- وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
- خوض العامة في السياسة ضار جدًّا إذا شُغلوا به عن عملهم
- وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً
- العبد بحاجة إلى أن يلجأ إلى ربه
- إشاعة الفواحش أحياناً قد تهوّن الإلحاد في نفوس الكثيرين
- التريث، والنظر في الأمور قبل إذاعتها
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.
في هذه الليلة أيها الأحبة: نتدارس قول الله - تبارك، وتعالى - في هذه السورة الكريمة سورة النساء: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83].
هذه الآية جاءت في سياق آيات تتحدث عن فئة غير ثابتة، عن فئة ضعيفة، مضطربة، وذلك ابتداء من قوله - تبارك، وتعالى - : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:77 - 83] هذه الفئة من أهل العلم من يقول: هم أهل النفاق، ومن أهل العلم من يقول: إن المعنِيَّ بهذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] هم ضعفاء الإيمان.
وفي الآيات ما يصلح أن ينطبق على أهل النفاق، وما يصلح أن ينطبق على ضعفاء الإيمان، فإن هؤلاء جميعاً يشتركون في بعض الأوصاف، فهم يشتركون في قلة ثباتهم، وفي ضعفهم في المُلمات، وفي تلونهم، وفي تركهم لأمر الله - تبارك، وتعالى - ولأمر رسوله ﷺ وفيما يقع لهم من شدة الخوف في الحروب، وذلك أن الله - تبارك، وتعالى - وصفهم بأوصاف مشتركة، كما قال الله : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49] كما في آية الأنفال، وفي آية الأحزاب: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] فهؤلاء يشكون في وعد الله لكن طلبهم فيما يبدو من سياق هذه الآيات أنهم طلبوا الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] فذلك يصدق على ضعفاء الإيمان، ولكن قوله - تبارك، وتعالى - في وصفهم حينما يخرجون من مجلس رسول الله ﷺ : بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81] ذلك أقرب في حال وصفة أهل النفاق.
والجامع المشترك الوصف الذي يشمل هؤلاء جميعاً هو الاضطراب، والضعف، والخور، والخفة، والمسارعة في بعض المواقف التي ينبغي التأني فيها كما في هذا المقام وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إذا جاءهم خبر عن أمر يكون في مصلحة المسلمين، يصب في صالحهم، أو جاءهم أمر من الأمور المخوفة إذا جاءهم خبر مما يُكره فإن هؤلاء يسرعون بإذاعته، وإشاعته، ونشره بين الناس، إذا سمعوا خبراً عن سرايا المسلمين من الأمن الانتصار، أو الظفر، أو نحو ذلك من تحصيل الغنائم، أو فتح البلاد فإنهم يسارعون في نشره من غير تريُّث، ونظر فيما يصلح نشره، وما لا يصلح نشره، كذلك إذا جاءهم خبر عن هزيمة، أو عن مصيبة وقعت للمسلمين في شأن من شؤونهم فإن هؤلاء يسارعون في نشرها من غير نظر إلى ما ينبغي أن يُستر، أو ما ينبغي أن يُشهر، ويُظهر، إذا بلغهم شيء عن تدبير أحوال المسلمين في حال الأمن، أو في حال الخوف تحدثوا بهذه الأخبار، ونقلوها، وأرجفوا بين الناس، تارة يثبطون بذلك، وتارة يضعفون العزائم، ويُورِثون الخور، والاضطراب، وقالة السوء في المجتمع، وبين المسلمين، هؤلاء الذين أنكر الله حالهم، وعَجّب رسوله ﷺ في ابتداء هذه الآيات منهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77] إلى أن صار حالهم إلى هذه الحال التي أنكرها الله من المبادرة إلى الأمور قبل تحققها، فيُخبرون بكل ما يطرق آذانهم حتى إن هؤلاء صاروا كما قال الله في سورة النور في ذكر مسارعة المسارعين في إفشاء قالة السوء: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15] ومعلوم أن التلقي إنما يكون بالأسماع، ولكن الله - تبارك، وتعالى - أضافه إلى الألسن كأنهم يتلقون بألسنتهم، وذلك إما لكون هؤلاء يسارعون في النقل فكأن ذلك لم يمر عبر آذانهم فكأنه وقع على ألسنتهم مباشرة، أو لأنهم إنما يتلقونه حينما يتلقونه لإذاعته، ونشره، وإفشائه، فصار ذلك كالواقع على الألسن؛ لأن الألسن هي التي تبثه، وتنشره، وتفشيه بين الناس، فهؤلاء كذلك يفشون هذه الأخبار، والمعلومات، وقد لا يكون لها أصل صحيح، وقد جاء في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: كفى بالمرء كذباً أن يُحدث بكل ما سمع[1] وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : "أن النبي ﷺ نهى عن قيل، وقال"[2] أي: الذي يُكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين، وفي الحديث الآخر الذي أخرجه أبو داود في سننه: بئس مطية الرجل زعموا[3] يعني: أنه إنما يتكئ، ويعتمد على ما لا يصح الاعتماد، والاتكاء عليه، فهو يقول: زعموا أنه حصل كذا، ذُكر أنه حصل كذا، بلغنا أنه وقع كذا، وكذا، وقارنوا هذه الحال بحال عمر كما في الحديث المتفق عليه: "حين بلغه أن رسول الله ﷺ طلق نساءه، فجاء إلى منزل النبي ﷺ حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله ﷺ فاستفهمه: أطلقتَ نساءك؟ قال: لا فقال: الله أكبر"[4] وذكر الحديث، وفي لفظ عند مسلم: "فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا يقول: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يُطلق رسول الله ﷺ نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] فكان عمر يقول: "فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر"[5].
- أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، برقم (5)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، برقم (4992)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4482).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يكره من قيل، وقال، برقم (6473)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع، وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه، برقم (1715).
- أخرجه أبو داود، باب الأدب، باب في قول الرجل: زعموا، برقم (4972) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2846).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، برقم (89)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن، وقوله تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم:4] برقم (1479)، واللفظ للبخاري.
- أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن، وقوله تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم:4] برقم (1479).
فخوض الناس في كل باب من الأبواب، وفي كل شأن من الشئون مما يُحسنون، ومما لا يُحسنون، كما يقول رشيد رضا - رحمه الله - في كتابه المنار في التفسير عن خوض العامة في السياسة، وأمور الحرب، والسلم، والأمن، والخوف يقول: "هو أمر معتاد لكنه ضار جدًّا إذا شُغلوا به عن عملهم، ويكون ضرره أشد إذا وقفوا على أسرار ذلك، وأذاعوا به، وهم لا يستطيعون كتمان ما يعلمون، ولا يعرفون كُنه ضرر ما يقولون، وأضره عِلم جواسيس العدو بأسرار أمتهم، وما يكون وراء ذلك، ومثل أمر الخوف، والأمن، وسائر الأمور السياسية، والشؤون العامة التي تختص بالخاصة دون العامة"[1].
فيقع بسبب ذلك - كما لا يخفى أيها الأحبة - الضرر من وجوه كثيرة، وذلك أن هذه الإرجافات لا شك أنها تُسبب ضرراً، وتفتك بالمجتمع، وهي لا تخلو من كذب كثير، كذلك إذا كان ذلك في جهة الأمن، فإنهم قد يزيدون عليه زيادات، ويركبون على خبر قد يكون له أصل يركبون عليه أشياء، ثم بعد ذلك إذا لم يتحقق ذلك كان سبباً لأضرار، ومفاسد لا تخفى، ولربما نسب أولئك ذلك إلى رسول الله ﷺ فإذا لم يتحقق ذلك الأمن الذي وُعدوا به شكوا في خبر المعصوم - عليه الصلاة، والسلام - وأرجف أولئك - أعني أهل النفاق - بالمسلمين، وبرسول الله ﷺ فوقع ضعفاء الإيمان في حيرة، واضطراب أين ذلك الوعد المزعوم الذي افتراه، واختلقه أولئك الذين ينشرون الأخبار، ولا يتثبتون فيها؟.
كذلك أيضاً هذه الإذاعة أيها الأحبة إذاعة الأخبار، النشر بهذه الطريقة لما يصلح، وما لا يصلح ما تيقنوا منه، وما لم يتيقنوا يكون ذلك سبباً لتوافر الدواعي من أجل البحث، والتنقيب، والسؤال، والتفتيش، فيكون ذلك حديث الناس في مجالسهم، فيبحثون عنه، ويتطلبونه، ويستقصون في ذلك مع أنه قد لا يكون له أساس، أو قد يكون العلم به، ومعرفته مما يضر هؤلاء جميعاً، ولا تحصل به مصلحة للمسلمين، هذا بالإضافة إلى وجود الأعداء، والعداوة مستمرة بين المسلمين، والكفار، وكل ما يكون أمناً للمسلمين فإنه يكون خوفاً في حق الأعداء، وما يكون أمناً في حق الأعداء فإنه يكون خوفاً في حق المسلمين، وكل طائفة تنتهز الفرصة لتثب على الأخرى، فهم يتتبعون ذلك، ويبحثون عن مواطن الضعف، ويبحثون عن أسباب الهزيمة النفسية، وما يتلوها من الهزيمة العسكرية، وتبقى حرب في الشائعات، والأخبار المكذوبة، والمختلقات، فيحصل بسبب ذلك إرجاف كبير فتوطأ الأرض من أجل تحقيق الانكسار، والتراجع، وبث الخوف، والرعب في نفوس الناس فيكون ذلك سبباً لهزيمتهم العسكرية أمام عدوهم، كل هذا يقع بسبب هذه الأخبار التي نبثها هنا، وهناك، ويبثها كثيرون من غير تروٍّ، ولا نظر وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] أخبروا به، فهذا يرجع إلى هؤلاء المنافقين، أو إلى ضعفاء الإيمان، وهم مشتركون في هذه الصفة، وهذه بلوى عامة في مثل هذه الأوقات كما لا يخفى.
