الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
المجلس الرابع
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 11181
مرات الإستماع: 3628

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

قال الشيخ خالد بن عثمان السبت، زاده الله تأييدًا وتسديدًا، وهداية وتوفيقًا، في كتابه الذي أسماه: (مختصر في قواعد التفسير)، تحت المقصد الرابع: وجوه مخاطباته، قال: قاعدة: قد يرد الخطاب بشيء في القرآن على اعتقاد المخاطب، دونما في نفس الأمر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه القاعدة من القواعد التي يحتاج إليها طالب العلم كثيرًا عند نظره في التفسير، بل عند قراءته لكلام الله ، والأنواع الداخلة تحت هذه القاعدة متنوعة، وهي: التي سنذكرها، فمن هذه الأنواع:

الأول: أن يعبر بألفاظ توافق اعتقاد المخاطب، وإن كان الواقع على خلافه، فهذا تجدونه في القرآن، فالله يقول عن الترهات والشبهات التي يحتج ويتمسك بها الكفار: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى:16]، فهل هي حجة؟ هل ما يقولونه حجة؟

الجواب: لا، الحجة معروفة، وهي: ما يقوم على البرهان، فكيف سماها حجة؟ بناء على اعتقادهم، فورد الخطاب مراعى فيه حال السامع حال المخاطب، وإن كان الواقع على خلافه.

وهكذا: في قوله -تبارك وتعالى- لهم: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ [الأعراف:195]، وهل هم شركاء لله ؟

الجواب: لا، فكيف قال:  ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ؟ بناء على اعتقادهم، فهم يعتقدون أنهم شركاء، والواقع: أنهم ليسوا شركاء.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى:  وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، فقال:  أَنْدَادًا، والند هو: النظير المناوئ، وليس نظير فقط، بل المناوئ، وهل هؤلاء نظراء لله ؟ الجواب: لا، ومع ذلك سماهم: أندادًا، بناء على اعتقاد المخاطب، فهنا نقول: خرج الخطاب مراعى فيه حال المخاطب، وما يعتقده، وإن كان الواقع على خلافه، وتنحل عنك بهذا إشكالات وسؤالات.

ومنه: نوع يخرج على اعتقاد المخاطب، سواء وافق الواقع أم لا، لكنه روعي فيه السامع والمخاطب، لكن المتكلم لا يعتقده، الفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن المتكلم لا يعتقده، بصرف النظر هل هو يوافق أو لا يوافق الواقع؟ لكن المتكلم راعى فيه اعتقاد ونظر المخاطب، وذلك كقوله -تبارك وتعالى- عن الكفار الذين خاطبوا نبيهم شعيب :  أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، فمن الناحية الواقعية هذا الكلام يوافق الواقع أو لا، أنه هو: الحليم الرشيد؟ يوافق، لكن هل يعتقدون هذا هم أو لا؟ لا، لكنهم يخاطبونه بهذا، يقول: يعني: أنت عند نفسك أنك أنت الحليم الرشيد، فكيف تأمرك صلاتك هذه أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ يعني: قد يقول قائل: كيف خاطبوه بهذا، وقالوا له: إنك أنت الحليم الرشيد، وهم كفار؟ فيقال: هذا خرج مراعى فيه حال المخاطب، ونظر المخاطب، واعتقاده في نفسه، وإن كان المتكلم لا يعتقده.

ومثل قول الكفار لنبيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، لاحظ:  يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ الذكر هو: القرآن، أو الوحي، فهل يعتقدون أنه نزل عليه الذكر؟ أبدًا، هم لا يعتقدون هذا، لكنه خرج منهم وصدر منهم هذا الخطاب، وقد راعوا فيه اعتقاد المخاطب، بناء على اعتقاده هو، بناء على قوله هو، يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، فهذا موافق للواقع، أعني: نزل عليه الذكر، لكنهم لا يعتقدونه، فكيف صدر منهم؟ صدر منهم باعتبار مراعاة حال المخاطب، فهل رأيتم كيف الخطاب القرآني يأتي؟!

