- وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
- السكن، والسكون يدل على معانٍ
- وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً
- نماذج يعبر أصحابها عن المودة
- نماذج يعبر أصحابها عن النفور
- إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.
أيها الأحبة: حديثنا في هذه الليلة عن آية هي من آيات الله - تبارك، وتعالى - المتلوة، كما أن الحديث فيها يتضمن الحديث عن آية من آياته التي نشاهدها، ونجدها في نفوسنا، وفيمن حولنا، وذلك ما ذكره الله - تبارك، وتعالى - في سورة الروم حينما عدد جملة من آياته الدالة على وحدانيته، وقدرته، وجلاله، وعظمته وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ [الروم: 20] ثم ذكر بعدها قوله - تبارك، وتعالى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] فهذا الحديث هو لون من التدبر، وهو لون أيضاً من الاهتداء بما جاء في القرآن من الهدى الكامل فيما يتصل بانتظام حياة الناس، وما يتعلق بأمر الاجتماع، وتقوية الأواصر، والروابط، هذا الحديث يوجه إلى الجميع، إلى الصغار، والكبار، والرجال، والنساء، إلى من قد تزوج، وإلى من لم يتزوج بعد، هذا ليس بحديث يختص بطائفة، أو فئة، أو لون من الناس، وإنما هو حديث لجميعهم؛ لأن الجميع يحتاج إلى ذلك.
وَمِنْ آيَاتِهِ الدالة على قدرته، ووحدانيته، وعظمته، وعلمه، ورحمته، وعنايته بعباده، وحكمته العظيمة أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا هذه آية، والآية لا شك أنها علامة دالة على ما سيقت لأجله، فالله ذكر ذلك في جملة آياته، فهذا الذي أورده في هذا الموضع من الآيات كل ذلك يدل على قدرة، وعلم دقيق، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ هذا الخطاب موجه إلى من؟
يحتمل أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى الرجال خاصة، وهذا قال به جمهور المفسرين، عامة المفسرين جروا على هذا المعنى، ويحتمل أن يكون الخطاب متوجهاً لجميع الناس، لنوع الإنسان، الرجال، والنساء أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا فالزوج يقال: للرجل كما أنه يقال: للمرأة، وهي اللغة الفصيحة التي لم يستعمل في القرآن غيرها، أما لفظة الزوجة للمرأة فإن ذلك إنما جاء في الاستعمال في كلام العرب في لغيّة قليلة، أما اللغة الأفصح، اللغة الشائعة، فإن المرأة يقال لها: زوج
الزوج يقال: للرجل كما أنه يقال: للمرأة، وهي اللغة الفصيحة التي لم يستعمل في القرآن غيرها، أما لفظة الزوجة للمرأة فإن ذلك إنما جاء في الاستعمال في كلام العرب في لغيّة قليلة، أما اللغة الأفصح، اللغة الشائعة، فإن المرأة يقال لها: زوج
ولكن هذا الاستعمال الذي يتردد على ألسنتنا في هذا العصر أن نقول للمرأة: زوجة، ليس بلحن، فهو استعمال صحيح يدل عليه قول الفرزدق، وهو عربي قح، يحتج بشعره؛ لأنه في زمن الاحتجاج:
إن الذي يسعى ليُفسد زوجتي | عليّ كساعٍ إلى أُسْد الشَّرى يستبيلها[1] |
***
فقال: زوجتي، فدل على أن هذا الاستعمال صحيح، ولكنه لم يرد في القرآن، إنما الذي ورد في القرآن: زوج بالنسبة للمرآة.
فالله - تبارك، وتعالى - يذكر آياته، ومن جملتها: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا فالزوج يقال لامرأة الرجل، ويقال أيضاً لرجل المرأة، وممن فسر الآية بأنها خطاب لنوع الإنسان: الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - في كتابه المعروف في التفسير "التحرير، والتنوير[2]" وهذا معنى تحتمله الآية؛ أن يكون الخطاب للجميع، ويؤيده ما سيأتي بعده - إن شاء الله - ويمكن أن يلتئم المعنيان في هذا الخطاب، ولا نحتاج معهما إلى الترجيح.
وَمِنْ آيَاتِهِ من آياته الدالة على ما سبق ،أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا بمعنى تناسبونهن، ويناسبنكم، وتشاكلونهن، ويشاكلنكم، كما يقوله بعض المفسرين كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -[3].
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ما المراد بذلك؟.
هذا يحتمل معنيين، وهما مبنيان على المعنيين السابقين؛ فالذين قالوا: إن ذلك مما خوطب به الرجال خلق لهم من أنفسهم أزواجاً، قالوا: حواء، خلقها الله - تبارك، وتعالى - من آدم - عليه السلام - وهذا اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - [4] ويشهد لهذا المعنى قوله - تبارك، وتعالى - : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف: 189] وهي آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف: 189] وجعل هنا بمعنى خلق، وفي صدر سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] فالله - تبارك، وتعالى - أخبر أن زوجها قد خُلق منها، فحواء خُلقت من آدم - عليه السلام - فيكون ذلك من خطاب الرجال خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا.
والمعنى الثاني: مِنْ أَنفُسِكُمْ أي: من جنسكم، وهذا الذي ذهب إليه صاحب التفسير الكبير [5] وبه قال ابن كثير[6] وصاحب "التحرير التنوير" أعني الطاهر ابن عاشور[7] قالوا: خلق لكم من جنسكم، كقوله - تبارك، وتعالى - : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة: 128] يعني: من جنسكم، يعني ليس من الملائكة، ولا من الجن، وإنما من الإنس، تفهمون عنه، وتتلقون عنه، وتشاكلونه، ويشاكلكم، ويشهد لهذا المعنى ما ذكرت من شواهد المعنى الأول، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] فقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا اللام للتعليل، فذلك مؤذن بأن خلق هذا الزوج منها، من هذه النفس من أجل أن يألفها، وأن يسكن إليها، وأن يطمئن لذلك، وأن تطيب به نفسه، ويركن إلى هذا الزوج - يعني الزوجة - قال: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم: 21] فلو كانت من جنس آخر لم يحصل هذا السكن، لو كانت من عنصر آخر، من مخلوقات أخرى فإن هذا السكون لا يحصل، ولا يتأتى؛ فالجنسان المختلفان لا يسكن أحدهما إلى الآخر بحال، ولا يميل إليه كما يعلل بذلك صاحب التفسير الكبير[8] والحافظ ابن كثير[9] وبهذه الآية احتج جمع من أهل العلم على من زعم إمكان التزوج من الجنية، أو التزاوج بين الإنس، والجن كما كان يدعيه بعض العرب، ويذكرونه في مختلقاتهم، القصص الخرافية، والخيالية، بأن فلاناً تزوج من الجن، أو أن القبيلة الفلانية يُنسبون إلى الجن من جهة الأم، أو نحو ذلك، كل هذا لا حقيقة له، وإنما هو من مختلقات العرب، لا صحة له، وهذا احتج به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على رد هذه الدعوى[10] وكذلك أيضاً الطاهر ابن عاشور[11].
