- معنى الاعتكاف
- حكم الاعتكاف
- الحكمة من الاعتكاف
- بعض أحكام الاعتكاف
- أركان الاعتكاف، وشروطه
- شرط الصوم للاعتكاف
- ما الذي يستحب للمعتكف أن يفعله؟
- ما يباح للمعتكف
- مبطلات الاعتكاف
- مسألة قضاء الاعتكاف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمرحباً بكم معاشر الإخوان، والأخوات، وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يتقبل منا، ومنكم الصيام، والقيام، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
حديثنا في هذه الليلة أيها الأحبة عن أحكام الاعتكاف، وحِكَمه، وغاياته، وآدابه.
حقيقة الاعتكاف:
الاعتكاف يرجع في معناه في كلام العرب إلى معنى واحد، وهو: المقامة، والحبس.
بمعنى أن تقبل على الشيء بحيث لا تنصرف عنه، فهو بمعنى ملازمة الشيء، وحبس النفس عليه، برًّا كان، أو إثماً.
فالله - تبارك، وتعالى - يقول: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138].
فهؤلاء يعكفون على الإشراك.
وقال - تبارك، وتعالى - في البر: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
فإذًا ملازمة الشيء يقال لها: "اعتكاف" أيًّا كان هذا الذي لازمته، ولكن هل ورد تحديد عن الشارع للاعتكاف، يرتفع به الخلاف في تفاصيل تأتي الإشارة إليها - إن شاء الله تبارك، وتعالى -؟.
في حدود ما أعلم لم يرد عن الشارع تحديد لمعنى الاعتكاف، وإنما يُرجَع في ذلك إلى عرف المخاطبين إن وُجد، فإن لم يوجد رُجع إلى أصل المعنى اللغوي.
فإذا عرفنا أن الاعتكاف بمعنى لزوم الشيء، والإقبال عليه، فيقال: إن الاعتكاف الشرعي هو: لزوم المسجد بنية القربة، بنية التقرب إلى الله - تبارك، وتعالى - لزوماً يصدق عليه في العرف أنه اعتكاف، بمعنى أنه مكث طويل في العرف.
وهذا فيما أظن - والله تعالى أعلم - وسطٌ بين طرفين، بين قول من قال: إن الاعتكاف يكون، ولو بلحظة، كما قال بعض الفقهاء.
وقالوا: لو أنه مر بالمسجد، ونوى الاعتكاف، وهو يمشي فإن ذلك يكون اعتكافاً، وهذا فيه مبالغة - والله تعالى أعلم - ولا يقال لهذا: إنه معتكف، وعاكف على كذا.
وبين قول من قال: إنه لا يكون بحال من الأحوال أقل من يوم، وليلة، فهذا أيضاً ليس فيه دليل - فيما أعلم - واضح يحدده هذا التحديد كما سيأتي.
فكل مكث طويل في العرف يقال له: اعتكاف، إذا جلس بنية الاعتكاف في المسجد، مدة يصدق عليها في العرف أنها طويلة فذلك يكون اعتكافاً.
فلو جاء من بعد صلاة العصر، وجلس حتى صلى المغرب، والعشاء، والتراويح، ثم خرج فهذا مكث طويل في العرف.
لو جاء لصلاة العشاء، وصلى التراويح، ثم جلس، وصلى القيام، ثم خرج فهذا في العرف يقال له: اعتكاف لأنه مدة طويلة عرفاً.
لو جلس من بعد صلاة الفجر إلى الظهر فإن هذه المدة تعد اعتكافاً، لا إشكال في هذا، والعلم عند الله - تبارك، وتعالى -.
الاعتكاف عبادة مشروعة، بمعنى أن الشارع طلبها، وشرعها، والمشروع قدر زائد على المباح، مستوي الطرفين، بمعنى أن الشارع طلبه إما استحباباً، وإما وجوباً.
فالاعتكاف من العبادات المشروعة المستحبة، وهي عبادة قديمة معروفة في الشرائع السابقة، ويدل لذلك قوله - تبارك، وتعالى -: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] فهذا تشريع للاعتكاف.
وفي كتاب الله - تبارك، وتعالى - في خطاب هذه الأمة: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
وأما ما يدل على مشروعيته في سنة رسول الله ﷺ فكثير، ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : كان رسول الله ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان[1].
وفي حديث أبي سعيد : إني اعتكفت العشر الأُوَل ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف، فليعتكف[2].
وهذا يعطينا فائدة، وحكمة من حكم الاعتكاف ستأتي الإشارة إلى جملة منها: أن من مطالب المعتكفين التماس ليلة القدر.
فالنبي ﷺ أُمر، وأُخبر أنها في العشر الأواخر، فأخبر أصحابه بذلك، فتُطلب، وتُلتمس بالاعتكاف.
وقد أذن النبي ﷺ أيضاً لأزواجه، لعائشة، وحفصة أن يعتكفا معه، ولهذا يقال: إن الاعتكاف مشروع في حق الرجل، وفي حق المرأة، سواء كانت شابة أم مسنة، على قول الجمهور، ما لم يكن في ذلك مفسدة، من كون المكان غير مأمون، أو فيه نوع مخالطة للرجال، أو فيه نوع تكشف، إذا كان المكان مفتوحاً، يراه الرجال المارة كما في المسجد الحرام.