ونوع آخر يدخل تحت هذه القاعدة، وهو: أن العرب تخرج أحيانًا الكلام المتيقن في صورة المشكوك؛ لأغراض، ولعلل، منها: إخراج الكلام عن الأمر المتيقن مخرج الشك بضرب من المسامحة والتنزل مع المخالف، وحسم العناد، من باب التنزل، فالقضية محسومة، ومقطوع بها، ومع ذلك يؤتى بها كأنها مشكوك فيها، غير مجزوم بها، من باب التنزل مع المخالف، على ضرب من المسامحة، كقوله:  قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ  [الزخرف:81]، وكما قلت لكم، قال في المراقي:

والشأن لا يعترض المثال فقد كفى الفرض والاحتمال

فالأمثلة التي نذكرها فيها وجوه من التفسير، لكن المقصود: التوضيح هنا، فقوله:  قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وهل هذه القضية أصلاً قابل للتردد، وأنه يمكن أن يكون للرحمن ولد؟ أبدًا، فجاء بها بهذا السياق: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، ومعناه: قيل: فأنا أول العابدين لله، وقيل: أول العابدين لهذا الولد، وهناك قاعدة أخرى، وهي: أن التعليق بالشرط لا يقتضي إمكان الوقوع، لكن هنا جاء هذا في قضية محسومة، غير قابلة للشك، على سبيل التنزل في المجادلة والرد على هؤلاء.

وكقوله -تبارك وتعالى:  وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، فهل هذه القضية فيها أدنى شك أنهم هم في ضلال، وأنه على هدى؟ لا، لكن على سبيل التنزل، والمسامحة مع المخالف.

ومنه: نوع آخر، وهو أن يُخرَج الكلام عن الشيء المتيقن أحيانًا مخرج الشك، بناء على تصور المخاطب وظنه، يعني: روعي فيه حال المخاطب، فإن كان المخاطب عنده فيه تردد، جاء الخطاب في القرآن بهذه الطريقة، وهذا يحل لك إشكالات، كما قلت، ففي قوله -تبارك وتعالى- عن يونس بن متّى بعد أن أنجاه الله من بطن الحوت، قال: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]، والله أحصى كل شيئًا عددًا، فإذا قلنا: بأن: (أو) هذه تدل على: هذا التردد، فهل يخفى على الله ؟! وقد قيل في تفسيرها أشياء أخرى، لكن نحن نذكر هذا القول، وهو: قول مشهور جدًا؛ لأنه مما ينطبق على القاعدة، من أجل أن تتضح، فهل يخفى على الله عدد هؤلاء بالضبط؟ ما يخفى، فكيف قال الله وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]؟ فيقال: هذا روعي فيه حال المخاطب، بحيث إنه إذا نظر إليهم قال: مئة ألف أو يزيدون؛ لاحظتم! فجاء الخطاب القرآني بحسب نظر المخاطبين، راعاهم في ذلك، لا أن الشك واقع بالنسبة لله ، فالله لا يخفى عليه خافية.

وفي قوله في وصف تلك القلوب القاسية، قلوب اليهود: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74]، والله يعلم مدى قساوة هذه القلوب، أنها أشد من الحجارة مثلاً، فلماذا قال الله :  أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ، بحسب نظر المخاطب؛ لأنه يقول: قلوبهم صارت مثل الحجارة أو أشد.

وفي قوله -تبارك وتعالى- عن سرعة وقوع الساعة.. القيامة: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، والله يعلم سرعة وقوع الساعة بدقة، ولكن بالنسبة لنظرنا نحن: كلمح البصر أو هو أقرب، كما ثبت في الحديث عن النبي ﷺ: في الرجلين ينشران الثوبين بينهما، فلا يتبايعانه، والرجل يحلب ناقته، فلا يشرب[1]؛ لسرعة وقوع الساعة، فهي: كلمح البصر أو هو أقرب.

وأيضًا: في قوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، وقد قلت سابقًا: بأن هذه الآية يمكن أن تخرج بتخريج آخر في قاعدة أخرى، هي هذه، فقوله:  وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، هناك خرجناها وقلنا: إن أهون بمعنى: هين، وأن أفعال التفضيل يؤتى بها أحيانًا ويراد بها مطلق الاتصاف، وهذا جواب، ويمكن أن تخرج بهذه القاعدة، فيقال: إن ذلك روعي فيه حال المخاطبين، فهو بالنسبة إليهم: أن الإعادة أسهل من الابتداء، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، أما بالنسبة لله فهو سواء، لاحظتم هذا!

