بسم الله الرحمن الرحيم
عبرة في قصة يوسف - عليه الصلاة والسلام -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سمعتم في هذه القراءة المفصلة تفاصيل هذه القصة، التي هي من أحسن القصص، كما قال الله في أول هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3].
وذلك يُستخرج منه: أن ذكر القصص، والأخبار، أن ذلك من أمور التربية، التي يُقوّم فيها سلوك الإنسان وبها تُستنهض الهمم الميتة، وبها تُبرز النماذج الكاملة؛ ليُؤتسى بها، ويُقتدى بها.
ثم إذا نظرت إلى هذا القصص الذي ساقه الله في هذه الآيات وجدت الارتقاء بكل صوره، ومعانيه، وجدت الكمال، لا تجد لفظة تُعاب، حتى حينما يتكلم ربنا عن القضايا المتعلقة بالمراودة، عن القضايا التي يعجز كثير من الناس أن يعبروا عنها تعبيراً تبلغ به العبرة دون أن تتحرك الغرائز تبعاً لذلك، الله يذكر تفاصيل مهمة مما وقع من المراودة بين تلك المرأة وبين يوسف ﷺ دون أن يحرك المشاعر الخلفية التي لابد أن تتحرك عند ذكر هذه القصص في كلام الناس، ولكن الله يذكر ذلك ذكراً نزيهاً، طيباً، شريفاً، لا عوج فيه، ولا إثارة.
ثم أيضاً أن هذا القصص التي يذكرها الله : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111] هذه القصص هي قصصٌ حقيقية، ومن هنا نعلم أن التربية تكمن في هذا الطريق أيضاً، فهو وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيبها، وتقويمها على طاعة الله .
لكن تلك القصص ينبغي أن تكون حقيقية صادقة؛ ليتعلم الناس الصدق من ذلك لأول وهلة، دون أن نذكر لهم قصة مفبركة لا حقيقة لها، ثم انظروا الأطوار، والأحداث المترابطة في ثنايا هذه القصة، إنها أحداث عجيبة، نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.
نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.
في مثل هذا الصراع نحن بحاجة إلى أن نتأمل في تدبير الله وكيده لأوليائه، وعباده المؤمنين، انظروا إلى يوسف ﷺ كان إلقاؤه في البئر، ثم خروجه بعد ذلك إلى الرق، ثم بعد ذلك ما وقع له من المراودة، ثم ما وقع له بعد ذلك من السجن، بتهمة قذرة دنسة، ثم بعد ذلك يكون ما يكون من تلك الرؤيا التي رآها ذلك السجين، فيكون سبباً لمعرفة ما عنده من المواهب، والعلوم.
ثم يخرج ذلك السجين، فينسى تلك الوصية من يوسف ﷺ فيرى ذلك الملك رؤيا يُذكّر بها ذلك السجين ما أوصاه به يوسف ﷺ بعد أن نسوه في السجن، فبقي بضع سنين، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم - عليه الصلاة والسلام.
هذا الملك حينما رأى هذه الرؤيا، وكانت سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، وكان ذلك التفسير سبباً لتجنيب تلك الأمة كارثة اقتصادية، كانت يمكن أن تذهب بالأخضر، واليابس، فانظر هذا التدبير لو أن الإنسان نظر بعقله المجرد لأول وهلة لعرف، أو لأدرك، أو تصور أن إيقاع يوسف ﷺ في كل واحدة من تلك البلايا كان ذلك كافياً في إهانته، وإسقاطه، وكسر نفسه، وهزيمته، وإقعاده عن كل شيء من المُثل، ومعالي الأمور، ولكن تدبير الله يختلف عن ذلك.
الإلقاء في البئر، ثم ما حصل بعده مما ذكرتُ، مما قصه الله كان سبباً لارتقائه للعرش، هذا تدبير الله وهذا ما نؤمله، ونعرفه من ترابط الأحداث في أيامنا التي نعيشها، وإن كانت تلك الأحداث مؤلمة، إن ما يجرى - ولا أقول ذلك مبالغة في التفاؤل - نرجو أن يكون من كيد الله، وتدبيره، لإسقاط فرعون العصر، وطاغوته، إنه يُستجر ليُمرّغ، ويُضرب من كل ناحية في جسده، ثم بعد ذلك يكون مهيناً، ذليلاً، كل أحد يزدريه، وتسقط هيبته، ومنزلته، وما صنع حول نفسه من الهيلمان.
نحن في هذه الأيام نشاهد أطرافاً من هذا التدبير الذي لربما يعيش في هذه الأيام في حلقاته الوسطى، وأرجو إن طال بنا زمان أن لا ينقضي عمر الشباب منا حتى يروا هذا الطاغوت الكبير الذي ملأ الأرض فساداً، وعتوًّا حتى يروه يسقط، ويتمرّغ في الوحل، ولكن ذلك يحتاج منا إلى وثوق بمبدئنا، ويحتاج منا إلى صبر.
انظروا كيف قصّ الله خبر يوسف ﷺ فبقي ملازماً للتقوى في كل حالاته، كيف كان مثالاً للالتزام الصحيح في حال الرخاء، وفي حال الشدة.