كذلك أيضاً هذه الآية قد سيقت مساق التوبيخ لمن يكون هذا حالهم، وهذه صفتهم، ومن يقبل إذاعة هذه الأخبار من المسلمين الأغرار، فينبغي التحرز من مثل ذلك، والمباعدة عنه.
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] تخوَّفَهم العدوُّ، أصاب منهم، وقع لهم شيء من المكروه، فذَكَر الخوف بعد الأمن، وذلك يدل على أن هؤلاء النقلة، والرواحل لهذه الأخبار يدورون دائماً في كل حال من الأمن، والخوف مع هذه الصفة، والخلة الرديئة، فهم يبثون ما وصل إلى مسامعهم أيًّا كانت هذه الأخبار، فهم يرجفون في حال الحروب، والشدائد، ويبثون المخاوف، وإذا جاءت أحوال الرخاء فهم أيضاً يبثون أشياء في المجتمع، وينشرونها، ويُذيعونها، وقد لا يحسُن، ولا يصلح نشرها إن كانت صحيحة، وتأمل قول الله - تبارك، وتعالى - : أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] يعني: أفشوه، وبثوه في الناس قبل رسول الله ﷺ وقبل أولي الأمر منهم، ويدخل في أولي الأمر منهم يدخل في هؤلاء أمراء السرايا، ويدخل في ذلك الكبار من العلماء، وغيرهم ممن يُرجع إليهم في هذا الشأن، فيتبينون حقيقة ما قيل، ويعرفون صحته من كذبه، وما داخله من التلفيق، والتزيد، كما أنهم يعرفون أيضاً ما يصلح للنشر، وما لا يصلح للنشر، فيقف عندهم، ثم بعد ذلك يستطيع هؤلاء أن يخرجوا هذا الخبر، أو أن يقف عندهم، ثم بعد ذلك يطوى، ولا يروى، إذ لا مصلحة من إشاعته، وإذاعته، أمّا هؤلاء فقد أذاعوا به، يفشونه، ويتعدى هؤلاء إلى غيرهم، فهذه الباء في "أذاعوا به" مزيدة لتوكيد اللصوق، فهذا يدل على شدة هذه الإذاعة، فرقٌ كما يقول بعض أهل العلم بين قولنا: أذاع الخبر، يعني نشره، لكن يمكن أن يكون هذا النشر مرة واحدة أن يفشيه أن يلقيه على غيره، أن يذكره في مجلس، أن يعلنه في مكان، أو في موقع، أو في حساب من هذه الحسابات، ووسائل التواصل، وبين قوله: "أذاعوا به" فهو يدل على أنه يقول هذا الخبر، وينقله بكل وسيلة مستطاعة، ويُعلنه، ويبثه لكل من واجهه، وقابله، فكأن هذا الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه، ثم ينتهي بعد ذلك، تكون قد أذعته، ولكن أذاعوا به هؤلاء لا يقفون عند نشر الخبر من أول مرة، وإنما ما يفتأ الواحد منهم حينما يحضر في مجلس من المجالس حتى يبث هذا الخبر، وينشره، وكل من واجهه أمَا بلغك كذا، وكذا؟ وكذلك في الوسائل التي نعرفها في مثل هذه الأوقات يبث هذه الأخبار بكل مستطاع، فيبقى هذا النشر غير محدود، فيصل إلى كل أذن حتى يتحدث عنه العجائز، والأطفال، الكبار، والصغار، والذي بثه، ونشره متسرع، واحد لم يتريث، ولم يتأنَّ، ولم يتروَّ، ولم ينظر في المصالح، والمفاسد، ولم يرجع إلى من يمكن أن يجد عنده ما يصلح أن ينتفع به مما يتعلق بصحة هذا الخبر من كذبه، أو ما يتعلق بحُسن بثه، ونشره، أو غير ذلك.
- تفسير المنار (5/ 242).
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] كما هي عادة الشارع حينما يُنكر أمراً، وينهى عن أمر - لأنه لا يجمُل، ولا يحسُن - يُبين في مقابل ذلك ما ينبغي، وما يحسن، وما يجمُل مما ينبغي أن يكون من أهل الإيمان، فهنا لما ذكر هذه المسارعة في بث الأخبار ذكر التصرف الصحيح الذي يحسن، ويجمل وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ردوا هذا الأمر الذي طرق مسامعهم الذي، وقفوا عليه إلى رسول الله ﷺ أو إلى الكبار منهم ممن يميزون الأخبار، ردوه إلى مرجعهم في هذا الاختصاص، أو إلى علمائهم، أو إلى قادتهم، أو نحو ذلك فهؤلاء هم الذين يقدرون مثل هذه القضايا التقدير الصحيح، فقوله - تبارك، وتعالى - : وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ يشمل العلماء، ويشمل كذلك أيضاً الأمراء، والقادة، والكبراء الذين يميزون هذه الأمور، فهم أهل الرأي من المسلمين، أهل الحنكة، والعلم، والمعرفة، والبصر بالأمور، فهذا عتاب أيها الأحبة للمؤمنين، وإن شئت أن تقول: هذا إنكار على المنافقين في هذا التسرع بالإذاعة، وهو أمر بإنهاء الأخبار إلى من يُحسن فرزها، ومعرفة الصحيح من السقيم، وما يصلح للإذاعة مما لا يصلح لذلك، فيضعون الأمور في مواضعها، ويوقعونها في مواقعها، فالله - تبارك، وتعالى - يلومهم على هذا الصنيع، والتصرف، والإشاعة، والإذاعة، كما يقول المفسرون كصاحب التحرير، والتنوير، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وغير هؤلاء ممن تطرق لهذه الآية، وما ذكروه فيما ينبغي لأهل الإيمان إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة: عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح، وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة، ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني: يستخرجونه بثاقب نظرهم، هكذا أهل الإيمان، وهكذا أهل الجندية الحقة، فإن الجندي قد يقف على بعض الأمور، وتحركات الجيش، وما إلى ذلك فلا يحسن أن ينشر ما شاهد، أو ما سمع، أو ما وقف عليه، ثم يُبث ذلك في الناس، بعد ذلك يصل إلى العدو فيحتاط، ويأخذ المسلمين على غرة، والسبب هو هذه السذاجة، والعجلة في نشر مثل هذه الأمور، والمعلومات، والأخبار التي قد لا يُحسن مثل ذاك تقديرها التقدير الصحيح.