وفي قوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام: فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، يمكن أن تخرج بتخريجات، فممكن أن يقال: كل لعل في القرآن فهي: للتعليل، إلا في موضع واحد فقط، وهو: قوله -تبارك وتعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، أي: كأنكم تخلدون، والباقي كلها للتعليل، وانتهينا، فهذا الجواب: كل لعل في القرآن، ويكون هذا من الكليات، لكن بناء على القاعدة التي عندنا هنا، فيكون: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ، لعل تأتي بمعنى: الترجي، والترجي ممن لا يعلم العواقب، تقول: لعل زيدًا يقدم، ولعل المطر ينزل، للترجي، وأما الله فلا يخفى عليه خافية، يعلم عواقب الأمور، ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فكيف قال الله لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]؟ يعني: بحسب حال المخاطب؛ لذلك تجدون في كتب التفسير أحيانًا: على رجائكما، ما معنى: على رجائكما؟ يعني: هذه القاعدة؛ ولهذا بعض الإخوان أحيانًا يقول: أنا عندي مشروع قراءة كتاب في التفسير، فما الذي أدونه؟ فأقول: حسب خلفيتك، إذا كان مثلاً عندك إلمامًا بالقواعد، فلما تمر عند قضية مثل هذه، قد لا يصرح بالقاعدة، لكن تعرف أن هذا مثال كالشمس لهذه القاعدة، فمعنى: على رجائكما، يعني: بحسب نظر موسى وهارون -عليهما السلام، فإذا قالوا له قولاً لينًا لعله قد يستجيب، قد يلين قلبه، وهذا ينحل فيه إشكال، فبعض الناس يقول: كيف قال الله :  لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، والله يعلم أنه لا يتذكر ولا يخشى؟! وهكذا.

وهناك أيضًا نوع آخر، وهو: أنه قد ينزل المجهول منزلة المعلوم؛ لادعاء المتكلم أنه ظاهر، والعكس، فقد ينزل المعلوم منزلة المجهول أحيانًا؛ لاعتبار مناسب.

مثال الأول: تنزيل المجهول منزلة المعلوم، المنافقون في كل زمان الله  يقول عنهم:  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [البقرة:11]، ماذا يقولون؟ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، كونهم مصلحين هل هذا أمر معلوم؟ هل هم مصلحون؟ لا طبعًا، هل هذا معلوم أنهم مصلحون؟ لا، ليس بمعلوم، هذا مجهول، لا يعلم عنهم الإصلاح إطلاقًا، بل يعلم عنهم الإفساد.

فرعون كبير المعاندين والملاحدة والمجرمين، ماذا يقول؟ هو يقول للملأ، والملأ يقولون له، فالملأ يقولون له: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ  [الأعراف:127]، وهو يقول لهم:  إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ  [غافر:26]، يعني: اعلموا إن القضية ما ترجع إلي أنا، فبالنسبة إلي: أنا ما عندي مشكلة مع موسى، لكن أنا خائف عليكم، فالرجل يفسد في البلد، ويفسد دينكم، ويخرب عقيدتكم، فأنا أقول هذا فقط من باب القلق عليكم، وعلى دينكم، وعلى مبادئكم، وأخلاقكم، حتى لا يفسدها، فهذا فرعون.

فقوله:  قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  [البقرة:11]، هنا: نزل المجهول منزلة المعلوم، وجاؤوا بـ (إنما) التي هي: من أقوى صيغ الحصر، كأنهم حصروا أنفسهم في هذا الوصف،  إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حصروا أنفسهم بهذا، فنزلوا المجهول منزلة المعلوم؛ لادعاء المتكلم ظهوره، فهذا أمر واضح بالنسبة لنا، يقولون ذلك بلسان الحال يعني: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.

وأما العكس، فقد ينزل المعلوم منزلة المجهول؛ لاعتبار مناسب، فكون محمد ﷺ رسول، هل هذا معلوم أو غير معلوم؟ معلوم، ومع ذلك قال الله وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، لاحظت ذلك! ولماذا؟ باعتبار: أنهم يرون أو يعتقدون أن الرسل لازم يكونون ملائكة، ويطالبون بأشياء ما أرسله الله لها، مثل: حول الصفاء ذهبًا، وأزح عنا جبال مكة، وأن  تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً ۝ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ  [الإسراء:92-93]، يعني: من ذهب، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً [الإسراء:93]، فالله يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، وليس بملك، ولا تطالبونه بهذه الأمور.

وهكذا في قوله تعالى في قول الكفار للرسل: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ  [إبراهيم:10]، قضية كونهم بشر هذا أمر معلوم، ومع ذلك جاؤوا به بهذه الصيغة:  إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ؛ ليقولوا لهم: لستم ملائكة، وإلا فمعلوم أنهم بشر، وهم لا يجادلون في أنهم بشر، وهم يقولون: نحن بشر، فلماذا تقولون لنا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ، كأنها قضية مجهولة، وجالسين تقرروها لنا؟ لاعتبار مناسب؛ ليقولوا لهم: لستم رسلاً، لماذا؟ لأن الرسول لا بد أن يكون ملكا في اعتقادهم.