فالمقصود أن القول الآخر: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أي: من جنسكم، له قرائن من القرآن تقويه، وله أيضاً وجه من النظر يؤيده، فهذان قولان، ولا شك أن حواء قد خلقت من آدم كما أخبر الله ثم إن الأزواج، وما تناسل بعد آدم، وحواء إنما هم من جنس واحد؛ فالنساء من جنس الرجال حيث يجمعهم العنصر البشري، وذلك يحصل به من الإلف، والسكن ما لا يحصل بحال من الأحوال فيما لو اختلفت الأجناس، ومن ثَمّ فإن القول بأن ذلك في آدم، وأن ذلك في الرجال قول له ما يؤيده، وكذلك القول بأنها خطاب للجميع فذلك صحيح.
- أدب الكتّاب لابن قتيبة (ص: 425)، وأمالي القالي (1/ 20)، وسمط اللآلي في شرح أمالي القالي (1/ 95).
- انظر: التحرير، والتنوير (27/ 145).
- انظر: تفسير السعدي (ص: 639).
- انظر: تفسير الطبري (14/ 295)، و(20/ 474).
- انظر: مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير (25/ 91).
- انظر: تفسير ابن كثير (6/ 309).
- انظر: التحرير، والتنوير (14/ 217)، و(21/ 72)، و(25/ 44).
- مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، للرازي (25/ 91).
- انظر: تفسير ابن كثير (6/ 309).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 413).
- التحرير، والتنوير (21/ 72).
إذن الله - تبارك، وتعالى - يمتن على العباد بأن خلق لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم، وكان أصل هذا الجنس قد خُلِّق من أبينا آدم - عليه الصلاة، والسلام - خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لماذا؟ جاء التعليل: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا والتعبير هنا بمثل هذا الذي علل به: لِتَسْكُنُوا فالسكن، والسكون يدل على معانٍ من الهدوء، الطمأنينة، الراحة؛ لأن الذي يقابل الاضطراب: السكون، الذي يقابل الحركة: السكون؛ الرجل حينما ينتشر، ويخرج في حاجاته، ومصالحه هنا، وهناك، ويلقى ما يلقى من التعب، والعناء، حينما يطوف طلباً للرزق فإنه حينما يرجع إلى داره، إلى بيته، إلى موضع سكنه - هذه الزوجة - يجد الراحة، والطمأنينة، والسكون، فيجد المرأة في استقباله، وهي تحت نظره ترعى مصالحه، وتربي ولده، وتقوم على شؤون المنزل، فيتحول من تلك الحركة إلى سكون في الدار، يجد فيه بغيته، وأنسه، وراحته، وطمأنينته، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن هذا الركون إليها، وهذا الارتياح، وهذا الاطمئنان يحصل به هدأة النفس، يحصل به سكون النفس، فتبقى النفس، وادعة هادئة ساكنة لا اضطراب فيها، فتذهب عنه تلك الأمور المزعجة، والمقلقة لما يجد في داره عند امرأته من لمسة حانية، ومن مراعاة لمصالحه، وحاجاته كلها، فتطمئن النفس، وعلى قدر ما تقوم عليه المرأة من هذه المعاني، وبقدر ما يتحقق فيها من هذه الأوصاف يحصل سكون الرجل، ومن ثَمّ فإن ملائمة الطبع بين الرجال، والنساء مؤذنة بمزيد من الطمأنينة، والسكون، والراحة، ولذلك فإن اللائق بمن يقبل على الزواج أن يبحث عن امرأة تشاكله في اهتماماته، وعاداته، وفي مستواه المعيشي، وما إلى ذلك من الأمور التي يحصل بها المزيد من المشاكلة، والمقاربة، فهو ليس بحاجة إلى أن يكتشف في كل يوم عادة جديدة، وخلقاً غريباً لا يعرفه، ولا يألفه، هؤلاء يستحسنون أمراً، وهو يستقبحه، أو العكس، وهكذا حينما يوجد التباين في الاهتمامات، يوجد التباين في التربية، يوجد التباين في الاستقامة، يوجد التباين في مستوى المعيشة؛ إذا كان الرجل فقيراً، وقد تزوج بامرأة قد اعتادت على سعة العيش، ورفاهيته، ولا يستطيع أن يحقق أحلامها، وآمالها، ومطالبها، فإن ذلك يؤذن بشيء من الاضطراب، والانزعاج، إلا أن تكون هذه المرأة ممن قد زهدت في عرض الدنيا، ومظاهرها، وتريد ما عند الله، والدار الآخرة.
وهنا قوله - تبارك، وتعالى - : لِتَسْكُنُوا قد عُدي بـ(إلى) لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ما قال: لتسكنوا عندها، أو لتسكنوا معها، فالتعدية بـ(إلى) هنا فهم منها بعض أهل العلم أن ذلك لكونه من السكون القلبي لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ما قال: تسكنوا عندها، فيقولون: هذا للسكنى الجسمانية، سكنى الأجسام، أنا ساكن في الحي الفلاني، أسكن عند فلان، فهذا في سكنى الأجسام، لكن ما تقول: أنا أسكن إلى الحي الفلاني، وإنما إذا عدي بــ(إلى) فهذا يدل على الميل، ولهذا قال بعض المفسرين بأن قوله: لِتَسْكُنُوا قد ضُمن في هذا الفعل فعلا آخر يصلح أن يعدى بـ(إلى) وهو لتميلوا، لتسكنوا مضمن معنى فعل آخر: لتميلوا إليها إذا كانت من جنسكم، فيحصل هذا الميل الطبيعي، الميل الفطري.
