- صفات المصطفَيْن الأخيار
- نماذج كثيرة من أحوال السلف
- إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ
- الناس على أربعة أنواع
- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.
حديثنا في هذه الليلة عن آيات ثلاث تضمنت ثلاثة أوصاف هي أوصاف الكمال، هي أوصاف الفلاح، هي أوصاف النجاح الحقيقي لمن أراد الفلاح، والنجاح، إنها صفات المصطفَيْن الأخيار.
هذه الأوصاف من هذه السورة الكريمة سورة ص جاءت في سياق يمكن أن نعبر عن مجموعه مما تحدثت عنه هذه السورة الكريمة التي يمكن أن نصفها بأنها: سورة الابتلاء، ولك أن تقول: إنها سورة الصبر الذي يتطلبه الابتلاء، ولك أن تقول: إنها سورة الشرف، والكمال الذي يحصل لمن فاز، ونجح في هذا الابتلاء فكان صابراً.
الله - تبارك، وتعالى - ذكر في هذه السورة في أولها قال: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] والذكر هنا على الأرجح من أقوال المفسرين يشمل الذكر بنوعيه: الذكر الذي هو الشرف وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] فهو تذكير، وهو شرف لمن عمل به، وآمن به، وسار على منهاجه وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] هو شرف لكم، وهو تذكير يذكركم بالآخرة، ويذكركم بجميع ما تحتاجون إليه من أجل بلوغ المراتب العالية في الدنيا، والآخرة.
والأمة - لاسيما في هذه الأيام - في صراعها مع الباطل، بل إن جميع الأجيال من هذه الأمة، بل، ومن الأمم التي كانت قبلها من أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - هم بحاجة إلى التذكير في صراعهم المرير مع الباطل، لكننا في مثل هذه الأوقات التي صار يجتمع فيها الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب على حرب المسلمين على الكيد لهم، ولدينهم بجميع أنواع الحرب؛ الحرب في ميدان المعركة، والحرب بطريق الشبهات، والحرب الاقتصادية، والحرب الفكرية، إلى غير ذلك مما لا يخفى على أمثالكم.
الأمة في مثل هذا الصراع الذي تارة يتجلى في ميدان المعركة في صراع مع الباطنية، ومن لفَّ لفَّهم، وتارة يتجلى في الصراع مع اليهود، وتارة يتجلى في الصراع مع النصارى، وتارة يتجلى في الصراع مع الوثنيين، وقد يجتمع هؤلاء جميعاً في خندق واحد كما هو في معركتنا المفصلية على أرض الشام في مثل هذه الأيام؛ حيث يجتمع اليهود، والنصارى، والوثنيون، والباطنية، ومن شايعهم لحرب المسلمين، فهذا القرآن كما وصفه الله : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].
ثم ذكر بعد ذلك حال الكفار: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:2] العزة المذمومة، العزة الباطلة، العزة بالإثم، العزة التي لا حقيقة لها، سرعان ما تتلاشى، لكنهم يصرون على هذا الكفر، والباطل، والضلال.
وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] هكذا يتواصى أعداء الله على باطلهم، فينصرونه بكل مستطاع، ويبذلون النفوس، والأموال في سبيل نصره، وبقائه، وتعزيزه، ولكن كما قال الله - تبارك، وتعالى - : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
ثم أمر نبيه ﷺ بالصبر: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ص:17] ثم ذكّره بأحوال كبار الصابرين من الأنبياء الكبار - عليهم الصلاة، والسلام - وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17] يعني أنه صاحب القوة في طاعة الله وتنفيذ أمره، والقيام على تحقيق شرعه دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [ص:17] والأيد: بمعنى القوة هنا.
ثم قال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:28 - 29] هذه سورة التذكير، والذكر، والتذكر، الله - تبارك، وتعالى - يذكر هذه الآية في التدبر في ثنايا هذا القصص الذي يقصه الله على نبيه ﷺ من أحوال الأنبياء العظام - عليهم الصلاة، والسلام - ففيهم أسوة لمن أراد أن يأتسي.
ثم قال: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ [ص:30] ثم ذكر خبره ﷺ وكل هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - تعرضوا للابتلاء، الله - تبارك، وتعالى - ابتلى داود، ثم ذكر إنابته، ورجوعه، وركوعه.
ثم ذكر سليمان - عليه الصلاة، والسلام - وذكر بلاءه، ثم ذكر رجوعه، ثم قال بعد ذلك في ذكر كبير من كبار الصابرين، وهو أيوب ﷺ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص:41] ابتُلي بجسده، وابتلي بأهله، وابتلي بلاءً عظيماً بالمرض، فصبر.
ثم ذكر بعد هؤلاء الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة، والسلام - من نحن بصدد الكلام على ذكرهم، وخبرهم وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] ثم قال بعده: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ [ص:48] ثم قال: هَذَا ذِكْرٌ [ص:49] بعضهم يقول: هذا شرف.
وبعضهم يقول: هذا تذكير.
والمحققون كابن القيم - رحمه الله - وابن كثير يقولون: إن الآية تجمع هذا، وهذا؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذا شرف.
وهو أيضاً تذكير يذكر الله به نبيه ﷺ ويذكر به أتباعه من أهل الإيمان وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص:49].
ثم ذكر ما للمتقين، ثم ذكر ما للكافرين، والمجرمين من العذاب، ثم ختم ذلك بذكر خبر آدم ﷺ حيث أمر الله الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عن هذا السجود، ومنشأ العداوة بين أهل الحق، وأهل الباطل، فصار إبليس يتوعد، ويتهدد بإضلال ذرية آدم ﷺ.
ثم ختم الله هذه السورة بقوله: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] فالدعوة تقدم بالمجان، والتكلف ليس من سمات الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - وليس من سمات أتباع الرسل، التكلف بجميع صوره، وأشكاله.
ثم قال الله - تبارك، وتعالى - : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص:87] وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88] فهي سورة الذكر، والتذكير، سورة الصبر، سورة الشرف، لمن عمل بمقتضى هذه الآيات، لمن تذكر، واعتبر، لمن انتفع بالقرآن، لمن جعله دليله، وقائده الذي يقوده، فيشرح له تفاصيل الصراط، ويبين له ما يحسن، ويجمل، وما يقبح.
فقوله - تبارك، وتعالى - في هذه الآيات الثلاث التي تضمنت أوصاف الكمال لمن يريد الفلاح، لمن يريد الرفعة في الدنيا، والآخرة، لمن يريد النجاح، لمن يريد أن يكون موفقاً، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45] اذكرهم في ماذا؟ كما جاء في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:41] وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم:54] اذكرهم في الكتاب، اذكرهم بالأوصاف الكاملة، والمعاني الجميلة، والفعال الحسنة، اذكر هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - بكل جميل؛ فهم أهل الكمالات الحقيقية، هم القدوات الحقة، وليست القدوات الزائفة المصطنعة التي لا قيمة لها، ولا حقيقة.
