الثلاثاء 04 / ربيع الآخر / 1446 - 08 / أكتوبر 2024
(44) العزيز
تاريخ النشر: ٢٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 1051
مرات الإستماع: 2443

بسم الله الرحمن الرحيم

الأسماء الحسنى

العزيز

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً بأسماء الله -تبارك وتعالى-، وسيكون حديثنا عن اسم كريم يعد من الأسماء المتضمنة لصفة جامعة، وهو اسم الله (العزيز).  

سنتحدث عن معنى هذا الاسم الكريم، ثم نذكر ما يدل عليه من الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك يأتي الحديث عما يدل عليه هذا الاسم الكريم بأنواع الدلالة، وكذلك نتحدث عن آثار هذا الاسم، ثم يكون الحديث عن أثر الإيمان به.

أولاً: بيان معنى هذا الاسم الكريم من الناحية اللغوية وما يتصل بالله --:

فإن (العزيز) في اللغة من العزة، والعزة تأتي لمعانٍ، وتكون لمجموع أوصاف، فالعزة تعني القوة، والشدة، والغلبة، والرفعة، والامتناع، فالعزيز هو المنيع، منيع الجناب الذي لا يغالب، ولا يقهر.

وهناك معنى آخر لا يذكره أكثر أهل العلم ممن تكلموا في أسماء الله -تبارك وتعالى-، وهو معنى صحيح في اللغة، وهو الشيء الذي لا نظير له، الشيء الذي لا يكاد يوجد.

تقول: هذه جوهرة عزيزة، هذا معنى عزيز، هذه صفة عزيزة، لا تكاد توجد، فهذا معنى رابع، وقيد بعض أهل العلم هذا المعنى الرابع من معانيه في كلام العرب بقيود ثلاثة:

قالوا: لابد أن تشتد الحاجة إليه، ولابد أن يقل وجوده، هذا في كلام العرب.

حينما تقول: هذه جوهرة عزيزة، لا يكاد يوجد له نظير، وتشتد الحاجة إليه، لابد من هذا، وهكذا أيضاً يصعب الوصول إليه.  

قالوا: إذا لم توجد هذه الأوصاف الثلاثة مجتمعة فإن الشيء لا يعتبر عزيزاً بهذا المعنى، وذلك أن الشيء قد يقل وجوده ولكن لا شأن له، فلا يقال: هذا عزيز، وكذلك أيضاً قد يكون له منزلة، ويعظم نفعه، ولكنه لا يصعب الوصول إليه.

فلا يقال له: عزيز بهذا الاعتبار، بل قد لا يوجد له نظير، يعني: الشمس لا نظير لها، ونفعها عظيم، ومع ذلك لا يقال: إنها عزيزة.  

الهواء الذي يتنفسه الإنسان الحاجة إليه شديدة، ولا يُستغنى عنه بحال من الأحوال، ولا بديل له، ولكنه لا يقال: إنه عزيز بهذا الاعتبار.

هذه القيود ذكرها بعض أهل العلم في هذا المعنى الرابع من معاني (العزيز).

تقول: هذه الساعة مثلاً عزيزة إذا وجدت فيها الأوصاف السابقة.

هذه المعاني التي أشرنا إليها في كلام العرب لها دلائلها من كتاب الله، جاءت مستعملة في القرآن، أو جاء جُلّها في القرآن، كقوله -تبارك وتعالى-: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ يس:14، عززنا بثالث يعني: شددنا، وقوينا بإرسال ثالث، وهكذا أيضاً في قوله -تبارك وتعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ المنافقون:8، -كما سيأتي- فإن ذلك ينتظم هذه المعاني.

وفي قول النبي ﷺ، لعائشة -ا-: (هل تدرين لِم كان قومكِ رفعوا باب الكعبة؟ قالت لا)؛ يعني: أن إبراهيم ﷺ حينما بنى الكعبة سوى بابها بالأرض، وجعل لها بابين، فلما أعاد المشركين بناءها أعادوه بصفة أخرى، رفعوا الباب، وجعلوه واحداً.

فالنبي ﷺ يذكر علة ذلك، يقول: (تعزُّزًا أن لا يدخلها إلا من أرادوا)([1])، تعزُّزًا بمعنى: تشدداً، وتكبراً، بحيث لا يدخلها إلا من أرادوا من الوجهاء، والعظماء، والكبراء.

ثانياً: معنى هذا الاسم في حق الله -تبارك وتعالى-:

عامة أهل العلم يذكرون المعاني الثلاثة: القوة، القهر، الامتناع، وما قارب ذلك مما يرجع إلى هذه المعاني الثلاثة، كالغلبة.

وقلّ منهم من يذكر المعنى الرابع، الذي يدل على نفاسة، وندرة، أو علو مرتبة، وقلة، يعني: ليس له نظير.  

فالله -تبارك وتعالى- هو العزيز، الذي قد اتصف بجميع أنواع العزة، فالله موصوف بالعزة بجميع صورها، وأشكالها، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا فاطر:10، عزة القهر، والقوة، والغلبة، والامتناع.

فالله -تبارك وتعالى- هو العزيز، الذي عزَّ كلَّ شيء فقهره، وغلب الأشياء، فلا يُنال جنابه لعزته، وعظمته، وجبروته، وكبريائه، هكذا يعبر حذاق المفسرين، كابن كثير -رحمه الله تعالى-([2])، يؤلفون هذه المعاني، ويعبرون بعبارة تستوعبها.

وهكذا من فسره بأنه المنيع الذي لا يُنال، ولا يغالب كما يقول القرطبي -رحمه الله-([3]).

هذه المعاني الثلاثة هي التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-، في نونيته بقوله:

وهو العزيزُ فلن يُرام جنابُه *** أنّى يرام جنابُ ذي السلطانِ

لاحظ المعنى الأول: الذي لا يرام

وهو العزيزُ القاهر الغلّاب لم *** يغلبه شيء هذه صفتانِ

العزيز بمعنى: القاهر، الغالب

وهو العزيزُ بقوةٍ هي وصفُه *** فالعز حينئذ ثلاثُ معانِ

بمعنى القوة، هذا هو الذي يذكره عامة أهل العلم حينما يفسرون هذا الاسم الكريم، سواء كان في كتب التفسير، أو في الكتب التي تكلمت عن الأسماء الحسنى؛ ولهذا يختم ابن القيم -رحمه الله- هذه الأبيات الثلاثة ببيت رابع، يقول:

وهي التي كملتْ له سبحانه *** من كل وجه عادم النقصانِ([4])

يعني: أن هذه الأوصاف الثلاثة كلها حق، ثابتة لله -تبارك وتعالى-، له أنواع العزة، له عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة، وخضعت لعظمته، كما يعبر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-([5]).

وأنا أتعمد أن أشير بقولي: كما يعبر فلان؛ لتعرفوا قدر هذه الكتب، فنحن في مضامين هذا الكلام، وإن كان في الأسماء الحسنى، إلا أنه يكون فيه إشارات في مضامينه؛ لتعرف بعض الفوائد.

هذه عبارات وافية يعبر بها مثل هؤلاء من المحققين من المفسرين.

