الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} الآية:1، إلى قوله تعالى: {وَلَا نُشُورًا} الآية: 3.
تاريخ النشر: ٢٥ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 5290
مرات الإستماع: 12956

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ۝ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا  [سورة الفرقان:1، 2].

يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ۝ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ.. [سورة الكهف:1، 2]، وقال هاهنا: تَبَارَكَ وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الثابتة الدائمة، الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ قال: نزل: فَعَّل، من التكرر والتكثر، كقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ [سورة النساء:136]؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلاً آيات بعد آيات، وأحكاماً بعد أحكام، وسوراً بعد سُوَر، وهذا أشد وأبلغ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه.

كما قال في أثناء هذه السورة: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ۝ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [سورة الفرقان:32، 33]، ولهذا سماه هاهنا الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام.

قوله -تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ قال ابن كثير -رحمه الله: تَبَارَكَ تفاعَلَ من البركة المستقرة الثابتة الدائمة، بركة يعني: تعاظمت وتكاثرت بركته، وهذه المادة تدل على معنى الثبوت والدوام، وبرَكَ البعير: يعني ثبت والطائر على الماء، وعبارات السلف فيها متفاوتة، بعضهم يقول: بمعنى تقدس، وبعضهم يقول: تعاظم، وبعضهم يقول غير هذا، ومن أهل العلم من يجمع هذه العبارات ويصوغها جميعاً في تفسير هذه المادة.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "قول الله -تعالى ذكره: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا البركة نوعان أيضاً: أحدهما بركة هي فعله -تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة "على" تارة، وبأداة "في تارة"، والمفعول منها: مبارك، وهو ما جُعل كذلك فكان مباركاً بجعله تعالى" [1].

يقال: بارك الله له، وبارك فيه، وبارك عليه، فهذا دعاء له بالبركة، والبركة تكون من الله ، ومن حصل له ذلك يقال له: مبارك، ولا يقال للمخلوق: تبارك؛ فإن ذلك يختص بالله -تبارك وتعالى، وبهذا نعلم أن ما يقوله بعض الناس إذا جاءهم أحد، نزل بهم ضيف يقول: تباركت علينا، هذا يقال في الله -تبارك وتعالى- ولا يقال في المخلوق، لكن يرجو الإنسان أن يكون مثلاً شراؤه لهذه السلعة سبباً للبركة، أو أن يكون تزوجه من هذه المرأة سبباً للبركة... أو نحو هذا، وأن تكون بركة علينا، فلان مبارك، هذا المتعدي، بارك له وبارك فيه وبارك عليه.

وقال رحمه الله: "والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك؛ ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له "[2].

ولهذا نقول: قال بعضهم: تعاظم، عظمت بركته، فإن هذه المادة تدل على الكثرة، التكاثر، النماء، الزيادة في الخير.

وقال رحمه الله: "فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله مبارك، كما قال المسيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك، وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [سورة الملك:1]، وقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وقوله: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً، أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به ولا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمها وسعتها، وهذا معنى قولة من قال من السلف: "تبارك تعاظم".

وقال آخر: "معناه أن تجيء البركات مِن قِبله، فالبركة كلها منه"، وقال غيره: "كثر خيره وإحسانه إلى خلقه" وقيل: "اتسعت رأفته ورحمته بهم" وقيل: "تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله"، ومن هنا قيل: "معناه تعالى وتعاظم"، وقيل: "تبارك: تقدس والقدس الطهارة"، وقيل: "تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء"، وقيل: "تبارك: ارتفع والمبارك المرتفع"، ذكره البغوي، وقيل: "تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره"، وقال ابن عباس: "جاء بكل بركة"، وقيل: "معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال" ذكره البغوي أيضاً. 

وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفاً وفعلاً منه -تبارك وتعالى، وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم، ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عالياً ولا قدوساً ولا عظيماً، هذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالى المتقدس، فكذلك تبارك لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظاً ومعنى؟ هذا لازم وهذا متعدٍّ، فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم يصب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه متباركاً، فتبارك من باب مجد، والمجد كثرة صفات الجلالة والسعة والفضل، وبارك من باب أعطى وأنعم، ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين فقال: مجيء البركة كلها من عنده أو البركة كلها مِن قِبله، وهذا فرع على تبارك في نفسه. 

وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي، وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك؛ ولهذا كان كتابه مباركاً ورسوله مباركاً وبيته مباركاً والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة، فليلة القدر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة، وتدبر قول النبي ﷺ في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام [3]، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء، أعني ثناء التنزيه والتسبيح، وثناء الحمد والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه" [4].

وكلام السلف يحوم حول هذا المعنى، وأحياناً يفسرون بالمطابق، وأحياناً يفسرون ببعض المعنى -يعني التضمن، وأحياناً يفسرون باللازم، فمن تأمل في عباراتهم فإنه يستطيع أن يجمع كثيراً منها تحت المعنى، ولا ينبغي لطالب العلم أن يبادر بالرد والإنكار لكلام السلف -، وإنما يتأنى وينظر، فقد يكون التفسير من قبيل التفسير باللازم، يعني مثلاً في تفسير تبارك، هنا تبارك حينما يقول: تعاظم أو تعالى أو جعل البركة في غيره مثلاً... أو نحو ذلك، هذا ليس معنى تبارك، ولكنه قد يكون من لوازمه ومقتضياته، فمن عظمت بركته أو عظم خيره وبره أو عظم إحسانه... أو نحو ذلك، فإن هذا يقتضي العظمة؛ ولهذا قال بعضهم: تعاظم يقتضي علوه؛ ولهذا قال بعضهم: تعالى، ومن عظم بره وعظم خيره ونحو ذلك فإن هذا يستلزم وصول ذلك إلى غيره؛ ولهذا قال بعضهم: عم خيره، أو وضع البركة، جعل البركة في غيره... أو نحو ذلك. 

يعني أن البركة تكون من الله -تبارك وتعالى، فهذه لها تعلق بالمعنى، هذه التفسيرات، وإن كان أصل معنى تبارك أنه يعود إلى الله -تبارك وتعالى، يعني: عظمت بركته، كثر خيره، هذا المعنى المختص به -، ويقال: بارك في كذا وبارك على كذا وبارك لفلان، يكون متعدياً إلى الغير، يعني: جعل البركة فيه، فلان مبارك وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [سورة مريم:31].

وبعضهم قال: معلماً للخير؛ لأنه إذا كان معلماً للخير فإن كل ما يفعل من طاعة لله وطاعة لرسوله ﷺ وصلاح وإصلاح فإنما يكون ذلك مبتدأ بمعرفة الخير، حتى يعمل الإنسان به؛ ولهذا قالوا: إن طالب العلم يستغفر له -كما جاء في الحديث: كل شيء حتى الحيتان في الماء[5]، بأنه يعلم الناس الخير، فيكفهم ذلك عن العدوان والإفساد: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [سورة الروم:41]، فتأمن هذه الحيتان وتسلم من شرورهم وأذاهم المباشر وغير المباشر، غير المباشر بالعصيان، فتهلك الدواب والهوام في جحورها والحيتان في البحار بسبب معاصي الناس، والمباشر بما يحصل من إهلاك وتلوث بالبيئة وغير ذلك، فتهلك هذه الدواب، فبعض أهل العلم ذكر هذا في تعليل كون طالب العلم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر، فهنا بارك أي: وضع البركة فيه.

هناك أشياء أخبرنا الشارع أنها مباركة يمكن للإنسان أن يتبرك بها، من البقاع والمطعومات، أقول: الذوات كذلك والأوقات، فمثلاً: أول النهار بورك لأمتي في بكورها، فيقصد الإنسان هذا الوقت ولا ينام فيه، فهو نوم أهل الغفلة، فإذا استغل الإنسان هذا الوقت بورك له ورُجي أن تكون البركة في كل اليوم، وكذلك أيضاً الأمكنة، مثل بلاد الشام بيت المقدس وما حوله هي أرض مباركة، وكذلك أيضاً في المطعومات مثل ماء زمزم، وهو طعام طعم وشفاء سقم، فهو ماء مبارك، يمكن للإنسان أن يتبرك به ويشربه.

وكذلك بعض الأشياء التي أقسم الله بها يدل على عظمتها والتين والزيتون، فهي مباركة، قال الله : مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ [سورة النور:35] الزيتون وزيته مبارك، وهكذا دعا النبي ﷺ للمدينة في مُدّها وصاعها، ويجد ذلك أهل المدينة، وبالنسبة للذوات يُتبرك بذات النبي ﷺ، كما كان الصحابة، ولم يكن ذلك عادة لهم قد يتبركون بعرقه، أو ببصاقه ﷺ، أو بفضل وضوئه، وهكذا أيضاً بشعره، ولا يُتبرك بغيره ممن يظن به الصلاح، ولم يبق من آثار النبي ﷺ شيء اليوم يمكن لأحد أن يثبت أنه من آثاره -عليه الصلاة والسلام- ومن ثَمّ يمكن التبرك بذلك، أما تتبع آثار الأنبياء، والأماكن التي نزلوا بها أو نحو ذلك فهذا لا يتبرك به، والنصوص تدل على هذا المعنى.

ومن أراد البركة يمكن أن يتتبع هذه الأشياء في نصوص الكتاب والسنة، وأعظم ذلك هو الاشتغال بكتاب الله فهو كتاب مبارك؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: اشتغلنا بالقرآن فعمتنا أو فغمرتنا البركات، من أراد أن يبارك له في علمه وفي عمله في دعوته فعليه بالقرآن.

قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى: "قال مقيده -عفا الله عنه وغفر له: الأظهر في معنى تبارك بحسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى تَبَارَكَ: تكاثرت البركات والخيرات مِن قِبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله" [6].

المعنى دقيق جداً، وبعض الكتب لها ميزة، مثل هذا أضواء البيان، ومثل كلام شيخ الإسلام، وكلام ابن القيم الذي جمع، وكذلك أيضاً تفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير، فهؤلاء من المحررين المحققين، الذي ليس له خلفية يقرأ ويمر عليه هذا الكلام دون أن يعرف كيف جاء، لكن لاحظ عبارات السلف التي ذكرناها في معنى تبارك والخلاف الذي يذكر في كتب التفسير، انظر إلى عبارة الشنقيطي بعدما ذكر الأقوال قال: "قال مقيده   -عفا الله عنه- هو إذن يرجح الآن:

الأظهر في معنى تبارك بحسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى تَبَارَكَ تكاثرت البركات والخيرات مِن قِبله، وذلك يستلزم عظمته".

لاحظ "يستلزم عظمته"، الذي قال: تعاظم نظمها في تفسير هذه المادة، يستلزم عظمته.

ومعنى قول الشنقيطي: "وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق"، قالوا تقدس؛ لأن بعضهم أنكر هذا قال: كيف يقال تبارك بمعنى تقدس، وتقدس بمعنى تطهر وتنزه، وهنا عظمت بركته وخيره؟ فهذا معنى غير صحيح، أنكره بعضهم، لكن هنا انظر "تقدس"؛ لأنه لا يكون كذلك إلا إذا استجمع الأمرين: تنزه من النقائص، واستجمع الخيرات والكمالات.

وقال -رحمه الله: "وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدرّ الأرزاق على الناس هو وحده المتفرّد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق كالأصنام، وسائر المعبودات من دون اللَّه لا يصحّ أن يعبد، وعبادته كفر مخلّد في نار جهنّم، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله: إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة العنكبوت:17].

وقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [سورة النحل:73]، وقوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [سورة الأنعام:14].

وقوله تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات:57-58]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ۝ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.. الآية [سورة غافر:13، 14]" [7].

هذا الكلام في غاية النفاسة لطالب العلم، ومثال واضح جداً على طريقة الجمع بين الأقوال التي يذكرها السلف حيث يفسرون تارة ببعض المعنى أو بلازمه أو بنحو ذلك، فتُجمع هذه الأقوال ويعبر عنها بعبارة وافية، وحينما يقال: هذا الكتاب أو ذاك له مزية، وهو أنه يعبر عن المعنى بعبارة ضافية وافية، محررة فهذا هو الصحيح، ولو جئنا مثلاً نكتب في مفردات القرآن، كلمة تبارك كيف ستكتبها؟ القضية ليست بهذه السهولة، ترجع إلى كتب المفردات تجد هذا يذكر معنى، وهذا يذكر معنى، وهذا يذكر معنى كيف ستعبر عنها؟ تحتاج أن تُرجع الكلام للمفسرين وكلام السلف، ثم تحرر هذه اللفظة، وتصوغ ذلك بصياغة دقيقة جداً، هذا في غاية الصعوبة، مثل هذه الطريقة.

ولذلك تجد بعض من يؤلف في التفسير أو يختصر كتاباً في التفسير أو يؤلف في المفردات تأتي عباراته فيها نقص، قد لا يكون هذا المعنى الذي ذكره خطأ لكنه قليل من كثير، لم يحرر العبارة في تفسير الآية، يكتبها بطريقة معبرة عن المعنى، استوفي له بقدر الإمكان، وهذه القضية يحصل بها التفاضل بين كتب التفسير التي على الجادة، ويعلم تفاسير أهل البدع، وكذا هذا التفسير لأهل السنة، لكن التفاسير التي على الجادة تتفاوت غاية التفاوت، ومن أعظم ما يحصل به التفاوت بينها هو هذا، وهذه هي التي تتصل اتصالاً مباشراً بالملكة، والفقه في المعاني وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن الكتابة في التفسير أو المفردات أو نحو ذلك ليست بالشيء السهل، اختصار كتب التفسير ليس بالشيء السهل، هو من أصعب الأشياء.

وقضية مثل هذه تحتاج كثيراً من الوقت حتى تحرر فيها العبارة، فتصور مفردات كثيرة جداً في القرآن كم تحتاج؛ ولهذا بعض أئمة اللغة الكبار جلس خمس عشرة سنة وهو يكتب كتابه في المفردات، وهذا ليس بكثير.

وهنا يقول: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ قال: نزّل فعّل من التكرر والتكثر، كقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136]، لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة... إلى آخره، كلمة نزّل على وزن فعّل، فهي تدل على نزوله شيئاً بعد شيء، أنه نزل منجماً، لكن حينما يقال: أنزل فإنها لا تدل على هذا المعنى، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، فإذا زاد حرف فمعناها أن هناك زيادة في المعنى، وفرق بين نزّل وبين أنزل، فأنزل أي جملة، ولهذا قال: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ نزّل بالنسبة لكتابنا القرآن نزّل لأنه نزل منجماً، وأما الكتب السابقة فقال: والكتاب ما قال الذي نزّل من قبل، وإنما الذي أنزل من قبل، الكتاب جنس، يعني: الكتب التي أنزلها من قبل، فنزلة جملة واحدة

ويدل على هذا قوله -تبارك وتعالى- مخبراً عن قول المشركين: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [سورة الفرقان:32] يعني: كالكتب التي قبله، فأقر هذا، لو كان هذا القول غير صحيح لقال لهم: الكتب السابقة كذلك كانت تنزل مفرقة، ولكنه ذكر معنى وتعليلاً فقال: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ كذلك أنزلناه هذا الإنزال، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ۝ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [سورة الفرقان:32، 33] وهذه علة التنجيم، هذا الذي يشير إليه ابن كثير -رحمه الله.

قال: ولهذا سماه هاهنا الفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ يعني قال: لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، فرقان يفرق بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل، وبعضهم يقول: الذي يفرق بين المحق والمبطل، وليس هذا هو أصل المعنى، الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل، ولكنه يلزم منه معرفة المحق من المبطل، إذا فرق بين الحق والباطل عرف من هو على الحق ومن هو على الباطل.

وقوله: "على عبده" هذه صفة مدح وثناء؛ لأنه أضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في أشرف أحواله، وهي ليلة الإسراء، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [سورة الإسراء:1]، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19]، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.

حاصل الكلام السابق أن مقام العبودية مقام جليل من أجلّ المقامات وأعلاها وأعظمها، فقد ذكر الله في أشرف المقامات وصْف نبيه ﷺ به، وذلك أن شرف العبد بتحقيق العبودية، فكلما ارتقى في سلمها كلما كان ذلك أعظم في مرتبته وأكثر في شرفه، فشرف العبد في تعبيد نفسه وتذليلها وتطويعها لربها وباريها ، فإذا ترفع عن هذا وخرج عن طاعته ذل وحصل له الصغار؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وجعل الذل والصغار على من خالف أمري[8]، وقال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8]

فمن ابتغى العزة فإن العزة لله -تبارك وتعالى، فعلى قدر ما يحصل له من الإيمان والعبودية على قدر ما يحصل له من العزة، يكون عزيزاً، يكون له من الهيبة بقدر خوفه من الله -، بقدر طاعته له، وليس ذلك يحصل برفيع اللباس أو نفيس الرياش والأثاث أو المراكب أو نحو هذا، فالذل لا يفارق صاحب المعصية والبدعة، مهما تزين ومهما تصنع، والله المستعان.

وقوله: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أي: إنما خصَّه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42]، الذي جعله فرقاناً عظيماً، إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال ﷺ: بعثت إلى الأحمر والأسود [9]، وقال: إني أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، فذكر منهن: أنه كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة [10]، كما قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا.. [سورة الأعراف:158] الآية، أي: الذي أرسلني هو مالك السماوات والأرض، الذي يقول للشيء كن فيكون، وهو الذي يحيي ويميت، وهكذا قال هاهنا: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ.

المراد لِلْعَالَمِينَ يعني: الجن والإنس، إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى [سورة الأحقاف:30]، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [سورة الأحقاف:31]، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [سورة الجن:1] كل هذا يدل على أن النبي ﷺ قد بعث للإنس والجن، بعث للأحمر والأسود.

وقوله: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا هل هذا عائد إلى القرآن، تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ليكون الفرقان للعالمين نذيراً، أو ليكون الرسول بعثه الله -تبارك وتعالى- ليكون للعالمين نذيراً؟

يحتمل هذا وهذا، من أهل العلم من قال: إن ذلك يرجع إلى القرآن: تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ القرآن لِلْعَالَمِينَ نزله لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، علة الإنزال هي لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.

ويحتمل أن يكون ذلك يعود إلى النبي ﷺ وهو الأرجح، وذلك أن الضمير في الأصل يرجع إلى أقرب مذكور، تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ هو من العبد -عليه الصلاة والسلام، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، والنبي ﷺ مبعوث بالبشارة والنذارة إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [سورة الفرقان:56]، فهنا اقتصر على أحدهما ليدل على الآخر: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أي: ومبشراً كذلك، يبشر من آمن واستجاب: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الكهف:2].

وهكذا قال هاهنا: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك.

ثم أخبر أنه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أي: كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.

قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا الخلق يأتي بمعنى التقدير:

ولأنتَ تَفري ما خلقتَ وبعـ ــضُ القوم يخلقُ ثم لا يَفري

تفري ما خلقتَ يعني: تُنفذ ما قدّرت وخططت، يمدح ملكاً من الملوك، تفري ما خلقتَ، فالخلق يأتي بمعنى التقدير، وعلى هذا المعنى قوله -تبارك وتعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24] فالخالق هو المقدر هناك، والبارئ هو الموجد من العدم، والمصور هو الذي أعطى كل مخلوق هيئته وصورته، فالخلق يأتي بمعنى التقدير ويأتي بمعنى الإيجاد، فهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، ما المعنى هل نقول هنا: خلق بمعنى قدر، يعني: قدر كل شيء فقدره فليكن من قبيل التكرار مثلاً؟

الجواب: لا، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ خلق بمعنى أوجده فقدره تقديراً، التقدير يكون قبل الإيجاد، وُجد على الهيئة والحال الذي قدره الله له، كيف يكون المعنى هنا، وابن جرير -رحمه الله- يقول: سوّى كل ما خلق، خلق كل شيء، سوّى كل ما خلق وهيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، بمعنى أنه جاء بصفة وصورة وحال من طول وقصر وأجل، وكذلك ما فيه من الأوصاف النفسية والجسمانية كما أراد الله -تبارك وتعالى، لا يخرج عن ذلك في قليل ولا كثير: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، قدر له وجوده وأجله وانتهاءه ونهايته، وقدر له رزقه وعمله فضلاً عن هيئته وصورته، لا يخرج عن تقديره شيء وتقدست أسماؤه.

قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى: "وأما الأمر الخامس وهو أنه قدَّر كل شيء خلقه تقديرًا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وقوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، إلى غير ذلك من الآيات، وقال ابن عطيّة: "تقدير الأشياء هو حدّها بالأمكنة، والأزمان، والمقادير، والمصلحة، والإتقان"، انتهى بواسطة نقل أبي حيّان في "البحر".

تنبيه:

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية معناه: التقدير، ومنه قول زهير:

ولأنتَ تَفري ما خلقتَ وبعـ ــضُ القوم يخلقُ ثم لا يفري

قال بعضهم: ومنه قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، قال: أي أحسن المقدّرين، وعلى هذا فيكون معنى الآية: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي: قدّر كل شيء فقدّره تقديرًا، وهذا تكرار كما ترى، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال، وذكر أبو حيان جوابه في "البحر" ولم يتعقّبه.

والجواب المذكور هو قوله: فإن قلت في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً؟ كأنه قال: وقدّر كل شيء فقدّره.

قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثًا مراعًى فيه التقدير والتسوية، فقدّره وهيّأه لما يصلح له.

مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوى الذي تراه، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر ما ومصلحة مطابقًا لما قدّر له غير متجافٍ عنه، أو سمى إحداث اللَّه خلقًا؛ لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت، فإذا قيل: خلق اللَّه كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنّه قيل: وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده، لم يوجده متفاوتًا، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم، انتهى كلام صاحب "الكشاف" وبعضه له اتّجاه، والعلم عند اللَّه تعالى" [11].

قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [سورة الفرقان:3].

يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، الخالق لكل شيء، المالك لأزمّة الأمور، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومع هذا عَبَدُوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة، بل هم مخلوقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لعابديهم؟

وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا أي: ليس لهم من ذلك شيء، بل ذلك مرجعه كله إلى الله ، الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان:28]، كقوله: وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]، وقوله: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:13، 14]، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [سورة الصافات:19]، إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [سورة يس:53]، فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي لا ولد له ولا والد، ولا عديل ولا بديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير، بل هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

  1. بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 185).
  2. بدائع الفوائد (2/ 185).
  3. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591).
  4. بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 185-187).
  5. رواه الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2682)، وابن ماجه، كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم (223)، وأحمد في المسند، برقم (21715)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف، وقيس بن كثير، وقيل: كثير بن قيس -وهو قول الأكثرين- ضعيف، ثم إن عاصم بن رجاء لم يسمعه من قيس، فهو منقطع، بينهما داود بن جميل كما في الحديث التالي، وهو ضعيف أيضاً".
  6. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 4).
  7. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 4).
  8. رواه أحمد في المسند، برقم (5667)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 109)، في كلامه على حديث رقم (1269): "قلت: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات غير ابن ثوبان هذا، ففيه خلاف وقال الحافظ في "التقريب": " صدوق، يخطئ، وتغير بأَخَرة".
  9. رواه أحمد في المسند، برقم (19735)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد اختُلف فيه على إسرائيل في وصله وإرساله، فرواه عنه حسين بن محمد -وهو المرُّوذي- في هذه الرواية موصولاَ، ورواه أبو أحمد الزبيري عنه في الرواية التالية مرسلاً، إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي".
  10. رواه البخاري، في أول كتاب التيمم، برقم (335).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 8-9).

مواد ذات صلة