اذْكُرْ عِبَادَنَا [ص:45] أضافهم إليه هنا بهذا الوصف الكامل الشريف، فهذا يعني العبودية الخاصة، ليست عبودية الخلق، والقهر؛ إذ إن كل من في السموات، والأرض عبد لله - تبارك، وتعالى - خاضع، ذليل، لكن العبودية الخاصة هي التي يحصل بها الكمال، والرفعة، وهي التي وصف الله بها أشرف الخلق - عليه الصلاة، والسلام - في أشرف المقامات؛ في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19] في مقام إنزال الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1] في مقام الوحي: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10].
فكمال العبد في تحقيق العبودية ألا يرفع رأسه، ولا يعترض، لا يعترض على قضائه، وقدره، لا يعترض على دينه، وشرعه، واختياره، لا يعترض على كلام الله، ولا علي كلام رسوله ﷺ لا يرفع عقيرته فيرد سنته - عليه الصلاة، والسلام - بزعمه أن عقله الفاسد لا يقبلها، لا تكون العبودية بحال من الأحوال، العبودية الحقة لا تكون لمثل هؤلاء، وحال هؤلاء الناس أبعد ما تكون عن حال خاصة الخلق الذين شرفهم الله - تبارك، وتعالى -.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45] هؤلاء أئمة في الصبر، إبراهيم ﷺ أوذي كثيراً، وألقي في النار، وصبر على الأذى، وهجر قومه لله، وفي الله، وهو إمام الصابرين، هو إمام الحنفاء - عليه الصلاة، والسلام - وأبو الأنبياء، ونبينا ﷺ مأمور بالاتساء به، والاقتداء مع أن النبي ﷺ أفضل من جميع الأنبياء، ولكن لينضاف إلى كماله ﷺ تلك الكمالات، فهؤلاء الأنبياء الثلاثةالذين ذكرهم الله بصفات ثلاث:
الأولى: أُوْلِي الأَيْدِي [ص:45] والأيدي بمعنى القوة، فهم أهل القوة على عبادة الله، وطاعته، كما جاء عن ابن عباس، ومنصور، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وعطاء الخرساني، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير[1] - رحمه الله - وقال به طوائف من أهل العلم.
وعبارات العلماء متقاربة في ذلك، فهم أهل القوة في أمر الله، أهل القوة في إقامة دين الله، هم أهل القُوى التي يقدرون بها على إظهار الحق، على إظهار الشرع، والدين، على إعلاء كلمة الله وجهاد أعدائه كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[2] وذلك أن اليد هي آلة البطش، وبالبطش تعرف القوة، فلذلك قيل للقويّ: ذو يد، ولا يبعد من ذلك ما ذكره بعضهم من أن المراد بالأيدي: الجوارح، باعتبار أن الأيدي هي المتصرفة في الخير، فهذا كلام عامة المفسرين سلفاً، وخلفاً، وما ذُكر من أن المراد بالأيدي: الإحسان إلى الناس، لهم أيادٍ بيضاء على الخلق، ليس ببعيد؛ لأن إقامتهم لدين الله لأن إحقاقهم للحق يدخل فيه القيام بتلك الأعمال الشريفة؛ لأنهم يحسنون إلى الناس، وأعظم إحسان أنهم يدلونهم على الله، وعلى توحيده، ويبينون لهم الطريق الموصل إليه، ويبينون لهم أحوال تلك الدار التي يصيرون إليها، فهذه يد عظيمة للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -.
إذن يدخل في قوله - تبارك، وتعالى - : أُوْلِي الأَيْدِي [ص:45] يعني: أصحاب القوة في العبادة، في العمل، في الدعوة، في الجهاد، لهم أعمال شريفة، أعمال عظيمة، فليسوا كالزَّمْنى الذين لا يعملون، ولا ينهضون بفضيلة، كما أنهم ليسوا كالعمي الذين لا يبصرون، فهؤلاء كما سيأتي أيضاً أصحاب أبصار، إنهم أصحاب عبادة بما تحمله هذه الكلمة، وتتسع له من ألوان العبادات، عبادات القلب، واللسان، والجوارح بأنواعها، وصورها، وأشكالها، وقد تحدثت طويلاً في مجلس آخر عن عبادات السلف - رضي الله تعالى عنهم، وأرضاهم.
فمثل هذا يحتاج العبد أن يعرض نفسه عليه في حالاته كلها، في جميع المزاولات، والأعمال التي يقوم بها طلباً لما عند الله - تبارك، وتعالى -.
- انظر: تفسير الطبري (20/114 - 116) .
- انظر: الفروسية (ص: 186) ، ومفتاح دار السعادة (1/ 145) .
قال عدي بن حاتم - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه - : "ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها"[1] لا يتململ، ويتضجر، ويشعر أنها عبء ثقيل يرهق كاهله، وقال: "وما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء"[2] منذ أسلم، وهو على هذه الحال، ونحن نسمع القرآن، والخطب، والمواعظ، ومع ذلك لا نكاد نتغير.
هذا إبراهيم بن ميمون الصائغ - رحمه الله - كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها[3] إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها، متى نكون متحلين بهذه الأوصاف؟.
سعيد بن المسيب - رحمه الله - يقول: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد"[4].
فهل يمر علينا أربعة فروض متتابعة ما ينادى للصلاة إلا ونحن في المسجد؟ هذا الكلام قبل أن آتي إنما قصدت به أن أخاطب نفسي قبلكم، لكن الله أمر بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والإنسان لا يدري ما هي الكلمة التي تنفعه، وتكون سبباً لتغيير حاله، وهدايته؛ فإن الهداية مراتب، والعبودية مراتب، والجنة، والدرجات عند الله مراتب، سعيد بن المسيب - رحمه الله - هذا كان يقول: "ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة"[5].
لما يقال: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] العبادة، هذا حال الفرائض الآن، ما تقرب العبد بشيء أحب إلى الله من هذه الفرائض.
الأعمش: ذَكر وكيعُ بن الجراح - تلامذة الأئمة يذكرون أوصافهم - الأعمش يقول عنه وكيع: "إنه بقي قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى"[6] قريبًا من سبعين سنة ما فاتته التكبيرة الأولى.
القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي يقول: "لم أصلِّ الفريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلها"[7].