ثانياً: دلائله من الكتاب والسنة:

هذا الاسم إذا نظرت في كلام بعض من يحصون ورود هذه الأسماء في كلام الله -تبارك وتعالى- في القرآن- تجد تعداداً متفاوتاً، والواقع أنني تتبعتها، وأحصيتها فوجدت أن ذلك يبلغ سبعةً وثمانين موضعاً، لا يتجاوزها.

الاسم إذا نظرت في كلام بعض من يحصون ورود هذه الأسماء في كلام الله -تبارك وتعالى- في القرآن- تجد تعداداً متفاوتاً، والواقع أنني تتبعتها، وأحصيتها فوجدت أن ذلك يبلغ سبعةً وثمانين موضعاً، لا يتجاوزها.

 

هذا الاسم ورد بـ(ال) معرَّفاً، وورد أيضاً من غير (ال)، ورد في سبعة وثمانين موضعاً، (العزيز) هكذا بـ(ال) جاء في ثمانية وخمسين موضعاً، وعزيز من غير (ال) جاء في تسعة وعشرين موضعاً، وجاء في موضع واحد في قوله -تعالى-: رَبِّ الْعِزَّةِ الصافات:180، هذا الذي ورد في القرآن، كقوله -تبارك وتعالى-: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة:260، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِص:9. 

وتأملوا، لأنه سيأتي الكلام بعد قليل -إن شاء الله تعالى- عما اقترن به هذا الاسم الكريم من الأسماء، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة:260، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ  ص:9، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الشعراء:9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا الأحزاب:25، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الشورى:19، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِالأنعام:96، ويس:38، وفصلت:12، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ فاطر:28، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص: 66]، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ البروج:8.

فهذه تدل على غيرها، وليس المقصود الاستقراء، وتتبع ذلك، فهو كثير كما هو معلوم.

وقد جاء إثبات العزة كلها لله -تبارك وتعالى- في أربعة مواضع في القرآن، كقوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا النساء:139.

أما الموضع الواحد الذي جاء فيه رب العزة فهو قوله -تعالى-: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ الصافات:180، رب العزة.

وجاء القسم بعزة الله، قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ص:82، وهذا -كما لا يخفى- المقصود به: الصفة، وكذلك في قوله: رَبِّ الْعِزَّةِ الصافات:180.

وأما في السنة: فقد جاء في مواضع، وغالب ذلك في بيان الصفة، كقوله ﷺ، قال الله(العز إزاري)([6])، الحديث.

واستعاذ النبي ﷺ بعزة الله: (أعوذ بعزتك)([7]) .

وهكذا -أيضاً-، في قوله ﷺ: (حتى يضع رب العزة فيها قدمه)([8])، يعني: النار.

وجاء في أثر عن ابن مسعود، وابن عمر -ا- أنهما كانا يقولان في السعي بين الصفا والمروة: "ربي اغفر، وراحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم"([9]).

الأعز هذه أفعل تفضيل، غير العزيز، وإن كانت ترجع في المعنى وما تضمنته من الصفة إلى (العزيز)، "إنك أنت الأعز الأكرم".

هل هذا يقال من جهة الرأي "الأعز" تسمية الله بذلك؟  

بعض أهل العلم يقولون: هذا لا يقال من جهة الرأي، فلابد أن يكونا قد سمعا ذلك من رسول الله ﷺ، يعني: ليس بالضرورة أن يكونا قد سمعا منه هذا الذكر بخصوصه الذي يقال بين الصفا، والمروة؛ لأن الأرجح -كما هو معلوم- أن ما ورد عن الصحابة لم يُنكر، كان بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، شيء أقرهم عليه النبي ﷺ، ولربما قال الواحد من عند نفسه، وقد لا يكون النبي ﷺ سمعه، لكنها معانٍ صحيحة.

فلو ذكر الإنسان ربه بين الصفا، والمروة فإن ذلك يكون قد حصل به المقصود، وإن كان الأفضل التزام ما ورد، ولكنه لم يرد عن النبي ﷺ ذكر معين يقال بين الصفا والمروة، وإنما يقال على الصفا، أو على المروة.

فالذين قالوا: إن هذا من أسماء الله -يعني (الأعز)- قالوا: ورد عن هذين الصحابيين، وهما من علماء الصحابة، والله -تبارك وتعالى- لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله ﷺ، قالوا: فهذا من جملة الأسماء.

الاقتران في هذه الأسماء الحسنى:

أكثر ما ورد في الاقتران أن هذا الاسم الكريم جاء مقترناً بـ"الحكيم" في سبعة وأربعين موضعاً من كتاب الله -تبارك وتعالى-، فما وجه ذلك؟

العلماء -رحمهم الله- تكلموا على هذا، ما يمكن أن يقال في حاصله: إن العزة وحدها قد تحمل على شيء من الظلم، والعسف، والقهر بغير الحق، هذا بالنسبة للمخلوقين، فقد تحمله عزته على شيء من التجني، والظلم، والعدوان، وما أشبه ذلك، تحمله على أمور لا تليق من الجور، والسلب، والنهب.

ولهذا يقولون: "مَن عزَّ بزَّ، ومن غَلب سَلب"([10])، هذا مثلٌ سار مسير الشمس عند العرب.

فهذه العزة إن لم يكن معها حكمة فإنها قد تحمل على أمور غير لائقة، فعزة الله مقرونة بالحكمة، فلا يصدر منه مع عزته -تبارك وتعالى-، إلا ما يليق، وبهذا تكون العزة قد بلغت غايتها في الكمال؛ لأنها مزمومة، ومقرونة بالحكمة.

ونلاحظ أنه يقدم (العزيز)، على الحكيم، لماذا؟

لأنه عز فحكم، وربما يكون ذلك من قبيل تقديم السبب على المُسبَّب، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([11]).

لماذا قد حكم؟

لأنه قد عز، فسبب الحكم هو: الاتصاف بالعزة.

إذن العزة من غير حكمة قد تحمل على ما لا يليق.

ثم إن الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- يذكر معنى آخر، لا ينافي ما سبق، يقول فيه، أو في حاصله: إن العزة هي: كمال القدرة([12])، يعني: قد توجد قدرة، لكنها لا تصل إلى مرتبة العزة؛ لأن القدرة وحدها لا توصل إلى هذا المقام، أو إلى هذه المنزلة، أو إلى هذه الصفة.

ولذلك نقول: إن صفة العزة لا تكون إلا من مجموع أوصاف؛ ولهذا يسمونها الصفات الجامعة، مثل: المجد كما سيأتي -إن شاء الله.

العزة لا تكون من مجرد القدرة، ولا تكون من مجرد القوة، ولا تكون من مجرد الامتناع، وإنما يكون ذلك بمجموع أوصاف، فهنا القدرة منتهاها وتمامها العزة، فهي منتهى القدرة.

والحكمة هي كمال العلم، قد يكون العلم كثيرًا ولكنه قد لا يكون معه الحكمة، قد يكون من أوعية العلم، ولكن لا يصلح أن يستشار في أدنى الأشياء؛ لأنه ليس معه حكمة، فمنتهى العلم الحكمة.