وبعض من لا خلاق لهم لربما تسمع هنا، وهناك أن امرأة ممن لا يعرفون الله، ولا الدار الآخرة قد تزوجت بحيوان، هذا لا يمكن أن يحصل معه هذا السكون بحال من الأحوال، ثم إن السكون هنا يدل على معنى الأنس، والفرح، فرح النفس، وزوال الاضطراب، والوحشة، وذلك أن السكون يدل كما سبق على ما يقابل الاضطراب، والحركة، فتحصل هدأة النفس، وطمأنينتها، ولذلك ينبغي أن تراعي المرأة هذا المعنى، أن يكون البيت محلا للسكن، والطمأنينة، إذا جاء الرجل لا يوجد إزعاج، لا يوجد منغصات، لا تستقبله بالطلبات، لا تستقبله بالتشكي، لا تستقبله بمنغصات تنغص عليه، وتكدر صفو حياته، ومن الخطأ حينما يرجع الرجل، وقد أُجهد، وكلّ أن يستقبل بلون من التذمر، أو المطالبات، أو المشاكسات، أو نحو ذلك، فإن هذا مؤذن بالنفرة، الرجل يطلب موضعاً لراحته، ولم يجد سوى هذه الدار، وهذه الزوجة، فإن لم يجد راحته، وصار يبتعد عن داره؛ ليبحث عن الراحة هنا، وهناك، وصار بيته محلا للنكد، هذا قلب للميزان، وهذا من أشق ما يكون على المرء، حينما تتحول حياته في بيته إلى لون من المعاناة حتى يصير أنسه، وراحته خارج الدار.
فعلى المرأة العاقلة، المرأة الذكية، المرأة الحصيفة أن تراعي هذا في كل الحالات، أولئك النسوة اللاتي قد تزوج أزواجهن عليهن مثلاً، كثير منهن تسأل: ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟ لربما يميل إلى هذه المرأة الجديدة، ونحو ذلك، الكلمة التي أقولها للجميع دائماً؛ لأن هذا القلق أحياناً يأتي من المرأة الجديدة أيضاً، يقال للجميع هذه، وتلك بأن هذا الرجل إنما تزوج لينعم، يطلب مزيداً من الراحة، وطيب العيش، فالموضع الذين سيكون قلقاً سينفر منه، وستكون صاحبته هي الخاسرة، فالعاقلة تدرك ما تحت هذه الجملة من المعاني، ولا حاجة في أن نطول في الكلام على هذا الأمر.
المقصود: أن ما يألفه جنس الإنسان، ويحبه كما يقول شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : يقال له سكن[1] لأنه يسكن إليهن، ولهذا يقولون: فلان يسكن إلى فلان، ويطمئن إليه، ويقول الإنسان: قلبي يسكن إلى فلان، بمعنى أنه يطمئن، إذا اعتقد في هذا أنه مأمون، وأنه صادق في علاقته به فإن ذلك يورثه الطمأنينة إليه، والسكون، فيسكن قلبه إليه، فإذا جلس معه اطمأن، وارتاح، ولربما أفضى إليه ببعض ما يعانيه، ويكابده.
والزوجة قيل لها: سكن، بهذا الاعتبار وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] فيسكن الرجل إلى المرأة بقلبه، وبدنه جميعاً كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - [2].
وهذا يقويه بعض المزاولات، والأقوال، والأفعال، فالمعاشرة تُجلي العلاقة بين الزوجين، وتجلو النفس، فيصفو ما فيها من الكدر كما ذكر هذا بعض أهل العلم، وكذلك أيضاً القول الحسن، ولهذا تجد أن البعض لربما يردد كلمات، وعبارات يتمناها؛ لأنه قد عَرف أنها من عادة بعض أهل البلاد، تكون المرأة متحببة إلى زوجها، فتتكلم بكلام في غاية اللطف، وإذا دعاها ردت بعبارات في غاية اللطف، فما الذي يمنع المرأة العاقلة أن تفعل ذلك مع زوجها عبادة، وتقرباً إلى الله، وأداءً لبعض حقه، والله يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] ومن أولى ما يدخل في ذلك: الرجل مع امرأته، والمرأة مع زوجها، وحينما نوجه هذا الكلام للمرأة نوجهه أيضاً إلى الرجل؛ أن يتكلم بالكلام الحسن، وأن يصدر منه ما يحسن، ويجمل، ويحصل به التحبب، وما إلى ذلك.
- مجموع الفتاوى (5/ 571).
- المصدر السابق.
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً [الروم: 21] هذه من آياته، المودة هذه أخص من المحبة، المودة محبة، وزيادة، محبة فيها ميل إلى هذا المحبوب، وإصغاء القلب له، فيها إيثار له على غيره، فهو يُؤثره، ويحميه، ويحوطه، وينصره، كل هذا داخل في هذه المودة، وأيضاً الرحمة، يرحمها، فلا تجد بين أحد في الغالب - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - مثل ما بين الزوجين من المودة، والرحمة[1] والرجل كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "يمسك المرأة إما لمحبته لها، وإما لرحمته بها"[2] كأن تكون ذات ولد منه، أو محتاجة إليه في نفقة، وغيرها، أو لما بينهما من التآلف، أو غير ذلك فيرحمها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] وهذه الرحمة صفة تبعث على الإحسان، وحسن المعاملة؛ فإن من يرحم غيره فلا شك أنه سيحسن إليه ما استطاع، فكيف إذا وُجد مع هذا المودة؟ فالمودة وحدها هي وشيجة، وآصرة عظيمة تتفرع منها العلائق كالصداقة، ونحوها، هذا يرجع إلى باب المحبة بين الناس، فهذا يألف هذا، هذا يصاحب هذا، هذا يلتئم مع هذا، فيكون صاحباً، وصديقاً له، فالصداقة، والأخوة، وتفاريعهما كل ذلك يرجع إلى المحبة، والله ذكر المودة كما قلنا، وهي أخص من مطلق المحبة، مرتبة أعلى.
وأما الرحمة فهي آصرة أخرى كما بين الأبوة، والبنوة، فما ظنكم كما يقول صاحب "التحرير، والتنوير" بآصرة قد جمعت الأمرين: مودة، ورحمة[3] يعني المودة تجمع أشتاتاً من الناس، ويحصل بنيهم أخوة، يحصل بينهم علاقة صداقة، والرحمة تجمع القرابات، وما إلى ذلك، هذه الوشيجة بين الزوجين جمعت بين الأمرين: مودة، ورحمة، إذن هي آصرة قوية، كما أنها أيضاً بجعل الله : جَعَلَ بَيْنَكُمْ ليست مصنوعة، ليست متكلفة، وإنما هي بجعل الله - تبارك، وتعالى - وما كان بجعل الله فهو أقصى درجات الإتقان، هذا شيء خلقه الله في نفوس الناس، ثم أيضاً تأملوا كيف أن الزوجين يكونان قبل الزواج لا يعرف أحدهما الآخر، بل هما متجاهلان، لا صلة له بها، ولا يعرفها، فيصبح بعد الزواج بحالة من المحبة، والوئام، والرحمة، وتحصل هذه العاطفة بينهما بعد أن كانت منعدمة قبله، فتوجد المحبة، وتوجد الرحمة كرحمة الأبوة، والأمومة، فهذا كله آية من آيات الله - تبارك، وتعالى - ومِنة امتن الله بها على العباد، ولذلك فإن ما يحصل من أضداد ذلك، حينما يحصل الفراق بين هذين الزوجين، إما بسفر، وأمور اقتضتها معايش الناس، أو بموت، أو نحو ذلك، فإن أثر هذا الفراق يكون شديداً على نفوس هؤلاء الأزواج، كما ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام - رحمه الله - بأنه قد يصير بحال هي أشد من الموت أحياناً، يعني حينما يفارق لسفر، حينما يفارق لأمر قد اقتضته معايشه، فإن ذلك لربما كان الموت أسهل عليه من هذا الفراق، كما أن بذل المال أسهل عليه، ومفارقة الأوطان أسهل عليه من مفارقة شقه الآخر، لاسيما إذا كانت العلاقة في حال من الصفو، والمحبة بين هؤلاء الأزواج، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق، وتفسد حالهم، فكيف إذا كان ذلك لنزاع قد وقع بين القرابات ففرضوا عليهما الفراق مع ما بينهما من أولاد، ومحبة؟ فهذا في غاية الشدة في وقعه على النفوس.
