بسم الله الرحمن الرحيم
الأسماء الحسنى
السميع البصير
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً بالكلام على الأسماء التي تبعث على المراقبة، مما يرجع إلى علم الله -تبارك وتعالى- وإحاطته بخلقه، وبأحوالهم، وأعمالهم الظاهرة، والباطنة.
ونحن في أواخر هذا الحديث عن هذه الأسماء، وهي التي دائماً نقول ونعظ أنفسنا وإخواننا بأن يكثروا من النظر فيها، وأن الحاجة إلى ذلك ماسة، لا يستغني عنه أحد بحال من الأحوال.
يحتاج إليه الرجال، والنساء، الصغار، والكبار لاسيما في هذه الأوقات التي صارت الفتن تستعرض للناس داخل بيوتهم، وصارت قريبة المنال من طالبيها.
فنحتاج كثرة النظر في هذه المعاني، والترداد، والتأمل في هذه الأسماء الحسنى التي تتضمن هذه الأوصاف الكاملة لله --.
وهذا الذي يقال إنما يعظ به الإنسان نفسه، وهي مذاكرة في بيت من بيوت الله -تبارك وتعالى- مع هذه المعاني، والعلوم الشريفة التي هي أشرف العلوم.
حديثنا عن هذين الاسمين الكريمين (السميع، والبصير) ينتظم خمس قضايا:
أولا: نتحدث عن معناهما.
ثانياً: عن دلائل ذلك في الكتاب، والسنة.
ثالثاً: عن وجه الاقتران بينهما كثيراً في كتاب الله -تبارك وتعالى.
رابعاً: في ذكر ما يدل عليه هذان الاسمان الكريمان.
خامساً: في الكلام على أثر الإيمان بهذين الاسمين على المؤمن.
أولاً: معنى هذين الاسمين:
أما معناهما في لغة العرب: فالسميع من أبنية المبالغة يعني: عظيم السمع، وفرق بين قولك: سامع، وسميع، فالسميع أبلغ، عظيم السمع، كثير السمع.
والسمع صفة معروفة تعني: إدراك المسموعات، وتأتي بمعنى آخر يأتي الكلام عليه -إن شاء الله-، وهو الإجابة، كما تقول لغيرك: سمعاً وطاعة، واسمعوا، فهذا بمعنى: الإجابة.
أفعال السمع الواردة يراد بها أربعة معانٍ:
الأول: سمع إدراك، ومتعلقه الأصوات، يسمع المسموعات، يسمع الأصوات.
الثاني: سمع فهمٍ، وهذا متعلق بالمعاني.
والثالث: هو سمع الإجابة، وإعطاء من سأل.
والرابع: في كلام العرب يأتي هذا الفعل سمع بمعنى: القبول، والانقياد، بصرف النظر عن إضافته إلى الله -تبارك وتعالى-([1]).
فمن الأول: في كتاب الله -تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَاالمجادلة:1، لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ آل عمران:181؛ يعني: سمع قولهم.
ومن الثاني: وهو ما يتصل بالفهم: لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُواالبقرة:104، على تفسيره بهذا المعنى، ويمكن أن يفسر بمعنى: الإجابة.
ومن الثالث: قول المصلي: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب.
ومن الرابع: الذي هو القبول: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِالمائدة:41-42، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ التوبة:47، على أحد الأقوال في تفسير الآية، يعني: يقبلون قولهم، ويصدقون كلامهم، سَمَّاعُونَ لَهُمْ التوبة:47.
والمعنى الآخر -كما هو معلوم-: سَمَّاعُونَ لَهُمْالتوبة:47: يسمعون، وينقلون إليهم، يستمعون ما قيل فيهم، وما دار حولهم، ثم ينقلون ذلك إليهم، إلى غير ذلك مما قيل في الآية.
أما البصير: فإن ذلك من أبنية المبالغة، يعني: عظيم البصر، كثير الإبصار، نافذ البصر --.
ويأتي البصير بمعنى: العليم بالشيء، تقول: فلان بصير بكذا أي: عليم به، أما ما يتصل بهذه الأسماء حينما تضاف إلى الله - وتقدست أسماؤه- فإن السميع: هو الذي يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تُغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([2]).
فهو الذي يرى دبيب النملة السوداء، علي الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، حيث كانت في سهل، أو في جبل، ويرى دقائق الأشياء، فهو يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، وأعضائها، ومخها، وعروقها، ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع.
وهو السميعُ يسمع ويرى كلَّ ما *** في الكون من سرٍّ ومن إعلانِ
ولكل صوتٍ منه سمعٌ حاضر *** فالسرُّ والإعلان مستويانِ
والسمعُ منه واسعُ الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والدانِ([3])
هذا من كلام ابن القيم -رحمه الله-، من أبياته في النونية، ويقول:
والحمدُ لله السميع لسائر الـ. .. أصوات من سرٍّ ومن إعلانِ([4])
فالسميع هو الذي قد استوى في سمعه السر والجهر، السر والعلانية عنده سواء، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه الأصوات مهما تشابهت، ومهما كثرت، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تُغلطه المسائل.
فالسميع هو الذي قد استوى في سمعه السر والجهر، السر والعلانية عنده سواء، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه الأصوات مهما تشابهت، ومهما كثرت، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تُغلطه المسائل.
فالإنسان حينما يسمع لواحد فإن ذلك يشغله عن الآخر، أما الله -تبارك وتعالى- فهو يسمع جميع الخلائق في كلامهم، ويسمع أنفاسهم، ويسمع نبض قلوبهم، ويسمع دعاءهم على اختلاف اللغات، وتداخل الأصوات، سواء في ذلك ما إذا أسروا بهذا الدعاء، أو أعلنوه.
فالسر عنده علانية، والبعيد عنده قريب، وهذا السمع المضاف إلى الله -تبارك وتعالى- على نوعين: الأول: هو سمعه -تبارك وتعالى- لجميع الأصوات الظاهرة، والباطنة، الخفية، والجلية، وإحاطته -تبارك وتعالى- بها، لا تخفى عليه منها خافية.
الثاني: هو سمع الإجابة للسائلين، والداعين، والعابدين، فيجيبهم، ويثيبهم، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم:39.