محمد بن سماعة - رحمه الله - من التابعين، يقول: "مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً ماتت فيه أمي"[8] التكبيرة الأولى صلاة الفجر، وسائر الصلوات، التكبيرة الأولى!.
فما بال طلاب العلم يصلون في أطراف الصفوف؟!.
لماذا الدعاة إلى الله ؟!.
لماذا الأخيار يصلون في أطراف الصفوف؟!.
نعرض أنفسنا على هذا، الله مدحهم بهذه الأوصاف أُوْلِي الأَيْدِي [ص:45] انظر إلى صلاتهم، إلى قراءتهم في تلاوة القرآن مثلاً؛ هذا وكيع بن الجراح كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة، كان جزؤه ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر[9].
قتادة كان يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا دخلت العشر ختم كل ليلة[10].
الشافعي - رحمه الله - كان يختم القرآن في كل شهر ثلاثين ختمة لا يفقه القرآن من قرأ في أقل من ثلاث[11] لكن هؤلاء ما كانوا يرون أنه على المنع، والتحريم، بصرف النظر، انظر إلى اجتهادهم، هذا هو المقصود، هذا الإمام الشافعي، وفي رمضان يختم ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة[12].
الإمام البخاري صاحب الصحيح كان يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة[13].
وليس ذلك للقدماء فقط، ليس ذلك لأجيال انصرمت، وانتهت، ولا يوجد لهم وارث، يوجد من المعاصرين، الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - الذي شارك والدَه في جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول ولده في صفته، وترجمته: "كان في رمضان يختم كل ثلاث، وفي آخر عمره كان يختم كل يوم، يقول: قسّم القرآن على ساعات الليل، والنهار".
الشيخ محمد الصالح العثيمين - رحمه الله - يذكر أحد تلامذته ممن شاهده في أول ليلة من رمضان في أول يوم يدخل إلى المصلى الداخلي، يعني الذي يصلى فيه الجمعة، ثم يضع عباءته، ثم يدور - يذهب، ويجيء - يقرأ، يقول: فقرأ عشرة أجزاء في اليوم الأول، وهو يدور، يطرد النوم، يختم كل ثلاث، ودروسه مستمرة في رمضان، وأعماله لا تتوقف.
ولنا الأسوة الكاملة برسول الله ﷺ في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً[14] وفي صحيح مسلم عنها - رضي الله عنها - : "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين صلاة العشاء الآخرة إلى أن يتصدع الفجر إحدى عشرة ركعة"[15] لا تقصد أنه يواصل إلى الفجر، لكن تقصد أنه يصلي في أثناء ذلك، "يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ثنتين، ويوتر بواحدة، ويمكث في سجوده بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية"[16].
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة : "صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، ثم افتتح النساء فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه"[17].
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود : "صليت مع النبي ﷺ فأطال القيام - لاحظ: ما ذكروا رمضان! - حتى هممت بأمر سوء، قيل: ما هممتَ به؟ قال: هممت أن أجلس، وأدعه"[18] من طول القيام.
وقد ذكرت في عبادات السلف نماذج كثيرة من أحوال السلف، من المعاصرين، من علماء القصيم الشيخ محمد المنصور - رحمه الله - توفي قبل سنوات، كان يصلى القيام ثلاث ساعات، أو أكثر، وفي يوم تأخر فلم يستيقظ إلا قبل الفجر بساعة، فلما قام قال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها.
الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - يقول ولده في ترجمته: كان قيامه يتجاوز ثلاث ساعات طول السنة، ويقول عن نفسه في بدء صلاته، وقيامه بالليل، يقول: قرأت كتاباً في فضل قيام الليل، وكان عمري سبعة عشر عاماً، فما تركته، وتقول زوجته: حتى في ليلة زواجه قام كما كان يقوم في سائر الليالي، هذا معاصر.
وإذا نظرت إلى سائر عباداتهم في حجهم مثلا، ابن وهب حج ستًّا، وثلاثين حجة[19] كان سنةً يجاهد، وسنة يعلم، وسنة يحج.
ابن المسيب[20] وطاوس[21] وأيوب السختياني[22] كلٌّ منهم حج أربعين حجة.
عيسى بن يونس حج خمساً، وأربعين حجة[23].
مكي بن إبراهيم الحنظلي حج خمسين حجة[24].
الشيخ محمد بن قاسم الذي ذكرت خبره آنفاً حج أكثر من خمسين حجة.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حج أكثر من اثنتين، وخمسين حجة[25].
عمارة بن زاذان حج سبعاً، وخمسين حجة[26].
عطاء حج سبعين حجة[27].
أبو عمر العدني حج سبعاً، وسبعين[28].
سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً - يعني بعرفة -[29].
أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة، هذا أبو مسلم الخولاني يقول: "لو قيل لي: إن جهنم تسعر ما استطعت أن أزيد في عملي"ويقول: "لو رأيت الجنة عياناً، والنار عياناً ما عندي مستزاد"[30].
وصفوان بن سُليم يقول من عرفه، ووصفه: "لو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة"[31].
منصور بن زاذان لو قيل له: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، كان يذكر الله بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وارتفاعها، ثم يصلي إلى العصر، ثم يسبح إلى المغرب، ثم يصلي إلى العشاء، ويرجع بعد العشاء إلى بيته، فيأتيه أهل الحديث، ويسمعون منه[32].
ابن أبي ذئب - من أقران الإمام مالك - كان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد[33].
حماد بن سلمة لو قيل له: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، يقول الذهبي: "كانت أوقاته معمورة بالتعبد، والأوراد"[34].
حماد بن سلمة يصف شيخه سليمان التيمي - رحمه الله - يقول: "ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة، وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله "[35].
أُوْلِي الأَيْدِي [ص:45] أصحاب قوة في العبادة، أصحاب عمل، أصحاب جلد، في دعوتهم، في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، في سائر أبواب البر، لم يكونوا كسالى، ولا مترهلين، ولا متثاقلين.
أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] والمقصود بالأبصار هنا: بصر القلب الذي به تعرف الأشياء، والحقائق، ويقال للرجل الذي يعرف حقائق الأمور: بصير، فهم أهل أبصار القلوب، هم أصحاب العقول، هم الذين يبصرون الحق، هم أهل البصر، والفقه في الدين، هم أهل البصيرة في كتاب الله وشرعه، هم أهل العلم بأمر الله - تبارك، وتعالى - هم أهل البصائر في حقائق الأشياء، هم أهل التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى، وتوخي مرضاته، هم أهل الأبصار الثاقبة، هم أهل الإصابة في الأحكام، كل هذه عبارات أهل العلم كمجاهد، وقتادة، والسدي، وسعيد بن جبير، وعطاء الخرساني، وغير هؤلاء ممن جاء بعدهم من المفسرين كابن جرير، وابن القيم، وابن عطية، وابن عاشور، والسعدي.