فإذا اجتمع منتهى القدرة، وهو العزة، ومنتهى العلم الذي هو الحكمة صار بذلك الكمال، فبهاتين الصفتين يقضي -- ما يشاء، ويأمر، وينهى، ويثيب، ويعاقب، فهاتان الصفتان كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "هما مصدر الخلق، والأمر"([13])، يعني: في قضايا التكوين، وفي قضايا التشريع مصدر ذلك: العزة، والحكمة.

أما اقترانه بالرحيم فإن ذلك قد جاء في ثلاثة عشر موضعاً في كتاب الله -تبارك وتعالى-.

ووجه هذا الاقتران: ذكر فيه أهل العلم بعض المعاني، لعل من أقربها -والله تعالى أعلم-: أن هذا الوصف (العزة)، قد يُوجِد عند أهل الإيمان، وأهل الطاعة، وأهل الاستجابة، والانقياد، قد يُوجِد عندهم أو عند بعضهم شيئاً من الاستيحاش؛ إذا سمعوا هذه الصفات التي تدل على القهر، والغلبة، والقوة، وما إلى ذلك.

فالله -تبارك وتعالى- بعزته يهلك المجرمين، والكافرين، والظالمين، فإذا ذكر معه الرحيم آنس ذلك أهل الإيمان، فهو مع عزته رحيم بعباده، رحيم بالمطيعين، يرحمهم، وألطافه تتتابع، وتتوالى عليهم، فالله -تبارك وتعالى- عزيز في رحمته، ورحيم في عزته، وهذا هو الكمال.

وهناك ملحظ آخر ينضاف إلى هذا، وهو أن هذه الرحمة بلا ذل، فهي رحمة مع العزة، قد توجد الرحمة لكن مع الذل، والضعف، ولذلك فإن المؤولين المحرفين الذين يؤولون الصفات، ويحرفونها، ويغيرونها، ويصرفون عما دلت عليه يؤولون صفة الرحمة؛ لأنهم يتوهمون منها معنى فاسداً، يتصل بالضعف، ولكن رحمة الله ليست مع ضعف.

المخلوق قد تكون رحمته مع شيء من الضعف، أما الله -تبارك وتعالى- فرحمته مع عزة.

وأما اقترانه بالقوي: فقد جاء ذلك في سبعة مواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى.

ويمكن أن يقال في وجه هذا الاقتران: إن عزة الله -تبارك وتعالى- مع قوة، قد يكون الإنسان عزيزاً، لكن بأي اعتبار؟

تكون عزته مستمدة من غيره؛ ولهذا يقول الشاعر:

لك العزُّ إنْ مولاك عز وإنْ يهُنْ *** فأنت لدى بحبوحة الهونِ كائنُ

هذا الإنسان قد يكون في مكانه، في هذه الجهة، في هذه الدائرة، في هذا العمل، في هذه الوزارة، في هذه الشركة، في عزٍّ، يأمر، وينهى؛ لماذا؟

لأن هناك من يقويه، ويؤازره، ويدعمه، وينصره، ويقف معه، ويؤيده، فإذا مات صاحبه الذي كان يستند إليه، ويعتمد عليه، ويتقوى به، والناس يرهبون جنابه من أجله، أو أنه عُزل، فما الذي يحصل لهذا الإنسان؟

كقول الشاعر للبعيد يخاطبه، يقول:

لك العزُّ إنْ مولاك عز وإنْ يهُنْ *** فأنت لدى بحبوحة الهونِ كائنُ

المولى يعني: الأعلى، السيد.

فأنت لدى بحبوحة الهون كائنُ  

سيأتي في الكلام على الآثار أن العزة إنما تطلب من الله، ومن طلبها من غيره فهو إلى هوان، ومذلة.

وقد جاء مقترناً بالغفور في موضعين، وبالغفار في ثلاثة مواضع، ويمكن أن يقال في وجه هذا -والله تعالى أعلم-: إن مغفرته -تبارك وتعالى- لا تكون عن عجز عن المؤاخذة، عجز عن الأخذ، لا تكون عن ضعف.

الإنسان قد يقول: أنا عفوت، أنا غفرت، أنا سامحت فلاناً، يقول هذا؛ لأنه عاجز، فهذا ليس بكمال، لكن حينما يكون الغفر مع العزة، والقدرة على الأخذ، فهذا هو الكمال.

وقد ذكرت في بعض المناسبات توجيه قوله -تبارك وتعالى- في قيل عيسى ﷺ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المائدة:118، ما قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لماذا؟

ذكرت وجهين:

الوجه الأول: أن هذا الغفر حينما يغفر لهم، لا يكون ذلك عن عجز، فهو غير عاجز عن أخذهم، والبطش بهم، ومعاقبتهم، وإنما يكون ذلك عن قدرة كاملة، وعزة تامة.

والوجه الثاني: ذكرناه، ولا حاجة إليه في هذا المقام.

أما اقترانه بالوهاب: فقد جاء في موضع واحد في كتاب الله -تبارك وتعالى-، أشرت إليه سابقاً، وذلك -والله تعالى أعلم- أن إنعامه -تبارك وتعالى- على عباده، وتفضله عليهم، كل ذلك صادر عن عزة، وقدرة، وغنى، وتفضل، وليس عن ضعف، ولا لجلب نفعٍ، أو دفع ضر.

فالإنسان قد يحسن، قد يبذل، قد يعطي ولكن دفعاً لشرور أقوامٍ؛ واستجلاباً لنفع آخرين، فهو يعطي، ويرجِّي العائدة.

فلهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن هذا الذي يعطي وهو يرجِّي العائدة، أو أقل ذلك الشكر، أو الثناء، والمدح، يقول: هذا لا يكون عمله صالحاً([14]).

بمعنى: أن هذا العطاء، وهذا الإحسان للآخرين هو يريد ما يقابله، يعني: لا يكون عمله لله، فإن لم يفعلوا فإنه لربما وقع في أعراضهم، وآذاهم، وتكلم فيهم، وأن هؤلاء لا يقدرون المعروف، ولا يعرفون لأهل الفضل فضلهم، وقد أحسنت إليه، وأعطيته، وفعلت، وفعلت، ثم بعد ذلك لم أسمع منه كلمة شكر، أقرضته، ثم أقرضته، ثم أقرضته، فلما طلبت منه قرضاً اعتذر.

فأنت حينما أقرضت كنت تنتظر، كما يفعل بعض الناس، لربما أكرم غيره، وبذل الأموال، وأعطاه كل ذلك، يقدم هدايا ثمينة جدًّا، لا يقدمها لآحاد الناس، فهو يأمل أن يُعطَى أضعاف هذه الهدايا، فهو يقدم أفضل ما يجد، ولربما يقترض المال الذي يشتري به هذه العطايا، والهبات من أجل أنه يأمل أن يُعطَى أضعاف ذلك.