فهذا بمعنى الإجابة، وأيضاً يدخل فيه السمع الذي هو إدراك الأصوات، فهو يسمع دعاء الداعين، يسمع أصواتهم، وأقوالهم، كما أنه يجيبهم -تبارك وتعالى- على سؤلهم، ودعائهم، وحاجاتهم.
كما أنه -تبارك وتعالى- يجيب، ويثيب الذاكرين، والعابدين بألوان التعبدات القولية، فذلك من إجابته -تبارك وتعالى-، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ البقرة:186.
فهذا يشمل دعاء المسألة، ويشمل دعاء العبادة؛ ولهذا قال: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَالبقرة:186.
فالله -تبارك وتعالى- يجيب من سأل، وطلب، كما أنه يجيب من عبد، فيعطي هؤلاء، ويثيب هؤلاء.
أما قول إبراهيم ﷺ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ إبراهيم:39؛ فهذا من السمع الخاص؛ لأن سمعه -تبارك وتعالى- منه ما هو خاص، ومنه ما هو عام، فهذا سمع الإجابة، والقبول، وليس بالسمع العام كما يقول الحافظ ابن القيم([5]).
فالله سميع لكل مسموع، وهنا يسمع سماعاً خاصاً للداعين، فيجيبهم، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، ومن ثَمّ جاء مقيداً في هذا الموضع.
فالله -تبارك وتعالى- له سمع يليق بجلاله، وعظمته، سمع حقيقي يليق بذاته، وكماله، لا يشبه سمع المخلوقين، وهذا السمع كما أخبر الله -تبارك وتعالى- نثبته بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل.
وكذلك فإن البصير: هو الذي يرى المبصرات، لا تخفى عليه منها خافية، يرى الدقيق، والجليل، تستوي عنده رؤية هذه الأشياء المبصرة في الليل والنهار، في الظلام والضياء.
وهو البصيرُ يرى دبيب النملة السـ *** ــوداء تحت الصخر والصوانِ
ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نياط عروقها بعيانِ
ويرى خياناتِ العيون بلحظها *** ويرى كذاك تقلب الأجفانِ([6])
ويقول:
وكذا بصيرٌ وهو ذو بصر ويبصـ *** ـــر كل مرئي وذي الأكوانِ([7])
- وتقدست أسماؤه-.
فالله -تبارك وتعالى- هو البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض، والسموات، حتى أخفى ما يكون فيها فإن الله يراه، ويبصره، لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى جميع أعضائها الباطنة، والظاهرة، ويرى سريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار، وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها، وصغرها، ودقتها، ويرى نياط عروق النملة، والنحلة، والبعوضة، وما هو أصغر من ذلك.
فهذا كله من عظيم بصره -تبارك وتعالى-، كما أنه يرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات القلوب، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالشعراء:218-2220، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُغافر:19، والله على كل شيء شهيد.
وبناءً على ذلك فإن البصير له معنيان:
الأول: هو أن لله -تبارك وتعالى- بصراً يليق بعظمته، يحيط بأقطار السموات، والأرض، فيرى جميع الخلائق.
الثاني: أنه ذو بصيرة بالأشياء، عالم بها، خبير بأمرها، لا تخفى عليه منها خافية.
فالبصير بالشيء يعني: العالم به، الذي لا يخفى عليه منه قليل، ولا كثير، فاجتمع المعنيان في البصير، كما اجتمع المعنيان الأولان في السميع، فصار للسميع معنيان، وصار للبصير معنيان.
يا من يرى مدَّ البعوض جناحَها *** في ظلمة الليل البهيم الأليلِ([8])
ثانياً: دلائل هذين الاسمين في الكتاب والسنة:
أما السميع: فقد ورد كثيراً في كتاب الله -تبارك وتعالى-، جاء أكثر من أربعين مرة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الشورى:11، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌالمجادلة:1، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، فهذا في السميع، وذلك في كتاب الله -تبارك وتعالى- كثير.
وأما البصير: فقد ورد -أيضاً- في كتاب الله -تبارك وتعالى- أكثر من أربعين مرة، قال -تعالى-: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البقرة:233، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِآل عمران:15-20، إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌالشورى:27.
ثالثاً: اقتران هذين الاسمين ببعض الأسماء الحسنى:
أما اسم (السميع) فهو كثيراً ما يرد مقترناً مع اسم الله العليم، ويمكن أن يقال في وجه هذا الاقتران -والله تعالى أعلم-: إن الله -تبارك وتعالى- يسمع جميع الأصوات على اختلافها، وتنوعها، وهناك ما لا صوت له، فالله -تبارك وتعالى- يعلمه، ويعلم حاله، ويعلم أحوال هؤلاء الذين تصدر منهم هذه الأصوات المسموعة، وهذا كثير في كتاب الله -تبارك وتعالى.
فجاء الاقتران بين السميع، والعليم في أكثر من ثلاثين مرة في القرآن، قال -تعالى-: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ البقرة:127، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة:227، وفي كل موضع لربما يكون له تفسير يخصه، يعني في مثل هذا المقام.
الطلاق له لفظ يعبر به، وله معنى يقصد، فالله -تبارك وتعالى- سميع لما يقوله هؤلاء الذين عزموا على الطلاق، وهو عليم بمقاصدهم، ونياتهم؛ ولذلك الطلاق منه ما يكون صريحاً، ومنه ما يكون من قبيل الكناية، والكناية يسأل قائلها ماذا أردت؟
فالله قد سمع قوله، وهو عالم بمقاصده، فلا يستطيع الإنسان أن يقول شيئاً هو خلاف ما وقع في قلبه، فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئاً، وإذا عرف العبد مثل هذا المعنى فإنه يكون عليه رقيب من نفسه على نفسه، فلا يستطيع أن يتحيل على القاضي، أو على المفتي؛ ليحصِّل فتوى، أو حكماً يتفق مع ما يهواه.
أما اقتران (السميع) بـ(البصير) فقد جاء ذلك في كتاب الله -تبارك وتعالى- في أكثر من عشرة مواضع، كقوله -تبارك وتعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الشورى:11، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ المجادلة:1.
فهذان الوصفان السمع، والبصر يدلان على الإحاطة، فلا يخرج شيء من كونه من جملة المسموعات، أو المبصرات، فالله -تبارك وتعالى- يسمع جميع الأصوات، ويرى جميع الأشياء، الخفيات، والجليات فهذا كله يدل على الإحاطة.