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجونه، ويستعلمونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها، واستخرجها من قعورها، فالاستنباط كما قال المفسرون: حقيقته طلب النَّبَط، وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر، والمقصود بذلك العلم بحقيقة الشيء، ومعرفة عواقبه، فهذا الأمر يحتاج إلى بحث، واستخراج، وغوص، ومعرفة، معرفة لمصادره، ومعرفة لخلفياته، وتقدير لحجم هذه القضايا، وما داخلها من الكذب، وما إلى ذلك، كل هذا إنما يُرجع فيه إلى أهله من أهل الاختصاص الذين يستطيعون تمييز هذه الأمور، كما يقول أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - : "وكلُّ مستخرج شيئاً كان مستتراً عن أبصار العيون، أو معارف القلوب فهو له مستنبط"[1] وهذا يدل على أن المسألة تحتاج إلى عُمق في النظر، إلى عُمق في الرأي، إلى عُمق في التفكير، إلى شيء من الرزانة، إلى شيء من الأناة، أمّا هؤلاء الذين يخفوّن مع الخبر، ويسارعون في البث، والنشر، والنقل، والإذاعة فإن هؤلاء لا يصلحون في شيء من ذلك، والله يقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: يستخرجونه، يستخرجون حقيقته، وتدبيره بفطنتهم، وذكائهم، وإيمانهم، ومعرفتهم بمواطن الأمن، والخوف كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فهذا يدلنا على أهمية التثبت، والتريث، والتعمق في مثل هذه الأمور، فهذا مأخوذ من قوله: الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ولم يقل: يعرفونه، أو يعلمونه، وإنما الاستنباط استخراج الماء من الموطن الذي يُحفر، فهذا الاستنباط لا يحسنه كل أحد، هذا يحتاج إلى عمق، ويحتاج إلى بحث عن مواطن الماء، ومعرفة مجاريه، وما إلى ذلك مما يُطلب في ذلك.
- تفسير الطبري (7/ 255).
ثم يقول الله - تبارك، وتعالى - : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً [االنساء:83] لاحظوا هذا الاستثناء في هذه الآية: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: واقعان لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا "إلا قليلاً" مَن الذي يسلم من اتباع الشيطان لولا فضل الله، ورحمته - تبارك، وتعالى -؟ولذلك كان هذا الموضع محل سؤال عند المفسرين، وهو موضع نظر، وبحث في كتب التفسير، فهذا الاستثناء يدل بظاهره على أنه قد ينجو البعض ممن لم يشمله فضل الله، ورحمته فلا يتبع الشيطان وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ومن الذي يحصل له السلامة من اتباع الشيطان إذا كان عادماً لفضل الله، ورحمته؟ هذا موضع السؤال، ولذلك ذكر المفسرون - رحمهم الله - في جواب ذلك وجوهاً: فمنهم من قال: إن الاستثناء راجع إلى قوله "أذاعوا به" يعني: إذا جاءهم أمر من الأمن، أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، ولولا فضل الله عليكم، ورحمته لاتبعتم الشيطان، فأخرج بعض المنافقين عن هذه الإذاعة، يعني: وإذا جاءهم أمر من الأمن، أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، يعني: أن بعضهم قد لا يذيعه لسبب، أو لآخر، قد يخاف من المسلمين، أو نحو ذلك، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ويكون المعنى: لعلمه الذين يستنبطونه إلا القليل، يعني: أنه ليس الكل من هؤلاء من أهل العلم، والرأي، والمشورة يستطيعون معرفة كل خبر يرِد إليهم، فقد يفوتهم بعض الأشياء لا يصلون معها إلى شيء من النتائج المرجوة، لكن بعضهم لابد أن يقف على ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته واقعان لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، وهذا كأنه أقرب إلى السياق، ولكن يحتاج إلى توجيه، وذلك أن الفضل المذكور في هذه الآية، والرحمة، ما المراد به؟ فبعض أهل العلم يقول: إن المراد بفضل الله، ورحمته في هذه الآية إنزال القرآن، وبعث محمد ﷺ ويكون المعنى: ولولا بعث محمد ﷺ وإنزال القرآن لابتعتم الشيطان، وكفرتم إلا قليلاً منكم، مَن هؤلاء القليل؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:77 - 83] قلة كالذين كانوا في الجاهلية على التوحيد كقُس بن ساعدة، وكذلك أيضاً أولئك الذين نعرف خبرهم في الأخبار، والسير كورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نُفيل، وأمثال هؤلاء، هم أفراد كانوا على الإيمان، والتوحيد، بعضهم تنصر، وكان على التوحيد، وبعضهم كان على ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - فهؤلاء نجوا من اتباع الشيطان.