وهناك نوع، وهو: أن يأتي الخطاب، يجرى فيه على أسلوب المخاطب في التعبير، كما ذكرنا سابقا: أن العرب قد تعلق الأمر بزائل، والمراد به: التأبيد، فقد يعالج المثال الذي ذكرناه هناك بهذه القاعدة أيضًا، وهو قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، فهنا: جاء الخطاب القرآني بأسلوب المخاطبين في التعبير، فهم يعبرون بهذه الطريقة عندما يريدون التأبيد، فجاء الخطاب القرآني بنفس طريقتهم، طريقة العرب، فإذا قال لنا أحد: لماذا قال الله عن خلود أهل الجنة والنار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]؟ فمن خلال ما سبق دراسته إلى الآن، نستطيع أن نقول: عنه جوابان، فيمكن أن نجيب عنه بالقاعدة السابقة، ويمكن أن نجيب عنه بالقاعدة هذه، أرأيتم كيف التفسير؟ وكيف الأقوال يمكن أن تناقش، وتعالج، ويرجح فيها، ويجاب عن الإشكالات؟ بحيث يكون عند الإنسان بصر وملكة وقدرة وآلة، يستطيع أن يتعامل فيها مع الأقاويل التي تمر به في التفسير، ويجيب عن الإشكالات، وما شابه ذلك، فهذه أنواع داخل تحت القاعدة، ويكفي هذا.

قال: قاعدة: من شأن العرب التعبير عن الماضي بالمضارع؛ لإفادة تصوير الحال الواقع عند حدوث الحدث.

التعبير عن الماضي بالمضارع، لماذا؟ شيء مضى ويعبر عنه بالمضارع؛ ليجعل السامع كأنه يشاهد الحدث وهو يقع أمامه، وهذا أبلغ في التصوير، انظر إلى العبارات التي تجدها من هذا القبيل في القرآن: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ [الحج: 63]، هل هذا ماض أو مضارع؟ ماض:  أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً  [الحج: 63]، تصبح هل هو ماض أو مضارع؟ مضارع:  فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً، كأنك ترى الأرض وهي يخرج فيها النبات الأخضر، كأنك تشاهد هذا حينما ينزل من السماء، وترى تحول الأرض، فهذا أبلغ في التصوير.

وهكذا في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا  [السجدة:27]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ وما قال: أولم يروا أن سقنا الماء إلى الأرض الجرز فأخرجنا به زرعا، بل قال:  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا، كأنك تشوف السحاب وهو يمشي، فنخرج به زرعا، فينزل المطر، والنبات يطلع، كأنك تشاهده، فهذا أبلغ في التصوير، وتقريب المعاني.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- عن أخوة يوسف :  وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ [يوسف:16]، وما قال: وجاءوا أباهم عشاء باكين، بل قال: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، كأنك تشاهد المشهد، والدموع أربع بأربع، وهم يظهرون له التأسف والحزن على يوسف وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، فعبر بالمضارع كأنك تشاهد الواقعة، كأنها أمامك.

والله يقول لليهود:  قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91]، وما قال: قل فلم قتلتم أنبياء الله، مع أن هذا حصل في الزمن الماضي، بل قال: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ، كأنك تشاهد جرمهم يقع أمامك، فقال:  تَقْتُلُونَ.

وهكذا في قوله:  وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ  [البقرة:102]، وما قال: واتبعوا ما تلت الشياطين على ملك سليمان، بل قال:  وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، كأنك تشوف الشياطين وهم يمارسون هذه الأعمال المشينة، على عهد ملك سليمان .

قال: قاعدة: قد يرد اللفظ في القرآن متصلاً بالآخر، والمعنى على خلافه.

قد يرد متصلا بالآخر، هذا الذي يسمونه: بالموصول لفظًا، المفصول معنى، وأمثلته كثيرة جدًا، لكن هذه الأمثلة في كثير منها العلماء مختلفون: هل هذا من هذا القبيل أو لا؟ والمقصود: التقريب بالأمثلة، فمن ذلك قوله -تبارك وتعالى- عن ملكة سبأ: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، فالشاهد في: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، هل هذا من بقية كلامها؟ هذا الآن موصول لفظًا، فهل هو من كلامها أو هو من كلام الله، يقرر ما قالت، ويصدقه؟ يحتمل، فإن كان من كلام الله، فهذا ينطبق على القاعدة، وهو ما يسمى: بالموصول لفظًا، المفصول معنى، فهذا كلام متكلم، وهذا كلام متكلم آخر، فما قال: قال الله: وكذلك يفعلون؟ لا، فكأن الكلام متحد.