وكما عرفنا أن كل اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- له معنى، أو معانٍ، فاذا اقترن مع غيره فإن ذلك يعطي وصفاً ثالثاً يؤخذ من هذا الاقتران.
ومن ثَمّ فإن الله -تبارك وتعالى- قد أحاط بالخلق من كل وجه، يسمع كلامهم، ويرى شخوصهم، وأعيانهم، لا تخفى عليه منهم خافية، فهم تحت سمعه، وبصره، إذا تكلموا سمعهم، وإذا تحركوا فهو يشاهدهم.
وهنا -أيضاً- مسألة، وهي أنه في جميع المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- إذا جاء السميع مع البصير فإن السميع يكون مقدماً عليه، سواء ذلك فيما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى-، أو فيما يضاف إلى غيره، في كل المواضع، سواء كان ذلك بصيغة المصدر، أو الفعل، أو الاسم، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَالإسراء:36، فقدم السمع على البصر، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىطه:46، فهذا بصيغة الفعل.
وكذلك أيضاً سَمِيعٌ بَصِيرٌالحج:61، 75، ولقمان:28، والمجادلة:1، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الإسراء:1، وغافر:56.
فهذا يؤخذ منه بالنسبة للأوصاف من حيث هي، يعني: صفة السمع، والبصر -بصرف النظر عن إضافة ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، أيهما أكمل، وأشرف، وأشمل السمع، أو البصر؟
العلماء -رحمهم الله- تكلموا على هذا.
والراجح وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم: أن السمع أشرف، ومما يستدل به القائلون بذلك: أنه لا يذكر السمع في كتاب الله -تبارك وتعالى- مع البصر إلا ويقدم السمع عليه.
ولا يخفى أن البصر بالنسبة للمخلوقين: إنما يكون للمتشخصات، الأشياء المعاينة.
أما السمع: فيسمع الإنسان صوت الهواء، ويسمع أصوات الأشياء البعيدة التي لا يراها، ويسمع صوت الزلزلة، ويسمع أصوات الناس، إلى غير ذلك، فهذا أشمل، كما أنه يسمع من جميع الجهات.
أما البصر: فإن الإنسان، أو المخلوق لا يرى إلا ما يتشخص أمام ناظره، ولا يرى ما سوى ذلك، كما أن مدى البصر أضيق من مدى السمع -كما هو معلوم-، هذا بالنسبة للمخلوقين.
أما الله -تبارك وتعالى- فصفاته كاملة، وبصره محيط من كل وجه، كما أن سمعه محيط من كل وجه، لكن ينظر في السياق في كل موضع مما يضاف إلى الله - وتقدست أسماؤه.
فأحياناً يكون ذلك في مقام الوعيد، والتهديد، قال تعالى-: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة:209، هذه الآية في سياق الوعيد، وإن لم يكن ذلك في السميع، البصير، لكن هذا من باب الإيضاح، والبيان، فالله –تعالى- يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًاالنساء:134.
فيكون في مثل هذه المقامات، أو في بعض هذه المقامات كأن الله يقول: هؤلاء بحسب ما يردُّون عليك، فإني أسمع ما يقولون، وما يقابلون به رسلي من المقال، والكلام، والجواب، والرد، كما أني أبصر ما يفعلون.
ثم -أيضاً- هؤلاء الذين يخاطبون بالرسالة إنما يقولون كلاماً يجيبون به مَن خاطبهم، وأُرسل اليهم، ثم -أيضاً- يقابلون ذلك بالفعل.
فاذا قالوا: صدقت، فإن ذلك يستتبع الفعل، وانقياد القلب، وانقياد الجوارح، وإذا قالوا: كذبت، فهذا مقال يتبعه فعل القلب، وفعل الجوارح.
فقدم ما يتعلق بالسمع، (السميع)؛ لأنهم يجيبون بالقول أولاً، ثم بعد ذلك يتبعونه بالفعل غالباً.
ولهذا قال الله لموسى، وهارون -عليهما الصلاة والسلام-، -حينما أرسلهما إلى فرعون-: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، أسمع ما يجيبون به، وما يتفوهون، وأرى ما يصدر منهم من الأفعال.
ثم -أيضاً- الأفهام الفاسدة إنما يكون إنكارها أشد، يعني: إنكارها لسماع جميع الأصوات مع البعد أشد من الإنكار للرؤية عن بعد.
ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود ، قال: "اجتمع عند البيت قرشيان، وثقفي -أو ثقفيان وقرشي- كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟
قال الآخر: يسمع إنْ جهرنا، ولا يسمع إنْ أخفينا -لاحظ السماع عن بعد، ما قالوا: هل يرانا؟ إنما قالوا: هل يسمعنا؟-.
وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا"([9]).
ومن هنا قال بعض أهل العلم: إنه قدم السمع على البصر؛ لأن الإنكار فيه من ذوي الأفهام الفاسدة يكون أكثر.
ويمكن أن يقال: إن أعظم الجوارح فتكاً، وأثراً -وهي أكثر ما يصدر عنه ما يتصل بالحساب، والجزاء- هو اللسان، قال -عليه الصلاة والسلام-: (وهل يكب الناس على مناخرهم، أو على وجوههم في النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم؟!)([10])، فقدم السمع على البصر ربما يكون في بعض المواضع لذلك، والله تعالى أعلم.
هذه أجوبة ذكرها بعض أهل العلم.
بعد ذلك ما وجه الاقتران بين السميع، والقريب كما في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌسبأ: 50، سميع، قريب، فالله -تبارك وتعالى- يسمع ما يصدر عن العباد، وهو قريب منهم، فإن دعوه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ البقرة: 186 فهو قريب من الداعين، وهذا هو القرب الخاص، يجيب دعاءهم.
وكذلك حينما يتفوه الإنسان بما لا يرضي الله -تبارك وتعالى- فإن الله قادر على أخذه، لا يحتاج إلى وقت، وزمان حتى يُوصَل إليه، وإنما يأخذه الله -تبارك وتعالى- في أقل من طرفة عين، وهو قادر على أن يهتكه، وأن يفضحه، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَاسْتَغْفِرُوهُ، ثم تُوبُوا إليه إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌهود:61.
فجمع بين القرب، والإجابة، فإذا رجع العبد إلى ربه، وتاب، وأناب، واستغفر وجد الله قريباً منه، والله -تبارك وتعالى- كما هو معلوم- مع قربه إلا أنه عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه.