ولا يصلح أن المرأة تنام، والرجال بين رائح، وغادٍ ينظرون إليها، ولكن ذلك أيضاً في حق المرأة يتوقف على إذن زوجها، كما سيأتي في الكلام على شروطه.
ولم يرد عن الشارع دليل صحيح في فضل الاعتكاف، الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف لا فضل له، ولكن لم يصح في ذلك حديث معين، ولكن الشارع بين مشروعيته كما في الأدلة السابقة، ولنا أسوة برسول الله ﷺ.
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها (3/47)، رقم: (2025)، ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (2/830)، رقم: (1171).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان (2/825)، رقم: (1167).
فإذا كان الاعتكاف مشروعاً فلماذا شُرّع؟ وما الحكمة منه؟ ولماذا يترك الناس بيوتهم، وأزواجهم، وما يعافسون من أنواع النعيم، واللذات التي يجدونها في بيوتهم، ويخالفون مألوفاتهم ليبقوا في بيوت الله - تبارك، وتعالى - فما هي الحكمة من ذلك؟ لماذا شرعه الله لعباده؟ أقول:
أولاً: هذا الاعتكاف بمعنى العكوف على الطاعة، والعبادة، بملازمة بيت من بيوت الله - تبارك، وتعالى - فيحصل به انقطاع عن المخلوقين، ويكون الإقبال، والاشتغال بطاعة الله - تبارك، وتعالى - فيحصل للعبد من القرب من ربه - تبارك، وتعالى - ما لا يحصل له بغيره عادة.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - هذا المعنى بعبارات بليغة، وبين روح الاعتكاف، ومقصوده، فقال: "وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده، وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره، وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب، وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيُعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرَح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم"[1].
فإذا حصل معه الصيام فإن ذلك يكون فيه الجمع بين فطام النفس عن مألوفاتها من الخلطة، والاجتماع، والمؤانسة، والمعافسة للناس، والأهل، والزوجات، مع فطام النفس عن الأكل، والشرب، والجماع، فيحصل بذلك استعداد النفس للقبول عن الله - تبارك، وتعالى - ويلين القلب، ويرق، ويحصل له الإشراق، والصفاء، والفكرة، والعبرة إذا حفظ اعتكافه، ومن ثَمّ يكون العبد في حال من الاستغراق في أوقاته، في ليله، ونهاره، في الطاعة.
يكون مشتغلاً بألوان القربات من الذكر، وقراءة القرآن، والفكر، وعبادة التفكر هي من أجل العبادات، وأشرفها.
وهذا الاعتكاف تقرب إلى الله - تبارك، وتعالى - بمجاورة بيته، والإعراض عن الدنيا، والإقبال على العبادة طلباً لليلة القدر، وطلباً للرحمة، وطلباً للمغفرة.
وقد جاء عن عطاء الخرساني - رحمه الله -: "مثل المعتكف مثل الذي ألقى نفسه بين يدي الله تعالى، يقول: لا أبرح حتى يغفر لي[2].
فهؤلاء العباد المقبلون على الله - تبارك، وتعالى - هم الذين يغبطون، وهم الذين يفرحون في العيد، فالفرح ليس على البطالة، واللهو، والغفلة، والسهر على أمور لا تجدي، والنوم في النهار جملة، مع تضييع الصلوات.
فيكون الإنسان في حالة من الغفلة في ليله، ونهاره، هؤلاء لا تحصل لهم التقوى بحال من الأحوال.
المقصود أيها الأحبة: أن العبد بهذا الاعتكاف يحصل له من حضور القلب، وصفاء الذهن، من اجتماع الفطامين، الفطام عن شهوات البطن، والفرج، والفطام عن أمور أخرى من الخلطة، والمؤانسة.
العبد يكون شارداً في كثير من شهور العام إلا من رحم الله - تبارك، وتعالى - فهو في أعمال متتابعة، لا ينقضي عمل إلا وتدهمه أعمال بعده.
فلا يجد وقتاً يفكر فيه، ويراجع نفسه، ويحاسبها، فالاعتكاف فرصة أيها الأحبة.
على المعتكف أن يستشعر جملة من الأمور:
ولذلك أقول لمن وفقه الله - تبارك، وتعالى - لهذه العبادة: عليه أن يستشعر جملة من الأمور، أوجزها في نقاط سريعة:
أولاً: منذ البداية أن يستشعر نية طلب ليلة القدر، منذ دخوله في الاعتكاف، يطلب ليلة القدر.
ثانياً: بما أن هذا الاعتكاف هو انقطاع إلى الله - تبارك، وتعالى - فيحسن أن يعتكف الإنسان وحده، فهذا أقرب إلى تحقق المقصود، وانتفاع العبد من هذا الاعتكاف.
فإن لم يمكنه ذلك، فيمكن أن يكون مع واحد يعينه فيما يحتاج إليه، إن كان يحتاج إلى ذلك، ويتخير من يعتكف معه، يعني: يكون صاحب عبادة، وصاحب إخبات، ويحفظ الأوقات، فإن من الناس من مخالطته تحيي القلب، ومن الناس من تكون مخالطته جالبة للهم، والغم، والكسل، والقعود عن طاعة الله لكثرة غفلته، ونومه، وأكله، وضحكه، واشتغاله بما لا يعنيه.
ثالثاً: ينبغي أن نحرص على الأوقات في الاعتكاف، أن يضبط الإنسان أوقات النوم، والطعام، والشراب، ويتخفف من ذلك قدر المستطاع، ويجعل نومه في بعض النهار من أجل أن يحيي الليل كله، لأن ليالي العشر أفضل من نهاره؛ لأن فيها ليلة القدر.
ولا يشرع إحياء ليال في العام كاملة من أول الليل إلى آخره في العبادة إلا هذه العشر، كان يحييها النبي ﷺ فيشد الإزار، ويقبل على الله بكليته.
إذاً تضبط الأوقات، لا يصح في الاعتكاف أن يطول النوم، وأن تكثر الغفلة بأمور، وأسباب لا تخفى على أحد منا، فيكون حافظاً لأوقاته.
بل قال بعض أهل العلم من الحنابلة: إن المعتكف يستحب له أن لا ينام على الأرض، وإنما ينام متربعاً، من أجل أن لا يستغرق في النوم، فيطول نومه[3].
ينام، وهو جالس لشدة حفظ الأوقات، هو معتكف على العبادة، ما اعتكف على النوم، إلى هذا الحد!، مع أنا لا نقول هذا، ولكن هذا قاله بعض أهل العلم، وإنما يذكر بعض ذلك للاعتبار.
وبعض الناس إذا سمع هذا بادر، قال: وما الدليل؟
وما ذُكر هذا من أجل أن يُعمل به، حينما نقول: بعض الكسالى، بعض الناس يتخذون الصيام ذريعة للكسل، وبعض السلف كان يواصل أسبوعاً كاملاً، ولو قبض على يد رجل قوي لهشمها.
بعض الناس يقول: هذا ما عليه دليل، الوصال فيه نهي.
ومن رغب في الوصال؟ الكلام في النشاط، والقوة.
فهنا حينما نقول: إن بعض الفقهاء قال ذلك، المقصود به الحث على التشمير، أن من أهل العلم من بلغ به الحال أن قال: لا ينام إلا جالساً.
رابعاً: حدد لك هدفاً واضحاً في أول الاعتكاف، أو حدد لك أهدافاً، ما هي أهدافك؟ كم ختمة ستختم في هذا الاعتكاف؟ كم ستصلي في ليلك، ونهارك؟ كيف تستغرق الأوقات؟
وكما ذكرت في بعض المناسبات أن الإنسان ممكن بعد صلاة الليل الأولى أن يستقبل القبلة - إن كان يعجز عن القيام - وهو جالس، وإن كان لا يحفظ يفتح المصحف، ويضع حامل المصحف أمامه، وبدلاً من أن يقرأ قراءةً خارج الصلاة، يقرأ قراءةً في الصلاة، ويظل يصلي إلى القيام الثاني، ويكون بهذا قد أحيا الليل في الصلاة.
ثم تأتي بعده مرتبة، وهي أن يحيى الليل بالذكر، والقراءة، وهذا من إحياء الليل، فإنه ليس من لازم إحياء الليل أن يستغرق ذلك في صلاة، لكن قراءة القرآن في الصلاة - لاسيما في صلاة الليل - أفضل كما نبه على ذلك شيخ الإسلام، وغيره من أهل العلم.
خامساً: إذا وفقك الله لهذه العبادة فإن هذا يعني - إن شاء الله - أنك وفقت لعبادة ليست مجالاً للمعاصي، في المساجد لا يرى في الغالب المنكرات، ولا يسمع المنكرات، ولا يعافس المنكرات، وهذا لا يكاد يوجد في العبادات الأخرى.
إذا ذهب الإنسان للحج يرى من الناس أشياء، وأشياء من أنواع المخالفات المنكرة، سواء كانت من قبيل البدع، أو غير ذلك من التبرج، وغيره، والكلام، اللغو، والمخاصمات التي تسمعها هنا، وهناك في الحج.
بينما في الاعتكاف الناس مشغولون بمصاحفهم، فيسلم هذه المدة، عشرة أيام بلا منكرات.
سادساً: تذكر أن الله قد حباك بهذا الشرف، أنك في بيت من بيوته، تلازمه، أحب البقاع إلى الله - تبارك، وتعالى - قد جلست فيها في أشرف ليالي العام، فهذا فضل من الله ينبغي أن تطيب به النفوس، وأن يستبشر العبد به، ويفرح، ويغتبط، ويسأل ربه - تبارك، وتعالى - القبول.