- تفسير السعدي (ص: 639).
- تفسير ابن كثير (6/ 309).
- التحرير، والتنوير (1/ 644).
ثم حين نتصفح في كتب التاريخ، والتراجم، والأدب، وما إلى ذلك نجد نماذج يعبر أصحابها عن هذا المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله.
هذا ابن زُريق البغدادي لما ودع زوجته خارجاً لطلب الرزق بقصيدة طويلة يقال لها: العينية، أو يقال لها: اليتيمة، كان مما قال فيها، انظروا إلى هذه الوشيجة إذا فارقها، وقارنوا بما سيأتي مما يذاع، ويشاع هنا، وهناك مما ينفر الأزواج، ينفر كل طرف من صاحبه، يقول:
أستودع اللهَ في بغدادَ لي قمراً | بالكرخ من فَلَك الأزرار مطلعُهُ |
ودعتّه وبودي لو يودعني | طيبُ الحياة وأني لا أودعه[1]. |
يقول: ودي أموت، ولا أودعه.
وانظر المشاعر المتبادلة:
كم قد تشفّع بي ألا أفارقَه | وللضرورات حالٌ لا تشفِّعهُ |
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى | وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعهُ |
إلى أن يقول:
مَن عنده لي عهدٌ لا يضيع كما | عندي له عهد ودٍّ لا أضيعهُ |
ومَن يصدِّع قلبي ذكره وإذا | جرى على قلبه ذكري يصدِّعهُ[2] |
شعور مشترك بين الطرفين، هؤلاء أصحاب قلوب حية، ليس عندهم تبلد في المشاعر، إلى آخر ما قال.
وهذا أيضاً ابن دراج القسطلي يقول عند، وداع زوجته حينما همّ بالسفر:
ولما تدانت للوداع وقد هفا | بصبري منها أنّةٌ وزفيرُ |
تناشدني عهد المودة والهوى | وفي المهد مبغومُ النداء صغيرُ |
إلى أن يقول:
وطار جناح الشوق بي وهفتْ بها | جوانحُ من ذعر الفراق تطيرُ[3] |
وهكذا أيضاً الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لما سافر في طلب العلم قال في زوجته ليلى الحلبية أبياتاً، يقول فيها:
رحلتُ، وخلّفتُ الحبيب بداره | برُغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا |
يقول: لست مختاراً.
أشاغل نفسي بالحديث تعللًا | نهاري، وفي ليلي أحن إلى ليلى[4] |
يقول: بالنهار أتلهى بالحديث، ورواية الحديث، وسماع الحديث، وكتابته، وفي ليلي أحن إلى ليلى.
وهذا يحيى الهندي الأندلسي أوصى ابنه عند دفنه بأبيات يقول فيها، يوصيه أن يدفنه بجانب زوجته التي ماتت قبله، يقول:
إذا متُّ فادفني حذاء خليلتي | يخالط عظمي في التراب عظامها |
ورتِّب ضريحي كيفما شاءه الهوى | تكون أمامي أو أكون أمامها[5] |
إلى آخر ما ذكر، هذا حتى بعد الموت لا ينساها، وهكذا أيضاً البارودي الشاعر المعاصر لما نفي إلى سيلان، وماتت زوجته، وقد بلغت السابعة، والثلاثين، وعنده منها أربع بنات، فلما بلغه خبر الوفاة قال قصيدة طويلة، مما جاء فيها يقول:
أسليلةَ القمريْن أيُّ فجيعة | حلت لفقدكِ بين هذا النادي |
أعزِزْ عليّ بأن أراكِ رهينة | في جوف أغبرَ قاتمِ الأسداد |
يعني القبر.
أو أن تبيني عن قرارة منزلٍ | كنتِ الضياء له بكل سوادِ[6] |
إلى آخر ما ذكر، ثم يقول:
هيهاتَ بعدكِ أن تقر جوانحي | أسفاً لبُعدك أو يلين مِهادي |
وَلَهي عليكِ ملازم لمسيرتي | والدمع فيك ملازم لوسادي |
فإذا انتبهتُ فأنتِ أول ذُكرتي | وإذا أويتُ فأنتِ آخر زادي |
إلى أن يقول:
هي مهجةٌ ودّعتُ يوم زيالها | نفسي وعشتُ بحسرة وبعادِ |
ودعتُ نفسي لما ماتت.
تالله ما جفتْ دموعي بعدما | ذهب الردى بك يا ابنة الأمجاد |
إلى أن يقول:
قد كدتُ أقضي حسرة لو لم أكن | متوقعاً لقياك يوم معادِ |
فعليك من قلبي التحية كلما | ناحت مطوَّقة على الأعواد[7] |
المطوقة يعني الحمامة التي في عنقها لون يخالف لون باقيها.
وهذا العلامة محمد الخضر حسين - رحمه الله - شيخ الأزهر في مدة مضت، يقول في رثاء زوجته زينب التي توفيت في القاهرة سنة اثنتين، وسبعين، وثلاثمائة بعد الألف، وهو إمام عالم متضلع في علوم الشريعة، واللغة العربية، وغيرها، وكانت امرأة بارة صالحة، وكان قد بلغ التاسعة، والسبعين، يعني امرأته ليست صغيرة فهي تقاربه، يقول لما توفيت في جملة أبيات، وقصيدة قالها، أختار منها بعض الأبيات، يقول:
وكنتُ أعزي النفس من قبلُ أنني | أفُوتُ قرير المقلتين بمحياكِ |
يقول: إذا أصابني التعب، والهم، والنكد أعزي نفسي أني سآتي إلى البيت، وسأراكِ، انظر إلى المرأة الصالحة كيف تكون، إلى أن يقول:
فهيهات أن أنساكِ ما عشتُ والأسى | يموج بقلبي ما جرت فيه ذكراكِ |
وهيهات لا أنسى مواطن كنتِ لي | مُسلِّيةً لا أُنس إلا بمغناكِ |
يقول: إذا أصابتني الهموم، والأكدار أنت التي تمسحين عني ذلك، وأجد سلوة بلقياك.