بعد ذلك يأتي الكلام على البصير من ناحية اقترانه ببعض الأسماء الحسنى.
أما اقترانه بالسميع فقد مضى الكلام عليه، كما أنه يأتي مقترناً بالخبير، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- بصير، بصره نافذ في الخلق، لا تخفى عليه منهم خافية، وهو عالم بمخبآتهم، وخفاياهم، وما لا يظهر من أحوالهم؛ لأن الخبير يعني: أنه الذي يعلم بواطن الأشياء، فالله يرى جميع المبصرات، كما أنه يعلم الخفايا، والخبايا، والبواطن.
فإذا كان الله -تبارك وتعالى- يبصر العباد، لا يخفى عليه من أمرهم قليل، ولا كثير، وهو أيضاً - وتقدست أسماؤه- يعلم بواطنهم، وخفاياهم، فإلى أين المفر؟.
الفرار إلى الله -تبارك وتعالى- بمراقبته، كما سيأتي في الكلام على الآثار.
وهذه الأسماء تدل على إحاطة علم الرب -- بأحوال الخلق، ما يُرى، وما يُسمع، وما يصدر عنهم من الأفعال، والمزاولات، كل ذلك قد أحاط الله -تبارك وتعالى- به، وهذا فيه تنبيه لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌق:37، بأن يراقب ربه، وأن يكون عليه حسيب من نفسه.
رابعاً: ما يدل عليه هذان الاسمان الكريمان:
السميع يدل بدلالة المطابقة على صفة السمع، وكذلك البصير يدل على ذات الله -تبارك وتعالى-، وعلى صفة البصر.
وبدلالة التضمن: تكون الدلالة متوجهة إلى أحدهما، يعني: الذات، أو الصفة.
وأما بدلالة الالتزام: فإن ذلك ولابد حينما يكون سميعاً بصيراً يدل على الحياة، وكذلك العلم، والإحاطة، وما إلى ذلك من أوصاف الكمال.
ودلالة اللزوم تقدم الكلام عليها، لكن الناس يتفاوتون فيها، وفي معرفة ما ينطوي تحتها في كل اسم بحسب ما يكون عندهم من العلم، والمعرفة في هذا الباب، يعني: من جهة اللزوم الذي يكون من إثبات هذه الصفة، أو تلك، وقد تكلم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- على هذا المعنى بكلام يحسن مراجعته([11]).
وصفة السمع لله -تبارك وتعالى- جاءت بصيغ متعددة، قال تعالى-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَالمجادلة:1، بصيغة الفعل، وهذا يثبت الصفة، بل هو من أصرح ما يثبتها، جاء بصيغة الماضي، قَدْ سَمِعَ اللَّهُالمجادلة:1، والمضارع، واسم الفاعل، يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَاالمجادلة:1، وهو -تبارك وتعالى- أيضاً سميع، بصير، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌالمجادلة:1، هذا كله في آية واحدة.
خامساً: أثر الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
فأول ذلك: أن ندعو الله -تبارك وتعالى- بهذه الأسماء، والدعاء على نوعين:
دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة: فيكون الإنسان مضمناً لدعائه ذكر هذه الأسماء الحسنى في كل موضع، بحسب ما يناسبه، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالبقرة:127، فهو سميع لأقوالهم، ولدعائهم.
وهو -أيضاً- يجيب دعاء الداعين، وهو عليم بأحوالهم، ومقاصدهم، ونياتهم، وأعمالهم، والجهود التي بذلوها، والأعمال التي زاولوها.
وهكذا في قيل امرأة عمران: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ آل عمران:35.
وهكذا في دعاء زكريا ﷺ: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ آل عمران:38.
إذن هذا دعاء المسألة، تقول: رب إنك تسمع مقالي، وتبصر حالي فارفع ما بي من ضر، واغنني من الفقر، اغفر ذنبي، ارحمني، تقبل توبتي, إلى غير ذلك مما يدعو العبد به ربه.
أما دعاء العبادة فيندرج تحت ذلك أمور متعددة:
فأولها: أن يثبت العبد هذه الأسماء لله -تبارك وتعالى- وما تضمنته من الأوصاف، نثبت لله سمعاً، وبصراً يليقان بجلاله، وعظمته، وهذه من أوصاف الكمال، ولابد، كما قال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ الأنعام:50، مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَهود:24.
وقال إبراهيم ﷺ منكراً على قومه حيث عبدوا الأصنام التي لا تسمع، ولا تبصر، يقول لأبيه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئاً مريم:42.
وكذلك وبخ المشركين حينما عبدوا الأصنام، فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا الأعراف:195.
فنحن نثبت هذه الأسماء، وما تضمنته من هذه الأوصاف الكاملة لله -تبارك وتعالى-.
ثانياً: أن ذلك يبعث على المراقبة لله - وتقدست أسماؤه- حيث يستوي عنده السر، والعلانية، ومن يختفي ويتوارى من أعين الناس، ومن يفعل ذلك بجلاء، ويجاهر بذنبه، ومعصيته، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ الرعد:10، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المجادلة: 7.
وكان الإمام أحمد -رحمه الله- كثيراً ما يردد:
إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعةً *** ولا أنّ ما يخفى عليه يغيبُ ([12])
ومن ثَمّ فإن الإنسان إذا أراد أن يتكلم فإنه يستشعر أن هذا الكلام يسمعه ربه -تبارك وتعالى- وأن الملك يكتبه.
وإذا أراد الإنسان أن يكتب شيئاً فإنه يستشعر أن ذلك يقع في صحيفة الملك قبل أن يقع في هذا الكتاب، أو هذا الورق، أو هذه الوسائط التي نتعامل، ونتواصل بها، فينبغي علينا أن نزن الحرف، لا تكتب إلا ما تحاسب عليه نفسك تماماً، هل هذا صدق، أو كذب؟
هل هذا يراد به وجه الله -تبارك وتعالى-، أو يراد به الرياء، والسمعة؟
هل هذا الكلام فيه مصلحة، أو ليس فيه مصلحة؟
هل ينشأ عنه ضرر، أو لا ينشأ عنه ضرر؟
هل هذا الكلام مما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويثيب عليه، أو أن هذا الكلام مما يسخطه؟
هذه أمور يحتاج العبد أن يقف عندها.