انظروا إليه حينما رأى تلك الرؤيا، فقصها على من يحب - وهو أبوه - ويثق به، وبتفسيره، وعلمه، وخبره، فكل صاحب نعمة محسود، لابد أن ينبري له أعداء، مهما حاول أن يخفي ما عنده من المواهب، والإمكانات، والعلوم فإنه لابد أن ينبري له في طريقة بعض الخصوم، والأعداء، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليه.
انظروا إلى يوسف ﷺ كيف ابتُلي، والابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين.
سئل الشافعي - رحمه الله - : هل يمكّن للإنسان قبل أن يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن له حتى يُبتلى"[1] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فمن تزعزع، وتزلزل، وتراجع عن مبادئه، وثوابته هذا لا يستحق التمكين، لا يستحق التمكين من يتشكك بالثوابت، من يتشكك في العقيدة، من يتشكك في علمائه، من يتشكك في مناهجه، من يتشكك في وحي الله هذا لا يستحق التمكين.
انظروا إلى حال يوسف ﷺ وهذه البلايا التي تُساق إليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، - عليه الصلاة والسلام - ، (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل[2] فلا تجزع إذا أصابك البلاء، ولا تتشكك حينما يتنزل هذا البلاء كالسحب السوداء المتراكمة، يتنزل على هذه الأمة، إنها تُمحّص حتى يبقي أهل الصدق، والثبات، وتكون العاقبة لهم بإذن الله في نهاية المطاف.
انظروا إلى يوسف ﷺ يُحسد من قبل إخوته، ثم يلقى في البئر وهو صغير منذ نعومة أظفاره، بلا رحمة، ثم بعد ذلك يخرج إلى الرِّق، الكريم يُباع؟ سلالة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يُباع، ويُسترق، ويُستذل!، ثم انظروا بعد ذلك كيف تتزين الفتنة، فتن في البئر، وفتن في الرِّق، ثم بعد ذلك فُتن بفتنة الشهوة التي لا يثبت معها، ولا يتماسك إلا من عصمه الله راودته، راجعته في أمر تريده منه، مرة بعد مرة تحاول، ثم بعد ذلك قد أغلقت الأبواب، وهيأت له ما أرادت، وأغرته، وما ظنكم بجمالها، وهي زوجة الملك، وما ظنكم بالمنَعة التي تحصل له بمواقعة هذه المرأة، وما ظنكم بألوان الحصانة، والإغراء التي تهيأت له وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
هنا تأتي قضية التربية، التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر، أن نربي النفوس على مراقبة الله في حال الجلوة، والخلوة؛ لأننا صرنا في زمان تعرض فيه الفتن مكشرة في أحوال لا يطلّع على العبد فيها إلا الله وحده لا شريك له، مع غاية الإغراء عبر وسائل تعرفونها، فهذا يحتاج إلى تربية عظيمة، كما أنه يحتاج أيضاً إلى مراقبة لله كما يحتاج إلى صدقٍ في الفزع إليه، وصدق اللَّجأ إليه - سبحانه وتعالى - فقال - عليه الصلاة والسلام - حينما اجتمع عليه أولئك النسوة: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:33 - 34].
فالله بين ذلك، وعلل كونه من عباده المخلصين، الإخلاص يكون سبباً لنجاة العبد، ينبغي أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يطلع عليه الناس، ولو كان قليلاً، فيكون ذلك سبباً لتخليصه من ألوان المكاره، والمخاوف، لمّا تبدت هذه الفتنة ليوسف ﷺ لجأ إلى الله فكيف بأولئك الذين يبحثون، وينقرون؟ فكان الواحد منهم كعنز السوء تقوم بظلفها تستخرج سكيناً تُذبح بها!.
أولئك الذين يبحثون عن الشهوة، والفتنة، وينقرون عنها في كل مكان، كيف لهم بالسلامة؟!، ومن عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً، فالعبد يبتعد ويستريح قلبه، فإذا ابتُلي عليه أن يتذكر الله، وعليه أن يعتصم به، ويدعو ربه أن يخلصه من هذه الكروب، والمخاوف.
انظروا إلى يوسف ﷺ كيف استحبّ السجن على مقارفة هذه الفواحش.
ثم انظر كيف هذه الآيات تعطينا معنى تربويًّا مهماً، وهو أن مشاهدة النساء للرجال الذين يمتلئون نضارة، وحيوية، وشباباً، أن ذلك مظنّة للفتنة، ولو كان أولئك الرجال من الصالحين، هذا ملحظ مهم.
كيف إذا كان أولئك الرجال ممن يجلس نصف نهار يضع ألوان المكياج على وجهه، ثم يخرج ليقدم نشرة للأخبار، أو يقدم برنامجاً في إحدى هذه الفضائيات؟ بل كيف إذا كان الذي يخرج امرأة ينظر إليها الرجال؟ فأقول: النساء لربما تُفتن الواحدة بما تسمع، بنبرة صوت الرجل، بنبرة صوته، كيف إذا رأته؟ هذا الداعية الذي يعلو المنابر، وتسمعه النساء عشرات السنين، ثم بعد ذلك تراه وقد كانت تتخيل صورة معينة، فيبدو لها وقد امتلأ شباباً، ونضارة، لا يُؤمن معها أن تحصل فتنة لبعض النساء.
ولذلك من كان بهذه المثابة من الحسن، والبهاء، وأعطاه الله نضارة، وشباباً، فينبغي أن يتوقى مثل هذه المواقع التي يكون فيها سبباً لفتنة غيره.