هكذا ينبغي أن تكون المرأة، هذا الذي يذكره الرجل حينما تفارقه، أو يفارقها، لكن إذا كانت القضية بالعكس، هو يجد النكد، ويجد الصداع، ويجد الألم، أو المرأة تجد من زوجها مثل ذلك!، يقول:
وأنتِ التي حببتِ لي العيشَ بعدما | سئمتُ فطيب العيش بعض مزاياكِ |
وإن سامني يومٌ شكاةً تدفقتْ | دموعك من جفنٍ يُخال هو الشاكي |
يعني كأنكِ أنتِ المصابة، كأنك أنتِ التي تعانين، تبكين حين ترين ما بي من عناء، يقول:
يجافي الكرى عيني إذا مسّكِ الضنى | ويرتاح ما بين الحنايا لمَنجاكِ[8] |
يقول: إذا مرضتِ لم أستطع أن أنام، وهذا لم يأتِ من فراغ.
انظر إلى ما قالته امرأة سعيد بن المسيب من أئمة التابعين، تقول: "ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم"[9] كيف يدخلون على الخليفة؟ كانوا يقولون: أصلحك الله أيها الأمير، عافاك الله أيها الأمير، المرأة تتحدث مع زوجها بلغة لائقة، بلغة مناسبة، بلغة تورث المحبة، والتقدير، والاحترام، هكذا كان نساء السلف يتعاملن مع أزواجهن، والحديث موجه للطرفين؛ كذلك ينبغي أن يعامل الرجل امرأته بإحسان، وبلطف، لا يدعوها بعبارات قاسية، بعبارات خارجة عن حد الأدب، واللياقة، ونحو ذلك، وإليكم هذه النماذج الفذة من الوفاء بين الزوجين، وانظروا ماذا سيعقب ذلك من أضداده.
هذا رسول الله ﷺ كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - وهو إمام الوفاء، والبر، والإحسان - تقول: "ما غِرتُ على أحد من نساء النبي ﷺ ما غرت على خديجة - رضي الله عنها - قط، وما رأيتها قط" يعني غارت من غير رؤية لها "ولكن كان يكثر ذكرها" لاحظ الوفاء بعد موتها، يكثر ذكرها "ولربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة" يعني صديقات خديجة "وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد[10] وفي بعض الروايات: "وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب"[11]، وفي بعض الروايات: "وإنْ كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن"[12] حتى صديقات خديجة كان يراعيهن، ويكرمهن، وفي رواية كان إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: "فأغضبتُه يوماً فقلت: خديجة عجوز، فقال: إني قد رزقت حبها[13] وفي رواية قالت: "فاستأذنتْ هالة بنت خويلد - أخت خديجة - رضي الله عنها - على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة - في تشابه في الصوت - تقول: فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة بنت خويلد، تقول: فغرتُ، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها"[14] كما في الصحيحين، وفي رواية لمسلم تقول: "لم يتزوج النبي ﷺ على خديجة حتى ماتت"[15] انظر إلى هذا البر، والوفاء، ولست أعني بذلك أن الرجل لا يتزوج، لكن أعني أن يحفظ ودها، أن لا يضيع حقها، أن يعاشرها بمعروف، ولست أعني أنها إذا توفيت لا يتزوج، ليس هذا بمقصود، لكن حفظ الود، حفظ العهد حسن العهد من الإيمان[16] كما قال النبي ﷺ.
النموذج الثاني: عائشة - رضي الله عنها - تذكر خبر زينب بنت رسول الله ﷺ مع زوجها أبي العاص بن الربيع، فإنه قد أسر في غزوة بدر، فبعث أهل مكة في فداء الأسارى، فجاء فداء أبي العاص بن الربيع، أرسلت به زينب، ماذا أرسلت؟ بعثت بقلادة مع الفداء كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، يعني حينما زفتها إلى زوجها ألبستها هذه القلادة تزينها بها، خديجة تزين ابنتها لزوجها أبي العاص، فلما رآها رسول الله ﷺ تذكر خديجة، ورق رقة شديدة - بكى، وتأثر - وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها[17] لا تقبلوا هذا الفداء، وأطلقوه مجاناً إن رأيتم، فقالوا: "نعم" انظر إلى حسن العهد، لما رأى هذا العقد تذكر خديجة - رضي الله تعالى عنها - وكانت قد توفيت بمكة، وهذه الحادثة بعد ذلك بسنين.
وهذه أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أم المؤمنين، تقول: سمعت النبي ﷺ يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها تقول: فلما مات أبو سلمة - زوجها - قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ وهذا هو الشاهد، لاحظ: هذه المشاعر التي تحملها تجاه زوجها! كيف تنظر إليه! ما هذا التقدير، والتعظيم لهذا الزوج!، تقول: أنا قلتها إيماناً: إنا لله، وإنا إليه راجعون، لكن من مثل هذا الزوج؟ هو أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ تقول: "ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله ﷺ"[18].
نموذج ثالث: وهو ما جاء من خبر أم حكيم الحولاء بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، فكان ممن أهدر النبي ﷺ دمه حينما دخل مكة فاتحاً، ففر عكرمة إلى ناحية اليمن؛ ليركب سفينة يتجه بها إلى الحبشة فراراً من رسول الله ﷺ فجاءت امرأته إلى النبي ﷺ وأخذت الأمان من رسول الله ﷺ لزوجها فكتب له الأمان، فانطلقت به - بهذا الأمان - حتى أدركته، وهو يركب السفينة، لاحظ مشت هذه المسافة الطويلة، فنادته: يا ابن عمرو، هذا أمان معي من رسول الله ﷺ فإن تُسلم، وتقبل أمان رسول الله ﷺ فأنا زوجتك، وإلا انقطعت العصمة فيما بيني، وبينك، فلم يلتفت إليها، ثم اندفعت السفينة فتكلم عكرمة بشركه - باللات، والعزى - فقال له قائد السفينة: أخلص فإنه لن ينجيك إلا الإخلاص، فقال عكرمة: ما أراني أفر إلا من الحق، فنزل من السفينة، وقبل أمان النبي ﷺ فكانت زوجته هي السبب في إسلامه، وقدومه على النبي ﷺ ومبايعته، هذا الوفاء، ذهبت تتبعه إلى أرض اليمن.
