا من هدايات، وتوفيق للأعمال الصالحات، ينبغي أن ندرك جيداً أن هذا من محض فضله - تبارك، وتعالى - علينا، فينبغي أن نجد، وأن نجتهد في شكر هذه النعم، والأفضال التي ساقها إلينا من غير أن يكون منا شيء يُذكر نستحق به هذا الفضل العظيم من الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه -.
حاصل ما ذُكر أن العبد ينبغي أن يفتح حواسه جميعاً، فيكون في حال من الاستجابة ظاهراً، وباطناً لأمر الله - تبارك، وتعالى - حينما يأمره، ويفرح حينما تساق له ألطاف الله فيبتدرها، إننا في زمان أصبح الحق ملتبساً على الكثيرين، وأنتم في ناحية أحوج ما تكونون إلى إعداد صحيح للنفوس بالإيمان، والإخلاص، والعمل الصالح، والعلم الصحيح، فالشرور محدقة، والإنسان يخشى على نفسه من أن تتخطفه الفتن، ومن ثَمّ يتخطفه شياطين الإنس، والجن، فإن الضلالات أصبحت اليوم بهذه الوسائل الجديدة في الإعلام أقرب إلى الواحد منا من اليد للفم.
إن الكثيرين حينما تقع الفتن يأتون، ويسألون بحرقة ما دورنا، وماذا نعمل؟.
أقول: إن الدور الحقيقي هو حينما يوجد الإعداد الحقيقي للنفوس بالإيمان، والعمل الصالح، والعلم الصحيح، الذين تسلط عليهم عدوهم يقتلهم، ويسبي نساءهم، وينكل بهم، ويفعل بهم الأفاعيل إنهم أحوج ما يكونون - كما يعبرون دائماً - إلى من يعلمهم في هذه اللحظات الحاسمة حقيقة الدين، والإيمان، من أجل أن يموت الإنسان، وهو على جادة، ولزوم للصراط المستقيم، ومن أجل أن ينتصر على عدوه، وذلك حينما يكون مبصراً بقلبه عارفاً للطريق، يعرف محابّ الله ومساخطه، أما حينما يُذبح الإنسان، وهو أبعد ما يكون عن الله، وحينما يُبتلى الإنسان، وهو لم يسلك الصراط المستقيم، فإن هذه هي الفاجعة الحقيقية، فمن الناس من تكون حاله كذلك، ولهذا أقول: ينبغي على الإنسان أن يأخذ - كما سبق - من فراغه لشغله، ومن عافيته لبلائه، ومن صحته لمرضه، ومن حياته لموته.
ومن ثَمّ أقول: فإن مثل هذه الدورات العلمية هي من جملة هذه النعم، والفرص التي يحصل بها الإعداد الحقيقي للنفوس بالعلم الصحيح، فلا يتخبط الإنسان إذا نازعته الفتن.
أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يلطف بنا، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ متبلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يرفع ما بإخواننا من ضر في بلاد الشام، وفي كل مكان، وأن يُبدلهم من هذا البلاء عافية، ومن الخوف أمنًا، ومن الضيق سعة، ومن الفقر غنى، ومن القلة كثرة، ومن الضعف قوة، اللهم داوِ جرحاهم، واشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، واجعل آخرتهم خيرًا من دنياهم، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله، وسلم على نبينا محمد،وعلى آله، وصحبه أجمعين.