إذا أراد أن ينظر، إذا أراد أن يفعل فعلا، إذا أراد أن يتعبد، إذا أراد أن يصفّ قدميه ليصلي فإنه يتذكر أن الله -تبارك وتعالى- يراه، وهذا يورث أموراً كثيرة مما يتصل بالنشاط للعبادة، وكذلك -كما سيأتي- الإخلاص لله رب العالمين.
هذا عبد الله بن أحمد بن داسة البصري، يقول: إنه جاء رجل من الجند، فأخذ امرأة بالقوة، وجعل يجذبها، ويجرها مع جنوده، وأعوانه، فقام الجيران ليخلصوها، فقام هؤلاء الجند، فضربوهم، وحالوا بينهم وبين هذه المرأة، فأدخلها في بيته، فدافعته، فتمكن منها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة، وغلق الأبواب، قالت: يا هذا بقي باب واحد لم يغلق، فأغلقه.
قال: أي باب؟
قالت: الذي بينك وبين الله، -غلق الأبواب التي بينه وبين المخلوقين-، فهذا الرجل هزته هذه الكلمة، فكانت موعظة بليغة، فقال لها: اخرجي قد فرج الله عنك، ولم يتعرض لها.
هذه يحتاج العبد أن يتذكرها حينما يغلق الأبواب، ويخلو بمعصية الله -تبارك وتعالى.
تعجبني كلمة أرسلها أحد الإخوان الظرفاء قبل أيام، أن رجلاً من كبار السن الذين لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة، يقول: إنه سئل عن التقوى، والصحيح أن هذا أعلق بالمراقبة، سئل عن التقوى، ولنقل: سئل عن المراقبة، فقال: "التقوى ويش حالك -بلغته العامية- إذا كنت لحالك؟".
كلمه معبرة، يعني: ما حالك إذا كنت وحدك؟
هذه هي التقوى، ويش حالك إذا كنت لحالك؟
إذا انفردت، إذا خلوت ما حالك؟، تقوم، وتتوضأ، وتصلي، وتعبد، وتذكر إلى آخره، تنشط للعبادة؟
هل تتفرغ للمعاصي؟
هل هذه فرصة لمزاولة ما لا يليق مما يسخطه الله -تبارك وتعالى- مما يكون من الآثام؟
هذه كلمة من رجل لم يتعلم، ولا درس في الجامعات، ولا سمع كثيراً من الدروس، والمحاضرات، لكنها كلمة بليغة، ومعبرة.
الثالث من هذه الآثار: أن يلجأ العبد إلى ربه، وفاطره في حاجاتها كلها، أن يضرع إلى الله -تبارك وتعالى-، أن يتوجه بكليته، بقلبه، وجوارحه، ولسانه إلى فاطره، ومعبوده.
فالله -تبارك وتعالى- يراه، ويسمع كلامه، فإذا كان للعبد حاجة فإنه لا يتوجه إلى المخلوقين، وينتظر عائدتهم، وإحسانهم، وإنما يتوجه إلى الخالق الذي بيده أزمّة الأمور.
ولهذا كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتوجهون إلى الله -تبارك وتعالى- بدعائهم، وسؤالهم، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِيالبقرة:186.
وهذا إبراهيم ﷺ مع إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالبقرة:127، هذا في فعل طاعة من أجلّ الطاعات، وقربة من أفضل القربات، بناء البيت، ويقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ البقرة:127.
ويقول إبراهيم ﷺ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِإبراهيم:39.
فالله لا يخيب من رجاه، إذا كان الإنسان يريد الولد، لم يرزق بأولاد فليتوجه إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي يملك ذلك.
إذا كان العبد بحاجة إلى المال، أصابه الفقر فيتوجه إلى الله؛ لأن الله سميع الدعاء.
إذا كان أصابه الضر، والمرض فإن الشفاء لا يملكه الأطباء، وإنما يملكه الله -تبارك وتعالى-، فليتوجه إليه ضارعاً يسأله، والله لا يخيب من رجاه.
وانظروا أدب زكريا ﷺ حينما قال مقدماً بين يدي دعائه: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا مريم:4.
يقول-على أحد المعنيين-: يا رب عودتني الإجابة، لم أشقَ بدعائك في سالف الأيام، وما مضى من الدهور، والأعوام، ما سألتك إلا وأعطيتني، فلم أكن شقيًّا حينما كنت أتوجه إليك، وأضرع إليك، وأسألك، فهكذا ينبغي أن يكون العبد متوجهاً إلى الله، مع إحسان الظن به، لطالما دعوناه فأعطانا، وأجابنا، ولكن العبد سرعان ما ينسى: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إليه مِنْ قَبْلُالزمر:8.
وهكذا امرأة عمران، قالت: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران:35]، لما نذرت ما في بطنها، {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
وزكريا لما دعا ربه بالذرية، قال: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ آل عمران:38.
وهكذا يوسف ﷺ دعا ربه أن يخلصه من كيد النسوة فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يوسف:34.
لذلك الإنسان لا يعتمد على قدراته، وإمكانياته، ويقول: أنا تربيتي تربية ذات أسس صحيحة، ودعائم قويمة، أنا لا أخشى على نفسي، لا، يبتعد عن مواطن الفتن، ويسأل ربه أن يصرف عنه الشرور، والآثام، والفتن ما ظهر منها وما بطن.
وهكذا حينما يتوجه الإنسان في عمل صالح قد عمله، ويقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالبقرة:127 ينبغي أن يعرف، وأن يدرك ما تحت هذه الكلمات التي يدعو بها، السميع تسمع دعائي، العليم بما قام في قلبي، فإذا كان في قلبه غير الإخلاص فكيف يقول: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالبقرة:127، وآل عمران:35، إذا كان هذا العمل لم يرد به وجه الله -تبارك وتعالى- هل يستطيع العبد أن يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ البقرة:127؟
فهذا كله يحمله على الإخلاص لله -تبارك وتعالى-، كما سيأتي.
وهكذا حينما تتسلط عليه الشياطين بالوساوس، والخواطر السيئة؛ لأن الشيطان عدو كما قال الله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا فاطر:6، وكما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-([13])، يعني: أن تتعامل معه تعاملك مع عدوك اللدود الذي يكيد لك بكل طريق مستطاع، فإذا كان الأمر كذلك فكما سبق أن الإنسان إذا فتح نافذة -ولو صغيرة- للشيطان، لعدوه إبليس، تسلط عليه بألوان الخواطر، والوساوس، فيلقي في قلبه كثيراً من الأوهام.
قد يكون أصل المشكلة صغيراً، أو محدوداً، ولكنه يلقي في قلبه من الأوهام أمثال الجبال، حتى يتكدر عيشه، وتتنغص حياته، فمن الذي يصرف عنه هذه الأمور التي تتعاظم في قلبه حتى إنه لربما يتمنى الموت على الحياة؟
وليس الخَلِيُّ كالشجيِّ، الذين جربوا -نسأل الله العافية للجميع- عرفوا حقيقة ما أقول، يتكدر على الإنسان كل شيء فلا يلتفت للمراكب الجيدة، والمساكن الفارهة، والأثاث الوثير، والأموال، وما إلى ذلك، يزهد بهذا جميعاً، فلا يجد للطعام طعماً، ولا للنوم معنى.
فأقول: يحتاج العبد أن يلجأ إلى الله، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌالأعراف:200.
لاحظ في شياطين الجن: سميع عليم؛ وذلك أن هذا العدو من شياطين الجن لا نراه، فنستعيذ بالسميع العليم الذي يعلم كيده، وشره.
فالله يسمع الاستعاذة، وهو عليم بحال هذا المستعيذ، وما يلاقيه، ويعانيه، وهو عليم بحال عدوه الذي يكيد له، إذا علم العبد أن ربه سميع عليم فإنه يقوى قلبه على مدافعة هذه الخواطر، والوساوس، وما يلقيه الشيطان في قلب العبد.
فالمقصود أن وساوس الشيطان هي من قبيل الخواطر التي يلقيها في القلب، وهذا شيء لا يُرى، وهؤلاء الشياطين لا نراهم، وإنما نعلم بوجودهم، ويعلم الإنسان ذلك من نفسه حينما تقع هذه الوساوس في قلبه؛ ولذلك جاءت الاستعاذة من شياطين الجن مختومة بهذين الاسمين: (السميع)، و(العليم) كما في سورة الأعراف، وفي سورة فصلت.
أما ما يتعلق بكيد الإنس، وأذاهم كما في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ غافر:56، هؤلاء من الإنس، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ غافر:56.
فهؤلاء نشاهدهم، ونراهم، ويخالطوننا، فجاء ذكر البصير فيما يتصل بالإنس، وفيما يتعلق بالجن أصحاب الخطرات، والوساوس (السميع العليم)، هذه فائدة ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([14]).
الرابع من هذه الآثار: أن العبد إذا أيقن أن ربه سميع بصير، هان عليه ما يلقى من المشاق، والآلام، والتعب في العبادة، وهان عليه ما يلقى من الأذى من الناس.
هذا الذي يستشعر أنه تحت سمع الله، وبصره حينما يمشي في طاعة الله -تبارك وتعالى- حينما يتعب، ويكدح، وينهك سواء كان في مزاولات في الحج، أو كان ذلك في غيره، كالجهاد، ما يصيبه من الأذى، والجراح، الجوع، العطش، حينما يصوم فيجوع، ويعطش في أيام الصيف الطويلة، الحارة.
حينما يستشعر أن الله سميع، وأنه بصير يراه، ويسمع كلامه، وما يقول، وما يصدر عنه فإنه ينسى هذا التعب، ولا يتعاظم ذلك في نفسه، ولا يتغير، بل تتغير أخلاقه حينما يقوم بمثل هذه الأعمال الشاقة، من الناس من إذا صام تغيرت حاله، وأخلاقه، وإذا حج تغيرت أخلاقه، وهكذا في الأمور التي لربما يلحقه بها كثير من المشقات.
فإذا عرف العبد أن ربه يراه، ويسمع كلامه، إذا كان المخلوق حينما يستشعر أن رئيسه يراه وهو يقوم بهذه الأعمال ينشط، ولربما لا يشعر بالتعب، أو يتلذذ بالتعب.
فالله -تبارك وتعالى- هو العظيم الأعظم، فهذا ينسينا التعب.
حينما يقوم الإنسان من الليل يغالب النوم، ويتوضأ، ويصلي، هو يستشعر أن الله يراه، ويسمع ذكره، وقراءته، فهذا ينسيه لذة النوم، ويهون عليه ما يلقاه من المكابدة، والمصابرة في مزاولة هذه الأعمال، وهكذا حينما يلقى الإنسان الأذى من المخلوقين فإنه يتذكر أن الله يسمع، ويرى.
الله يقول لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىطه:46.
فإذا استشعر العبد مثل هذا رفع رأسه عالياً؛ لأن الله يسمع، ويرى، يسمع ما تقولون، ويرى ما تفعلون، ويسمع ما يجيبكم به، وما يصدر عنهم من الأفعال، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ الزخرف:80.
إذا كان الإنسان يؤمن بهذا حقيقة فلا يمكن أن يصدر منه شيء من الأذى لإخوانه المسلمين، أو الكيد لأهل الإيمان، أو لهذا الدين، ولكن ذلك يكون حينما تضعف هذه المعاني التي هي من جملة الإيمان، فإن الإيمان -كما هو معلوم- يشمل ذلك جميعاً، وهذا من أعظم ما يقويه، ويثبته في القلوب.
وهكذا لما عرض النبي ﷺ نفسه على القبائل، يدعوهم إلى الإسلام جاء في الحديث: (إن الله قد سمع قول قومك لك)([15]).
فيبقى الإنسان غير هيّاب، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينصح لمن أساء، وقصر؛ لأن الله يسمع، ويرى، ولا يتعاظم في نفسه كيد الأعداء مهما بلغ؛ لأن الله يسمع، ويرى، وهو بما يعملون محيط، ومن ثَمّ فإنه لا يقترح على الله، ويتقدم بين يديه، فالله يسمع كلامهم، ويطلع من أحوالهم على ما لم نطلع على عشر معشاره، ومع ذلك يمهلهم، ويؤخرهم لحكمة يعلمها، ثم بعد ذلك إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍالقمر:42، فهو يمهل -تبارك وتعالى- ولا يهمل.
الخامس من هذه الآثار: أنالعبد إذا استشعر أن الله يسمع، ويرى فإنه يكون مخلصاً لربه، وخالقه -تبارك وتعالى-، يعلم أن الله يعلم ما في قلبه، يعلم إلى أين يلتفت هذا القلب.