النموذج الرابع: وهو من النماذج العجيبة الفذة، هذا أبو عثمان النيسابوري، سئل قيل له: ما أرجى عملك عندك؟ ما هو أكبر عمل عملته ترجِّي به رحمة الله، ومغفرته، ماذا قال؟
يقول: كنت في صبوتي يجتهد أهلي في تزويجي فآبى، فجاءتني امرأة، فقالت: يا أبا عثمان، إني قد هويِتك، تقول: أنا أحببتك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني، فأحضرتْ أباها، وكان فقيراً، يقول: فزوجني، وفرح بذلك، فلما دخلت عليها رأيتها عوراء عرجاء مشوهة، وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، لا تطيق مفارقته، لا يخرج من الدار، يقول: فأقعد حفظاً لقلبها، جبراً لخاطرها، يقول: فأقعد، ولا أظهر لها من البغض شيئاً، وكأني على جمر الغضا من بغضها، لاحظ ملاحظة المشاعر، يقول: فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظ قلبها[19] يحفظ مشاعرها، فيكف بالذي يعير امرأته، ويتنقصها، ويطلق عليها عبارات غير لائقة، وأشياء يستحي العاقل من ذكرها، وروايتها؟ هذا لا يليق، وليس ذلك يعني أن الإنسان يكون بهذا المثابة كأبي عثمان هذا، وأنه يتزوج امرأة لا يتزوج عليها حتى تموت مع ما بها من هذه العاهات، والأوصاف، لكن هذه أمثلة نادرة، وراقية، لا أقصد أن الإنسان يتمثل ذلك في كل حالاته، لكن انظر إلى ملاحظة المشاعر، كان يمكن أن يتزوج، لكن لا يجرح، لا يؤذي، لا يظلم، لا يضيع الحقوق، يتقي الله فيها.
المثال الخامس: ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، الجدري إذا أصاب الوجه يصبح الوجه فيه من الندوب الشيء الكثير، فيشوهه، ويَذهب جمالُه، وبهاؤه، ونضارته، فلما رأى بها الجدري قال لها: اشتكيتُ عيني[20].
يقول: عيني تؤلمني، ثم قال: عميت، يعني تظاهر بالعمى، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، يعني: لماذا تظاهرت بالعمى؟ قال: كرهت أن تحزنها رؤيتي لما بها، يقول: خشيت أنها تتألم أني أنظر لها بهذا الوجه الذي قد ذهب بحسنه الجدري، فأظهرت أني أعمى حتى تعيش مرتاحة، لا تقلق، فيجوز الكذب بين الزوجين فيما يحصل به جمع القلوب، والمودة، والإلف، نحن نقول: ما نصل إلى هذه المستويات، ولا أقصد هذا، لكن أقصد أن الإنسان يحفظ لسانه؛ فإذا تكلم يقول التي هي أحسن.
مثال سادس: ذكره أحد المعاصرين، وهو الشيخ محمد بن لطفي الصباغ، يذكر أن صاحباً له قد أفضى له شيخه بأمر يختص بحياته، ومعيشته، يقول بأن زوجته التي قد مضى على زواجه منها أربعون سنة، يقول: ما رأيت يوماً سارًّا، وإني من اليوم الأول من دخولي بها عرفت أنها لا تصلح لي بحال، ولكن كانت ابنة عمي، وأيقنت أن أحداً لا يمكن أن يحتملها، فصبرت، واحتسبت، وأكرمني الله منها بأولاد بررة صالحين، وساعدني نفوري منها على الاشتغال بالعلم، فكان من ذلك مؤلفات كثيرة أرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به، ومن الصدقة الجارية، يقول: وأتاحت لي علاقتي السيئة بها أن أقيم مع الناس حياة اجتماعية نامية، وربما لو تزوجت غيرها لم يتحقق لي شيء من ذلك.
مثال سابع: ذكره أيضاً الشيخ الصباغ - حفظه الله - يقول: حدثني صديق آخر قال: إنني من الأيام الأولى لزواجنا لم أجد في قلبي ميلاً لهذه المرأة، ولا حبًّا لها، ولكني عاهدت الله أن أصبر عليها، وألا أظلمها، ورضيت قسمة الله لي، ووجدت الخير الكثير من المال، والولد، والأمن، والتوفيق.
وهناك في التاريخ نماذج فذة غير ما ذكرت مما ينبئ عن الوفاء، حتى إن امرأة كما قال الأصمعي: خطبها الخليفة سليمان بن عبد الملك، لما خرج مع سليمان بن المهلب في نزهة، وجدوا امرأة تبكي عند قبر، فهبت الريح فرفعت البرقع عن وجهها فكأنما هي شمس من حسنها، وجمالها، فقال لها المهلب: يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما، ثم نظرت إلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي فإنه | بملحود هذا القبر يا فَتَيانِ |
وإني لأستحييه والتربُ بيننا | كما كنت أستحييه وهو يراني[21] |
أنا أستحيي منه، وهو في قبره كما كنت أستحيي منه في الدنيا حينما كان حيًّا، ما قبلت بالخليفة، أنا لا أقصد أن المرأة ترفض الأزواج إذا مات زوجها، لكن انظر إلى نظر هذه المرأة لزوجها، ووفائها، هذه لربما ما قرأت مثل هذه الرسائل، ولا تلقت هذه الثقافة، بل إن الأصمعي يقول: رأيت بالبادية أعرابية لا تتكلم، فقلت: أخرساء هي؟ فقيل لي: لا، ولكن كان زوجها معجباً بنغمتها فتوفي، فآلت ألا تتكلم بعده أبداً؛ لئلا يسمع هذه النغمة أحد غير الزوج، طبعاً هذا لا يشرع، لكن نحن نتحدث عن المشاعر التي تحملها هذه المرأة، نحن لا نقره، لا تتكلم بعد زوجها؛ لأن نغمتها كانت تعجبه، فلا يذهب العقل إلى شيء آخر.
- انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (1/ 307-308)، والوافي بالوفيات (21/ 77).
- انظر: الوافي بالوفيات (21/ 78)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (1/ 311).
- انظر: يتيمة الدهر (2/ 130)، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (1/ 83)، ووفيات الأعيان (1/ 136)، والوافي بالوفيات (8/ 33).
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (12/ 123).
- الإحاطة في أخبار غرناطة (4/ 344).
- انظر: تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين (ص:317)، وفي الأدب الحديث (1/227).
- تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين (ص: 317).
- قاله العلامة الأديب الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- في رثاء زوجته السيدة زينب التي توفيت في القاهرة 1372هـ.
- زاد المسير في علم التفسير (1/ 201).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة، وفضلها - رضي الله عنها - برقم (3818).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة، وفضلها - رضي الله عنها - برقم (3817)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - برقم (2435).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة، وفضلها - رضي الله عنها - برقم (3816)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - برقم (2435)، وهذا لفظ البخاري.