وبعض أهل العلم يقول: المراد بفضل الله، وبرحمته في هذه الآية هو النصر الذي يكون لأهل الإيمان، بمعنى أنه لو لم يحصل النصر لأهل الإيمان، وتتابعت الهزائم، والمصائب عليهم لتضعضع الكثيرون، وشكوا بصدق النبي ﷺ وبوعد الله - تبارك، وتعالى - وتراجعوا، ونكصوا على أعقابهم إلا قلة من أهل الثبات، واليقين، فهؤلاء لا يتبعون الشيطان، ولولا فضل الله عليكم، ورحمته بإدالتكم على الكفار، ونصركم فإن الكثيرين قد يتراجعون، ويشكون بوعد الله وصدق ما جاء به الرسول ﷺ فهذا وجه، وبعض أهل العلم يقولون: إن ذلك خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دال على الإحاطة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا يعني: الجميع، فإن ذلك القليل هنا يُراد به العدم، ولولا فضل الله علينا، ورحمته لم ينجُ أحد من الضلالة، فصار ذكر القليل هنا يدل على الإحاطة، يدل على هذا قول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
أشَمُّ كثيرُ يَديّ النوالْ | قليلُ المثالب والقادحةْ |
يمدح أميراً، ومن القادة المشاهير، والكرام، والأجواد، يقول: هذا كثير العطاء، قليل المثالب، والقادحة، يعني القوادح التي فيه، والمثالب، والعيوب قليلة، هل يقصد بمدحه أنه يوجد فيه عيوب قليلة، أو يقصد أن ذلك منعدم فيه؟ هذا هو المراد، ولا يمدحه بقلة العيوب؛ فإن العرب تُعبر بمثل هذا، وتريد به النفي، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - يعني: لا مثالب فيه، ولا معايب، مع أن كبير المفسرين أبا جعفر بن جرير - رحمه الله - حمل هذه الآية باعتبار أن استثناء القليل من الإذاعة، يعني: وإذا جاءهم أمر من الأمن، أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً، يعني: إلا القليل لا يذيعونه، ولا ينشرونه، لكن ما ذُكر قبله كأنه هو الأقرب إلى السياق، والعلم عند الله، وذكر ذلك جمع من المفسرين، واختيار صاحب التحرير، والتنوير أنه استثناء من عموم الأحوال المؤذن به "لاتبعتم" أي: في أحوال قليلة لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83] فهنا على هذا القول لا يكون الذين يخرجون من اتباع الشيطان هم قلة من الأفراد، لا، وإنما تتبعون الشيطان في عامة أحوالكم إلا في قليل منها، تسلمون من ذلك، ويَذكر أنه إن كان المراد من فضل الله، ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي، أو العادي، يعني أن يكون للإنسان عقل يردعه عن بعض الأمور، أو بقايا الفطرة، أو المروءات، أو نحو ذلك، وإن كان المراد بالفضل، والرحمة الإرشاد، والتوجيه من الله - تبارك، وتعالى - ورسوله ﷺ فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام، فيكون ذلك حاجزاً في بعض الأمور من اتباع الشيطان.
والمقصود أيها الأحبة: أن العبد بحاجة إلى أن يلجأ إلى ربه - تبارك، وتعالى - وأن يسأله ألطافه، وهداه، وإلا فإن النتيجة هي اتباع الشيطان.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا فلا يركن الإنسان لعلمه، ولا يركن لعقله، ولا يركن لقدراته المادية من ماله، أو قدراته العسكرية، ونحو ذلك، ولا لخططه، وإنما يركن إلى الله - تبارك، وتعالى - ويسأل ربه أن يهدي قلبه، وأن يسدد لسانه، وأن يوفقه، وأن يُلهمه رشده، وما إلى ذلك مما لا يستغني عنه العبد بحال من الأحوال.