فالمقصود أن هؤلاء هم أولو الأيدي، اليد آلة للعمل، والبصر أقوى آلات الإدراك، فجاء هنا الوصف لهم بالأمرين: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] فالنفس لها قوتان: قوة عاملة، وقوة عالمة؛ فالنفس العالمة أشرف ما يتصل بها، ويتعلق بها، هذا العلم هو العلم بالله، العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، العلم بوحدانيته بإلهيته، بربوبيته، بأسمائه، وصفاته، العلم بدينه، وشرعه، العلم بالدار التي يصير إليها الناس، هذا هو العلم الحقيقي، هذا العلم الذي مدحهم الله به.
أشرف الأعمال العمل بطاعة الله والاشتغال بمرضاته، وأشرف العلوم العلم الموصل إلى الله، والدار الآخرة، فالله - تبارك، وتعالى - جمع لهم هذين الوصفين الشريفين، بخلاف أهل التضييع، والتفريط، والجهالة الذين جمعوا بين الخنوع، والقعود عن طاعة الله والعمى في البصائر فهم لا يعرفون الحق.
- سير أعلام النبلاء (3/ 164) .
- المصدر السابق.
- قال ذلك ابن معين - رحمه الله - كما في تهذيب التهذيب (1/ 173) ، وإكمال تهذيب الكمال (1/ 304) .
- أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 162) ، وانظر: سير أعلام النبلاء (4/ 221) .
- انظر: حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (2/163) ، ووفيات الأعيان (2/375) .
- انظر: حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (5/49) ، وتاريخ بغداد، وذيوله (9/10) ، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (12/88) ، وسير أعلام النبلاء (6/ 228) .
- ذيل طبقات الحنابلة (4/ 402) ، والمقصد الأرشد (1/ 413) .
- انظر: تاريخ بغداد، وذيوله (2/ 404) ، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (25/ 319) ، وسير أعلام النبلاء (10/ 646) .
- انظر: تاريخ بغداد، وذيوله (13/ 475 - 476) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر (63/ 77) ، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (30/ 481) ، وسير أعلام النبلاء (9/ 148 - 149) .
- سير أعلام النبلاء (5/ 276) .
- أخرجه أبو داود، أبواب قراءة القرآن، وتحزيبه، وترتيله، باب في كم يقرأ القرآن، برقم (1390) ، وبرقم (1394) ، أبواب قراءة القرآن، وتحزيبه، وترتيله، باب تحزيب القرآن، وصحح إسناده العلامة الألباني - رحمه الله - في صحيح أبي داود، برقم (1260) .
- انظر: حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (9/ 134) ، وتاريخ بغداد (2/ 61) ، وطبقات الحنابلة (1/ 283) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 392) ، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (1/ 335) ، وسير أعلام النبلاء (10/ 36) .
- انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 439) .
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي ﷺ الليل حتى ترم قدماه، برقم (1130) ، ومسلم، كتاب صفة القيامة، والجنة، والنار، باب إكثار الأعمال، والاجتهاد في العبادة، برقم (2819) .
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب صلاة الليل، وعدد ركعات النبي ﷺ في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (736) .
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب طول السجود في قيام الليل، برقم (1123) .
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772) .
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل، برقم (1135) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (773) .
- سير أعلام النبلاء (9/ 226) .
- المصدر السابق (4/ 222) .
- المصدر السابق (5/ 45).
- المصدر السابق (6/ 21).
- المصدر السابق (8/ 494).
- انظر: تاريخ بغداد، وذيوله (13/117)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (60/247)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (28/481)، وسير أعلام النبلاء (9/552).
- يقول الشيخ عبد المحسن العباد - حفظه الله - : "وقد حجّ سبعاً، وأربعين حجّةً - رحمه الله - " الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - نموذج من الرعيل الأول (ص:20).
- الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي (6/150).
- سير أعلام النبلاء (5/82).
- المصدر السابق (12/97).
- المصدر السابق (8/ 465).
- - المصدر السابق (4/ 9).
- المصدر السابق (5/ 366).
- المصدر السابق (5/ 442).
- الطبقات الكبرى، لابن سعد (5/ 456)، وسير أعلام النبلاء (7/ 141).
- سير أعلام النبلاء (7/ 447).
- المصدر السابق (6/ 198).
ثم قال الله - تبارك، وتعالى - :إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ص:46] يعني خصصناهم بخاصة كما ذكر أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - [1] هنا عبر بها عن مزية، ورتبة لهم كما يقول ابن عطية، ما هذه الخاصة؟ ما هذه الخالصة العظيمة، والخصيصة الجسيمة؟ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] يعني أن الله جعل ذكر الدار الآخرة في قلوبهم، جعل الآخرة بين أعينهم تتراءى لهم في قيامهم، وقعودهم، ومشيهم، وأعمالهم، ومزاولاتهم كلها، فصار العمل لها صفوة وقتهم، أعطوا العمل للآخرة صفوة أوقاتهم، وصاروا مخلصين لله - تبارك، وتعالى - مراقبين له، وصار ذلك وصفاً دائماً لهم، فجعلهم الله بهذه المثابة ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بهم المعتبر، ويُذكرون بأحسن الذكر، هذه عبارة عبر بها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[2] جمع أقوالاً متعددة في تفسير قوله: ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] إذا ذُكروا ذكرت الآخرة، وهم يذكرون بها، وهي تتراءى لهم لا تغيب عن أذهانهم، وعقولهم كأنهم يشاهدونها، ليس لهم سواها كما يقول ابن جرير[3] يعملون لها، يسخرون الطاقات، والعقول، والذكاء، والإمكانات، والجهود من أجل الآخرة، فأطاعوا الله، وراقبوه، جعلهم الله يعملون لها، ونزع من قلوبهم حب الدنيا، وذكرها، مجالسهم ليست في الدنيا، ليست في العقار، ليست مجالسهم في المطاعم، والمآكل، والأثاث، والرياش، وما إلى ذلك، أخلَصَهم بحب الآخرة، أخلصهم بذكرها كما يقول مالك بن دينار - رحمه الله - كل هذا يرجع إلى شيء واحد، فهم يدعون إلى الله وإلى الدار الآخرة؛ لأن ذلك من طاعة الله، والعمل لدار القرار كما يقول ابن جرير - رحم الله الجميع - [4] فخلصَ لهم التذكير بالآخرة، ودعاء الناس إليها، وحضهم عليها كما يقوله قتادة، يعني أن الآخرة صارت شغلاً لهم لا تفارق قلوبهم، إذا كان الإنسان بهذه المثابة فإن أعماله جميعاً تتحول إلى طلب الدار التي هناك، لا يطلب شيئًا هنا، ما تتحول مطالبه إلى دنيئة، من الناس من يكون شغله من أجل الدنيا بعمل يعمله من عمل الدنيا كالتجارة، والبيع، والشراء ليس له هم إلا ذلك، فبئس ما صنع، وأسوأ من هذا هو الذي يعمل أعمال الآخرة يريد بها الدنيا أيًّا كان هذا المراد؛ يريد شرفاً، يريد شهرةً، يريد مكانة، يريد ولاية، يريد منصباً، وأقبح من هذا من يكذب على الله، ويفتري على دينه من أجل أن ينال حظوة من الدنيا، يتكلم بكلام فجٍّ قد يهوي به في النار أبعد ما بين المشرق، والمغرب؛ لعله يحصّل شيئاً من هذا الحطام، فهذا بأسوأ المراتب، إن كان ولابد فليشتغل الإنسان بأمور الدنيا، والعمل للدنيا، ولا يكذب على الله ويله ثم ويله، لكن إذا غابت الآخرة، وترحّلت، وترحل ذكرها اجترأ بعض الناس هذه الجرأة على الله، وعلى دينه، وعلى كتابه، فصدر منهم الكفر بقرونه، والكذب على الله، والافتراء عليه - نسأل الله العافية -.