سابعاً: المعتكف لا يزال في عبادة متصلة في هذه العشر، فنومه عبادة؛ لأنه في النوم معتكف، واستيقاظه عبادة، وأكله عبادة، وخطواته في المسجد عبادة، فقيامه، وقعوده، واشتغاله كل ذلك من قبيل العبادة، بقاؤه في المسجد عبادة، سواء كان في حال نوم، أو في حال يقظة، فهو معتكف في ساعات ليله، ونهاره، فالوقت كله مستغرق في العبادة، فهو كالمحرم من هذه الحيثية.
ثامناً: ينبغي أن نتذكر منة الله علينا إذا وُفقنا لهذه العبادة أنْ حرمها كثيرين ممن لم يرفع بذلك رأساً، أو حال دون ذلك أشغال، أو علل، وأمراض، لم يستطع معها الاعتكاف، فالله قد هداك لهذا، ووفقك له، هداك الهداية بنوعيها، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق.
تاسعاً: الاعتكاف فرصة للتفكر، والمراجعة، والمحاسبة، فينظر الإنسان في أعماله، وما قدم لآخرته، وما هو عليه من صلاح الحال، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ويتلمس مواطن التقصير، فيرجع على نفسه بالإصلاح، والتقويم، ولا يبقى سادراً في غفلته حتى يوافيه الأجل.
عاشراً: إذا كان الاعتكاف في حقيقته هو عكوف القلب على الرب - تبارك، وتعالى - كما قال بعض أهل العلم، فإن هذا المعنى ينبغي أن يلاحظ، وقد يتحقق لبعض الناس في أيام قليلة من هذا المعنى ما لا يتحقق لآخر في العشر كلها.
لأن بعض الناس قد يخرج من الاعتكاف، وما حصل له شيء من هذا المعنى، عكوف القلب على الرب - جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
الحادي عشر: نحن في هذه الأيام نعيش ثورة الاتصالات، كما تعلمون، وقد أشغلت كثيراً بأنواعها المختلفة، حتى صار الناس لربما يجتمعون في المجلس الواحد، ولا يكون بينهم وصال، ولا حديث، اللهم إلا عبر هذه الأجهزة، ولربما أثر ذلك على قراءتنا للقرآن في مثل هذه الأيام، بالإضافة إلى متابعة الأخبار هنا، وهناك، وما يعرض في القنوات من قضايا تتعلق بهموم الأمة، ومصائبها، وآلامها، فهذا يستغرق أوقاتًا طويلة من الليل، والنهار.
فإذا نظر الإنسان إلى حاله مع هذه الوسائط، والوسائل وجد أن ذلك قد أثر على عبادته، وتلاوته، وذكره لربه - تبارك، وتعالى - وهذه مشكلة كبيرة، ولو عملت دراسة مقارنة بين حال الناس مثلاً قبل عشر سنوات، وحال الناس الآن من جهة القراءة في رمضان، ولزوم المساجد، وما إلى ذلك لوجدنا الفارق كبيراً.
الشيء الذي عهدناه، ونعرفه أن المساجد تكتظ بالمصلين، وبالتالين القارئين لاسيما بعد صلاة العصر إلى قريب من أذان المغرب، أما الآن فلا تكاد تجد إلا الأفراد.
فالاعتكاف فرصة للتفرغ من هذه الوسائل، والأجهزة، من أجل تصفية القلوب، وإقبالها على ربها، وخالقها - تبارك، وتعالى - اعط نفسك أجازة، عشرة أيام في السنة، أفضل أيام، وليالي العام.
أما أن نأتي بهذه الأجهزة، والوسائط معنا في اعتكافنا فإن هذا يؤثر، ولابد، ولا يكون ذلك من قبيل الانقطاع للطاعة، والعبادة، لا يحصل به عكوف القلب على الرب - تبارك، وتعالى -.
كيف إذا حصل مع هذا - للأسف - أن بعضاً لربما يلعب بأنواع الألعاب، وهو في المسجد بهذه الأجهزة، وهو معتكف، يقضي ساعات طويلة يلعب، بين القيام، والتراويح يلعب، بعد العصر يلعب، هذا لا يقال له: اعتكاف، ولا يصلح أيضاً، ولا يتناسب مع حرمة المسجد، وفرق بين وقوع أمور عارضة في زمن النبي ﷺ لاسيما مما يتقوى به على الجهاد كرمي الحراب مما وقع من الحبشة، وأقرهم النبي ﷺ عليه، وبين هذه الألعاب في هذه الأجهزة التي لا تورثه نفعاً، وهكذا في متابعات ما يكتب في تويتر، وفيسبوك، ومنتديات، وما إلى ذلك.
أقول: نأخذ أجازة من هذا كله فنحقق معنى الاعتكاف كما ينبغي، فإذا ما تركنا هذه في اعتكافنا فمتى سنتركها؟!.
الثاني عشر: من علامات الإخلاص للمعتكف، وغيره: أن يخفي أحواله، وأعماله قدر المستطاع، فالمعتكف يحاول أن يخفي أحواله عن أهل المسجد، ولو استطاع أن يدخل المسجد، ولا يشعر به أحد أنه معتكف فهذا أفضل، والله - تبارك، وتعالى - يحب العبد الخفي التقي.
ولا داعي للإنسان أن يكتب في تويتر في حسابه أنه معتكف، وأنه جالس الآن في الصف الأول، ويقرأ، وأنه وصل إلى سورة المائدة.
أين هذا من الإخلاص لله ؟.
مثل الذي يكتب أنه الآن يطوف، ويدعو لكم جميعاً من أصدقاء، ومتابعين، ومشجعين، وأنه في الشوط السابع الآن يطوف، يخبر الناس أنه يعبد الله يطوف.
أين هذا من الذي لا يشعر به أحد، وهو يقرأ القرآن، أو يقوم الليل من السلف؟.
الثالث عشر: هناك عبادات قد نُشغل عنها في سائر العام، فهذا التفرغ فرصة لاستدراكها، منها: الإكثار من القراءة في اليوم، والليلة، الأذكار التي لربما نفرط فيها، إدراك تكبيرة الإحرام.
نحن نقول: من أراد الخشوع فليبكر في حضوره إلى المسجد.
فالاعتكاف هو في المسجد، فهنا يعمل على تحقيق الخشوع.
القلوب أحياناً في العشرين الأولى لربما فيها من القسوة، والصلابة ما لا يلينها ذلك الصيام الذي صامه، أو تلك القراءة التي قرأها على ما فيها من نقص، وإخلال.
فإذا جاء الاعتكاف فينبغي أن يزيل تلك العوالق التي لا زالت في القلب، فيلين، ويرق.
وهكذا أيضاً تلمُّس أوقات الإجابة، كثرة التضرع، والدعاء بين الأذان، والإقامة، آخر ساعة من الجمعة، ثلث الليل الآخر، أوقات السحر وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 18].
أنا أذكِّر بمعنى بسيط، وهو في حقيقته كبير: كثير منا يقول: ما أستطيع قيام الليل، حاولت، ركّبت الساعة، لم أستطع.
أنا أقول: أنت مستيقظ في هذه الأيام من أول الليل إلى آخره، فهل جلست، ورفعت يديك في السحر تدعو الله أو صليت ما شاء الله أن تصلي؟
إن كنا لا نفعل ذلك، ونحن مستيقظون فإذاً العلة لم تكن النوم، إنما العلة هي أن أعمالنا قد أقعدتنا، وأن كسلنا عن طاعة الله قد أوهننا، فلم تنهض تلك النفوس، ولم تحصل لها الإعانة للقيام بهذه الطاعات، والقربات الشريفة التي تكون لأهل الهم، والعزم.
لا يقوم الليل إلا من له هم، وعزم، لكن نحن نعاني من غفلة كبيرة، نحتاج إلى معالجة، فهذه الأيام فرصة، وإن لم تعالج القلوب في مثل هذه الأيام فلا أدري متى تحصل معالجتها.
الرابع عشر: أن يزاول من الأعمال ما يطيق، فإن مقصود الشارع هو أن يقبل المكلف على العبادة برغبة، ومحبة، فإذا كلف العبد نفسه أموراً لا يطيقها، فإن ذلك سيؤدي إلى استثقال الطاعة، والتبرم بها، وانقباض القلب منها، فلا يأتيها إلا تكلفاً، وهذا خلاف مقصود الشارع، وقد نبه على هذا المعنى الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات[4].
الخامس عشر: جرت العادة أن الناس يتداولون في بعض ليالي العشر أن ليلة القدر قد رُئيت رؤى أنها الليلة الفلانية، الليلة الماضية، أو هذه الليلة، فتجد بعض الناس يجد، ويجتهد، ويرسل هذه الرسائل، وينشرها، ويذيعها.
وهذا في ظني خلاف الصواب؛ لأن ذلك أولاً: لا يمكن القطع به.
الأمر الثاني: أن آثاره غير محمودة؛ لأن ذلك سيزهد في بقية ليالي العشر، وما يدريه، ثم هذه الليالي هي أفضل الليالي في العام، حتى لو كانت ليلة القدر هي أول ليلة، انتهت باقي ليالي العشر؟ كيف يفرط بها؟
فنشر مثل هذه الرسائل يوهن الناس عن العمل الصالح في ليالي العشر.
ولذلك تجد كثيرًا من العامة لربما لجهلهم إذا جاءت ليلة سبع، وعشرين حيث يعتقدون أنها ليلة القدر فإن ما بعده يعتبرونه كأنه ليس من رمضان، يقل الإقبال على المساجد، وتمتلئ الأسواق، وتكتظ، ويعتبرون رمضان قد انتهى، خاصة إذا كان الإمام يختم في تلك الليلة، فالباقي فضلة عندهم.
السادس عشر: لا يسوغ أن يكون الاعتكاف سبباً، وسبيلاً لتضييع واجبات أخرى، فهذا الاعتكاف مشروع، ومستحب، لكن لا يكون على حساب تضييع واجبات من القيام على الأبوين حال الحاجة، أو القيام على الأهل، والأولاد، إن كان الحال يتطلب ذلك، فلا يضيع أولاده، لربما لا يقومون لصلاة الفريضة، ويجمعون الصلوات في النهار، وهو معتكف.
أو لربما لا يصلون، ولربما يخالطون الأشرار، ويفعلون الموبقات، وهو معتكف.
فهؤلاء قد لا تستطيع أمهم السيطرة عليهم، فلابد من رجل يوجههم، ويأمرهم، وينهاهم.
مثل هذه الأمور لابد من مراعاتها، وفي الحديث: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يَقُوت[5].
وهكذا إذا كانوا يحتاجون إلى من يقوم عليهم في شئون أقواتهم، وأرزاقهم، وحاجاتهم الدنيوية، فإنه ينبغي أن يقوم عليهم، فلا يضيع أهله.
هذه جملة من الأمور التي ينبغي أن نلاحظها، وأن نستشعرها.
بيان مجمل لهدي النبي ﷺ في الاعتكاف:
كما نعلم أن النبي ﷺ اعتكف أولاً في العشر الأولى من رمضان يتلمس ليلة القدر، ثم اعتكف الوسطى، ثم أُخبر أنها في العشر الأواخر، فاعتكف في العشر الأواخر ﷺ.
ومرة ترك الاعتكاف في العشر الأواخر، فقضى ذلك في شوال؛ لأن عمله ﷺ كان يداوم عليه، ولو كان مستحبًّا، ولما كان العام الذي قبض فيه اعتكف ﷺ عشرين يوماً كما في الصحيح[6].
وقد تفاوتت أقوال أهل العلم في توجيه هذا الاعتكاف في عشرين يوماً، فبعضهم حمل ذلك على طلب المزيد من أجل مدارسة جبريل النبي ﷺ القرآن، فإنه عارضه بذلك مرتين في العام الذي قبض فيه.
وبعضهم قال غير ذلك، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن النبي ﷺ كان قد سافر في العام الذي قبله، في ذلك الوقت، ولم يعتكف كما أخرج أبو داود، والنسائي، وغيرهما، من حديث أبي بن كعب أن النبي ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عاماً، فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين[7].
وكان ﷺ يأمر بخباء - يعني بخيمة - فيضرب له في المسجد، فيمكث فيه يخلو فيه عن الناس[8].
قال ابن القيم - رحمه الله - : "واعتكف مرة في قبة تركية - عليه الصلاة، والسلام - وجعل على بابها حصيراً، كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف، وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المُعتكَف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، يأخذون بأطراف الحديث فيما بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون آخر"[9].
ولذلك أقول: إن من الناس من يكون له من الأنس في الاعتكاف ما لا يكون له من الأنس في غيره، ولا أقصد بالأنس هنا الإقبال على الله وإنما الأنس الآخر الذي يكون بالمخالطة.
فيأتي معه مجموعة من أصحابه، وزملائه، ويقضون الوقت في الحديث فيما بينهم، والمؤانسة، وما إلى ذلك، فيكون كأنه في رحلة، كأنه في نزهة، وهذا خطأ.
هذا خلاف مقصود الاعتكاف، فتجد أن هذا الإنسان لا يلتذ بالطاعة، ولا يقبل عليها، وينشط فيها، وإنما هو يلتذ بالجلوس مع زملائه، والمحادثة فيما بينهم.
كان النبي ﷺ إذا اعتكف يمكث في المسجد، فلا يخرج إلا لحاجة الإنسان، كما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً[10]. هذا في الصحيحين.
وعند مسلم: إلا لحاجة الإنسان[11].
وفسرها ابن شهاب الزهري بالبول، والغائط.
وكان ﷺ أيضاً يعتني بالنظافة في الاعتكاف، فالاعتكاف لا يكون سبباً، وعذراً في ترك التنظف، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين.
فكان يخرج رأسه ﷺ من المسجد إلى حجرة عائشة، فتغسل رأسه، وتسرحه، وهذا معنى التَّرجيل.
فقد جاء في بعض ألفاظه: كان النبي ﷺ يُصغي إليّ رأسَه، وهو مجاور في المسجد، فأرجِّلُه، وأنا حائض[12].
وفي لفظ: فأغسله[13].
فهذا يدل على جوار التنظف، والتطيب، والاغتسال للنظافة، والحلق، والتزين، فكل ذلك يلحق بالترجل كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرحه: والذي عليه الجمهور أنه لا يكره شيء من ذلك إلا ما يكره في المسجد[14]. يعني ممن لا يؤمن معه التلويث، تلويث المسجد.
وكان من هديه ﷺ إذا كان معتكفاً أن لا يخرج لعيادة المريض، ولا لشهود الجنائز، ولا لغير ذلك من أعمال البر، وإنما يمكث في المسجد، وينقطع عن الناس، ويقبل على الله - تبارك، وتعالى -.
ولهذا صح عن عائشة - رضي الله عنها - : "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه"[15].
لكن، ربما زارته بعض أزواجه - عليه الصلاة، والسلام - وهو معتكف، فتجلس لمحادثته ساعة، فهذا لا إشكال فيه.
وهكذا الإنسان حينما يتحدث مع آخر حديثاً يسيراً، وإنما الحديث الطويل، والاسترسال في هذه الأمور فهذا الذي يخالف مقصود الاعتكاف.
- زاد المعاد في هدي خير العباد (2/82 - 83).
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/108).
- الإنصاف، للمرداوي (3/384)، والإقناع (1/328).
- الموافقات (2/171).
- أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم (2/132)، رقم: (1692)، وأحمد (11/36)، رقم: (6495).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان (3/51)، رقم: (2044).
- أخرجه أبو داود، باب الاعتكاف (2/331)، رقم: (2463)، والترمذي، أبواب الصوم عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه (3/157)، رقم: (803)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الاعتكاف، الاعتكاف في العشر التي في وسط الشهر (3/380)، رقم: (3330)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الاعتكاف (1/562)، رقم: (1770).
- زاد المعاد في هدي خير العباد (2/84).
- المصدر السابق (2/85 - 86).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة (3/48)، رقم: (2029)، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (1/244)، رقم: (297).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (1/244)، رقم: (297).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف (3/48)، رقم: (2028).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض (1/67)، رقم: (301)، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (1/244)، رقم: (297).
- فتح الباري لابن حجر (4/273).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض (2/333)، رقم: (2473).
متى يبدأ الاعتكاف؟
إن كان يريد أن يعتكف العشر الأواخر فالبداية على الأرجح أن يدخل عند غروب الشمس، أو قبيل الغروب ليدرك الليل من أوله.
فإن الليل يبدأ من غروب الشمس، ليلة الحادي، والعشرين، فإن الليلة تكون سابقة ليومها، متقدمة عليه، وهذا الذي عليه الجمهور من الأئمة الأربعة، وغيرهم.
ثم هو يستقبل ليلة الحادي، والعشرين، وهذه إحدى الليالي التي قد تكون هي ليلة القدر، خلافاً لمن قال: إن المبدأ يكون من بعد صلاة الفجر، يعني: في اليوم الحادي، والعشرين.
وأما الخروج من الاعتكاف لمن اعتكف العشر فإن ذلك يكون بغروب شمس آخر يوم من رمضان، يعني: ليلة العيد.
هذا هو الأقرب، هذا هو الأرجح، بهذا جاءت فتاوى اللجنة الدائمة، ورجح ذلك من المعاصرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله.
هل يختص الاعتكاف برمضان؟
الراجح أنه لا يختص به، وقد ثبت أن النبي ﷺ كما سبق - اعتكف في شوال.
فهي عبادة، لكن الأفضل في وقتها العشر الأواخر.
أما أقل مدة الاعتكاف فكما أشرت في الكلام على حقيقته: الذي يصدق عليه أنه مكث طويلا، فهذا يقال له اعتكاف.
ولذلك بهذا الاعتبار يصح ما يسمى بالاعتكاف الجزئي، كأن يعتكف الإنسان مثلاً في الليالي فقط، أو يعتكف في النهار فقط.
الذي اتفق عليه الأئمة الأربعة، وعليه جمهور أهل العلم أنها أربعة أركان:
الركن الأول: مُعتكِف.
فلا يكون الاعتكاف إلا من مسلم عاقل مميز، واشترط الجمهور الطهارة من الجنابة، والحيض، والنفاس؛ لأن هؤلاء يمنعون من المكث في المسجد، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43].
وبالنسبة للمرأة: الإذن من زوجها، وكما سبق أن عائشة، وحفصة استأذنتا النبي ﷺ فأذن لهما في الاعتكاف.
وإذا كان لا يحل للمرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه مع أنها عنده في البيت، فكيف بالاعتكاف؟ فهذا من باب أولى.
لكن بالنسبة للأبناء، أو البنات لو منعهم أبوهم، هذا الشاب يقول: منعني أبي، فما الحكم؟ هل يجب عليّ طاعته؟
يقال: ينظر إن كان ذلك لحاجته، أو لمفسدة يتخوفها عليه حقيقية، أو غالبة - غلبة الظن - فإنه يجب عليه أن يطيعه، وإن اختلفت وجهة نظر الولد عن وجهة نظر الأب، فإن الأب يقدر، وينظر ما لا يراه الولد، ويحسبه.
وإن لم يذكر عذراً، قال له: ما تعتكف، ما السبب؟ هل تحتاج إليّ؟.
لا، ما أحتاج إليك، لكن ما أريدك أن تعتكف.
فهذا لا يجب عليه أن يطيعه، فإن استجاب له برًّا به فهو مأجور.
وهذا من البر الذي يكون من قبيل المستحب، لكن ما لا يتضرر به الوالد، وينتفع به الولد فإنه لا تجب طاعته في ذلك سواء كان ذلك في أمور القربات، أو في الأمور الدنيوية، في مصالح الولد، لكنه هنا من البر المستحب، وليس من البر الواجب، هذا بالنسبة للمعتكف.