العبد إذا استشعر أن الله يسمع، ويرى فإنه يكون مخلصاً لربه، وخالقه -تبارك وتعالى-، يعلم أن الله يعلم ما في قلبه، يعلم إلى أين يلتفت هذا القلب.
كثير من الأشياء تنطلي على الناس، ولكن ذلك لا يجري، ولا يفوت الله -تبارك وتعالى-، فهو يعلم هذه النفوس، وما يدور فيها، هناك أشياء لربما تكون خفية، ولكن الله يعلم مقاصد العباد فيها.
كنت أتساءل في نفسي كثيراً، هل يستطيع الإنسان أن يرسل في ساعة متأخرة رسالة إلى أحد من الناس، دعاء مثلاً، وأتذكر كلاما لبعض السلف حينما لدغ، قال: "أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ ثم قال: أمَا إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت"([16]).
يقول: أنا رأيت الكوكب، لكن ما كنت في صلاة، لكني لدغت، فأنظر في مثل هذا، مع إمكان إرسال رسالة لأحد في وقت الأسحار، فيقول: أسأل الله لك كذا، وكذا.
أنا لا أقول أبداً: إن من يفعل هذا نيته مختلة، إطلاقاً، الله هو الذي يعلم، لكن يصعب مع هذا ضبط المقاصد.
أنا لا يمكن أن تأتيني رسالة، وأظن بصاحبها غير الحسن من النيات والمقاصد، أبداً، لا أظن غير هذا، لكني أقول: يصعب ضبط النية، يصعب ضبط القلب.
نية الإنسان تتقلب عليه بلا شيء، فكيف مع هذه الأشياء، وقبل أيام اكتشفت شيئاً ما كنت أعرفه في هذه المحادثات (الواتس آب).
كان جهازي بالإنجليزي، وأنا لا أعرف شيئاً في الإنجليزي، فتبين لما ترجم، وضع بالعربي أنه فيه أوقات الاتصال، آخر دخول، وقت الدخول، متصل الآن، يكتب إلى آخره، أشياء كانت بالإنجليزي، ما كنت أعرف ما هي.
فمعنى ذلك أنه إذا أرسل، أو فتح الجهاز فقط -ما هو أرسل- يمكن أن يعرف متى دخل.
فأنا أقول: يمكن للإنسان أن يقرأ الرسائل، ثم بعد ذلك يدخل في وقت آخر، ويفتح الجهاز، فيكون آخر دخول مع صلاة أو مع أذان الفجر.
هذه الأمور دقيقة، ولكنها ذات معانٍ عميقة إذا علم العبد أن ربه سميع بصير يخاف ويراقب أفعاله وأقواله.
أنا أعظ نفسي بهذا الكلام الذي أقوله لكم: نحن جميعاً بحاجة إلى هذا، إذا كانت مثل هذه الأمور الدقيقة قد تخفى على الخلق، والله أعلم بمقاصد الناس، الإنسان قد لا يقصد هذا، لكن إذا كان يقصده فهؤلاء لن يغنوا عنه من الله شيئاً، فيفوته ثواب العمل، ويكون عليه من الوزر، فيقع في الشرك الأصغر، فنحتاج دائماً إلى أن نلاحظ هذه الأعمال.
الله سميع عليم، هذا الذي يحج، ويأتي، ماذا يريد بهذا العمل؟
هل يريد زيادة في العداد أنه وصل الحجة العاشرة، أو الأربعين، أو الخمسين، أو السابعة والعشرين هو يريد هذا؟
أو أنه مخبت يريد ما عند الله، ولا يحسب أصلا هذه الأشياء؟، وقل مثل ذلك في كثير من ألوان التكثر الذي نتكثر به مع نيات قد تكون مختلة، فهذا من أعظم ما ينمي الإخلاص في قلوبنا.
الله سميع وعليم، يعلم بعملك، إذن لا داعي للمخلوقين، وهو سميع، بصير يراك، ويعلم، ويسمع كلامك، فيعلم ما تريد من هذا الكلام، أو من هذا الفعل، فهذه أشياء لا تخفى على الله -.
فقضية الإخلاص قضية كبرى، هي التي يترتب عليها قبول الأعمال، والنجاة عند الله -تبارك وتعالى-، والفوز بالدار الآخرة، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَالشعراء:219.
إذا وصل المؤمن إلى هذه الحقيقة بعد ذلك يكون ظاهره، وباطنه سواء، يستوي الظاهر والباطن، ما عنده شيء يمكن أن يجده في صحيفة أعماله مما يخالف هذا الاعتقاد، وإن بدر منه شيء فإن الإنسان لا يخلو، يبادر بالتوبة؛ لأنه يعلم أن الله سميع بصير.
ومن هنا يصل العبد إلى مرتبة الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([17])، فيكون دائماً يلاحظ حركات هذا القلب، وتوجه هذا القلب، فتكون عباداته على الوجه المرضي، تكون هذه العبادات على درجة من الإخلاص، ومراقبة الله فيها.
يراقبه في نيته، وقصده، كما يراقبه -أيضاً- في صفة القيام بهذا العمل، يأتي به على الوجه المشروع، الله سميع، بصير.
ليست القضية أن نحج، ونأتي لنتحدث أننا قد اختصرنا هذا الحج بأضيق نطاق ممكن من الوقت، وجئنا قبل الناس، ووصلنا مزدلفة قبل الناس، ورمينا الجمار قبل الناس، هل هذا هو المطلوب؟
وإذا جئت قبل الناس، ووصلت قبل الناس، ورميت قبل الناس، وإلى آخره، والنتيجة إذا كان يقال للبعيد: لا لبيك، ولا سعديك، ما الفائدة؟
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هود:7، والملك:2، فهذا هو المهم الأعظم الذي خُلق الخلق من أجله، خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا الملك:2، العبرة بإحسان العمل، وهذا الإحسان في العمل لا يكون إلا بمقاصد صحيحة أي النيات الصالحة مع الإتيان بالعمل على وجه صحيح، هذا هو المطلوب، حجة واحدة تزيد على خمسين حجة ليست كما ينبغي، حجة واحدة فيها إخبات، وإخلاص، ومتابعة أفضل من خمسين حجة مقصود صاحبها هو الخلاص بأي طريق كان، وليس الإخلاص لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
السادس من هذه الآثار: إذا علم العبد أن الله سميع بصير فإنه عند ذلك يطمئن إلى رزقه، وقسمه، وقضائه، وعطائه، ومنعه، فإذا كان لم يُعطَ كثيراً من الدنيا فإنه يعلم أن الله سميع، بصير، ما نسي.