وفي قول امرأة العزيز لما قالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:51-52]، فقوله:ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ هل هذا من بقية كلام امرأة العزيز حينما قالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ؟ وهل تقصد: لم تخن زوجها في حال غيبته، وإنما كانت مجرد محاولة، أو لم تخن يوسف ؛ لأنه في السجن، فكأنها تقول: يا جماعة! هاهو غائب وانظروا! أنا أشهد: إنه رجل نزيه، وأنا التي راودته، وهو: صادق، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، فهو ليس بحاضر الآن، لكن لن أقول فيه إلا الطيب؟ فهذان قولان، هذا إذا قلنا: إنه من بقية قولها.

ويحتمل: أن يكون من كلام يوسف ، فقوله:  ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أي: العزيز، أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، حينما قال:  ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ  [يوسف: 50]، فلما سئُلن قالت امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أي: ظهر،  أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فيوسف يقول:ذَلِكَ، أي: أنا طلبت هذا؛  لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، ليعلم العزيز أني ما خنته بالغيب، فأنا ما أخرج من السجن على إغماض، والتهمة التي وجهت إلي باقية، التهمة التي تقدح في العرض، لا، أنا ما أخرج إلا براية بيضاء، فلماذا دخلت؟ دخلت بتهمة، والآن أخرج بماذا؟ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ، لاحظتم! فيكون من كلام يوسف ، فإذا كان من كلام يوسف ، وليس من كلام العزيز، فهو: داخل في القاعدة: موصول لفظًا، مفصول معنى.

وفي قوله تعالى عن الكفار حين يبعثون:قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]، وهنا وقف لازم عند:  مَرْقَدِنَا، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]، فهل هذا من قولهم هم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ؟ يجيبون عن أنفسهم ويقولون هذا، يحتمل، وقد يكون من قول الملائكة، كما قال بعض أهل العلم، وبعضهم يقول: إن الأول: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، إن هذا من قول المنافقين، وأن ما بعده من قول المؤمنين، فبصرف النظر عن ذلك، فهذا وهذا يعني: أنه ليس من قول قائل واحد، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]، فيكون من قائلين، مع أنه لا يوجد فصل بينها في اللفظ، كأن يقول: قال الملائكة مثلاً:  هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أو قال المؤمنون: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أرأيتم؟! فيكون من هذا القبيل: الموصول لفظًا، المفصول معنى.

وهكذا:  إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202]، فقوله: وَإِخْوَانُهُمْ إخوان من؟ هل الضمير يرجع إلى ما ذكر قبله:إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ أي: إخوان المؤمنين؟ الجواب: لا، هذا موصول لفظًا، لكنه مفصول في المعنى،  وَإِخْوَانُهُمْ  أي: وإخوان الشياطين،يَمُدُّونَهُمْ يعني: أن الشياطين تمدهم بالغي، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، انظر إلى المؤمن! إذا وقع في الذنب تبدأ تلومه نفسه، ويتندم، ويقول: لماذا؟ ومتى أتوب؟ وإلى متى؟ وتجد الآخر من إخوان الشياطين يقع في الذنب، ويقع في الكفر، ويقع في الفجور، وهو مستمر على ذلك، ولا يفكر أصلاً، ويموت على هذا، فقوله: وَإِخْوَانُهُمْ أي: وإخوان الشياطين،  يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، فهذا من أمثلته على هذا القول، فيكون: وَإِخْوَانُهُمْ  يرجع إلى الكفار، وبعضهم يقول: إلى كفار مكة.

قال: قاعدة: من شأن العرب إضافة أفعال الأسلاف إلى الأبناء، وخطاب الأبناء وإضافة الفعل إليهم وهو لإبائهم.

أما بالنسبة للنعم والإفضال على الآباء، فهي: إنعام وإفضال على الأبناء دائمًا؛ ولهذا الله يقول مثلا: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، ويقول:  وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34]، أو يقول مثلاً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47]، ويقول لهم: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ  [البقرة:49]، ويقول:  وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ  [البقرة:50]، ويقول: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وكل هذا وقع للأجداد، ومع ذلك يخاطبهم القرآن به، فالمنة على الآباء منة على الأبناء.

وكذلك: المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم؛ ولهذا يقول الله ، وهو: يخاطب اليهود الذين في زمن النبي ﷺ، يقول:  ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ  [البقرة:51]، والذين اتخذوا العجل هم أجدادهم، فكيف خاطبهم بهذا؟ يقال: الذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وهكذا سواء في المحمدة أو في المذمة، والله يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الأعراف:11] فقوله:  خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي: آدم .