كما تدل هذه الآية على أنه ليس أمامنا إلا اتباع الرشاد، والسنة، والهدى الذي جاء من الله - تبارك، وتعالى - أو اتباع الشيطان وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا فيحتاج العبد إلى أن يرجع إلى هدى الله الذي بعث به محمداً ﷺ ؛ ليسلم من اتباع الشيطان، ومن الهدى، ومن هذه الإرشادات ما جاء في هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وانظر إلى واقعنا اليوم، وقد أنزل الله علينا هذه الهدايات، والتوجيهات الربانية، وكأن الكثيرين منا لم يقرءوا هذه الآية، مع ما وجد من هذه الوسائل في إذاعة الأخبار، وإفشائها، فتحصل الإذاعة بكل مستطاع في أمور تضر في العقائد، والأخلاق، ويكون ذلك أحياناً سبباً لإفشاء الفاحشة في الذين آمنوا، ولو كان ذلك بدافع، وداعي الغيرة، الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] وقد ذكر جمع من أهل العلم أن التحدث عن الفواحش في المجالس، ومجامع الناس أن ذلك من إشاعة الفاحشة، قد يتحدث عن هذا الخطيب، وقد يتحدث عن هذا الواعظ، وقد يتحدث عن هذا الغيور في بعض المجالس على سبيل الحِسبة، والإنكار، والغيرة الدينية، ولكن هذا التفصيل الذي يُذكر مما يُحرك دواعي الفاحشة في النفوس، ويجعل القلوب فاقدة لتلك الشفافية تجاه المنكر حتى قال بعض أهل العلم: إن نسخ قول الله - تبارك، وتعالى - : (والشيخ، والشيخة) يعني الثيب، والثيبة، (إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله[1]) نُسخ لفظها، وبقي حكمها، قال بعض أهل العلم: إن الحكمة من نسخ اللفظ مع بقاء الحكم هو تنزيه الأسماع، باعتبار أن هذا الأمر الشنيع حينما يقع من أولئك الذين قد حصل لهم الإحصان، فيقع منهم الفاحشة، والزنا فهذا أمر بشع، لا تطيقه الأسماع، وما وراء الأسماع من القلوب، هذا بالإضافة إلى الأثر السلبي حينما تصل هذه الأخبار - أخبار الفواحش المفصلة - التي تطرق الأسماع، فيهون ذلك على السامعين فيكون ذلك سهل الوقع، ومن ثمّ يكون سهل الوقوع، بصرف النظر عن الحكمة التي ذكرها من ذكرها من أهل العلم في نسخ اللفظ لتلك الآية مع بقاء الحكم، ليس المقصود هو هذا، وإنما المقصود النظر إلى ما يذكره أهل العلم، أو بعض أهل العلم، وكيف يفكرون، وكيف يستنتجون مثل هذه الاستنتاجات، والعاقل يعتبر بما يرِد عليه، وما يجده من كلام أهل العلم.
- أخرجه ابن ماجه، أبواب الحدود، باب الرجم، برقم (2553)، والنسائي في السنن الكبرى (7107)، وأحمد في المسند، برقم (21207)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2913).
ثم أيضاً في غير هذا الباب إشاعة الفواحش أحياناً قد تهوّن الإلحاد في نفوس الكثيرين، قد يتكلم مغمور بكلام هو إلحاد، وكفر، واستهزاء بالله هذا يمكن أن يُحال إلى محاكمة، ونحو ذلك، ويُحاسب، ويعاقب على هذا الفعل، ولكن يُطيرها مطير بعد أن كانت في حساب لا يتابعه إلا بضعة أفراد، فصار ذلك يُبث في حسابات يُتابعها عشرات الملايين، وكل أحد ينشر، وينقل، ويبث، حتى يتحدث عن ذلك العجائز في البيوت، والأطفال، والصغار، ثم بعد ذلك يهون هذا الإلحاد، والكفر العظيم الشنيع، والاستهزاء بالله، وبرسوله، وآياته على النفوس، فيتتابع آخرون، ويتعاقبون على فعل ذلك، والتفوه به غير مبالين بهذه الأمة الغاضبة المضطربة من مغربها إلى مشرقها.