فلو أُعطي شيئاً يسيراً دونها فإنه يكون في غاية الجزع، والحنق، والغضب، والضجر، ولا يعود إلى هباته، وعطاياه مع هذا المخلوق، ويتهمه بالبخل، والأوصاف السيئة -كما هو مشاهد ومعروف-، فالله -تبارك وتعالى- حينما يهب -وهاب- فذلك ليس لدفع ضر، أو لخوف، أو لجلب نفع يرجيه من هؤلاء الذين وهبهم، وأعطاهم، الله له الغنى الكامل، وهو (العزيز)، يعطي، والخلق كلهم فقراء إليه - وتقدست أسماؤه.

أما اقترانه بالعليم: فهذا في ستة مواضع، وهذا وجهه لا يخفي، العز إذا كان مع العلم المحيط الشامل فهذا يكون منتهى الكمال.

وكذلك اقترانه بالحميد: في ثلاثة مواضع، وذلك يفهم مما سبق من اقترانه بالحكيم؛ إذ إن العز وحده قد يحمل على أمور غير لائقة بالنسبة للمخلوقين.

نحن نتكلم عن أصل هذه الصفات، لا نتحدث عن كون ذلك ينسب إلى الله -تبارك وتعالى-، وإنما حديثنا عما يضاف إليه إنما هو الكمالات، لكن نتحدث عن المخلوقين لتقترب الصورة.

فهذا العز إن لم يكن معه أوصاف أخرى فإنه قد يحمل على أمور لا تليق، فيكون مذموماً، ويكون نقصاً على صاحبه.

فإذا كان (العزيز)، مع الحميد: فهو محمود في عزته، لا يصدر من هذه العزة إلا كل كمال، لا تكون سبباً لصدور النقص، لا يصدر عنه أي ظلم بسبب هذه العزة.

كذلك جاء في أربعة مواضع مع قوله -تعالى-: (ذي انتقام)، {بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر:37]، وهذا أيضاً ظاهر، فإن (العزيز) قد لا ينتقم حيث يحسن الانتقام.

فإذا وجد العز مع الحكمة فإن ذلك العز ينزَّل في منزله اللائق، ويوضع في موضعه المناسب، فينتقم حيث يحسن الانتقام.

أما العز المعطل الذي لا يحصل معه انتقام فإن هذا يكون كالعدم، لا فائدة فيه، والانتقام يحمد حيث يكون المقام مناسباً.

والله -تبارك وتعالى- مدح أهل الإيمان في غير مقام العفو في موضع واحد في كتاب الله، حيث جاءت جميع المواضع تحث على العفو، والصفح، والدفع بالتي هي أحسن، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96، وفصلت:34]، إلا في موضع واحد، {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39].

وأقرب ما يقال في توجيهه -والله تعالى أعلم-: أن المؤمن لا يكون ذليلاً، فإذا كان العفو يورثه مذلة فعندها يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَالشورى:39، هذا ليس بمقام عفو.

وهكذا مع من كثر فساده، وإجرامه، وظلمه، وعسفه، وتعاليه.

هذا الذي هلك في ليبيا، الرجل يقول لهم: اتقوا الله، ويستعطفهم، ونحو ذلك، هل هذا مقام العفو، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ آل عمران:134، وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ المؤمنون:96، وفصلت:34، أم هنا يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَالشورى:39؟، هذا لابد أن يُعلَّم كيف يكون التعامل معه من (زنقة إلى زنقة) كما يقال.

هذا رجل ادّعى دعاوى كبيرة جدًّا، جاء بالكتاب الأخضر، وقرره في المدارس الابتدائية، في جميع المراحل، وتكلم على القرآن، وطعن في القرآن، وغيّر ألفاظه، وقال: لا تقل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قل: الله أحد.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الفلق:1، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ الناس:1، قال: قل هكذا: أعوذ برب الناس، أعوذ برب الفلق.

وقتل، وفعل الأفاعيل، هذا لا يقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ المؤمنون:96، وفصلت:34، أو وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِآل عمران:134، أو فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا البقرة:109، ونحو ذلك، هنا يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ الشورى:39.

فالمقصود: أن العفو له مقامات، الصفح له مقامات، الغفر له مقامات، والانتقام له مقامات، فالله عزيز ذو انتقام.

وجاء مقترناً بالمقتدر في موضع واحد، وذلك أن هذه العزة مع كمال القدرة، يعني: قد يكون عزيزاً، لكن عنده حسابات تمنعه من تنفيذ كثير من الأمور التي يتطلع إليها؛ ولهذا يقول الشاعر حينما يمدح ملكاً -كما ذكرنا في الخلق معنى الخالق- يقول له:

ولأنتَ تفرى ما خلقتَ وبع *** ضُ القوم يخلق ثم لا يفرى([15])

أنت تفري ما خلقت يعني: ما قدّرت، فالخلق بمعنى: التقدير في هذا البيت.

يقول: أنت تخطط، ثم تنفذ، وبعض القوم يخلق ثم لا يفري، يعني: يقدر أشياء، ويخطط، ولكن لا يستطيع أن ينفذ، تمنعه أشياء، قلة إمكانات، حسابات معينة تمنعه من تنفيذ ما يريد، فما كل ما يريد يكون متيسراً له فعله.

بعد ذلك يأتي سؤال بعد استعراض هذه النصوص: أن الله -تبارك وتعالى- قال: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا فاطر:10، كل العزة لله، وفي الوقت نفسه قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَالمنافقون:8، فأضاف العزة -أيضاً- لرسوله ﷺ، وللمؤمنين، فهل بين هاتين الآيتين تعارض؟.

الجواب: لا، العزة لله جميعاً، فالله -تبارك وتعالى- هو العزيز، والعزة التي تكون لرسوله ﷺ، ولأهل الإيمان إنما يكون مصدرها من الله، فهي عزة مستمدة من الله، الذي منحها، وأعطاها هو الله --، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا فاطر:10.

فمن أرادها فإنه يستمد هذه العزة من الله --، بالتعبد إليه، والتقرب إليه، والإيمان، والإخبات، والذل لجنابه -.

فهذه العزة التي تكون للرسول ﷺ، وللمؤمنين هي عزة مخلوقة، وعزة الله صفة من صفاته، ليست بمخلوقة.

فالعزة التي تكون للمخلوقين الله هو الذي خلقها، وهو الذي يملكها، وهو الذي يعطيها من شاء من عباده، والناس يتفاوتون في ذلك، كما يتفاوتون في باقي الأوصاف، بحسب إيمانهم، وتقواهم لله -تبارك وتعالى-.

ثالثاً: ما يدل عليه هذا الاسم الكريم:

يدل بالمطابقة: على ذات الله، وعلى صفة العزة، ويدل بالتضمن: على الذات، أو الصفة، ويدل بالالتزام: على ما لا تتحقق العزة إلا به، لابد من الحياة، والقدرة، والغنى، والعلم، والسمع، والبصر، إلى غير ذلك من الأوصاف الكاملة، حتى يكون عزيزاً.

هذه الصفة التي تضمنها هذا الاسم الكريم -وهي العزة- هي من الصفات الذاتية، هي صفة ذاتية، وليست بصفة فعلية.