قال: قاعدة: من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذم، بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا.

هذه القاعدة تجيب عن إشكال كبير، لربما الذي لا يقف أصلاً ولا يتدبر شيئًا، يمكن ما يستوقفه شيء، لا هذا ولا غير هذا، لكن هذه القضية ألفت فيها كتب، مؤلفات ورسائل مستقلة في الجواب عن هذا الموضع، وهذه القاعدة تجيب عنه، وهي: من أسهل الأجوبة، ومن أقربها، ومن أحسنها، ففي قوله -تبارك وتعالى- مثلاً:  وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ [البقرة:177]، فالموفون هل هو مرفوع أو منصوب؟ مرفوع، والصابرين هذا ماذا مجرور أو منصوب؟ منصوب،  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة:177]، فالآن الصابرين منصوب ومعطوف على ماذا؟ على مرفوع، فهل هذا من قبيل اللحن؟ حاشا وكلا، فلماذا جاء منصوبًا؟ يقال: العرب من شأنها إذا تطاولت صفة، أي: الوصف، وصف الواحد، إذا ذكر أوصاف متعددة، الاعتراض بالرفع أو بالنصب، بحسب ما قبلها، فإذا كانت منصوبات يأتي بمرفوع، وإذا كانت مرفوعات يأتي بمنصوب، بكلمة منصوبة بينها، وهي: متعاطفة، مع أن الأصل: أن يؤتى بها على نسق واحد، ويكون ذلك أبلغ في المدح أو الذم، ويكون ذلك أنشط للسامع أيضًا، بدل ما يكون الكلام على نسق واحد، وهذا من بلاغة القرآن، وهكذا في قوله: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء:162]، لاحظ!  لَكِنِ الرَّاسِخُونَ مرفوع،  وَالْمُؤْمِنُونَ مرفوع،يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، ثم ماذا قال؟ هل قال: والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة؟ لا، قال: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [النساء:162]، فهذا منصوب بين مرفوعات، قبله وبعده، لماذا؟ يقال: العرب إذا تطاولت صفة الواحد في مقام المدح أو الذم، تقطع، وتغير الإعراب، فنقول: هذا جواب، وهناك أجوبة كثيرة جدًا فيها، لكن هذا من أقربها.

وأما إعرابها، فيقال: هي: مرفوعة محلا، منصوبة لفظا، وبعضهم يقدر ويقول: وأخص المقيمين، فتكون منصوبة على الاختصاص بالمدح، إلى غير هذا مما يذكرون، فهذا في المدح، وأما في الذم فكقوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، فامرأته مرفوع، وحمالة جاء منصوبًا.

قال: المقصد الخامس: الإظهار والإضمار، والزيادة والتقدير والحذف، والتقديم والتأخير.

القسم الأول: الإظهار والإضمار.

قاعدة: وضع الظاهر موضع مضمر، وعكسه، إنما يكون لنكتة.

وضع الظاهر موضع المضمر، فالعرب تعبر بالضمائر كما هو معروف اختصارا في الكلام، تقول: رأيت زيدًا وعمرًا وسعيدًا، وأعطيتهم كتابًا، بدل ما تقول: وأعطيت عمرًا وسعيدًا وزيدًا كتابًا، وتطول الكلام، تقول: وأعطيتهم، فينتهي الكلام، ويحصل المقصود، ويفهم، فهذه الضمائر تختصر الكلام.

أحيانًا في الموضع الذي يصلح فيه الإضمار، يؤتى بالاسم الظاهر، وأحيانًا في الموضع الذي يصلح فيه أو يتوقع فيه الإظهار، يؤتى بالضمير، لماذا؟ لنكتة.

مثال على وضع الظاهر موضع المضمر: الله يقول:  وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وما قال: أنه كان مشهودا، بل قال:  إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، فهنا أظهر في موضع الإضمار، ونحن قلنا: لنكتة، ما هي هذه النكتة هنا؟ لو قال: إنه كان مشهودا، فأنا متأكد أنهم سيختلفون فيها، وسيأتي من يقول: إن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وما هو أقرب مذكور؟ هو: الفجر، فيكون المعنى: إن الفجر كان مشهودا، وليس القرآن، وسيأتي من يرد عليه، ويقول له: هذا مضاف، وهذا مضاف إليه، والأصل: أن المحدث عنه هو: المضاف، وليس المضاف إليه، والواجب: أن الضمير يرجع إلى المضاف، وهو: خلاف في هذا، لاحظتم! فهنا حسم القضية، فما عبر بالضمير، حتى لا يقع هذا اللبس، إذن: النكتة ما هي؟ رفع الالتباس، فما هو المشهود في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]؟ هو القرآن، فقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ هو: القراءة في صلاة الفجر، كَانَ مَشْهُودًا يشهده الله حينما يتنزل في ثلث الليل الآخر إلى صلاة الفجر، كما صحت الروايات في هذا[2]، وأيضًا: تشهده الملائكة، كل هذا صحت فيه الروايات[3]، ولو تتبعتم الروايات الصحيحة لوجدتم ذلك، فما قال: إنه كان مشهودا، بل قال:  إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، فبهذا دفع الالتباس.

ويقول الله :  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، وما قال: واتقوا الله ويعلمكم، فيكون الضمير مستتر، بل قال:  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، فهذا يفيد التعظيم، أيها أعظم: واتقوا الله ويعلمكم، أو  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ؟ أيها أعظم وقعًا للنفوس؟ الثانية.

وكذا قوله: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]، وما قال: ألا إنهم هم الخاسرون، وإنما قال: أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ؛ للإهانة والتحقير، فأظهر في موضع الإضمار.

وقوله: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]، فقال: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، وما قال: وما هو منه، بل قال: وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، وقال: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وما قال: وما هو من عنده، بل قال:  وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لماذا أظهر هنا في موضع الإضمار؟ للتقرير، ليقرر عليهم، ويسجل عليه هذه القضية، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، فيقرر: أنه ليس منه، ولا يمت له بصلة، فهل هذا أبلغ أو لو قال: وما هو منه؟ أبلغ أن يقول:  وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، وأنت إذا أردت أن تقرر شيئا بقوة، تعيده مظهرًا، بدلاً من الإضمار.

وهكذا في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ [غافر:49]، وما قال: لخزنتها، نسأل الله العافية، بل قال:وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وجهنم: اسم من أسماء النار، فلماذا لم يعده بالضمير؟ أظهر في موضع الإضمار، ولو قال: وقال الذين في النار لخزنتها، لفهم المعنى، لكنه قال: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]، فهذا لتربية المهابة، لأن وقعه في النفس أشد، إلا إن كان ما يتذوق القارئ هذا، فبهذا يظهر الفرق.

وقوله: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، وما قالت: وما أبرئ نفسي إنها لأمارة بالسوء، بل قالت:  وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؛ لأنها لو قالت: وما أبرئ نفسي إنها لأمارة بالسوء، فقد يفهم أن النفس الإمارة بالسوء هي نفسها فقط، لكن حينما قالت: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، فأفاد التعميم، ليس فقط نفسها، لاحظتم! فأفاد الإظهار هنا موضع الإضمار، أفاد هذا المعنى.

وأما مثال وضع المضمر موضع المظهر، يعني: العكس، فقوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ  [البقرة:97]، وما قال: فإن جبريل نزله على قلبك، بل قال: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، أيها أفخم في هذا المقام؟ قوله:  فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فهذه تفيد التفخيم؛ ولذلك فالقرآن عباراته دقيقة؛ ولهذا تجد من يكتبون في الإعجاز، يقولون: ما يمكن تبديل لفظة مكان أخرى، ونعم، يقع الإعجاز بأقصر سورة منه، واختلفوا في الآيات التي تعادل أقصر سورة منه، هل يحصل بها الإعجاز أو لا؟! لكنهم يتفقون على: أنك لو أخذت لفظة، وأردت أن تضع مكانها لفظة أخرى، فما يمكن أن تقوم مقامها أبدًا، فأحيانًا يكون الضمير هو الذي يكون أبلغ ما يكون في هذا الموضع، وأحيانًا الاسم الظاهر، فقوله:  فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ، هذا أبلغ.

وحينما يقول الله عن القرآن:  إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، هنا القرآن ما سبق له ذكر، فهذا موضع إظهار، أي: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، لكن الضمير قد يرجع إلى غير مذكور؛ لأن المراد يفهم بالسياق، فهنا: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، أفخم مما لو قال: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، فالضمير أحيانًا يعبر به للتفخيم، فقد تقول للسامع.. للمخاطب، قد تقول له: إنه يراك في مقامك، ويكون هذا أبلغ من أن تقول له: إن ربك يراك، أو تقول عن أحد من الناس: إنه يحبك، فقد يكون أبلغ من قولك: إن زيدًا يحبك، بحسب المقام، والسياق، وما اقتضاه الحال.