المقصود هنا: أن الله - تبارك، وتعالى - لما وصفهم بهذه الصفة: ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] ما قال: ذكر الدار ذِكْرَى الذكرى اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ذِكْرَى يعني أن التذكر راسخ في نفوسهم، متمكن فيها ليس بعارض، لا يتذكر في السنة مرة واحدة، في العشر سنوات مرة واحدة، لا، هذه قضية حية لا تفارقهم أبداً، فإذا أراد أن يتكلم تذكر الآخرة، أراد أن يكتب تذكر الآخرة، أراد أن يتصدق تذكر الآخرة، أراد أن يأمر بالمعروف أن ينهى عن المنكر، أن يتكلم بالباطل يتذكر الآخرة، فيتوقف، والدار ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] إذا ذكرت الدار فالمقصود بها الآخرة؛ لأن هؤلاء إنما يتذكرون الآخرة، وهي الدار الحقيقية وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] والحياة الحقيقية هناك.
المقصود من هذا أنهم أهل العمل الصالح، والعلم النافع، أهل القُوى في عبادة الله، والبصيرة النافذة كما يقول ابن كثير[5] وصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير كما يقول ابن سعدي[6] - رحم الله الجميع - هم أهل قوة في العمل، وبصيرة في العلم كما يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -[7] والحكمة عند العرب كما يقول ابن قتيبة: "العلم، والعمل"[8].
هؤلاء قال الله عنهم في الآية الثالثة: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص:47] يعني أن الله اصطفاهم على سائر الخليقة، هم صفوة الخلق، هم أهل الاصطفاء، والاجتباء، هم الأخيار الذين لهم كل خلق كريم، وعلم مستقيم، هؤلاء هم الخلّص، هم خلاصة الإنسان.
- تفسير الطبري (21/ 217).
- تفسير السعدي (ص: 715).
- تفسير الطبري (20/ 120).
- المصدر السابق (21/ 219).
- تفسير ابن كثير (7/ 76).
- تيسير الكريم الرحمن (ص: 715).
- انظر: مجموع الفتاوى (7/ 342).
- غريب القرآن، لابن قتيبة (ص: 32).
ابن القيم - رحمه الله - جعل الناس على أربعة أنواع:
النوع الأول: وهو الكامل، وهم الذين يجمعون بين هذين الوصفين؛ يجمعون بين القوة العملية مع القوة العلمية، وبهذا يستقيم سير الإنسان على الصراط، إذا اجتمع له بصيرة، ووضوح في الرؤية، يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، علمه متين، صحيح، صافٍ من منبع الوحي، ليس فيه تشويش، ولا غبش، ليس فيه كدر، مثل هذا مع العمل يكون مسدداً، يأتي عمله على الجادة، على السنة، يكون عمله صحيحاً، فهذه أعلى المراتب، وهذا الذي نريد في أعمالنا كلها، العمل الاحتسابي، الجهاد بنوعيه؛ الجهاد في ميدان المعركة، والجهاد في ميدان الدعوة، والحجة، والبرهان، هذا الذي نحتاجه في أعمالنا الإغاثية، والخيرية، نحتاجه في عباداتنا، نحتاجه في علمنا، وتعليمنا، وبذلنا، هذا الذي نحتاجه لإقامة دين الله في الأرض، هذا القسم الأول هو الأعلى.
القسم الثاني: هم عكس هؤلاء - نسأل الله العافية - لا عمل، ولا بصيرة، كساح، وعمى، لا بصيرة في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، ابن القيم - رحمه الله - يقول: "هؤلاء أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحُمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار، والشنار"[1] هذا النوع الفاسد لا يعمل، ولا ينهض بفضيلة، ولا يبصر الحق، ولا يميزه، أعمى، وعندي نوع أسوأ من هذا لم يذكره ابن القيم - رحمه الله - : الذي لا يعمل بالخير، ولا ينهض به، وهو أيضاً ينهى عن المعروف، ويصد عن سبيل الله ويدعو إلى باطله الذي قد قُلبت عنده فيه الموازين، فهو يجادل عنه، ويبثه في الناس، وينشره، ويدعو إليه.
الحاصل أن ابن القيم ذكر القسم الأول، وهم الكمّل، ثم ذكر ما يقابلهم، ثم ذكر القسم الثالث: من لا بصيرة له بالحق، لا يعرف الحق لكنه يعمل، له همة، وعزيمة، وقوة في العمل، عنده جلد، وصبر، لكن ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين الحق، والباطل، وأولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يحسب الورم شحماً، والدواء النافع سمًّا.
والقسم الرابع: عكس هذا، له بصيرة في الحق، يميز الحق من الباطل، يعرف الحق، لكنه ضعيف، لا قوة له على تنفيذه، والعمل به، معرفة من غير عمل.