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - برقم (2435).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة، وفضلها - رضي الله عنها، برقم (3721)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - برقم (2437).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - برقم (2436).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (40)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد اتفقا على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة، وليس له علة" وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2056).
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، برقم (2692)، وأحمد في المسند، برقم (26362)، وقال محققوه: "إسناده حسن" وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1216).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، برقم (918).
- صيد الخاطر (ص: 405).
- انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (2/ 326).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (66/ 75)، والدر المنثور في طبقات ربات الخدور (ص: 466)، وشاعرات العرب في الجاهلية، والإسلام (ص: 161).
لكن في المقابل نجد للأسف ما يورث النفرة بين الأزواج، ما يورث زهد أحد الزوجين في الآخر، نجد رسوماً كاريكاتيرية عبر هذه الوسائط، والوسائل في الإعلام الجديد في الإنترنت، الواتساب، عبارات في تويتر، وللأسف أحياناً بعض هذه العروض، وبعض هذه الرسوم، وبعض هذه المقالات من أناس يقيمون دورات، وبرامج في العلاقات الاجتماعية، ودورات للمقبلين على الزواج، وتجد ذلك في حسابه في تويتر، هذه الرسائل التي تنتقص من قيمة الزوج، أو الزوجة، وهما أساس المجتمع، الأب، والأم، انتقاص قدر هؤلاء يقرؤه الصغير، والكبير، المتزوج، وغير المتزوج، هذه تولد النفور، تولد الإهمال، تولد التفكك الأسري، لربما يذكرون ذلك على سبيل الطرفة، ولكنهم في الواقع يوصلون معانيَ قد تكون راسخة في نفوس الناس يصعب استخراجها، وتغييرها، يتوارثها الأجيال، والله كما رأيتم قد جعل بين الزوجين من الإلف، والرحمة، والمودة الشيء الكثير.
فالواجب هو أن نوعي الناس بضرر، وخطر مثل هذه التصرفات، والرسائل، والممارسات، وأن نحاربها بنشر ثقافة الحقوق بين الزوجين، والتقدير، والرحمة، والمحبة، وحفظ العهد، هذه الرسائل تجعل كل طرف في هذه الآصرة، والوشيجة يتطلع إلى غير الموجود، أن الأفضل هناك عند غير هذه الزوجة، والزوجة أن الأفضل هناك عند غير هذا الزوج، فيبقى دائماً في قلق، في تطلع، في أمانٍ بعيدة، فيزهد في هذه المرأة، ويكون كل واحد تحبسه أوهامه، وخيالاته، فلا يحصل له اطمئنان بما في يده، وما قسم الله له، والله يقول: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216].
فالواجب أن نحفظ هذه الوشائج، والعلائق، والأواصر، وأن تكون الثقافة التي نشيعها هي الاحترام، والود بعيداً عن هذه الدعايات المضلة، والأحلام الضائعة التي لربما تبني عليها المرأة أن زوجاً هنالك أفضل من زوجها، وترسم لربما صورة مثالية عن الزوج الذي تتطلع إليه، فلا هي تحصله، ولا هي قد أبقت على زوج تعاشره، وكذلك الزوج لربما يتطلع إلى شيء موهوم، ويصدر عنه عبارات، أو يسمع هذه العبارات بأن هذه المرأة قد انتهت صلاحيتها، وما إلى ذلك مما يجرج المشاعر، ويؤذي النفوس، مع أن هذه المرأة قد عاشت له، وصبرت لربما على أحواله كلها، ولربما أنجبت منه الأولاد، وتعبت في تربيتهم، ثم بعد ذلك يقابلها بمثل هذا.
هذه نماذج من هذه الرسائل التي يتداولها الناس للأسف، وقد طُمست معالمها، هذه مثلاً تقول: اللهم جمّل أزواجنا كما جمّلت فلاناً، وسمّت رجلاً لربما تراه في بعض المسلسلات، اللهم رطب بشرتهم، وسلس شعرهم، وشقر حواجبهم، وزود طولهم، وعرّض أكتافهم، وحمّر شفاههم، تتطلع إلى صورة معينة رأتها في برنامج في مسلسل، أو نحو ذلك مما يزهِّد النساء في الأزواج، ولذلك تجد عبارات قاسية في وسائل التواصل الاجتماعي، هي تفري هذه العلاقة، والوشيجة فرياً.
مثال آخر: هذا فقير يسأله، يقول له: أعطني الله يخلي لك أم العيال، فيقول: أجل، ولا أعطيك ريالا؛ لأنه دعا له ببقاء هذه الزوجة.
هذا آخر يبكي بكاء يقطع القلب في جنازة زوجته، سألوه: كنت تحبها؟ قال: لا والله، لكن سمعت أن البكاء يعذب الميت، هذا لا يجوز، ولا يجوز تداوله، لاسيما أيضاً أنه يتعلق بأمر يتصل بنص حديث عن رسول الله ﷺ أين يوجد مثل هؤلاء الشُّذاذ؟!.
وهكذا هذا الذي قد خرج، ومعه أسطوانة، فيقول: أنا أغير أسطوانة الغاز، فتقول: روح الله يفتحها في وجهك، يعني ظاهره أنها تدعو له أن الله يوفقك، أن الله يعطيك، أن الله يهديك، أن الله يصلح لك، وهي تقصد أنها تنفجر في وجهه.
هذه أخرى قد خرج بها في نزهة إلى البرية، لربما كانت أيام هذه البئر التي سقطت فيها - كما يقولون - جارية، أو بنت صغيرة، أو نحو ذلك، بئر ارتوازي، فجاء هذا الرسم الكاريكاتير، فهذا يفرش السجاد في مكان قد خرج فيه فوق بئر ارتوازي مكتوب: عمقها مائة، وخمسون مترًا، ويقول لامرأته: اذهبي اجلسي هنا يا قمر، وهي تقول: يحبني، وهو يريدها أن تجلس في هذا المكان الذي فرش عليه السجاد من أجل أن تسقط في هذا البئر، هذا كذب، وهذه مختلقات لا تزيد هذا الانقسام، والتفرق، وحالات الطلاق، والمشكلات الأسرية إلا تمزقاً - نسأل الله العافية -.