كما أنه ينبهنا كيف نربي نساءنا، فلا يترك الواحد امرأته وبناته أمام الشاشات، ينظرن إلى الرجال، وقد ظهروا بأحسن حُلتّهم، ولو كان هؤلاء في غاية الصلاح، فالواحد قد خضب لحيته، وظهر في صورة من النضارة والشباب، وتزين غاية الزينة، هذا أمر قد يأسر بعض النفوس.
أولئك النساء كنّ يعبن امرأة العزيز، فتقول الواحدة: امْرَأَتُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:30 - 31] ماذا فعلت؟ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31] فأعجبن به، فأسرهن جماله، ولهذا قال بعد ذلك: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51].
فصار ذلك الفعل مشتركاً بينهن وبين امرأة العزيز، تحولن من منكرات على امرأة العزيز إلى مشاركات لها في هذا الفعل، فهذه قضية مهمة.
وأمرٌ آخر، انظروا إلى ما وقع ليوسف ﷺ مع هذا العزيز، انظروا كيف يؤثر ذهاب الغيرة، لما ثبتت براءة يوسف ﷺ ماذا فعل هذا الرجل لامرأته؟ قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَيوسف:29 فقط! لم يحرك ساكناً، ولم يبعده عنها، بل أبقاه في بيتها، ثم أخرجته إلى أولئك النسوة، وما زالت مصرة على مراودته: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] فانظروا كيف يكون ذهاب الغيرة مؤثراً في نفوس أولئك أشباه الرجال.
ثم انظروا ما ذكره الله بعد ذلك، حينما دخل يوسف ﷺ إلى السجن، لمّا رأى رفيقاه في السجن تلك الرؤيا عرضوها على يوسف، وقالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].
عرفوا إحسان يوسف ﷺ وهو في السجن، لم يجلس ليحدثهم عن نفسه، رأوا إحسانه بالسجناء، ورأوا إحسانه إلى السجّانين، ورأوا إحسانه مع الله في العبودية، وإقامتها، والتقرب إلى ربه، ومالكه، ومعبوده فعرفوا إحسان يوسف ﷺ وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن الداعية في كل أحواله؛ في حال السجن، وفي وسط البئر، وفي حال الملك، وفي جميع أحواله يكون محسناً، ما رد هؤلاء، وقال: لا شأن لي بكم، ثم انظر كيف دعاهم إلى الله واستغل الفرصة: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار [يوسف:39] لم يتخلَّ عن مبادئه، ولم يجزع، ولم تنكسر نفسه، وتنثنِ إرادته، فيتثبط عن دعوته، لا، لا زال ينشر هذه الدعوة في كل مكان.
ولهذا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "ما يصنع بي أعدائي، إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة"[3] يقول: "إن جنتي وبستاني في صدري"، ماذا يُصنع بمثل هذا؟.
فلما وضعوه في السجن تحول أهل السجن من أهل بطالة إلى أهل اشتغال بالعلم والعبادة، فاضطروا إلى إخراجه من السجن؛ لئلا يفسده بزعمهم!، هكذا يفعل الداعية في كل الأحوال.
ثم انظر بعد ذلك لما خرج ذلك الرجل من السجن، ونسي وصية يوسف: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] كيف يبقى يوسف ﷺ وفي تهمة تتعلق بالأخلاق، يبقى في السجن بضع سنين؟.
أقول: إنه إعداد من الله لهؤلاء الكبار لقيادة الأمم، وتخليصها، لا تدركه عقول البشر، كيف تبقى طاقة كطاقة يوسف ﷺ منسية في الحبس؟ كيف يبقى موسى ﷺ في الصحراء، في مدين يرعى الغنم عشر سنين، شريداً، طريداً يرعى الغنم عشر سنين في مقابل بُضع امرأة تزوجها على رعي الغنم، ذلك قبل أن يُنبأ، ولكنه لا شك أنه أفضل أهل زمانه - عليه الصلاة والسلام - فالله يصطفي الأنبياء من خيار الناس، يبقى تلك المدة الطويلة عشر سنين، إنه إعداد الله لأوليائه، وأهل كرامته، فهذا لا يدخل تحت المقاييس البشرية.
ولذلك أقول: ينبغي أن نثق بالله وبتدبيره، وبكيده لأوليائه كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].
ثم انظر كيف كانت هذه الرؤيا - رؤيا الملك - سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، ثم إلى المُلك، فإنه ذكرها حينما ذكر نعمة الله عليه، حينما قال: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100] ما قال: أخرجني من البئر؛ لأنه خرج من البئر إلى الرّق، وخرج من السجن إلى المُلك، فانظروا إلى هذا التدبير من الله ثم انظروا كيف فسّر يوسف ﷺ هذه الرؤيا الخطيرة لذلك الملك، ما قال: أنتم ظلمتموني وفي تهمة قذرة دنسة، ولطختم سمعتي، وسجنتموني عدواناً، كيف أفسّر لكم هذا التفسير الذي يكون فيه المخرج، والخلاص بإذن الله من ورطة تنتظركم؟ ما قال لهم هذا الكلام؛ لأنه من المحسنين، لا يعرف تصفية الحسابات، لا يعرف الأحقاد، بينه وبين هذا مشكلة، والثالث مشكلة، والرابع مشكلة، والخامس ما زاره في المستشفى، والسادس ما عزاه، والسابع قال كلمة في حقه، والثامن؛ لأنه ما قام له حينما سلم عليه، وقد قام لغيره، إلى غير ذلك مما يتمرّغ به أصحاب النفوس الحقيرة، الدنية، الصغيرة.
يوسف ﷺ كبير، ونفسه كبيرة، تتسع للجميع، تأتي الرؤيا من الملك، ويفسّرها، تأتي الرؤيا من هذا المسجون، ويفسّرها، ويحسن إلى الجميع كالمطر.
ولذلك أقول: انظروا إلى انضباط يوسف في كل هذه الأحوال، انظروا إلى كلامه مع إخوته، حينما دارت الأيام، فجاءوا إليه، وقدّر الله أن تكون حاجتهم عنده، فجاءوا إليه في غاية الحاجة، والمسكنة، والذل، والصغار، فما آذاهم حتى حينما قالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77] لم يشنّع عليهم، وإنما قال: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77] ولم يكاشرهم بذلك، بل أسرها في نفسه، أخفاها عنهم؛ لئلا يجرح مشاعرهم، ثم انظر إليهم حينما جاءوا إليه بعدما عرفوه: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقالوا له: استغفر لنا، فلما طلبوا منه الاستغفار، واعترفوا بخطئهم، وتقصيرهم لم يؤنّب، ولم يعنّف، بل قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] لم يذكِّرهم بأفعالهم السيئة، ثم بعد ذلك لما جاءوا مع أبيهم خروا له سجداً: وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] إلى أن قال: بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] لم يجرح مشاعرهم، ويذكِّرهم بذلك الفعل السيئ.
تصور لو أن أحداً من قرابتك، أو من جيرانك، أو من زملائك في العمل أساء إليك بعشر معشار هذه الإساءات، كيف تصنع معه؟ كيف تتصرف؟ إن الكثيرين يعقدون عداوته أبد الدهر، ولا يقبلون فيه صرفاً، ولا عدلا، ولا عذراً لمعتذر، لماذا؟ لأننا لا نحمل نفوساً كبيرة كنفس يوسف.
لماذا كان الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ فلنحلق عالياً، ولنترفع عن هذه المدنّسات، والأوحال التي تذلنا، وتهيننا، وتقعدنا عن طاعة الله فتعتلج الأحقاد في القلب، فالإنسان يصلي، ويتذكر ما فعل به فلان، وما قال له فلان، وما قصد فلان بالكلمة الفلانية، ترفَّعْ عن مثل هذه الأمور، فإن الأحقاد أول من يُعذب بها صاحبُها، لا ينام الليل يتقلب على فراشه، ينعصر قلبه، يتمنى أن يتشفى من فلان، وفلان، وفلان لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لم يطلب منهم العذر، ولم ينتظر منهم أي شيء من الإحسان.
وهذه عِبر كبار ينبغي أن نقف عندها، وأن نثق بما عند الله ونعلم أن العاقبة للمتقين، وإن طالت الليالي المظلمة السوداء، ونعرف أن البلاء على قدر ما عند الإنسان من الإيمان، فالله لا يبتلي العبد من أجل أن يكسره، وإنما من أجل أن يرفعه، فثِقْ بما عند الله ولا تنكسر أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه[4].
لكن من لطف الله أنه إن كان في دينه رقة خُفف عنه، فمن الناس من يكون بلاؤه في أمور تافهة حقيرة، بلاؤه أن هذا قال له كُليمة، وذلك تصرف أمامه تصرفاً غير لائق، وأخرى تصيح، وتلطم خدها، وتنتف شعرها؛ لأن أطفالها الصغار يتهارشون حولها، فهذا هو حظها من البلاء، وآخر بلاؤه في دريهمات فقدها، وآخر بلاؤه في مشكلة بينه وبين مؤذن المسجد، والثالث مشكلته ومصيبته العظمى هي في قضية بينه وبين أحد تلامذته، قال التلميذ كلمة في الفصل فجعلها قضية القضايا، كل إنسان على قدر نفسه يُعطى من البلاء، ومن الناس من يُصب عليهم البلاء صبًّا، فتنة الضراء، وفتنة السراء.
فنسأل الله أن يلطف بنا جميعاً، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، ويعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ونسأله - تبارك وتعالى - أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم في هذا الشهر الكريم على أنفسنا، فنسأله - تبارك وتعالى - أن يرفعنا، ولا يضعنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.
- الفوائد لابن القيم: (1/208).
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
- المستدرك على مجموع الفتاوى: (1 / 153).
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
- الأحداث المترابطة في ثنايا قصة يورسف
- رؤيا الملك كانت سبباً لخروج يوسف ﷺ
- إلقاء يوسف في البئر
- هذه الأيام نشاهد أطرافاً من تدبير الله
- الابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين
- التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر
- من بحث عن الشهرة كيف له بالسلامة؟
- كيف استحبّ يوسف ﷺ لسجن على مقارفة الفواحش؟
- قصة يوسف تنبهنا كيف نربي نساءنا
- كيف تصرف العزيز مع امرأته؟
- إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
- فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ
- ما قال: أخرجني من البئر
- انظروا إلى كلام يوسف مع إخوته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، سمعتم في هذه القراءة المفصلة تفاصيل هذه القصة، التي هي من أحسن القصص، كما قال الله في أول هذه السورة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3].
وذلك يُستخرج منه: أن ذكر القصص، والأخبار، أن ذلك من أمور التربية، التي يُقوّم فيها سلوك الإنسان وبها تُستنهض الهمم الميتة، وبها تُبرز النماذج الكاملة؛ ليُؤتسى بها، ويُقتدى بها.
ثم إذا نظرت إلى هذا القصص الذي ساقه الله في هذه الآيات وجدت الارتقاء بكل صوره، ومعانيه، وجدت الكمال، لا تجد لفظة تُعاب، حتى حينما يتكلم ربنا عن القضايا المتعلقة بالمراودة، عن القضايا التي يعجز كثير من الناس أن يعبروا عنها تعبيراً تبلغ به العبرة دون أن تتحرك الغرائز تبعاً لذلك، الله يذكر تفاصيل مهمة مما وقع من المراودة بين تلك المرأة وبين يوسف ﷺ دون أن يحرك المشاعر الخلفية التي لابد أن تتحرك عند ذكر هذه القصص في كلام الناس، ولكن الله يذكر ذلك ذكراً نزيهاً، طيباً، شريفاً، لا عوج فيه، ولا إثارة.
ثم أيضاً أن هذا القصص التي يذكرها الله : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111] هذه القصص هي قصصٌ حقيقية، ومن هنا نعلم أن التربية تكمن في هذا الطريق أيضاً، فهو وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيبها، وتقويمها على طاعة الله .
لكن تلك القصص ينبغي أن تكون حقيقية صادقة؛ ليتعلم الناس الصدق من ذلك لأول وهلة، دون أن نذكر لهم قصة مفبركة لا حقيقة لها.
ثم انظروا الأطوار، والأحداث المترابطة في ثنايا هذه القصة، إنها أحداث عجيبة، نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.
نحن بحاجة إلى الوقوف معها في هذه الأيام، أيام الهزيمة، الهزيمة العسكرية، والهزيمة النفسية، والهزيمة الفكرية، الهزيمة في كل الميادين، حتى صرنا نراجع مبادئنا، وثوابتنا، وعقائدنا؛ من أجل أن عدونا بدأ يلوح لنا بالقوة تارة، وبالتشويه تارة، فأصبحنا نشكك في كل شيء.
في مثل هذا الصراع نحن بحاجة إلى أن نتأمل في تدبير الله وكيده لأوليائه، وعباده المؤمنين، انظروا إلى يوسف ﷺ كان إلقاؤه في البئر، ثم خروجه بعد ذلك إلى الرق، ثم بعد ذلك ما وقع له من المراودة، ثم ما وقع له بعد ذلك من السجن، بتهمة قذرة دنسة، ثم بعد ذلك يكون ما يكون من تلك الرؤيا التي رآها ذلك السجين، فيكون سبباً لمعرفة ما عنده من المواهب، والعلوم.
ثم يخرج ذلك السجين، فينسى تلك الوصية من يوسف ﷺ فيرى ذلك الملك رؤيا يُذكّر بها ذلك السجين ما أوصاه به يوسف ﷺ بعد أن نسوه في السجن، فبقي بضع سنين، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم - عليه الصلاة والسلام.
هذا الملك حينما رأى هذه الرؤيا، وكانت سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، وكان ذلك التفسير سبباً لتجنيب تلك الأمة كارثة اقتصادية، كانت يمكن أن تذهب بالأخضر، واليابس، فانظر هذا التدبير لو أن الإنسان نظر بعقله المجرد لأول وهلة لعرف، أو لأدرك، أو تصور أن إيقاع يوسف ﷺ في كل واحدة من تلك البلايا كان ذلك كافياً في إهانته، وإسقاطه، وكسر نفسه، وهزيمته، وإقعاده عن كل شيء من المُثل، ومعالي الأمور، ولكن تدبير الله يختلف عن ذلك.
الإلقاء في البئر، ثم ما حصل بعده مما ذكرتُ، مما قصه الله كان سبباً لارتقائه للعرش، هذا تدبير الله وهذا ما نؤمله، ونعرفه من ترابط الأحداث في أيامنا التي نعيشها، وإن كانت تلك الأحداث مؤلمة، إن ما يجرى - ولا أقول ذلك مبالغة في التفاؤل - نرجو أن يكون من كيد الله، وتدبيره، لإسقاط فرعون العصر، وطاغوته، إنه يُستجر ليُمرّغ، ويُضرب من كل ناحية في جسده، ثم بعد ذلك يكون مهيناً، ذليلاً، كل أحد يزدريه، وتسقط هيبته، ومنزلته، وما صنع حول نفسه من الهيلمان.
نحن في هذه الأيام نشاهد أطرافاً من هذا التدبير الذي لربما يعيش في هذه الأيام في حلقاته الوسطى، وأرجو إن طال بنا زمان أن لا ينقضي عمر الشباب منا حتى يروا هذا الطاغوت الكبير الذي ملأ الأرض فساداً، وعتوًّا حتى يروه يسقط، ويتمرّغ في الوحل، ولكن ذلك يحتاج منا إلى وثوق بمبدئنا، ويحتاج منا إلى صبر.
انظروا كيف قصّ الله خبر يوسف ﷺ فبقي ملازماً للتقوى في كل حالاته، كيف كان مثالاً للالتزام الصحيح في حال الرخاء، وفي حال الشدة.
انظروا إليه حينما رأى تلك الرؤيا، فقصها على من يحب - وهو أبوه - ويثق به، وبتفسيره، وعلمه، وخبره، فكل صاحب نعمة محسود، لابد أن ينبري له أعداء، مهما حاول أن يخفي ما عنده من المواهب، والإمكانات، والعلوم فإنه لابد أن ينبري له في طريقة بعض الخصوم، والأعداء، وقد يكون هؤلاء من أقرب الناس إليه.
انظروا إلى يوسف ﷺ كيف ابتُلي، والابتلاء هو الخطوة الأولى للتمكين.
سئل الشافعي - رحمه الله - : هل يمكّن للإنسان قبل أن يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن له حتى يُبتلى"[1] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فمن تزعزع، وتزلزل، وتراجع عن مبادئه، وثوابته هذا لا يستحق التمكين، لا يستحق التمكين من يتشكك بالثوابت، من يتشكك في العقيدة، من يتشكك في علمائه، من يتشكك في مناهجه، من يتشكك في وحي الله هذا لا يستحق التمكين.
انظروا إلى حال يوسف ﷺ وهذه البلايا التي تُساق إليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، - عليه الصلاة والسلام - ، (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل[2] فلا تجزع إذا أصابك البلاء، ولا تتشكك حينما يتنزل هذا البلاء كالسحب السوداء المتراكمة، يتنزل على هذه الأمة، إنها تُمحّص حتى يبقي أهل الصدق، والثبات، وتكون العاقبة لهم بإذن الله في نهاية المطاف.
انظروا إلى يوسف ﷺ يُحسد من قبل إخوته، ثم يلقى في البئر وهو صغير منذ نعومة أظفاره، بلا رحمة، ثم بعد ذلك يخرج إلى الرِّق، الكريم يُباع؟ سلالة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يُباع، ويُسترق، ويُستذل!، ثم انظروا بعد ذلك كيف تتزين الفتنة، فتن في البئر، وفتن في الرِّق، ثم بعد ذلك فُتن بفتنة الشهوة التي لا يثبت معها، ولا يتماسك إلا من عصمه الله راودته، راجعته في أمر تريده منه، مرة بعد مرة تحاول، ثم بعد ذلك قد أغلقت الأبواب، وهيأت له ما أرادت، وأغرته، وما ظنكم بجمالها، وهي زوجة الملك، وما ظنكم بالمنَعة التي تحصل له بمواقعة هذه المرأة، وما ظنكم بألوان الحصانة، والإغراء التي تهيأت له وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
- الفوائد لابن القيم: (1/208).
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).
هنا تأتي قضية التربية، التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر، أن نربي النفوس على مراقبة الله في حال الجلوة، والخلوة؛ لأننا صرنا في زمان تعرض فيه الفتن مكشرة في أحوال لا يطلّع على العبد فيها إلا الله وحده لا شريك له، مع غاية الإغراء عبر وسائل تعرفونها، فهذا يحتاج إلى تربية عظيمة، كما أنه يحتاج أيضاً إلى مراقبة لله كما يحتاج إلى صدقٍ في الفزع إليه، وصدق اللَّجأ إليه - سبحانه وتعالى - فقال - عليه الصلاة والسلام - حينما اجتمع عليه أولئك النسوة: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف:33 - 34].
فالله بين ذلك، وعلل كونه من عباده المخلصين، الإخلاص يكون سبباً لنجاة العبد، ينبغي أن يكون للعبد خبيئة من عمل صالح لا يطلع عليه الناس، ولو كان قليلاً، فيكون ذلك سبباً لتخليصه من ألوان المكاره، والمخاوف، لمّا تبدت هذه الفتنة ليوسف ﷺ لجأ إلى الله فكيف بأولئك الذين يبحثون، وينقرون؟ فكان الواحد منهم كعنز السوء تقوم بظلفها تستخرج سكيناً تُذبح بها!.
أولئك الذين يبحثون عن الشهوة، والفتنة، وينقرون عنها في كل مكان، كيف لهم بالسلامة؟! ومن عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً، فالعبد يبتعد ويستريح قلبه، فإذا ابتُلي عليه أن يتذكر الله، وعليه أن يعتصم به، ويدعو ربه أن يخلصه من هذه الكروب، والمخاوف.
انظروا إلى يوسف ﷺ كيف استحبّ السجن على مقارفة هذه الفواحش.
ثم انظر كيف هذه الآيات تعطينا معنى تربويًّا مهماً، وهو أن مشاهدة النساء للرجال الذين يمتلئون نضارة، وحيوية، وشباباً، أن ذلك مظنّة للفتنة، ولو كان أولئك الرجال من الصالحين، هذا ملحظ مهم.
كيف إذا كان أولئك الرجال ممن يجلس نصف نهار يضع ألوان المكياج على وجهه، ثم يخرج ليقدم نشرة للأخبار، أو يقدم برنامجاً في إحدى هذه الفضائيات؟ بل كيف إذا كان الذي يخرج امرأة ينظر إليها الرجال؟ فأقول: النساء لربما تُفتن الواحدة بما تسمع، بنبرة صوت الرجل، بنبرة صوته، كيف إذا رأته؟ هذا الداعية الذي يعلو المنابر، وتسمعه النساء عشرات السنين، ثم بعد ذلك تراه وقد كانت تتخيل صورة معينة، فيبدو لها وقد امتلأ شباباً، ونضارة، لا يُؤمن معها أن تحصل فتنة لبعض النساء.
ولذلك من كان بهذه المثابة من الحسن، والبهاء، وأعطاه الله نضارة، وشباباً، فينبغي أن يتوقى مثل هذه المواقع التي يكون فيها سبباً لفتنة غيره.
كما أنه ينبهنا كيف نربي نساءنا، فلا يترك الواحد امرأته وبناته أمام الشاشات، ينظرن إلى الرجال، وقد ظهروا بأحسن حُلتّهم، ولو كان هؤلاء في غاية الصلاح، فالواحد قد خضب لحيته، وظهر في صورة من النضارة والشباب، وتزين غاية الزينة، هذا أمر قد يأسر بعض النفوس.
أولئك النساء كنّ يعبن امرأة العزيز، فتقول الواحدة: امْرَأَتُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:30 - 31] ماذا فعلت؟ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31] فأعجبن به، فأسرهن جماله، ولهذا قال بعد ذلك: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51].
فصار ذلك الفعل مشتركاً بينهن وبين امرأة العزيز، تحولن من منكرات على امرأة العزيز إلى مشاركات لها في هذا الفعل، فهذه قضية مهمة.
وأمر آخر، انظروا إلى ما وقع ليوسف ﷺ مع هذا العزيز، انظروا كيف يؤثر ذهاب الغيرة، لما ثبتت براءة يوسف ﷺ ماذا فعل هذا الرجل لامرأته؟ قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَيوسف:29 فقط! لم يحرك ساكناً، ولم يبعده عنها، بل أبقاه في بيتها، ثم أخرجته إلى أولئك النسوة، وما زالت مصرة على مراودته: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] فانظروا كيف يكون ذهاب الغيرة مؤثراً في نفوس أولئك أشباه الرجال.
ثم انظروا ما ذكره الله بعد ذلك، حينما دخل يوسف ﷺ إلى السجن، لمّا رأى رفيقاه في السجن تلك الرؤيا عرضوها على يوسف، وقالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36].
عرفوا إحسان يوسف ﷺ وهو في السجن، لم يجلس ليحدثهم عن نفسه، رأوا إحسانه بالسجناء، ورأوا إحسانه إلى السجّانين، ورأوا إحسانه مع الله في العبودية، وإقامتها، والتقرب إلى ربه، ومالكه، ومعبوده فعرفوا إحسان يوسف ﷺ وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن الداعية في كل أحواله؛ في حال السجن، وفي وسط البئر، وفي حال الملك، وفي جميع أحواله يكون محسناً، ما رد هؤلاء، وقال: لا شأن لي بكم، ثم انظر كيف دعاهم إلى الله واستغل الفرصة: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار [يوسف:39] لم يتخلَّ عن مبادئه، ولم يجزع، ولم تنكسر نفسه، وتنثنِ إرادته، فيتثبط عن دعوته، لا، لا زال ينشر هذه الدعوة في كل مكان.
ولهذا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "ما يصنع بي أعدائي، إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة"[1] يقول: "إن جنتي وبستاني في صدري"، ماذا يُصنع بمثل هذا؟.
فلما وضعوه في السجن تحول أهل السجن من أهل بطالة إلى أهل اشتغال بالعلم والعبادة، فاضطروا إلى إخراجه من السجن؛ لئلا يفسده بزعمهم!، هكذا يفعل الداعية في كل الأحوال.
- المستدرك على مجموع الفتاوى: (1 / 153).
ثم انظر بعد ذلك لما خرج ذلك الرجل من السجن، ونسي وصية يوسف: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] كيف يبقى يوسف ﷺ وفي تهمة تتعلق بالأخلاق، يبقى في السجن بضع سنين؟.
أقول: إنه إعداد من الله لهؤلاء الكبار لقيادة الأمم، وتخليصها، لا تدركه عقول البشر، كيف تبقى طاقة كطاقة يوسف ﷺ منسية في الحبس؟ كيف يبقى موسى ﷺ في الصحراء، في مدين يرعى الغنم عشر سنين، شريداً، طريداً يرعى الغنم عشر سنين في مقابل بُضع امرأة تزوجها على رعي الغنم، ذلك قبل أن يُنبأ، ولكنه لا شك أنه أفضل أهل زمانه - عليه الصلاة والسلام - فالله يصطفي الأنبياء من خيار الناس، يبقى تلك المدة الطويلة عشر سنين، إنه إعداد الله لأوليائه، وأهل كرامته، فهذا لا يدخل تحت المقاييس البشرية.
ولذلك أقول: ينبغي أن نثق بالله وبتدبيره، وبكيده لأوليائه كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].
انظر كيف كانت هذه الرؤيا - رؤيا الملك - سبباً لخروج يوسف ﷺ من السجن، ثم إلى المُلك، فإنه ذكرها حينما ذكر نعمة الله عليه، حينما قال: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100] ما قال: أخرجني من البئر؛ لأنه خرج من البئر إلى الرّق، وخرج من السجن إلى المُلك، فانظروا إلى هذا التدبير من الله ثم انظروا كيف فسّر يوسف ﷺ هذه الرؤيا الخطيرة لذلك الملك، ما قال: أنتم ظلمتموني وفي تهمة قذرة دنسة، ولطختم سمعتي، وسجنتموني عدواناً، كيف أفسّر لكم هذا التفسير الذي يكون فيه المخرج، والخلاص بإذن الله من ورطة تنتظركم؟ ما قال لهم هذا الكلام؛ لأنه من المحسنين، لا يعرف تصفية الحسابات، لا يعرف الأحقاد، بينه وبين هذا مشكلة، والثالث مشكلة، والرابع مشكلة، والخامس ما زاره في المستشفى، والسادس ما عزاه، والسابع قال كلمة في حقه، والثامن؛ لأنه ما قام له حينما سلم عليه، وقد قام لغيره، إلى غير ذلك مما يتمرّغ به أصحاب النفوس الحقيرة، الدنية، الصغيرة.
يوسف ﷺ كبير، ونفسه كبيرة، تتسع للجميع، تأتي الرؤيا من الملك، ويفسّرها، تأتي الرؤيا من هذا المسجون، ويفسّرها، ويحسن إلى الجميع كالمطر.
ولذلك أقول: انظروا إلى انضباط يوسف في كل هذه الأحوال، انظروا إلى كلامه مع إخوته، حينما دارت الأيام، فجاءوا إليه، وقدّر الله أن تكون حاجتهم عنده، فجاءوا إليه في غاية الحاجة، والمسكنة، والذل، والصغار، فما آذاهم حتى حينما قالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77] لم يشنّع عليهم، وإنما قال: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77] ولم يكاشرهم بذلك، بل أسرها في نفسه، أخفاها عنهم؛ لئلا يجرح مشاعرهم، ثم انظر إليهم حينما جاءوا إليه بعدما عرفوه: قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي [يوسف:90] فقالوا له: استغفر لنا، فلما طلبوا منه الاستغفار، واعترفوا بخطئهم، وتقصيرهم لم يؤنّب، ولم يعنّف، بل قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] لم يذكِّرهم بأفعالهم السيئة، ثم بعد ذلك لما جاءوا مع أبيهم خروا له سجداً: وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [يوسف:100] إلى أن قال: بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] لم يجرح مشاعرهم، ويذكِّرهم بذلك الفعل السيئ.
تصور لو أن أحداً من قرابتك، أو من جيرانك، أو من زملائك في العمل أساء إليك بعشر معشار هذه الإساءات، كيف تصنع معه؟ كيف تتصرف؟ إن الكثيرين يعقدون عداوته أبد الدهر، ولا يقبلون فيه صرفاً، ولا عدلا، ولا عذراً لمعتذر، لماذا؟ لأننا لا نحمل نفوساً كبيرة كنفس يوسف.
لماذا كان الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ فلنحلق عالياً، ولنترفع عن هذه المدنّسات، والأوحال التي تذلنا، وتهيننا، وتقعدنا عن طاعة الله فتعتلج الأحقاد في القلب، فالإنسان يصلي، ويتذكر ما فعل به فلان، وما قال له فلان، وما قصد فلان بالكلمة الفلانية، ترفَّعْ عن مثل هذه الأمور، فإن الأحقاد أول من يُعذب بها صاحبُها، لا ينام الليل يتقلب على فراشه، ينعصر قلبه، يتمنى أن يتشفى من فلان، وفلان، وفلان لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لم يطلب منهم العذر، ولم ينتظر منهم أي شيء من الإحسان.
وهذه عِبر كبار ينبغي أن نقف عندها، وأن نثق بما عند الله ونعلم أن العاقبة للمتقين، وإن طالت الليالي المظلمة السوداء، ونعرف أن البلاء على قدر ما عند الإنسان من الإيمان، فالله لا يبتلي العبد من أجل أن يكسره، وإنما من أجل أن يرفعه، فثِقْ بما عند الله ولا تنكسر أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه[1].
لكن من لطف الله أنه إن كان في دينه رقة خُفف عنه، فمن الناس من يكون بلاؤه في أمور تافهة حقيرة، بلاؤه أن هذا قال له كُليمة، وذلك تصرف أمامه تصرفاً غير لائق، وأخرى تصيح، وتلطم خدها، وتنتف شعرها؛ لأن أطفالها الصغار يتهارشون حولها، فهذا هو حظها من البلاء، وآخر بلاؤه في دريهمات فقدها، وآخر بلاؤه في مشكلة بينه وبين مؤذن المسجد، والثالث مشكلته ومصيبته العظمى هي في قضية بينه وبين أحد تلامذته، قال التلميذ كلمة في الفصل فجعلها قضية القضايا، كل إنسان على قدر نفسه يُعطى من البلاء، ومن الناس من يُصب عليهم البلاء صبًّا، فتنة الضراء، وفتنة السراء.
فنسأل الله أن يلطف بنا جميعاً، وأن يلهمنا وإياكم رشدنا، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، ويعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ونسأله - تبارك وتعالى - أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يعيننا وإياكم في هذا الشهر الكريم على أنفسنا، فنسأله - تبارك وتعالى - أن يرفعنا، ولا يضعنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.
نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على الأذى، رقم: (2398) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم: (3249).