وكذلك أيضاً في غير هذا الباب في مثل هذه الأوقات التي تواجه فيها الأمة حرباً مع عدو متربص يريد الفتك بها، والنيل منها بكل مستطاع، وعبر التاريخ الطويل يتحالف مع أعداء الله من اليهود، والنصارى، وعبدة الأوثان، والمجوس، وغير هؤلاء من أجل النيل من هذه الأمة، عدو لا يفتأ، ولا يتوقف من أجل الوصول إلى بيضتها، وهدم ما يستطيع هدمه من مقدراتها، ومكتسباتها، ثم بعد ذلك نجد في مثل هذه الأوقات بث الأخبار التي لربما تثير الخوف في نفوس الناس، لربما تُبث الأخبار في تحركات الجيوش، أو المقاتلين، أو في إذاعة الخُطط العسكرية، وما إلى ذلك مما يستفيد منه العدو، والذي يبث هذا يبثه بشيء من التبسط، والسذاجة، وما يدري ما يبلغ ذلك البث، وما يحصل له من الآثار، والأضرار التي تحصل لهذه الأمة، كذلك أيضاً أحوال الأمن قد تحصل هناك أشياء مفرحة للمسلمين من أسلحة فتاكة، وقوى، وقُدر، وإمكانات، وما إلى ذلك، وهي أمور قد لا يحسن اطلاع العدو عليها، فيتكلم هذا على سبيل الفرح، والفخر، ويبث هذا الخبر فيتطاير ذلك الخبر، ويصل إلى مسامع الأعداء فيُعدون له عدتهم، قد يكون ذلك ببث أخبار يتلقفها بعضهم هنا، وهناك في أروقة المحاكم في قضايا أُوقعت على بعض من يستحق ذلك من المفسدين المغرضين، ثم بعد ذلك يُنشر هذا الخبر على أنه سبقٌ قد وصل إليه أو وقفَ عليه هذا المشتغلُ بنقل الأخبار، ثم بعد ذلك يتطاير هذا الخبر، ويصل إلى جهات، ومنظمات دولية، وعالمية، ثم تبدأ الوقيعة بأهل الإسلام، والإرجاف بهذه البلاد، وأهلها، وقضائها، وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك يتكالب الأعداء، ويقفون مع هذا المجرم، وهذا المفسد يدافعون عنه، ويطالبون بتركه، فيكون لهذا المفسد من الشأن، والقوة، والجُرأة، ثم بعد ذلك يبدأ يستخف بالقضاء، وأهله، ويستخف بالسلطة، ومن وراءها، ويستخف بالمجتمع، ويستخف بالدين، وكتاب الله وكل ذلك، يتكلم غير مراعٍ لشيء مما ينبغي مراعاته، ولا يقدس شيئاً من كتاب الله - تبارك، وتعالى - أو مقدسات المسلمين، ويتفوه، ويصرح هنا، وهناك غير مبالٍ بغضبهم، ولا بدينهم، ولا بتحرقهم، وما إلى هذا.
وقل مثل ذلك في بث الأخبار، ونشرها مما قد يقع من بعض أهل العلم من الزلات، فقد يُخطئ العالم، قد لا يوفق بعبارة قالها في لقاء مباشر، أو في غير ذلك مما يحصل لكل أحد، ومن الناس من قد يصلح في لقاءات، وبرامج غير مباشرة، ومن الناس من يصلح للقاءات المباشرة، ومن الناس من لا يصلح لهذا، ولا لهذا، فالمقصود أن كل أحد يُخطئ، لكن حينما يُقتص، ويقتطع هذا المقال، أو هذا المشهد، ثم بعد ذلك يُذاع، وقد يُذاع من قِبل الخيّرين، ما هو الهدف الذي يريد هؤلاء الوصول إليه من نشر هذه المقالة، أو هذا المشهد، أو هذا الخبر؟! النتيجة التي يصلون إليها في النهاية سواء كانوا يقصدون ذلك، أو لا يقصدونه هي إسقاط هذا الخيّر من الناس، أو العالم، أو الداعية إلى الله أو المصلح، قد لا يقصدون هذا، ولكنها المسارعة في بث الأخبار أَذَاعُوا بِهِ وهكذا أيضاً قد يوجد من التصرفات التي هي خطأ في نظرك، وقد يكون ذلك ليس كما تتصور لو أنك رجعت إليه، أو رجعت إلى غيره، وحاورت، واستوضحت الأمر منه، لكن الإنسان يُسارع في نشر مثل هذه الأمور، ثم يتبين له بعد ذلك، أو قد لا يتبين أن هذا غير صحيح، أخبار، صور، معلومات أن فلاناً قد حصل له كذا، وقع له كذا، أن العدو الفلاني أُصيب بكذا، ونحو ذلك، ثم تُبث الصور، ويُتبين أن هذه الصور مدبلجة، أن هذه الصور كانت قبل عشر سنوات في واقعة أخرى، وهكذا، ثم بعد ذلك نكون نحن نقلة هذه الأخبار المكذوبة التي لا حقيقة لها، تُنشر أخبار أحياناً عن جموع غفيرة قد اجتمعت لأمر من الأمور على أنها لأمر آخر، ثم يتبين في حقيقة الأمر أن ذلك لا علاقة له بما رُبط به من الخبر، بعض هؤلاء قد يكذبون، ويختلقون هذه الأخبار، ويربطون هذا بهذا تضليلاً للناس، أو أنهم يتضاحكون بهم، ويتلاعبون بهم، وقد يكون ذلك بغير قصد، ولكنها العجلة أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] من غير أن يردوه إلى أولي الأمر منهم، الذين يحسنون استنباطه، فكم يرد إلينا في اليوم، والليلة من أخبار الحرب، والسلم، الأمن، والرخاء، والنعم، وما إلى ذلك، الأخبار