قال: قاعدة: إعادة الظاهر بمعناه أحسن من أعادته بلفظه، وإعادته ظاهرًا بعد الطول أحسن من الإضمار.

مثال على إعادة الظاهر بمعناه في الموضع الذي يستحسن فيه ذلك: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]، وما قال: إنا لا نضيع أجر الذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، بل قال: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فهل أعاده بمعناه، أو أعاده بلفظه؟ أعاده بمعناه، فإعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، وإعادته ظاهرًا بعد الطول أحسن من الإضمار؛ من أجل أن لا ينقطع السامع مع طول الكلام، ينقطع عن ما ابتُدأ الحديث عنه.

وفي قوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]، وما قال: إنا لا نضيع أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هل قال هذا؟ لا، بل قال:  إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً، فهل أعاده بمعناه أو بلفظه؟ بمعناه، أيها أبلغ؟ إعادته بمعناه، فهذا معنى: إعادته بمعناه.

ومثال ما أعيد بلفظه حال كون كل واحد من اللفظين واقعًا في جملة مستقلة عن الأخرى، فأحيانًا تجد الكلام يعاد بلفظه تمامًا، يعني: اللفظة هذه بعد اللفظة هذه، لكن هذا في جملة مستقلة، وهذا في جملة مستقلة، فيكون الاسم الظاهر وقع في آخر جملة، وفي بداية جملة أخرى، وليس بينهما فاصل لفظي، ويكون ذلك في منتهى البلاغة، فمثاله: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124]، ثم قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، لاحظ الآن! قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فإذا نظرت في المصحف، فكلمة:  اللَّهِ اللَّهُ متتابعة، فما قال: إنه أعلم حيث يجعل رسالته، مع التقارب الشديد، فيقال: وقع هذا؛ لأن هذه وقعت في جملة مستقلة، وهذه في جملة مستقلة، فهنا يمكن أن يؤتى به مظهرًا، ويكون ذلك في منتهى البلاغة.

وقوله:  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، ما قال: واتقوا الله ويعلمكم، بل قال:  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، فهذه في جملة، وهذه في جملة مستقلة.

وقوله: قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [العنكبوت:31]، وما قال: إنهم كانوا ظالمين، بل قال: إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ؛ لأن هذا في جملة، وهذا في جملة مستقلة.

ومثال إعادة اللفظ ظاهرًا بعد الطول، بعد طول الكلام، فنحن إذا تكلمنا مثلاً، نقول مثلاً: وقد ذكر النبي ﷺ للناس ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم، وبين ذلك غاية البيان، أو نقول: قال رسول الله ﷺ مبينًا للناس ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم، ثم نقول: قال، فنعيد قال مرة ثانية، لماذا أعدناها؟ بعد طول الكلام، فالسامع قد يذهب مع الاستطراد، ولا يربط بين أول الكلام وآخر الكلام، فيحتاج إلى إعادة لفظة تربط له أجزاء الكلام.

فمثال إعادة اللفظ ظاهرًا بعد الطول بدلا من الضمير: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام: 83]، لاحظ! هذا بعد أن قال الله في أول الكلام الطويل:  وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۝ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ  [الأنعام: 74-83]، فلاحظ! طول الكلام هنا، فقال:  وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وما قال: وتلك حجتنا آتيناه إياها على قومه، فما قال: آتيناه إياها، بل قال: آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ، فأظهره، فأتى بالاسم الظاهر بدلا من الضمير لماذا؟ لأن الكلام في أوله:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ، وبينهما فصل طويل، فقد يكون السامع شت ذهنه، وذهب بعيدا، ولا يربط بين أول الكلام وآخر الكلام، فجاء بالاسم الظاهر، فقال تعالى:  وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ .

وهكذا في قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:119]، وما قال: إنه من بعدها لغفور رحيم، بل قال:إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وفي الأول: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ، ثم بعد ذلك قال: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ؛ لطول الفصل.

وهكذا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، ماذا قال؟ قال: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، فأعاد: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ؛ لطول الفصل، فإعادته هنا بعد طول الكلام أحسن من إعادته بالضمير، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (17/ 325)، رقم: (899)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين: (4/ 582)، كتاب الفتن والملاحم، أما حديث أبي عوانة، رقم: (8622)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجه، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (11/ 15)، رقم: (5009).
  2. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، رقم: (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه، رقم: (758)، وفي لفظ مسلم: فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر.
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، رقم: (4717)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، رقم: (649).

مواد ذات صلة