 رابعاً: آثار هذا الاسم الكريم:

فأول ما يؤثره هذا الاسم في الخلق، والأمر هو: ما يحصل من تأييد الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وما يكون لهم من الغلبة، والنصر، والتمكين، وما يجعل الله لهم من العاقبة، فالله -تبارك وتعالى- ينصرهم على أعدائهم، ويقهر أعداءهم، ويذلهم، ويهينهم، ويهلكهم، قال -تعالى-: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ المجادلة:21، وهذه الغلبة على أرجح أقوال المفسرين تنتظم الغلبتين:

الغلبة في ميدان المعركة: فالرسل، وأتباع الرسل منصورون، قاهرون، ظاهرون على أعدائهم، ولو بعد حين، العاقبة لهم، والعبرة بكمال النهايات، وليست بنقص البدايات.

الغلبة في ميدان الحجة، والبرهان: فلا شك أن هذا متحقق، فالله -تبارك وتعالى- أرسل الرسل، وأيدهم بنصره، وقوته، وأنزل بأسه بأعدائه.

فأول الرسل هو نوح ﷺ، لما عصاه قومه، وكذبوه أهلكهم الله، قال تعالى: وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود:44.

وبعد نوح أرسل الله هوداً إلى عادٍ، فقال لهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إله غَيْرُهُ الأعراف:65، وهود:50، فكذبوه، وكفروا بما جاء به، والله -تبارك وتعالى-، يقول: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍهود:58-60.

ثم أرسل الله صالحاً ﷺ إلى قومه ثمود، فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إله غَيْرُهُ الأعراف:73، وهود:61، وأرسل لهم آية وهي الناقة، وخاطبهم بقوله: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ هود:64، فما الذي حصل؟

فعقروا الناقة، وتكبروا، وتعاظموا، واستهزءوا، وسخروا، فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَاهود:65-68، قد سقطوا على الركب، وأكبوا على وجوههم بعد هلاكهم، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا هود:68، كأنهم ما أقاموا بهذه الديار التي نحتوا فيها الجبال، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ هود:68، ومساكنهم تدل على قوتهم، وتمكنهم، وشدتهم، فمن الذي أهلك هؤلاء الذين استطاعوا أن ينحتوا الصخر؟!

أهلكهم الله -تبارك وتعالى.

ثم جاء إبراهيم ﷺ، ودعا قومه إلى عبادة الله -تبارك وتعالى-، فكابروا، وكفروا، فكانت النتيجة: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَالأنبياء:68-70.

وهكذا جاء موسى ﷺ إلى فرعون، وملئه، فاستكبر ومن معه، وقال: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ غافر:25، فانتقم الله منه، ومن قومه، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَالأعراف:136.  

وهكذا عيسى ﷺ أراد اليهود به شرًّا، وأرادوا قتله، فرفعه الله إليه.

وأراد الكفار أن يحبسوا النبي ﷺ، أو يقتلوه، أو يخرجوه فكانت العاقبة له.

وهكذا بأسه -تبارك وتعالى- بأعدائه في كل زمان، ومكان وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الرعد:31.

الثاني من آثار هذا الاسم الكريم: ما هو مشاهد في هذا الكون مما يجريه الله، منه ما شهدناه، ورأيناه، ومنه ما قرأنا عنه، أو رأينا صوره، أو بعض ذلك.

هذه البراكين الهائلة التي تلقي بالحمم، والصخور المنصهرة من باطن الأرض، تحرق ما في طريقها، هذا مظهر من مظاهر عزة الله -تبارك وتعالى-.

في سنة: (1902) من الميلاد هناك بركان يقال له: "بيليه"، بمدينة يقال لها: "سان بيبر"، كانت تتصاعد منه بعض الأدخنة الخفيفة، وكان أهل تلك المدينة يخرجون في يوم الأحد -يوم الأجازة- يستمتعون بالنظر إلى هذه الأماكن، وإلى هذه المناظر التي منها هذا البركان الذي تنبعث منه هذه الأبخرة.

ثم بعد ذلك بدأت تتكثف شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك بدأت الطيور، والحيوانات تهاجر، وتصدر أصواتاً مزعجة، ثم بعد ذلك بدأت تخرج بعض الأدخنة السوداء الكثيفة، ثم بعد ذلك جاءت هيئة علمية، وقررت أنه لا خوف على السكان، ولا خطر من هذا البركان.

بعد عشرين يوماً بالتمام ازدادت هذه الأدخنة السوداء، ثم بعد ذلك انفجر البركان، وكان الناس يستعدون للخروج، يستعدون للفرار، ولكن في ثلاث ثوان فقط صار جميع من في هذه الناحية وقد بلغوا ثمانية وعشرين ألفاً، صاروا بعد ذلك حمماً، في ثلاث ثوان فقط، وغلت مياه البحر، صارت تغلي، وكانت مدينة جميلة -كما يصفون ويذكرون- على شاطئ البحر.

وكذلك أيضاً ذكرت أشياء أخرى مشابهة، ولعلكم رأيتم في بعض التقارير، أو في بعض الصور مدينة كبيرة تذكر في التاريخ، يقال لها: "تيرا" من المدن التي كانت في حوض البحر المتوسط، هاج بها بركان ضخم، هائل جدًّا، فحولها إلى بخار بمن فيها.

كل ذلك يدل على عزته، وقدرته، ونحن رأينا أشياء من هذا القبيل، رأينا هذا الطوفان الذي يقال له: "تسونامي"، ورأينا كيف يجرف القرى، وما صادفه، وما مر به، حتى إنه يحمل الباخرة الكبيرة الضخمة من البحر، ويلقيها كأنها قطعة ورق فوق القرية، أو فوق المدينة، أو فوق الأبنية.

بل أقل من هذا، نحن نرى السيول حينما تجتمع في هذه الصحراء، في بلادنا التي تقل فيها الأمطار، ما الذي يحصل؟.

تحمل الشاحنات، والسيارات، فيتحول ذلك جميعاً بعد مدة يسيرة، إلى سكراب -كما يقال-، السيارات فوق بعضها، تتقاذفها أمواج هذه السيول في وسط المدينة، فهذا يدل على ماذا؟

يدل على شدة بأس الله -تبارك وتعالى-، والله يرينا من آياته، وما أصابنا من المصائب فإنما هو بما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير.

الثالث من آثار هذا الاسم الكريم: أن الله -تبارك وتعالى- لا يضيع من اعتصم به، ولجأ إليه، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ آل عمران:101.

هذا محمد بن يزيد، هو من رجال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، فعمر بن عبد العزيز عزل في وقته أمراء الحجاج، ومن كان له صلة بالحجاج، ومن هؤلاء كاتب للحجاج يقال له: يزيد بن أبي مسلم، وكان قد حبس.

فعمر أمر هذا الرجل الذي هو محمد بن يزيد أن يخرج السجناء، فكتب إليه بأسمائهم، وأبقى كاتب الحجاج يزيد بن أبي مسلم، فحقد يزيد بن أبي مسلم على هذا الرجل، وهو محمد بن يزيد، ثم أُخرج بعد مدة، وكان محمد بن يزيد في أفريقيا، فجعل يطلبه، ويبحث عنه، يقول: فسمعت أنه قدم فاستخفى، هذا بعد عهد عمر بن عبد العزيز.