المبشرة التي تكون حقيقية، أو غير حقيقية مما يحسن نشره، أو لا يحسن نشره، كم من مشروعات لربما أُلغيت بسبب أنه كان يراد لها أن تمر بصمت، وأن ينتفع الناس بها من غير أن تصل إلى مسامع من لا يراد أن تصل إليهم من المتربصين، ثم بعد ذلك صُرف النظر عنها، وقد تُوءَد، وهي مجرد دراسة، أو كانت في مبدئها، ولكن وجد من أذاعها، ونشرها على أنها بشرى سارة ترقبوا سيكون كذا، وكذا، وكذا، ثم يكون بعد ذلك مُسيئاً إلى هذا المشروع، ومسيئاً إلى المجتمع، والأمة بأكملها بسبب التسرع هذا، انظروا عبر عشر سنوات كم من الأخبار التي قيلت عن حروب ستقع، وأنها وشيكة، ولم يكن شيء من ذلك! كم قيل من أخبار عن مخاوف وشيكة، وتبين أن الأمر ليس كما قيل، كم من الأخبار التي طرقت مسامعنا عن أمور حسنة، أو سارة عن بعض الناس، أو مشروعات نافعة، وتبين أنه لا حقيقة لها، إلى غير ذلك مما يُبث، ثم بعد ذلك يفقد الناس الثقة في كل شيء، ولا يبقى لهم كبير؛ لأنهم لا يفيقون بهذه الأخبار، حتى الصور التي تصل إليهم هذه الصور قد لا تكون حقيقية، وقد تكون لأمور أخرى رُبطت بهذا الخبر، والناس اليوم يركبون كل شيء، ويضعون الحسابات على أنها لفلان من الناس، ويَذكر خبراً من الأخبار، ويتبين أن هذا الحساب ليس له، وإنما تقمصه بعض الناس، وصار يكتب فيه أشياء يتقولها عليه، فالكذب صار سلعة رائجة، ومثل هذه الآية فيها العلاج، والدواء الناجع، والقرآن جعله الله هدى، وتبياناً لكل شيء إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] ومن هدايته للتي هي أقوم أنه يهدي للتي هي أقوم في باب الأخبار، ونشرها، وما ينبغي أن يوقف عنده.
فهلاّ راجعنا أنفسنا بعض المراجعة، وتأنينا فيما ننشر عن أمور السلم، والحرب، عن قضايا تتعلق بآخرين من الأفراد، والمؤسسات، ولربما الدول، أو الجيوش، أو الحروب، أو غير ذلك، لربما يتضرر آخرون في تجارتهم، فتكون كاسدة لخبر مكذوب عن هذه التجارة، أو عن هذه السلعة، أو عن صاحبها الذي افُتري عليه بسبب تسرع في خبر، أو لربما ظهر خبر من مغرض يريد الإساءة، والنيل منه، فخسر هذا المسكين الذين قد سخّر لربما ما يجمع في عمره من أجل إنجاح مشروع تجاري، أو نحو ذلك، فيُضرب هذا المشروع بخبر مكذوب، وهكذا يكون كل صاحب نفس ضعيفة، مريضة، قادراً على إيذاء الآخرين، وإيصال الضرر إليهم في أعراضهم، وأموالهم، ولربما أيضاً في دينهم، وما إلى ذلك، فينبغي التريث، والنظر في صحة الأخبار فإذا كانت صحيحة، وثابتة يُنظر فيما وراء ذلك، هل يحسن نشر هذا الخبر، أو لا يحسن نشره؟ ما المصلحة من نشر هذا الخبر؟ هذا مجرد خبر، ماذا وراء هذا الخبر؟ ماذا يستفيد الناس الذين يقرءون مثل هذه المعلومة التي نشرتها، سواء كانت قضية خاصة تختص بفلان من الناس، أو كانت قضايا عامة، وهذا هو الأخطر، ماذا يستفيدون؟ ماذا يحصّلون؟ ما الذي ينتفعون به حينما يسمعون، أو يصل إلى مسامعهم مثل هذا الخبر؟ ولكننا في أكثر الأحيان ننشر للنشر، فلو سألت هذا الإنسان ما هي العواقب التي تؤملها، وترجوها من نشرك هذا؟ فإنه قد يقف دون جواب.
فالتريث التريث، والنظر في الأمور قبل إذاعتها، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتحقق فلا ينشر، وإذا استطاع أن يتحقق لكنه لا يستطيع أن يُمحص هل المصلحة في نشر هذا، أو ليست فيه فإنه لا ينشر، الله لم يأمرك بهذا، يمكن الإنسان أن يُقبل على شأنه، ويشتغل بما ينفعه، ويرفعه عند الله - تبارك، وتعالى - ولم يُكلف، ولم يؤمر بنشر مثل هذه الأخبار، والله - تبارك، وتعالى - لن يسأله عن ذلك، وقد قال ربنا - تبارك، وتعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:6 - 7] فهذا التعجل، وهذا التسرع لا يحسن، ولا يجمل بحال من الأحوال.
فهذه الأخبار التي تكون عن مجاهيل في هذه الحسابات، أخبار أحياناً طبية، أخبار عن عقاقير، أخبار عن مصحات، أخبار من مطعومات، أخبار عن مشروبات، عن مصنوعات، إلى آخره، لربما ينقلها بسطاء، ولا يعرفون في الطب قليلاً، ولا كثيراً، أو لا يعرفون في أمور الحرب، والسلم قليلاً، ولا كثيراً، ولكنهم يسارعون فيما يسارعون فيه، والذمة لا تبرأ بذلك، والله سيحاسب الإنسان على عمله.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.