وهذه عجوز توصي بناتها، تقول، انظروا إلى العبارات التي تؤثر في الناس، وتجعل هؤلاء النساء يتطلعن إلى غير موجود، ولا يمكن أحياناً استخراج هذه المعاني من كثير من العقول، أنا ما أدركت عظم نعمة العقل حتى دخلت مدة، وجيزة في التويتر، ثم تركته، عرفت نعمة الله في العقل، أدركت أن الكثيرين يعيشون بلا عقول، وأن كثيراً من الأشياء تنطلي عليهم، وأنهم يتشبثون بأمور لا حقيقة لها، وأن أفهاماً معكوسة، ومنكوسة، وتعليقات مشرِّقة، ومغرِّبة لا تمت إلى الفهم الصحيح بصلة، ولا تنبئ عن تفكير سليم، ولا عقل سديد فضلاً عن العقل الرجيح إطلاقاً، هؤلاء لما يسمعون مثل هذا الكلام ما الذي يحصل عندهم؟ كيف تستخرج هذا من هذه الأفهام؟ هذه عجوز توصي بناتها، وتقول: التي تبغي الفلوس، والنغنغة تأخذ كذا - يعني جنسية معينة - والتي تبغي الدلع، والكلام العسل تأخذ كذا، والتي تبغي الكلام فقط تأخذ كذا - جنسية معينة - والتي تبغي الكشخة، والذوق، والأناقة تأخذ كذا، والتي تبغي السفر، وسعة الصدر تأخذ كذا، والتي تبغي الأجر تأخذ كذا، يعني من أهل بلدها، هذا اتباع للأوهام، هذا كلام لربما يشيع في المجتمع ثقافة الزهد بالزواج، والنفور منه، والبديل الفساد، البديل العنوسة، البديل الضياع، لسنا بحاجة إلى مثل هذه الرسائل، ولسنا بحاجة إلى مثل هذه الطرائف؛ فإنها تفري هذه العلاقة، وتسيء إليها غاية الإساءة، ولربما يلقيها من يلقيها لا يلقي لها بالاً، وهي تفتك فتكاً أعظم من فتك السهم في قلب الرمية، دون أن يشعر هذا القائل، أو الذي يردد هذه العبارات في المجالس، أو نحو ذلك: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.
وهذا آخر أيضاً ممن يُلقون الدورات في العلاقات الزوجية يكتب ذلك في حسابه، يقول: لكل زوجة، أنا تعبت، وأنا أحاول أن أفهم هذا الكلام، ما منشؤه؟ وكيف يعمم مثل هذا الحكم؟ لكل زوجة: احتفظي بصورة زوجك معكِ، كلما مررتِ بضيق، أو مصيبة أخرجيها، وانظري إليها مطولاً لتخفف عنكِ حين تتذكرين أن لديك مصيبة أكبر، أعوذ بالله! هذا يقدم دورات! لكل زوجة، يعني مصيبتها في زوجها أعظم، الله قال: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً صارت رؤيتها لصورة زوجها مصيبة؟!.
هذا مع ما يُرى من صور للممثلين، والمغنيين، والمذيعين، ومقدمي البرامج، هذا بالإضافة إلى من يقدمون التهريج، والفرفشة، وكذلك من يقدمون البرامج الهادفة أيضاً يخرجون بأبهى حلة، فتجد كثيرٌ من النساء منطقاً لا يقاربه منطق زوجها، وتجد هيئة قد تكون أفضل من هيئة زوجها، وتجد علماً قد لا يدانيه علم زوجها، فاجتمعت الصورة، والعلم، والأسلوب، واللباس، والزينة، تظن أنه دائماً بهذه الحلة، وبهذه العبارات اللطيفة الجميلة، وبهذا التصنع، ولربما قد صبغ لحيته، وتهيأ غاية التهيؤ، فتبدأ النفس تتطلع إلى مثل هذه الصور، ولربما تعلقت بها، فإذا وُجدت معها مثل هذه الأمور التي تنفر فهي، ولو حصّلت هذا الذي تتطلع إليه ستبقى هذه الصور، والرسائل تلاحقها، وتفسد عليها صفو عيشها، وتصرم ما بينهما من حبال الود، وإذا كان بعض الرجال يعيشون بهذه الثقافة، وبعض النساء أيضاً يتلقين هذه الثقافة، فما حال إذاً هذه الآصرة؟.
فأين هذا من هذه الهدايات في كتاب الله - تبارك، وتعالى - لاحظوا في آيات الطلاق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] جاء بـ(إذا) الشرطية، علقه بـ(إذا)، بما يشعر أن الطلاق هو خلاف الأصل في علاقة الزوجين، الأصل في علاقة الزوجين الارتباط، والمودة، والرحمة، فينبغي أن ندرك ذلك، وأن نستشعره، وأن يكون واقعاً، سواء أحبها أم لم تكن تلك المحبة موجودة، وليس من لازم العلاقة هنا، والرحمة، والاحترام المتبادل أن يكون هناك محبة.
ثم ختم هذه الآية بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] هذه القضية تحتاج إلى تفكر، إلى إعمال ذهن، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - يذكر أن الله تعالى نوّع الآيات في هذه السورة؛ فجعل خلق السماوات، والأرض، واختلاف لغات الأمم، وألوانهم آيات للعالِمين، العالِمين كلهم، لاشتراكهم في العلم بذلك؛ خلق السموات، والأرض آية واضحة على قدرته، ووحدانيته، وعلمه - تبارك، وتعالى - فهو أمر ظاهر، واضح الدلالة، يقول ابن القيم: "وجعل خلق الأزواج التي تسكن إليها الرجال، وإلقاء المودة، والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون، فإن سكون الرجل إلى امرأته، وما يكون بينهما من المودة، والتعاطف، والتراحم أمر باطن، مشهود بعين الفكرة، والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة، والرحمة، والقدرة التي صدر عنها ذلك دله فكره على أنه الإله الحق المبين الذي أقرت الفطر بربوبيته، وإلاهيته، وحكمته، ورحمته"[1].
هكذا ينبغي، انظر إلى هذا الحديث الذي يرويه ثوبان لما نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 34 - 35] الآية، يقول: "كنا مع النبي ﷺ في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: أُنزل في الذهب، والفضة ما أُنزل - يعني من الوعيد - لو علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه" ما هو البديل؟ فقال النبي ﷺ : أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة، تعينه على إيمانه[2] هذا الحديث صححه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - هذا أفضل المال، أفضل ما يتموله الإنسان، ويقتنيه: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة، تعينه على أمر دينه، تعينه على إيمانه.
فهذه جملة من المعاني، والهدايات التي دلت عليها هذه الآية، خذ المقصود، والحكمة مما سمعته من هدايات هذه الآية، ومما فيه عبر، وعظات.أسأل الله - تبارك، وتعالى - لي، ولكم علماً نافعاً، ربنا هب لنا من أزواجنا، وذرياتنا قرة أعين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، ربنا اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 112)، والجواب الكافي (ص: 141)، ومفتاح دار السعادة (1/ 186).
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب، ومن سورة التوبة، برقم (3094)، وأحمد في المسند، برقم (22392)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح".