الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(07) نصيحة ختامية
تاريخ النشر: ٢٨ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 4492
مرات الإستماع: 3651

(7) نصيحة ختامية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

هذه الليلة أختم هذه المجالس التي تحدثنا فيها عن هذه المسألة الدقيقة، أوردت فيها هذه الأمثلة،والسؤالات التي أرجو أن يكون فيها غُنية لطالب الحق.

فإن هذه الأمثلة المتنوعة كلها تدل دلالة واضحة أكيدة على هذه الغاية التي ذكرتها ابتداء، وهي أن هذا الموضوع ليس بالشيء السهل الهين الذي يظنه ويتوهمه كثير من الناس، فهو يحتاج إلى متطلبات من الرسوخ في العلم، وإلى معرفةٍ فيما يتصل بتحقق الشروط وانتفاء الموانع، وأن هذه القضايا تختلف بحسب الحال، والزمان، والمكان، ولا يمكن أن يُجعل لذلك من الحدود ما يَفصله فصلاً دقيقاً يُجرى عليه في كل الحالات والصور، لا يمكن، فهؤلاء الذين يكونون في آخر الزمان يدركون آباءهم على هذه الكلمة لا إله إلا الله، ولا يدرون صياماً ولا صلاة ولا غير ذلك، ما قيل: الأصل في هؤلاء الكفر والردة، وإنما نفعتهم هذه الكلمة فهي تنجيهم من النار[1].

وهكذا في المسائل التي قد يقال: إنها لا تخفى -لاسيما في بيئات العلم- وقد خفيت على بعض كبار الصحابة ، وخفي على بعض العلماء أشياء من القراءات المتواترة الثابتة فأنكروها، وبعضهم علماء في القراءات، ولم يكن ذلك سبباً لكفرهم. 

وهكذا تبنّى أقوام كالخلفاء الأربعة الذين ذكرنا من خلفاء بني العباس قضيةً أفتى خمسمائة من العلماء الأئمة الكبار بكفر من قال بها، ومع ذلك لم يُكفرهم هؤلاء بأعيانهم، فنجد الإمام أحمد -رحمه الله- قد عفا عن المعتصم، وكذلك أيضاً أحمد بن نصر الخُزاعي الذي ذكرنا خبره أمام الخليفة، وقد تحنط ويعلم أن الخليفة سيقتله ومع ذلك كان يقول: يا أمير المؤمنين

الإمام أحمد -رحمه الله- قد عفا عن المعتصم، وكذلك أيضاً أحمد بن نصر الخُزاعي الذي ذكرنا خبره أمام الخليفة، وقد تحنط ويعلم أن الخليفة سيقتله ومع ذلك كان يقول: يا أمير المؤمنين، ولم يُكفره مع أنه فعل فيه ما قد علمتم، ولم يُسبب ذلك ردود أفعال بتكفير أو حمل سلاح، ولم يُنقل في التاريخ عن أحد من المسلمين أنهم كانوا يحملون السلاح غيرةً بعد أن يُكفروا من خالفهم، فيعمدون إلى الناس، ويقتلونهم في أي مكان فضلاً عن بيوت الله -تبارك وتعالى، وإنما الذين نُقل عنهم الإغارة على المساجد وعلى المسلمين في التاريخ لا أعلم سوى طائفتين: الطائفة الأولى الباطنية، فهؤلاء كانوا يُغيرون على الناس في المساجد وفي غيرها، ولا يخفى عليكم خبرهم فيما فعلوا في المسجد الحرام من قتل الحجيج ومن إلقائهم في بئر زمزم، والفئة الأخرى التي كانت تُغير على الناس في المساجد وفي غيرها هم الخوارج، وقد قُتل علي وهو في المسجد.

ولذلك أقول: إذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل الإنسان يلج في مثل هذه الأمور، ويُدخل نفسه في أعمال لا تسلم ولا تبرأ ذمته بها بحال من الأحوال؟، ما الحامل لهذا؟ ما هذا التدين الذي يقود الإنسان لأمور قد تُضيع دنياه وآخرته؟ فهذا ليس هو الطريق.

ولذلك أقول في هذه الخاتمة التي أنصح بها، والمقصود من هذه المجالس محض النصيحة لإخواني المسلمين، والشفقة ومحبة الخير لهم، وكراهية أن يقعوا في شيء من هذه الأمور.

فأقول في هذا الختام الذي أنصح به: لا تجعل قلبك عُرضة للشبهات، واحفظوا هذه: فإن من عرّض نفسه للفتنة أولًا لم ينجُ منها آخرًا، وكلام الأئمة في هذا كثير، تجدون الروايات في مقدمة الدارمي في سننه، وفي كتاب الشريعة للآجُري، وفي الإبانتين لابن بطة، وفي أصول السنة للالكائي، وفي أول كتاب شرح السنة للبغوي، وغير هذا من الكتب كثير، يوردون عشرات النصوص عن السلف في التحذير من السماع للشبه، ويقولون: القلب ضعيف، وما كانوا يسمحون لأحد أن يُلقي في آذانهم وعلى أسماعهم وفي قلوبهم ما قد يعلق فيها، وهم أئمة وكبار.

وقد ذكر ابن بطة -رحمه الله- حالات أربع يُسمح فيها بالسماع للشبهة والرد عليها، وليس ذلك مما نحن فيه، فالأصل أن لا يستمع، وأن ينأى بنفسه، وأن يطلب السلامة لقلبه، وقد قالوا كما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التحول"[2]، كل يوم على مذهب، وكل يوم على رأي، وكل يوم على دين، فهذا من باب الوقاية لتحصيل السلامة فإن المُخاطرة بالدين أمر ليس بالسهل، ولا يورث العواقب المحمودة، فمن الناس من يكون ذلك عنده من باب الفضول، يريد أن يقرأ، أن يعرف، أن يطلع، أن ينظر، فيتابع بعض الحسابات أو يقرأ في بعض المواقع ثم بعد ذلك يعلق في قلبه من الشبهات ما لا يستطيع دفعه، كما قيل: "فصادفَ قلباً خاوياً فتمكّنا".

قد لا يكون عنده من العلم والرسوخ ما يستطيع معه معرفة وجه الجواب، فيتورط، وقد يسمع من الردود ما لا يُستخرج معه هذا الاشتباه، فانأَ بنفسك، هذه أولاً.

الأمر الثاني: إياك والخوض في عُضل المسائل، وما يدق من قضايا العلم التي لا يُتوصل إليها إلا بعد الرسوخ فيه، فالعلم له درجات ومراحل، فإذا غاص في بعض أبوابه من لا يُحسن فقد يغرق، كالذي يدخل في لُجة البحر، ولهذا قال الشافعي -رحمه الله- لما جاءه تلميذه المشهور الربيع بن سليمان وقد سمع شبهة، فأشكلت عليه فغضب الشافعي -رحمه الله- وقال: "ويحك، أتدري أين أنت؟ أنت في تاران"[3]، و"تاران" يقولون: هو موضع خطِر في البحر، يعني: ما الذي أوقعك في مثل هذا الموضع الذي عرضك لمثل هذه الشبهة، ثم تبحث عن المخرج؟، وما الذي أوقع أصحاب الضلالات في ضلالاتهم إلا الإصغاء، حتى قيل عن رأس من رءوس الخوارج وهو عمران بن حطان بأن سبب دخوله في هذا المذهب أنه تزوج ابنة عم له كان يحبها، وأراد أن يثنيها عن هذا المذهب فقلبته، وقيل: قدِم صبي أو فتى من عُمان على رأي الخوارج فقلبه في قعدة، في مجلس واحد، وكم من الناس من ذهب ليجادل أو يناقش، أو يحتج على بعض المنحرفين، ولم يلبث حتى تبنى رأيهم وتأثر بانحرافاتهم، وقد سمعت من أناس يشكون حال بعض من يعرفون أنه ركب بعض الانحرافات الخطيرة في الاعتقاد -يعتقد أن أحداً لربما كان من الرسل في هذا العصر، والسبب أنه ذهب إلى شخص يريد أن يقنعه، وأن يجادله، فتبنى ذلك. 

رأينا حالات لا تدري هل هؤلاء قد سُحروا أو ذهبت عقولهم، كيف يقتنعون بمثل هذه الضلالات، ويصرون عليها غاية الإصرار؟!، يعتقد أن أحداً من الناس أنه رسول، أو أن فلاناً هو المهدي، أو غير ذلك، لا تدري هل هذا مسحور أو ذهب عقله؟، هل سُحر؟ هل أولئك يستعملون السحر في جذب الناس وإضلالهم؟

فأقول: ينأى الإنسان بنفسه عن مثل هذه القضايا، مسائل التكفير، والخوض فيها ليس لكل أحد، هذا يحتاج رسوخًا في العلم، والعلم يحتاج إلى صبر وثني رُكب ومدة طويلة في التعلم، وأخْذ عن العلماء الثقات، وكلما ازداد الإنسان علماً ورسوخاً ازداد احترازاً وخوفاً واحتياطاً، أمّا الذي لا بصر له في ذلك فهو يُسارع، ويُلقي الأحكام سواء في المسائل العلمية، أو المسائل العملية؛ لأنه لا يرى إلا طرفاً يبدو له ولم يرَ ما وراء ذلك من ذيوله، وما يتصل به، ولذلك مما يوضح هذا أنك تجد أنه لربما يُسأل بعض أهل العلم في مجلس فيسارع العامة ويجيبون، وهذا العالم يُقلب النظر ولربما يتوقف؛ لأنه يتردد بين دلائل وقواعد تتجاذب المسألة، وهؤلاء يسارعون ويقولون: هذا لا إشكال فيه، وإذا سُئلوا عن ذلك قالوا: عندنا حدْس، فهؤلاء يجرءون على الحكم والفُتيا لقلة الورع وضعف البصر.

ثم أيضاً ينبغي أن نرجع إلى العلماء الربانيين، وأن نرتبط بهم، وأن نأخذ العلم عنهم، وإذا كان الإنسان لا يقوده العلماء ويُرشده العلماء فإن الذي سيقوده هو الجهال، هذه هي النتيجة، ومهما يكن عند العالم من التقصير فهو خير من أولئك الجهال الذين لا يبلغون شأوهم لا في العلم، ولا في الدين، ولا في العقل ولا في الخبرة، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61].

إذا تُرك العلماء الأعلام فمن الذي يدل الناس على الحق؟، فإن الجاهل لا يعرف تفاصيل ذلك فكيف يدل غيره؟، فالارتباط بالعلماء ضرورة من الضرورات، ولهذا تقدم الكلام عن إسقاطهم وخطر ذلك وأنه هو الطريق ليقود الجهال الناس، ويتكلم من هب ودب ودرج، ولذلك يجب أن يوقر العلماء وأن تُحفظ أعراضهم، ولا يُسمح لأحد بانتقاصهم، ولو كان الإنسان يتكلم عن خطأ بين فإن هذا لا يجوز أن يشاع وأن يذاع، وإنما يُوصِل ذلك إلى من يُقبل منه، فيُراجِع هذا العالم ويُناصحه بالتي هي أحسن، وبالأسلوب اللائق الذي يكون أحرى للقبول، أمّا أن تُهدر حرمتهم وكرامتهم ومنزلتهم فإن ذلك يعني إسقاطهم، وإذا كانت الدعوة لا يقودها العلماء فمعنى ذلك أنها ستكون عُرضة لكل آسر وكاسر، هذا يقودها من هنا، وهذا يقودها من هنا، هذا يقول: الطريق من هنا، ثم حينما يكون لهذا أو ذاك من النضج بعد عقود قد يتراجع ويغير المسار تماماً، وأولئك الذين شقوا في الجري خلفه والدفاع عنه بعد أن غير لهم وجهته ماذا عسى أن تكون حالهم؟.

الارتباط بالعلماء الربانيين، ولذلك انظروا إلى حال علمائنا من المعاصرين، وأنا لم أورد شيئاً من كلامهم قصداً هنا مع أنهم تاج رءوسنا؛ لأني أعلم أن الكثيرين ممن لديهم انحرافات لا يقبلون عنهم، فأوردت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وأمثال هؤلاء، لكن أقول: انظر إلى حال هؤلاء العلماء من المعاصرين تجد أنهم لا يتلونون، ولا يتقلبون، ولا يتحولون، وإنما على سيرة واحدة من أول حياتهم إلى آخرها، لا تجد تحولات وتقلبات، وهكذا كان العلماء عبر العصور -أعني العلماء الربانيين- على سَنن واحد، وسيرة واحدة، لا يتغير، من عهد الصحابة إلى عصرنا هذا، على طريقة واحدة، قد يُؤذَى، وقد تمر به أحوال، وقد تعرض فتن وتجد هذا العالم على سنن واحد، لا يتحول ولا يتقلب، ولا تؤثر عليه الجماهير والأحداث، فهذا هو الثبات، بخلاف من قل بصره فكثر تحوله وتقلبه، تُغيَّر المفاهيم والأشياء التي تُلقن للناس لربما عشرات السنين، أعطيكم مثالاً وإن كنت لا أحب هذه الأمثلة؛ لئلا تشوش على بعض القلوب، والمقصود أن يُقبَل الكلام فيُنتفع بمثل هذه القضايا، لكن هذا الربيع العربي الذي حصل أو ما سُمي بالربيع العربي غيّر أناس قناعات كانت عندهم، ويلقنونها لطلابهم وتلاميذهم، وأتباعهم فلما حصلت هذه الأمور جرى خلفها كثيرون، ثم بعد ذلك تبين أن الأمر ليس كما ظنوا، ولعلهم يتمنون يوماً مما كان، وهذه الأحوال شاهدة، فيأتي من يقول في مقابلة حينما سُئل: كنتم تقررون عدم جواز الدخول في كذا؟ فقال: كنا نقول ذلك هكذا من غير تحقيق، هذا رجل يتبعه كثيرون، من غير تحقيق، وإنما قلناه تقليداً، كيف تبقى على هذا مدة طويلة، وهؤلاء الأتباع، وتقول: كنا على هذا تقليداً، ثم حينما لاح ما لاح مما يظنه شيئاً -وليس بشيء- غيّر في لحظة لا أقول: في يوم وليلة، وصار يتندر بتلك المفاهيم التي كان يتمسك بها؟!. 

وكذلك أيضاً أقول بهذه الخاتمة نصيحة لنفسي ولإخواني: كل ما يؤدي إلى إيغار الصدور ينبغي تركه، ما يؤدي إلى إيغار الصدور على العلماء فيُترك، أو على الأمراء فيُترك.

انظروا أيها الأحبة، عثمان بن عفان  قُتل، ثم بعد ذلك الذين قتلوه هم الخوارج، وقتلوا عليًّا ، وهم الذين ألزموه بالخلافة، ما الذي حصل؟ كان عبد الله بن سبأ يتنقل بين الكوفة والبصرة والشام ومصر والحجاز، يتحدث عن ماذا؟ الآن لا يوجد خوارج، الناس على قلب رجل واحد، كان يتحدث في زعمه عن ملاحظات، ملاحظات على عثمان ، ما هذه الملاحظات؟ أنه يولي أقاربه، فيتكلم بهذا، ولّى فلاناً، وولى فلاناً، وولى فلاناً، وأنه يتصرف في المال العام، فيُعطي أهل بيته وقرابته، يتصرف في الأموال يُعطيهم إقطاعات، ويعطيهم أموالا، فيتحدث، فإذا وجد أذناً صاغية، وجد من يُصغي، ويتأثر بمثل هذا الكلام زاده جُرعة، فأعطاه حتى يبلغ به أن هذا يجب الخلاص منه، وأنه لا يصلح للخلافة، فتمتلئ القلوب بالضغينة على أمير المؤمنين عثمان ، لم يجد في الشام من يسمع له، وإنما وجد في مِصر ووجد في بعض البلاد غيرها، فتواعدوا وتجمعوا لمّا وُجد عدد كثير، فجاءوا في وقت الحج والناس في مكة من أجل أن لا يكون هناك من يدافع عن عثمان من الجموع التي تقف في وجوههم. 

الناس في الحج، فجاء هؤلاء وخالفوهم إلى المدينة، وحاصروا عثمان ، ولم يكن هناك منهم مناصحة قبل ذلك، فكانت قلوبهم مليئة بالغل، وإنما حينما اجتمعوا على عثمان  وحصل مجاوبة، وهم يريدون قتله وسألهم عما ينقمون عليه، فذكروا الأشياء أجاب عنها، وأن هذه الأموال أمواله، وكان من أغنياء الصحابة ، فكان يصل قرابته بماله الخاص، وأجاب عن كل هذه الإشكالات، لكنهم أرادوا أمراً آخر، وكانت قلوبهم مليئة بالضغينة والغل، فقتلوه ، ولم يقفوا عند هذا حتى قتلوا عليًّا بعد ذلك

فأقول: هذه الرسائل التي نتداولها بغير قصد، أو الحديث الذي في المجالس مما يورث الضغينة والغل في المنكرات العامة في القضايا العامة أو الخاصة، مثل هذه الأمور الطريق الصحيح أن الإنسان ينصح يوصل النصيحة

هذه الرسائل التي نتداولها بغير قصد، أو الحديث الذي في المجالس مما يورث الضغينة والغل في المنكرات العامة في القضايا العامة أو الخاصة، مثل هذه الأمور الطريق الصحيح أن الإنسان ينصح يوصل النصيحة، والنبي ﷺ قال: ثلاث لا يغل عليها قلب مسلم[4].

فهذا هو الطريق، فيوصل هذه النصيحة، وبهذا يتلاشى المنكر ويزال، تحدث مع من يستطيع أن يرفعه، تحدث مع صاحب المنكر، تحدث مع من يستطيع أن يصل إليه، أو يصل إلى من يغير هذا المنكر، فإذا توارد هذا وهذا وهذا خفت الشرور، والمنكرات وأبرأ الإنسان ذمته، لكن الحديث في المجالس لا يغير من المنكر، ولا يصل هذا إلى صاحب المنكر، أو من يستطيع أن يغير المنكر، وإنما النتيجة سلبية، هذا الحديث السلبي يورث النتائج السلبية، ما هي النتيجة السلبية؟.  

النتيجة السلبية أولاً: أن ذلك قد يدخل في إشاعة المنكر، ففي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]، بعض السلف فسروا الإشاعة  -وهو مما يدخل في المعنى- بالحديث عنها في المجالس، يتحدث، حصل حالة كذا، حصل اغتصاب كذا، حصل كذا، وهذا أثر آخر وهو أنه يخف أثر ذلك في الأسماع، فيهون على القلوب فتألف المنكر، تصور حال بعض السلف كان إذا سمع بمنكر لا يستطيع تغييره يبول دماً؛ لأن القلب بقيت له شفافيته، لكن الذي اعتاد سماع المنكرات ومشاهدة المقاطع الكثيرة في هذا هي مجرد زيادة في الأمثلة، هو لا يتأثر، وتجده يشاهد هذا المنكر ويأكل بعده ويشرب ويضحك؛ لأنه ألِفَ، لكن الذي لم يألف لا يستطيع أن ينام تلك الليلة من الألم والحزن، فهكذا إذا بقي القلب حيًّا لم تضعفه رؤية المشاهد المتكررة من المنكرات، فليس الطريق أن نتحدث عن هذا في المجالس، أو نتحدث عما عندنا من استدراكات أو نحو ذلك، ونقول: انظر ما عندك أحد، وغير ذلك من العبارات التي يقولها بعض الناس، مع أنك لو نظرت في حال هذا المتكلم وما تحت يده لرأيت تفريطاً وتضييعاً فيما كان تحت يده من ولده وأهله، أو ما كان تحت يده مما اؤتمن عليه، فكيف لو كان هذا تحت يده بيت مال المسلمين؟.  

وإذا كان هذا لا يستطيع أن يضبط أولاده وبناته فيحملهم على ما يليق من التربية الصحيحة ونحو ذلك، ولربما دخل بيته كثير من الأمور المنكرة وخرجت بناته في حال خلاف الحشمة، وحملوه على أسفار لا تجوز، وكل هذا يعلله بأن هؤلاء تعب معهم، طيب لو كانت تحت يدك أمة كاملة كيف ستصنع؟، أسرة من أربعة، خمسة، ستة، سبعة أفراد لم تستطع أن تدير هذه الأسرة بالشكل الصحيح، لو كان تحت يدك عشرة آلاف، لو كان عشرة ملايين، ماذا ستصنع؟، فقبل أن يتحدث الإنسان بمثل هذا ينبغي للمنصف العاقل أن ينظر في نفسه هو، وينظر في فائدة هذا الكلام ما هو الهدف النهائي منه.

فأقول: مثل هذا يخف معه المنكر، ولا يتغير، يخف أثره في النفوس ولا يتغير في الواقع ثم تبقى القلوب مليئة، هذه القلوب المليئة لربما تكون محلا قابلاً لدعوة نشاز، منحرفة إلى مثل هذه الضلالات والانحرافات، فيركب الإنسان مثل هذا؛ لأن قلبه مليء بالضغينة، فإن لم يفعل لربما تعاطف معهم، ولربما وافقهم في نفسه، أو في قلبه، أو أعجبه فعلهم من باب التشفي والانتقام، وهذا لا يجوز؛ لأنه سيكون شريكاً لهم في هذه الأعمال، والقتل وإراقة دماء المسلمين، فتطهير القلب وتنظيف القلب كما ذكر النبي ﷺ هو فعل هذه الأمور الثلاث أن يكون عمله خالصاً لله ، لا يلتفت لشيء آخر، ومناصحة ولاة أمر المسلمين، من العلماء والأمراء فيوصل لهم ما عنده، أو يوصل إلى من يوصل لهم، أما الكتابات والتغريدات ورسائل في الواتس آب مُدمية في منكرات عامة، أو نحو ذلك ثم ماذا؟، حينما ترسلها لهؤلاء الذين معك في هذه المجموعة، ثم ماذا؟ لا أحد منهم لربما في الغالب يتحرك وينكر هذا المنكر ويوصل صوته إلى من يستطيع أن يغيره.

فهي ثقافة للأسف تربى عليها الكثيرون يجب أن نغيرها، من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان[5]، لكن نشر هذا في هذه الدوائر عبر هذه الوسائل لا يغير المنكر، والواقع يدل على هذا.

فتستطيع أن تراسل، تكاتب، ترسل برقية، تذهب بنفسك وتنصح بالتي هي أحسن، هذا هو الطريق.