فيزيد بن أبي مسلم يريد أن ينتقم من محمد بن يزيد، لماذا أبقاه، ولم يكتب اسمه لعمر بن عبد العزيز ضمن من رفع إليه من أسماء هؤلاء السجناء؟

فبحث عنه، فوجده، فجيء به، وقال له: لطالما سألت الله أن يمكنني منك، فماذا قال هذا الرجل؟.

قال: وأنا طالما طلبت من الله أن يعيذني منك.

فقال يزيد: ما أعاذك الله مني، والله لأقتلنك، ولو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك لسبقته!! -نسأل الله العافية-، ثم دعا بالسيف، والجلد الذي يوقف عليه من يراد قتله، فأٌتي به موثقًا، وأقيم في هذا المكان، ثم شد رأسه إلى الأمام بحبل؛ لأجل أن يُضرب بالسيف، وأقام وراءه رجلاً يحمل سيفاً.

فأقيمت الصلاة، فقال: أمهل حتى أصلي، وأرجع، وهذا ممدودة رقبته، مربوط رأسه بحبل، وعلى موضع القتل.  

فلما كان في صلاته وهو في السجود إذ أُخذ بالسيوف، جاء أناس، فهجموا عليه، وضربوه، وقتلوه، وهو ساجد، ثم دخلوا القصر، وأطلقوا هذا، وأنجاه الله بفعل أولئك، وهذا يقول: لو سابقني ملك الموت لسبقته، فكان موته قبله، فهذا من عزته -تبارك وتعالى-.

الرابع من آثار هذا الاسم الكريم: أن الله -تبارك وتعالى- لكمال عزته قضى على الإنسان، وصار حكمه نافذاً فيه، وصرف إرادته على ما يشاء، وحال بين العبد، وقلبه،وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِالأنفال:24.

قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء، فهو يصرف هذا المخلوق في باطنه، وظاهره، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد -.

فلا يستطيع أحد أن يؤمن إلا إذا كان الله قد أذن بذلك، وشاء، ووفقه، ولا يقع للإنسان نفع، ولا ضر إلا بما أراده الله، وساقه إليه، ومن ثَمَّ فإن الله -تبارك وتعالى- له الحكم المطلق على هذا الإنسان، وعلى غيره.

الناس لا يستطيعون أن يحكموا على قلبك، وأن يصرفوه، فإن الله وحده هو الذي له ذلك، فالله هو ملك القلوب، وليس ذلك لأحد سواه؛ لأنه لا يملك القلوب، ولا يصرفها إلا ربها، وخالقها -.

ولهذا كان النبي ﷺ يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)([16]).

ولا أحد يملك ذلك، لا أحد يملك أن يتصرف في قلب الإنسان، أن يجعله محبًّا، أو مبغضاً، مؤمناً، أو كافراً، وإنما ذلك لرب القلوب، دون أحدٍ سواه، فهذا من عزته.

المخلوق قد يتسلط على ظاهرك، قد يتسلط على بدنك، قد يؤذيك، ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى القلب.

الخامس من آثار هذا الاسم الكريم: أن الله -تبارك وتعالى- سمّى كتابه، فقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ فصلت:41، أعزه الله، فهو كلامه، حفظه من الباطل، وقد مضى الكلام على هذا في درس مستقل، وذكرت فيه أن من عزة هذا القرآن أن يرتفع من اشتغل به، وأقبل عليه.

ولهذا قال بعض أهل العلم: اشتغلنا بالقرآن، فغمرتنا البركات.

وقال بعضهم: إنه من عزته أن لا تدخل معانيه في القلوب المعرضة عنه، فهو كتاب عزيز، لا يُعطَى فضول الأوقات، فإذا أقبل عليه العبد إقبالاً صحيحاً، وعرف قدره، واشتغل به الاشتغال اللائق فتحت له من معانيه، وكنوزه، وهداياته أمور لا يقادر قدرها.

فمن عمل بهذا القرآن رفع، وصار عزيزاً، كما أن هذا الكتاب عزيز، غالب بحججه، وكماله، وشموله، وبلاغته، وفصاحته، فمن قال به، واحتج به فهو غالب، عزيز.

خامساً: ما يتصل بأثر الإيمان بهذا الاسم الكريم:

إذا عرف العبد أن ربه عزيز، فما أثر ذلك عليه؟، هو من الجانب الإيماني، من الناحية العملية، من الناحية السلوكية، نحن نتعبد لله –- بهذا الاسم الكريم، ونتقرب إليه بمقتضى هذا الاسم (العزيز)، فندعوه،وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180.

ندعوه دعاء مسألة، فنقول: يا عزيز أعز الإسلام، وأهله، نقول: يا عزيز اقهر أعداء الإسلام، واهزمهم.

وهكذا أيضاً ندعوه دعاء عبادة، فأول ذلك وهو ما يقوم بقلب الموحد الذي آمن بهذا الاسم الإيمان الصحيح: أن ندرك أن هذه العزة مستلزمة للوحدانية، فالذي جعل لله شريكاً لم يؤمن بأن الله عزيز، جعل له شركاء ينازعونه في سلطانه، وملكه.  

فالشرك ينافي العزة، كما أن العزة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولنفي أضداد العزة، هذا (العزيز) لا يماثله شيء، ليس له نظير، ليس له ند، ليس له منازع في خلقه، وأمره -تبارك وتعالى.

من تمام عزته كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "براءته من كل عيب، ونقص، وسوء من كل وجه، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"([17]).

فالذي يضيف النقص إلى الله -تبارك وتعالى- لم يحقق الإيمان الصحيح بهذه الصفة، وذلك أن العيوب، والنقائص تنافي العزة الكاملة.

الثاني من هذه الآثار: وهو أن العبد إذا عرف أن ربه عزيز لم يشتغل عنه بذل المعصية، والشهوات، والمدنسات، وإنما يكون مقبلاً عليه، لا يلتفت إلى شيء سواه.

هؤلاء الذين تتعلق قلوبهم بمخلوق، ما يسمى بالعشق، هؤلاء الذين تتعلق نفوسهم بالصور المحرمة، والمشاهد المحرمة، وما إلى ذلك، هذا يورثهم ذلا يلوح على وجوههم، فإذا أكثر العبد من هذا ظهر ذلك جليًّا على وجهه، ومن نَقَص نُقِص منه، وهكذا.

فإذا عرف العبد هذا الكمال لله، وأنه (العزيز)، عند ذلك لم يجترئ على معصيته، ولم يشتغل قلبه بها، وهذا يورثه التقوى، والمراقبة، والخوف؛ لأن ربه -تبارك وتعالى- عزيز.

في المخلوقين قد يجترئ الإنسان على من يراه ضعيفاً، لا يعبأ به، ولا يحتاط له، ولكن إذا كان هذا المخلوق الذي يمكن أن يحاسبه قد اتصف بعزة تليق بالمخلوقين فإنه يحسب له ألف حساب، فكيف بالعزيز الذي له العزة الكاملة، الذي يعرف أحوال العبد في سره، وعلانيته، في خلوته، وجلوته؟، كيف يجترئ عليه؟

هذا هو التوحيد، هذا الذي يؤثره الإيمان بهذه الصفات، أن يكون عند العبد من الخوف من الله، ومراقبته، والإقبال عليه، أن يكون عنده من الوازع ما يحجزه عن مقارفة ما لا يليق، لا يحتاج أن ينظر الناس إليه، ولا أن يراقبه أحد منهم.