المخلوق قد ينساك، قد يغفل، فإذا ذكّرته قال: هلا ذكرتني، أما الله، فلا يغفل، ولا ينسى، يعلم مكانك، وحالك، وحاجتك، فحينما يمنع العبد فإن ذلك عن علم، وهو أدرى بما يصلح الخلق، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِالشورى:27.
فقد يطغيه هذا العطاء، والغنى، قد يُمنع هذا من الأبناء الذكور، فيكون ذلك هو عين المصلحة له، قد يمنع من الذرية بالكلية، فيكون عين المصلحة له، الله ما نسيه، سميع بصير، يعلم حاله، اختار له هذا.
اختار لهذه المرأة أن لا تتزوج، بقيت، لا ينقصها شيء، ولكن الله قدر لها هذا عن علم، وكم من امرأة تزوجت فشقيت، فالزواج ليس هو نهاية المطاف.
كم من امرأة كانت نهاية حياتها بسبب هذا الزواج، كم من امرأة كانت شقية، تتمنى الموت بسبب هذا الزواج، كم من امرأة ذهب دينها بسبب هذا الزواج، فالله يختار لعبده، فلا ينبغي أن يكون لنا اختيار مع اختيار الله -تبارك وتعالى-: إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًاالإسراء:30.
ولذلك ينبغي على العبد أن يكثر من سؤال الله، الهداية، فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم أحوال الخلق، ومن يختاره للهدى، ومن يكون من أهل الضلال، والردى.
السابع من هذه الآثار: أن استشعار هذه الأسماء، وما تضمنته من الأوصاف يبعث على الحياء من الله حق الحياء، فيحفظ الإنسان جوارحه عن كل ما لا يليق بالإنسان.
الإنسان قد يتكلم بكلام، فيدخل داخلٌ ممن يُستحيا منهم، فيتلون وجهه، ويقع في حرج، أو يقال: ترى فلان سمعك، فيقع في حرج.
الله يسمع، فلا يتكلم الإنسان إلا بما يجمل، وما يليق، حينما يستشعر الأفعال التي يفعلها، لو يفعل بعض الأشياء، فيقال: فلان كان ينظر إليك، فهنا يقع له من الحرج ما الله به عليم، أليس الله أحق أن يُستحيا منه؟ وهكذا.
الثامن: الأنس بالله -تبارك وتعالى-، يأنس العبد بربه، إذا استشعر أن الله يراه، وأنه يسمعه فإنه لا يستوحش.
حينما يكون منفرداً، حينما يخلو، يبتعد عن الناس، سواء كان ذلك باختياره، وطوعه، أو كان ذلك بغير اختياره، ولو بقي مدة طويلة منفرداً فإنه يأنس بربه -تبارك وتعالى- ومن ثَمّ لا يصيبه شيء، تقع في قلبه المخاوف، ويتلاعب به الخلق، وتنكسر نفسه فيقهر، ويذل إذا كان ذلك بفعل المخلوقين.
كذلك إذا كان ذلك باختياره هو فإنه لا يستوحش، هذا حبيب أبو محمد، كان يخلو في بيته، وكان يقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أنس.
وقيل لمالك بن مِغْول -وهو جالس في بيته وحده-: ألا تستوحش؟
فقال: "ويستوحش مع الله أحد؟!([18])"
ويقول مسلم بن يسار: "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله"([19]).
ومحمد بن المنكدر كان يقول: "إني لأ دخل في الليل فيهولني فينقضي، وما قضيت منه إربي"([20])، يقول ما شبعت من مناجاة الله؛ لأنه يأنس بالله.
وبعض السلف كان يقول: إني لأفرح بالظلام([21])، ففي السابق ما عندهم مثل هذه الأنوار، ولا عندهم مثل هذه الوسائل إذا جاء المغرب خيم الظلام في كل ناحية، وتغير وجه الأرض، فكان هذا يفرح بالظلام؛ لأنه يخلو بربه -تبارك وتعالى- يصلي، ويدعو، ويناجي ربه -.
ونحن بماذا نأنس؟
نأنس بالقيل، والقال؟
نأنس بكثرة الخلطة في كل يوم، وفي كل ليلة؟
مجالس، واستراحات، وخلطة زائدة، لا نجني منها إلا قسوة القلب.
أين الأنس بالله -تبارك وتعالى؟
"القلب فيه وحشة -كما يقول ابن القيم -رحمه الله- لا يزيلها إلا الأنس بالله"([22]).
فهؤلاء الذين يشعرون بالوحشة، يشعرون بالضيق؛ لأنهم لا يأنسون بربهم -تبارك وتعالى-، وطريق الأنس بالله -- هو استشعار معاني هذه الأسماء الحسنى، وأن الله يراه، وأن الله يسمع كلامه، ويعلم بحاله، وأن الله قريب منه، فيقلق لماذا؟
وينزعج لماذا؟
ويخاف لماذا؟
ويتطاول عليه الوقت لماذا؟
حينما يقف يصلي يريد أن ينتهي من هذه الصلاة التي يصليها، لربما لا يوتر إلا بركعة، لماذا؟
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم انصر إخواننا في بلاد الشام نصراً مؤزراً.
اللهم انصرهم على عدوك، وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك، وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك، وعدوهم.
اللهم إنهم ضعفاء فقوهم.
اللهم إنهم فقراء فأغنهم.
اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، وارحم موتاهم، وداوِ جرحاهم.
اللهم انصرهم نصراً مؤزراً.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
([9]) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فصلت:23، برقم (4817)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2775).
([10]) أخرجه الترمذي في السنن، أبواب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2616)، والنسائي في السنن الكبرى، سورة السجدة، قوله –تعالى-: تتجافى جنوبهم عن المضاجع السجدة: 16، وقوله –تعالى-: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعينالسجدة: 17، برقم (11330). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني بمجموع طرقه، انظر: السلسلة الصحيحة (3/115).
([15]) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3231) [ص:114]، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، برقم (1795).
([16]) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، ولا عذاب، برقم (220).