فهؤلاء الأقسام سوى الأول لا تكون لهم الإمامة في الدين، إنما تكون الإمامة في الدين لمن جمع بين هذه الأوصاف، لمن كان عاملاً عالماً بالحق، فهؤلاء هم ورثة الرسل، وخلفاء الأنبياء، هم الذين قاموا بالدين علماً، وعملاً، ودعوة إلى الله كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هؤلاء أتباع الرسول حقًّا، هؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة، فذكرهم الله بهذه الأوصاف الكاملة، قوة على التبليغ، تبليغ الحق، والدعوة إليه، وتنفيذه، وهم أيضاً يعرفونه تمام المعرفة، فهنا تتفجر أنواع العلوم، والفهوم، وتنهض الأعمال الطيبة الصحيحة التي على منهاج النبوة، هذا الذي نريد في أعمالنا، هذا الذي ينبغي أن نحرص عليه بكل ما نأتي، ونذر، أن نجمع هذه الأوصاف الثلاثة، تذكر هذا دائماً: "العلم الصحيح" بصيرة، ووضوح في الرؤية، و"العمل" قوة في تنفيذ الحق، و"الدار الآخرة بين عينيك".
إذا كان الإنسان ما عنده رؤية واضحة فهو كما يقال: "دلو ماء، ودلو طين" مثَل عامي لكنه معبر، حريص، ويعمل، ويجتهد، أعمال جميلة، ثم تفاجأ بأشياء أخرى غير جيدة، يتكلم، يتحمس، يندفع، تأتي أشياء أحياناً جيدة، وتأتي أشياء أحياناً ليست كذلك، يقيم مشاريع قوية أحياناً يعجز عنها الناس، وإذا نظرت وجدت تخليطاً، أشياء جيدة، وممتازة، وأشياء أخرى غير صحيحة، ولا تسوغ شرعاً، وهو باجتهاده أراد الخير، أراد نفع الناس، أراد أن يقيم مشروعاً، أراد أن يقيم مخيماً دعويًّا، أراد أن يقيم جمعية خيرية، أراد أن يقيم برنامجاً ينتفع به الناس يستفيد منه المجتمع.
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 131).
ولذلك أقول ناصحاً نفسي، وإخواني: ينبغي أن نتذكر هذا جميعاً في أي موقع كنا، في أي مكان، إذا كنا نعمل في المؤسسات الدعوية، هذا عمل شريف وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33] هذا من أجلّ الأعمال، لكن ينبغي أن يكون على الصراط، الدعوة تكون على طريقة صحيحة لا يتكلم الإنسان في أمور لا يحسنها، لا يقعد عن العمل، قد يكون عنده كلام كثير، وتنظير جميل، وإذا سمعته قلت: هذا سيفتح المشرق، والمغرب، وإذا نظرت إلى الجانب العملي عنده وجدته منعدماً، أو يكاد ينعدم، من الناس من يكون عنده قدرة على الشرح، والتنظير لكن العمل ضعيف، هذا خطأ، فإذا كنت بصدد أعمال كهذه فينبغي ألا تنظر إلى الآخرين، ألا يقعدك من قعد، المشكلة أنك تجد أحياناً الكثيرين يحجزون أمكنة، ثم بعد ذلك الشلل التام، الذين يعملون في هذه الجهة، أو تلك لربما يكون العامل واحداً، أو اثنين، والبقية قعود لا يعملون؛ لأنهم ينظرون إلى غيرهم كل واحد يقول: غيري ما يعمل، الكل ما يعمل، فتنشلّ الدعوة، أنت في عمل شريف، الأبواب أمامك مفتوحة، أجرك على الله ماذا تريد من هؤلاء الإخوان من الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى -؟ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة تكون بين عينيك، اشتغل بالآخرة، ما يكون طالب شهرة، يطلب جماهير، زيادة متابعين في الوسائل الإعلامية المتنوعة، لا يكون كذلك فتموت الكلمة، وينطفئ نورها، قد يخرج في كل قناة، لكن، ثم ماذا؟.
لا قيمة لكلامه، وليس عليه نور، وهكذا من يتكسب بدعوته، كنا نتكسب بالدعوة إلى الله نبتغي المال بدعوتنا، هذا خطأ، الدعوة إنما يراد بها ما عند الله، لا يطلب من الناس على ذلك أجراً أيًّا كان، سواء كان ذلك بطريق مباشر، أو كان ذلك بطريق غير مباشر، باعتبارات لا تخفى، حيث يتحول الداعية إلى مرتزق بدعوته بأساليب يعرق بها الجبين، يستحي منها العاقل، وهكذا أيضاً المتابعة للرسول ﷺ وضوح المنهج، لزوم السنة ظاهراً، وباطناً، الذي يريد ما عند الله، والدار الآخرة يتذكر قول الله : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى - في مشارق الأرض، ومغاربها إذا كانوا هم الذين يتفرقون، فكيف تجتمع الأمة؟!.
ينبغي أن يكون الداعية بصيراً فيما يأتي، وما يذر، قد يحسن الوعظ فمن الخطأ أن يتحول إلى منظِّر، قد يحسن الوعظ فمن الخطأ أن يتحول إلى فقيه، إذا كان لا بصر له بالفقه، كون الإنسان قريب الدمعة، يستطيع أن يؤثر على السامعين لا يعني ذلك أنه يستطيع أن يتحول إلى فقيه، أو إلى محدث، أو إلى منظّر في القضايا الكلية، ثم بعد ذلك يخبط خبط عشواء، ويأتي بالعجائب، والغرائب التي يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، هذا التخليط هو بسبب عدم وضوح الرؤية، وهكذا إذا كان الإنسان يعمل في الاحتساب، هذا الإنسان القدوة عليه أن يحتسب الأجر عند الله؛ لأنه مهما يُعطَى فهو لا يكافئ هذا العمل الذي يقوم به، فلا يكون ذلك سبباً لإقعاده عن هذه الوظيفة الشريفة؛ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي يكون صاحبه من أهل الفلاح، فيوطن نفسه على تحمل الأذى، ولا يكون منتصراً لها، ولا يقعد إذا رأى غيره يتثاقل عن القيام بهذه الوظيفة.
طالب العلم لا يطلب العلم من أجل رئاسة، أو وظيفة، أو مال، أو نحو ذلك، وإنما يريد به ما عند الله، والدار الآخرة، سيبارك له في ذلك، ويكون في عبادة شريفة، فهو بحاجة إلى أن يتذكر الآخرة دائماً، وهو في طلبه للعلم، نحن بحاجة إلى من يتحققون بالعلم، نحتاج إلى علماء ربانيين، الأمة أحوج ما تكون إلى هذا، فأين النابغون؟ وأين الأذكياء؟ أين هم من العلوم الشرعية؟.