إذا كان الناس يرون هذه الكاميرات عند الإشارات فإنهم لا يجترئون على تجاوزها، أليس كذلك؟،

لماذا؟

لأنه يعلم أنه سيحاسب.  

وما هذه المحاسبة؟

محاسبة محتملة، فكيف يجترئ على الله -؟.

لو لم يكن في هذا إلا أن الإنسان إذا عصى الله نكت في قلبه نكتة سوداء لكفى، النكتة السوداء هذه تقدر بـ ثلاثمائة ريال؟

أبداً، لكن هذه معانٍ لا نستشعرها.

سمعت كلمة من أحد طلبة العلم، عن رجل من العامة، كبير في السن، خرج من المسجد النبوي، فضاع في الساحة، لا يدري أين يتوجه، هو يأتي دائماً على أقدامه، يذهب، ويجيء، فحصل له شيء من الالتباس، فجعل يسأل أين المكان الفلاني؟

أين الشارع الفلاني؟

فقال له رجل: أنت تأتي من هذه الناحية، أعرف بيتك، وتأتي في غاية الإسراع، يعني: أن الأمر لا يلتبس عليك، أراك مسرعاً حينما تأتي.

قال: مَن عرف الكَرْوة جاء ولو زحّافًا، هذا ليس له علاقة مباشرة بموضوع (العزيز)، لكن ذكرني به أن إيمان الإنسان يحمله على العمل.

هذا الرجل كبير في السن، يأتي وهو منطلق إلى المسجد النبوي؛ لأن الصلاة بـ ألف صلاة، من عرف الكَرْوة جاء ولو زحّافًا يعني: جاء ولو يزحف.

لو قيل: الذي يأتي يصلي في المسجد النبوي في كل فرض له ألف ريال، من الفروض الخمسة، عدد الأسرة ثمانية، أو عشرة، كل من يأتي له كذا، إذا قلت: عشرة فكم يحصلون في الفرض الواحد؟

عددهم عشرة، كل واحد يحصِّل ألفًا، عشرة آلاف ريال، في الفروض الخمسة يحصلون خمسين ألف ريال، كم يحصلون في عشرة أيام؟.

كم يحصلون في الشهر؟.

فإذا كان الأمر كذلك، هل يبقى أحد وما يذهب؟!

الصغير، والكبير، والعليل، والسقيم، والمعاق، الجميع سيذهبون.

النبي ﷺ قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)([18])، هذا من باب أن الشيء بالشيء يذكر.

فهنا (العزيز)، حينما يقف الإنسان، ويحسب ألف حساب لهذه الكاميرا التي لربما يغرّم بسبب تجاوز هذه الإشارة، أو نحو ذلك.

فلماذا لا يراقب الله، والله يراه، والملك يراه، ويكتب ما يصدر عنه؟ ويكفي في هذا أنه نُكت فيه نكتة سوداء، فيحتاج العبد أن يقف مع هذا المعنى.

تجد الإنسان أحياناً يذهب عند المسجد الحرام بـ مائة ألف صلاة، احسبها.

حسبنا ألف صلاة، ويؤذَّن، ويقام وهو نائم.

قم صل مع الناس مائة ألف صلاة.

قال: أنا مسافر، سأجمع الظهر، والعصر.

مائة ألف صلاة، لو كان فيه إيمان حقيقي، إيمان صحيح، إيمان قوي، إيمان محرك، نابض لذهب، ولو يزحف على الدرج من الدور رقم ثلاثين إلى الأرض لما كان ذلك كثيراً.

الثالث من هذه من الآثار: إذا عرف العبد أن ناصيته بيد الله، وأن حكمه نافذ فيه، وأنه مقهور مدبَّر لله -تبارك وتعالى-، وأنه لا عصمة له إلا بعصمته --، ولا توفيق إلا بمعونته، فهو ذليل حقير ضعيف مسكين، كما يقول الحافظ ابن القيم([19])، فيزيده ذلك تذللاً، وعبودية، واستكانة لربه، وخالقه؛ لأن أمره بيده؛ لأن مستقبله بيده؛ لأن كل ما يرجيه من النفع، وكل ما يخافه من الضر بيد الله -تبارك وتعالى-، فيتذلل له.

مستقبلك بيده، الإنسان قد يتذلل أحياناً لمخلوق؛ لأنه يعتقد أن قراره بيده، ويقدم له أنواع الخدمات، بل قد يتحول إلى سائق خاص له؛ من أجل أن يحصِّل حظوة عنده، فإن أراده مهرجاً صار يضحكه، ويؤنسه، وإن أراده رزيناً كان كذلك، وإذا أراده متفلسفاً كان كذلك، فالله بيده نواصي الخلق.

الرابع من هذه الآثار: أن العبد إذا استشعر ذلك فإنه يستحضر أن الله -تبارك وتعالى- له الكمال المطلق، وأن العبد أولى بالنقص، والذل، والضعف، فلا يتكبر، ولا يتعالى، ولا يتعاظم، فالعزة جميعاً، والحمد جميعاً، والكمال بكل أنواعه، والغنى كله لله -تبارك وتعالى-.

إذن ما الذي بقي للعبد!؟

العبد يصلح له الذل لربه، والتواضع، والاستكانة، وليس التعالي، فإن ذلك لا يصلح إلا لله -تبارك وتعالى.

الخامس من هذه الآثار: أن العبد إذا كان يريد المنعة، والعز فإنما يطلب ذلك من الله وحده؛ لأن الله له العزة جميعاً، العزة لا يملكها مخلوق، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]؛ ولذلك ينبغي على الأمة جميعاً أن تدرك هذا المعنى الكبير، العظيم، فلا يرجون النصر من أعدائهم.  

الله -تبارك وتعالى- حينما أنزل الملائكة: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَالأنفال:9، في عزوة بدر، (مردفين) يعني: لغيرهم، أي يأتي بعدهم من يزيد عليهم، ويكثرهم.

ولهذا ذكر بعد ذلك الثلاثة الآلاف في سورة آل عمران، والخمسة الآلاف،بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَاآل عمران:125؛ يعني: الكفار من هذه الناحية التي تتخوفونها، وتتوقعون مجيء المدد للكفار منها، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ آل عمران:125.

فهذه العقيدة ينبغي أن تكون راسخة عندنا، الملائكة لما أنزلهم الله قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [آل عمران:126، والأنفال:10]، بشرى.

الملك الواحد يمكن أن ينفخ جيش الكافرين بنفخة واحدة، ويطيرون في الهواء، نفخة واحدة، فيتطايرون هم، وجمالهم، ومع ذلك أقوى صيغة من صيغ الحصر وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى آل عمران:126، والأنفال:10، النفي، والاستثناء، الذي جاءت به كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله).  

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا أقوى صيغة: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌالأنفال:10.