ثم أقول في الختام: لو نظر الإنسان بعقل معيشي في هذه الأفعال يجد أنها لا تحقق المصالح الشرعية إطلاقاً، ولا تحقق مصالح دنيوية، لو نظر بعقل مجرد بعيداً عن العلم الشرعي فلن يجد فيها شيئاً من ذلك، لو نظر بعقل معيشي كما يقال، العقل المعيشي الذي ينظر فيه إلى المصالح فقط الدنيوية فإنه لن يجد مصالح دنيوية، هذا الطريق بالنسبة لما يُطلب به ما عند الله -تبارك وتعالى- مسدود، لا يحقق المصالح الشرعية أبداً، ولا يوجد عمل فيما أعلم أبلغ في تشويه صورة الإسلام، وصد الناس عنه والتضييق على الدعوة، وضرب الجهاد الحقيقي في مقتل من مثل هذه التصرفات، لا يوجد فيما أعلم أبلغ من الإساءة إلى الجهاد الحقيقي، أو الدعوة، أو الإسلام وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين أبلغ من هذه الأعمال، كيف جادت قرائح الأعداء بمثل هذه الأعمال؟، يبذلون الأعمال الطائلة، ولديهم جيوش تنصيرية، وجاءوا بخيلهم ورجلهم بجيوشهم العسكرية إلى بلاد المسلمين، وما استطاعوا أن يحققوا غاياتهم، واحتلوا بعض بلاد المسلمين أربعمائة سنة، انظر إلى أندونيسيا على سبيل المثال أربعمائة سنة تعاقبت عليها دول استعمارية، ولا أعلم بلداً فيه جمعيات ومعاهد شرعية أكثر من أندونيسيا اليوم، وقبل سنتين تقريباً لأول مرة في التاريخ أعلن بابا الفاتيكان أن المسلمين صاروا أكثر الأديان اتّباعاً في العالم وقد زادوا على النصارى، هذا أول مرة في التاريخ، كان النصارى أكثر، فأعلن هذا بابا الفاتيكان، وأعلن بعدها بمدة يسيرة الرئيس الأمريكي أن الإسلام هو الأكثر انتشاراً في العالم، هذه تصريحات على مستوى، فما حيلتهم مع هذا الدين، كل الحيل التي فعلوها الجيوش العسكرية، وكذلك أيضاً الصد عن سبيل الله بهذا التنصير، وكذلك أيضاً استعمار بلاد المسلمين، أو استخراب بلاد المسلمين وأنشئوا فيها المدارس، وأخذوا النُّخب وربوهم تربية خاصة على أعينهم لكن بقي هذا الدين ظاهراً مع كل تلك الجهود، لكنّ ضرْبَ الإسلام والمسلمين والجهاد الشرعي الصحيح والدعوة إلى الله لن يتحقق بأفضل من هذا؛ فالناس إذا رأوا هذه الرءوس تُجز وتُذبح بالسكاكين، ورأوا مثل هذه المشاهد فيما يُدعى أنه إقامة حدود بهذه الطريقة وفي بلد مضطربة، وقد نهى النبيﷺ عن إقامة الحدود في أرض العدو، وتُصور وتُنشر، فهذا يُذبح وهذا يُحرق وهذا يُرمى، فما ظنكم بهذه الفوضى العارمة حينما يقوم بعضهم بمثل هذه الأعمال، هذا أبلغ الصد عن دين الله ، الحدود ليست هكذا تقام، ولهذا نهى النبي ﷺ عن إقامة الحدود في أرض العدو[6]، بل قد ترك ﷺ الحد على عبد الله بن أُبي لدفع مفسدة أكبر[7]، وهذه تُصور وتُنشر، وقل مثل ذلك في إعطاء صورة سيئة عن الجهاد في سبيل الله -الذي هو ذروة سنام الإسلام، وعن أهل الصلاح والخير، فقد لا يُميز بعض الناس.

فهذا كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "وهؤلاء لا تَصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل"[8]، يعني: حتى الإنسان إذا كان يريد دنيا بهذه الأعمال فإن ذلك يؤلب الناس عليه جميعاً أهل الصلاح، وأهل الشر والفساد، فالكل يعاديه، فهو لا يُحصل دنيا بهذا، وكذلك ما يحصل من الفتن والتفرق والاختلاف والتشرذم كما نشاهد.

أسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يدلنا على الحق، ويهدينا إليه، وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم، برقم (4049)، وقال محققوه -شعيب الأرناؤوط وغيره: "إسناده صحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (8460)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (87).
  2. الطبقات الكبرى (5/ 288)، ولفظه: "من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقل".
  3. انظر: تاريخ الإسلام (14/ 319)، وتاريخ دمشق (51/ 381)، وسير أعلام النبلاء (10/ 51).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، برقم (2658)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب من بلغ علما، برقم (230)، وأحمد في المسند، برقم (13350)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (228).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم (49).
  6. أخرجه الترمذي، أبواب الحدود عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو، برقم (1450)، ولفظه: لا تقطع الأيدي في الغزو، والطبراني في الأوسط، برقم (8951)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (3601).
  7.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، برقم (4907)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584).
  8. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص:48).

مواد ذات صلة