وهكذا أيضاً طالب العلم إذا كان لا يستطيع أن يتكلم بالحق، ولا يصدع به، فلا يجوز له أن يتكلم بالباطل، ويزيف الحقائق، ويضلل الناس، يسعه السكوت، إذا لم تستطع أن تتكلم بالحق فاسكت، ولا تكذب على الله، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وهكذا المؤسسات الخيرية هي شامة في جبين الأمة، والقائمون عليها، والعاملون بها يقومون على ثغر عظيم، فتميُّزهم بذلك لا شك أنه ينعكس على هذه الأعمال الطيبة الخيرة، وإذا صدر منهم خلاف ذلك أثر ذلك سلباً كما لا يخفى.
فيحتاج من يعمل بهذه المؤسسات إلى أن يستشعر العبودية في أداء العمل، هو في عبادة، لا يكون همه ما يعطاه من الأجر، وما يعطاه من المال، وللأسف أصبحت الثقافة التي شاعت في السنوات الأخيرة: لا أريد متطوعاً، أريد من يعمل بأجر حتى لا أقول في النهاية: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] أريد أن أعطيه أجراً، وأن أحاسبه عليه، هذا جيد لكنه أثر آثاراً سلبية؛ صارت النفوس في كثير من الأحوال، والأحيان تطمح إلى ما تعطاه، فقل الاحتساب، أقول: على الأقل الذين في الخطوط الأمامية، في الأعمال الدعوية ينبغي أن يكونوا من المحتسبين ليبقى للكلمة رونقها، وبهاؤها، ونورها، والذين يعملون في الخطوط الخلفية أعمال إدارية، وما إلى ذلك يمكن أن يعطوا، أما أن يتحول الناس جميعاً إلى طالبين للمال بهذه الأعمال فهذا لا يصح بحال من الأحوال، فينعدم الاحتساب، ويتلاشى، كم تدفع حتى أعمل معك؟ وتقام الأعمال، ولا يبارك فيها، فلا تجد لها وارداً فتموت، وتذبل أعمالنا، وجهودنا، فنحتاج إلى استحضار هذا المعنى، نستشعر العبودية، نستحضر الإخلاص، مما يدل على ضعف الإخلاص أن يستاء الإنسان من نجاح الآخرين، أن يسعى لمكاسب مادية، لا يكون عنده رغبة في التطوير؛ لئلا ينكشف ضعفه.
من الأشياء التي ينبغي أن نحذرها ألا تكون الأعمال فردية في هذه المؤسسات، فتتخذ القرارات من قبل شخص واحد من غير مشورة، نجتنب التعالي على الآخرين من الموظفين، والمستفيدين من هذه المؤسسات، نبتعد عن المركزية في العمل، لا يكون الإنسان لا يثق بأحد ممن معه، ولا من غيرهم، نتجنب الاختلاف، والشقاق، والنزاع، نبتعد عن المظاهر، عن أسباب الشهرة، عما يخل بإخلاصنا، نستخدم أموال المؤسسة فيما وضعت له، ونقوم عليها كالقيام على مال اليتيم، ما نستعمل ذلك في أغراضنا الشخصية، ولا نحابي في ذلك أحداً، ولا يصح لأحد أن يعتبر المؤسسة التي يرأسها كأنها ملك خاص له؛ لأنه هو الذي أسسها، أو شارك في تأسيسها.
وهكذا ينبغي أن يكون هناك تعاون بين هذه المؤسسات، وتوزيع الأدوار، لا يكون كل مؤسسة تعمل في عالمها، وتتكرر الجهود، وتضيع الأوقات، والأموال، وهكذا أيضاً التحرز، والانضباط في الأمانة التي أوكلت إلينا، أوقات العمل الانضباط بها، القيام بالأعمال على الوجه المطلوب، ترك التسويف، أو البطء في إنجاز الأعمال الموكلة إلينا، عدم الإسراف في إنفاق الأموال على أمور لا يصح صرفها فيها، أحياناً تصرف أموال؛ لأن الميزانية تنتهي في نهاية السنة ففيه فائض إذاً لابد أن نشتري أي شيء، أشياء لا حاجة إليها، هذا لا يجوز، كذلك أيضاً الإهمال، المماطلة، التأخر في تسليم أجور العاملين، المماطلة، والإهمال في تسليم أجور، ومستحقات المتعاملين مع المؤسسة، نفذوا لنا مشروعات، ألا نتأخر في إقامة الأوقاف التي رصدت لها الأموال، أموال المتبرعين ينبغي أن نقوم عليها خير قيام، فلا تصرف في غير المجال الذي حددوه، ينبغي أن تكون الأمور واضحة، لا يكون هناك تشبع بما لم يعط الإنسان، يعني أحياناً قد يكون عندي عمل، قد يكون عندي دعوة إلى الله جاء إنسان بمائة شخص أسلموا على يده بالشركة، فجاء بهم إلى المكتب، وقال: نعطيهم كتيبات، طيب إحصائية المكتب أسلَمَ في هذا الشهر مائةُ واحد على يد دعاة المكتب، لا يجوز، هذا ليس من دعاة المكتب.
ممكن أن أقيم عملاً، المعاهد الشرعية في العالم، مؤسسة عالمية، المعاهد الشرعية، وآتي إلى معاهد قائمة، وأعرض على هذه المعاهد أن أعطيها دعماً ماديًّا، وأعلق اللوحة، ثم آتي أقول: يتبعني ألف معهد تخرج منها مائة ألف طالب، فيضع الناس أيديهم على رءوسهم: ما هذا المشروع الكبير الذي سيعيد الأمة إلى مجدها، وعزها؟! وهو مجرد جهود الآخرين أضافها إليه، قد يكون عندي برنامج مكثف في الصيف لحفظ القرآن، جاءني عشرة من الحفاظ، وحفظ عندي في المشروع ثلاثة، وهؤلاء العشرة جاءوا، وحضروا، وقالوا: نريد أن يسمع لنا أحد المشايخ، فآتي بالإحصائية، وأقول: حفظ القرآن كاملاً ثلاثة عشر شخصاً، هؤلاء ما حفظوا عندي، هؤلاء حفاظ، لا يجوز أن أنسبهم إلى مشروعي هذا، وأتكثر بهم، فينبغي التحرز.
وهكذا أيضاً الجانب الإداري في المؤسسات، وغيرها، يعني أحياناً قد لا يوجد أصلاً نظام، أو هيكل إداري للأسف؛ إما لضعف التصور، وإما لطبيعة القائم على هذا العمل أنه يؤثر الفوضى، أو أنه يرى أن هذا يعقد الأمور، أو أنه شيء صعب بعيد المنال، أو أن النفقات التي يتطلبها أكثر، أو لربما يرى أنه لا يصلح لمثل هذا فيؤدي ذلك إلى إبعاده.