فالأمة في آلامها، في جراحها، في مصائبها -كما هو الحال في بلاد الشام- لا ينبغي أن تفكر، ولا أن يخطر ببالها أنها يمكن أن تنصر من أعدائها، أو أن ينصفوها، أو أن يقدموا لهم المدد، أو العون، أو السلاح، أبداً والله، ونحن لا نستبشر بهذا، ولا ننتظره منذ البداية، ونعلم أن هؤلاء لا يقدمون شيئاً إلا إذا علموا أنه يحقق مصالح يريدونها.

فهم لا يتركون هذه الأمة من الإذلال، والقهر، والإهانة، والابتزاز، لا يريدون بها خيراً، أبداً، فكيف يليق بأهل الإيمان أن يتطلعوا إلى أعدائهم أن ينصروهم؟!

الملائكة، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آل عمران:126، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى آل عمران:126، بشرى فقط، وإلا فالنصر ليس من الملائكة، لو نزل جميع ملائكة السماء لا يملكون النصر، الله وحده هو الذي يملك النصر.

فهذا لابد من الأخذ بأسبابه، من التوكل على الله، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْمحمد:7، واجتماع الكلمة، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْالأنفال:46، وما إلى ذلك.

السادس من هذه الآثار: أن الإيمان بهذا الاسم الكريم يجعل الإنسان لا يركن إلى الدنيا، يعني: بعض الناس يظن أن العز هو أن يملك المال، أن يملك المنصب، أن يكون آمراً، وناهياً، وهو أضعف من ذلك، الموت قد يأتيه في لحظة.

العز إنما يكون بطاعة الله، والتقرب إليه، وحسن الصلة به، وليس بالأخذ بعرض الدنيا، واستجماع حطامها، فمن كان يظن أن العز بذلك فهو مخطئ.

فكم من إنسان جمع منها، وكانت شقاء، وسبباً لمذلته، ومهانته، وكم من إنسان اعتز بآخرين، وظن أن مثل هؤلاء من أهل الدنيا يمكن أن يمنحوه عزًّا فكان أمره إلى خسار.

الله -تبارك وتعالى- يقول عن المنافقين: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاالنساء:138-139، فالمنافقون لا يعرفون هذه الحقائق.

ولهذا قال اللهوَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَالمنافقون:8، هم لا يعلمون ذلك؛ لجهلهم، وضلالهم، والله -تبارك وتعالى- يقول عن عبدة الأوثان: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّامريم:81-82.

مهما حاول الإنسان أن يحصِّل العزة من غير هذا الطريق -وهو التوجه إلى الله، فإن مصيره إلى مهانة، وذل.

 السابع من هذه الآثار: أن الإيمان بهذا الاسم يجعل المؤمن مُقدِماً، شجاعاً، ولا يكون ذليلاً، مضيعاً لأمر الله، وطاعته وعبادته؛ بسبب ما ينتابه من المخاوف التي تحجزه عن الامتثال، وهذا أمر لا إشكال فيه.  

الإيمان بهذا الاسم يجعل المؤمن مُقدِماً، شجاعاً، ولا يكون ذليلاً، مضيعاً لأمر الله، وطاعته وعبادته؛ بسبب ما ينتابه من المخاوف التي تحجزه عن الامتثال، وهذا أمر لا إشكال فيه.  

 

فرعون قام يقتل الذكور من المواليد، فنشأ موسى ﷺ في قصره، وكان هلاكه على مرأى منه، وبسببه.

يوسف ﷺ حاول إخوته أن يحولوا بينه وبين ما كان فيه من عز بين يدي أبيه، ومن حظوة، ومكانة، فماذا كان الأمر؟

يأتون إليه يستعطفونه، يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّيوسف:88، إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُيوسف:78، يتلطفون، يتذللون عنده، يستعطفونه، وما علموا أن هذا هو الصغير الذي رموه في البئر؛ ليغيبوا خبره، فصار شمساً.

فالله -تبارك وتعالى- لا غالب له، ولا راد لأمره، فيُتلمس العز باللجأ إليه، والتوجه لربنا، وخالقنا --.

وهكذا في نماذج وصور كثيرة، يقول النبي ﷺ، لابن عباس في الوصية المشهورة: (يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)([20]).

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا، وتعاليت، لا ملجأ منك إلا إليك، نستغفرك، ونتوب إليك.  

اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا.

اللهم إنا نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنا، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون.

ليكن بربِّك كلُّ عزِّك يستقرُّ ويثبتُ *** فإذا اعتززتَ بمن يموت فإنّ عزَّك ميتُ

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يلطف بإخواننا في بلاد الشام، وفي كل مكان، وينصرهم نصراً مؤزراً.

اللهم عليك بعدوك، وعدوهم.

اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم يا عزيز خذهم أخذ عزيز مقتدر.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

 



([1]) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333).

([2]) انظر: تفسير ابن كثير (8/80).

([3]) انظر: تفسير القرطبي (2/131).

([4]) انظر: نونية ابن القيم، (ص: 205).

([5]) انظر: تفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 214)، وتفسير السعدي (ص: 946).

([6]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب الكبر، برقم (552)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، وزياداته، برقم (4310)، وفي صحيح الترغيب، والترهيب، برقم (2898).

([7]) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله –تعالى-: وهو العزيز الحكيم إبراهيم: 4، سبحان ربك رب العزة عما يصفون الصافات: 180، {ولله العزة ولرسوله} المنافقون: 8، ومن حلف بعزة الله وصفاته، برقم، (7383)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، برقم (2717).

([8]) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، برقم (6661)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2848).

([9]) أخرجه الطبراني، في الدعاء، باب القول في السعي بين الصفا والمروة، برقم (870)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الحج، ما يقول الرجل في المسعى برقم (15565)، والفاكهي في أخبار مكة، ذِكْر عدد الشراف التي في بطن المسجد، برقم (1393)، والأزرقي في أخبار مكة، باب أين يوقف من الصفا والمروة، وحد المسعى، بدون رقم.

([10]) انظر: أمثال العرب، للضبي (ص: 124)، وجمهرة الأمثال، للعسكري (1/360)، ومجمع الأمثال، للنيسابوري (2/307)، والمستقصى في أمثال العرب، للزمخشري (2/357).

([11]) انظر: بدائع الفوائد (1/62).

([12]) انظر: الداء، والدواء (ص: 116).

([13]) المصدر السابق.

([14]) انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (1/166).

([15]) انظر: الشعر والشعراء (1/139)، والعقد الثمين (6/349).

([16]) أخرجه أبو داود في السنن، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3522)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب النعوت، قوله: ولتصنع على عينيطه:39، برقم (7690)، وأحمد في المسند، برقم (12107)، وصححه الألباني في الأدب المفرد، برقم (683).

([17]) انظر: شفاء العليل (ص:269)، وطريق الهجرتين (ص:137).

([18]) أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة، والمدينة، برقم (1190)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، برقم (1394).

([19]) انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/222).

([20]) أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة، والرقائق، والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2516)، وأحمد في المسند، برقم (2763)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (11243)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7957).

مواد ذات صلة