وهكذا الضبط، يعني الإنسان يريد ما عند الله - تبارك، وتعالى - بهذا العمل، تعمل تريد ما عند الله، تبحث عن الأجر، تبحث عن الخير، انتبه أن يكون ذلك زاداً لك إلى النار؛ الإنسان قد يقدم للآخرين نفعاً، وبرًّا، ومعروفاً، لكنه يضر نفسه، يضيع آخرته لآخرة غيره، كيف يكون هذا؟
الإنسان يريد ما عند الله - تبارك، وتعالى - بهذا العمل، تعمل تريد ما عند الله، تبحث عن الأجر، تبحث عن الخير، انتبه أن يكون ذلك زاداً لك إلى النار؛ الإنسان قد يقدم للآخرين نفعاً، وبرًّا، ومعروفاً، لكنه يضر نفسه، يضيع آخرته لآخرة غيره، كيف يكون هذا؟
حينما نأتي، ونتصرف تصرفات لا تجوز شرعاً؛ من أجل تحصيل موارد مالية مثلاً لمؤسسة من المؤسسات، ولعلي أذكر بعض الأمثلة، ولا يعني أن هذه الأمثلة موجودة، لكن من أجل أن نتحرز منها، ولا نقع فيها، يعني مثلاً: لو جاء إنسان، وقال: أنا سأؤجر الصناديق التي عند المساجد، عندي مائة صندوق للملابس سأؤجرها، تؤجرها على من؟ أؤجرها على مؤسسة تشتري الملابس المستعملة، طيب أجرتها لهم في السنة بسبعين ألف ريال، أولاً: الناس الذين، وضعوا الملابس ما الذي في اعتبارهم؟ أنها تصل إلى الفقراء، والواقع أنها تباع، ولو علموا لربما لم يضعوا بعض الثياب على الأقل.
الأمر الثاني: هذه إجارة، عقد إجارة، وعقد الإجارة هو عقد على المنفعة، وليس بعقد على العين، البيع هو العقد على العين، أما هذا فعقد على المنافع، إجارة، فكيف يتملك المستأجر هذه الثياب؟.
ثالثاً: هذا عقد على مجهول؛ قد توضع ثياب، وقد لا توضع، وقد يوضع كثير، وقد يوضع قليل، وقد توضع ثياب صالحة للاستعمال، وقد توضع ثياب لا تصلح للاستعمال، فهذا عقد على مجهول، لا يجوز، العقد باطل من هذه الوجوه جميعاً، يكفي واحد منها لفساده، فننتبه.
مثلاً: أنا أريد موارد مالية لهذه المؤسسة، لهذا المكتب، أقيم إفطار صائم مثلاً، - لو أني فعلت، لا يعني هذا أنه موجود - أقول مثلاً: إفطار صائم خمسة ريالات، وأضع الإعلانات في كل مكان، هل فعلاً هذا الإعلان الذي وضعته إفطار الصائم بخمسة ريالات فعلاً مع المخيم، وأجرة العاملين، وكل شيء؟ قد أقول: لا، هذا يكلفني للشخص الواحد خمسة عشر ريالاً، طيب لماذا لم تكتب خمسة عشر ريالاً؟.
قد أقول: من أجل أن أرغب الناس في المشاركة، طيب هؤلاء الناس حسبوها، هو يحسبها هكذا أنه هذا الشهر كل يوم سيفطِّر صائماً، فهو دفع هذا المبلغ من أجل أن يفطر في كل يوم صائماً، فتبين أن هذا المبلغ الذي دفعه إنما يكفي للثلث فقط، يعني هو دفع مائة، وخمسين ريالا من أجل أن يفطر ثلاثين صائماً، تبين أن للصائم الواحد خمسة عشر ريالاً، إذاً أنا فطرت عشرة فقط، هذا لابد أن يُبيَّن، وهكذا لو قال قائل مثلاً: إفطار الصائم إفطار، ودعوة، المقصود بالدعوة: الذي يتبادر إلى أذهان الناس أنها الدعوة التي في نفس المخيم، أليس كذلك؟
دعاة يأتون، ويقدمون، من الخطأ أن أعتبر الدعوة هنا مسوغة لأخذ أجور المكتب، أجور العاملين، أجور الدعاة، أجرة المبنى، ميزانية المكتب للسنة كاملة، باعتبار أني كتبت: دعوة، هذا ما يجوز، حرام، هذا يصرف للإفطار في رمضان فقط، والدعوة التي تقدم فيه.
أقول مثل ذلك: كفالة حاج ألف ريال، ألف ريال إذا كانت كفالة حقيقية جيد، لكن قد أقول: لا، لا توجد كفالة حاج بألف ريال، كم إذن؟ بأربعة آلاف، طيب كيف صارت ألفًا؟ لأن هناك متبرع دفع ثلاثة آلاف لكل حاج، بقي ألف، طيب هؤلاء الذين حجّجوا عندهم حسابات معينة، حجج إنسانًا، حجج عن نفسه، حجج عن غيره، ... إلى آخره، والواقع أنه دفع ربع المبلغ.
هذه أمور ينبغي أن تعرف، وأن تحسب، فهذه الأشياء حينما نذكرها، نذكرها من باب التبصير أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] لابد من الفقه في الدين مع العمل الجيد الجاد القوي، فالتذكير بهذه القضايا لا يعني أن الأعمال القائمة الموجودة أنها بهذه المثابة، وقد قال موسى لأخيه هارون - عليهم الصلاة، والسلام - : وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] وحاشا هارون أن يتبع سبيل المفسدين، والله قال لنبيه ﷺ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [ [الأحزاب:1] وحاشا النبي ﷺ أن يتبع الكافرين، والمنافقين، لكن المقصود هو التمثيل، والتذكير، والتبصير، وذلك انطلاقاً من قوله - تبارك، وتعالى - بهذه الأوصاف الكريمة: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] نحتاج إلى عمل، وجد، ونحتاج أيضاً إلى بصر، إذا كان الذين يعملون لا يوجد عندهم هذا العلم، والبصر يمكن أن يكوِّنوا لجنة استشارية شرعية يرجعون إليها في المجالات الدعوية، في الاحتساب، في ميادين الجهاد، وفي غير ذلك من المزاولات، والأعمال التي تنهض بها الأمة، من أجل أن يكون العمل مسدداً صحيحاً، وإلا فإن الثمار تكون ضعيفة، ولا تبرأ الذمة.
أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا، وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم انصر إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم انصرهم على عدوك، وعدوهم، الله ارحم ضعفهم، اللهم قوّهم، اللهم عليك بعدوك، وعدوهم، اللهم اهزمهم.
اللهم مجري السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم يا رب العالمين.
وأسأل الله - تبارك، وتعالى - لي، ولكم علماً نافعاً.