الركن الثاني: المُعتكَف فيه.
فلابد من المسجد، وقد نقل على هذا جماعةٌ من أهل العلم الإجماع، أنه لا اعتكاف إلا في المسجد، والله يقول: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
لكن ما ضابط هذا المسجد؟ بعضهم ضيقه جدًّا، فقال: المسجد الحرام، ولا يصح في غيره.
وقال بعضهم: في المسجدين، أعني المسجد الحرام، والمسجد النبوي.
وقال بعضهم: الثلاثة، يعني: مع المسجد الأقصى.
إلى قول من قال: إنه يصدق على كل مسجد، ولو لم تقم به الجماعة، إلا إن كان يتخلله جمعة، فإنه يعتكف في الجامع من أجل أن لا يخرج.
هذا عند من لا يرون، وجوب صلاة الجماعة.
فالأقرب - والله أعلم - أنه يصح الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الجماعة، ولو كان يتخلل الاعتكاف جمعة، فإن خروجه للجمعة لا يبطل الاعتكاف، يكفي أن يكون مسجد جماعة.
وقد عزا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هذا القول لعامة التابعين، بل قال: إنه لم ينقل عن صحابي خلاف هذا إلا من خصه في المساجد الثلاثة[1].
وعلى هذا جرت فتوى اللجنة الدائمة: أنه يصح في مسجد الجماعة، ولا يشترط أن يكون مسجد جمعة فضلاً عن اشترط المساجد الثلاثة[2].
وبهذا أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - [3] وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحم الله الجميع[4].
أما المرأة فلأنه لا تجب عليها صلاة الجماعة فإنه يصح اعتكافها في أي مسجد، ولو لم تقم فيه صلاة الجماعة، بمعنى: لو كان في مسجد مهجور، مسجد تُرك، انتقل الناس إلى مسجد مجاور، بُني مسجد أكبر فتُرك هذا المسجد، فاعتكفت فيه فلا إشكال.
بخلاف مساجد البيوت - أعني المصليات التي يتخذها الإنسان في بيته سواء المرأة، أو الرجل يصلي فيها - فإن هذه لا يصح الاعتكاف بها، مصليات في داخل البيوت.
وأما حديث حذيفة : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة[5] ففيه كلام كثير لأهل العلم.
فهذا الحديث روي مرفوعاً إلى النبي ﷺ وروي موقوفاً، ورجح جمع من أهل العلم الوقف، وأنه من كلام حذيفة، واجتهاده، وليس من كلام النبي ﷺ وجاء في بعض ألفاظه: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة[6].
ولم يحصر ذلك في المساجد الثلاثة، فهذا التردد في الحديث بين الوقف، والرفع، والتردد في لفظه أيضاً حمل طوائف من أهل العلم، منهم ابن حزم - رحمه الله - على القول بأن ذلك لا يمكن معه القطع بهذا الحديث أنه عن رسول الله ﷺ وأن ذلك محكوم عليه بالوقف، أنه من كلام حذيفة[7].
ثم قد ثبت عن جماعة من الصحابة القول بأنه يصح الاعتكاف في المساجد عامة، كما جاء عن علي وعائشة، وابن عباس: كل مسجد تقام فيه الجماعة يصح الاعتكاف فيه، وأنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك، إلا ما جاء عن حذيفة - رضي الله عنه -.
ثم كان هذا العمل هو المشهور عند السلف من الصحابة فمن بعدهم، لاسيما مع الإطلاق في قوله - تبارك، وتعالى - : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
فهذا خطاب لجميع الأمة في كل زمان، ومكان، فكيف يقيد بالمساجد الثلاثة؟
وقال ابن مسعود لحذيفة في حق من أنكر عليهم حذيفة: لعلهم أصابوا فأخطأت، وذكروا فنسيت[8].
وبعض أهل العلم قال: لو صح رفعه عن النبي ﷺ فإن ذلك يكون المراد به الاعتكاف التام، أن الاعتكاف الكامل التام يكون في المساجد الثلاثة.
ضابط المسجد:
إذا كان لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فما ضابط المسجد؟
فيما أعلم لم يرد تحديد عن الشارع يرفع الخلاف في هذه المسألة، ولذلك كانت محل نظر، واجتهاد.
والذي أظنه أقرب - والله أعلم - أن ما أحاط به سور المسجد، وكان له باب إلى داخل المسجد، أنه من المسجد.
هذا هو الضابط، ومن ثَمّ فإن العلماء اتفقوا على صحة الاعتكاف في الموضع المعد للصلاة، المكان المعد للصلاة، لكن بقي النظر في الأماكن التي ما أعدت للصلاة، مثل سطح المسجد.
الجمهور على أنه من المسجد، وأنه يصح الاعتكاف فيه، رحبة المسجد - الفناء - إن كانت في داخل سور المسجد، يحيط بها، فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنها من المسجد، وهذا هو الأقرب، منارة المسجد حينما يصعد المؤذن إن كان بابها في المسجد فهي منه.
الغرف، المستودع، المكتبة، غرف للمعتكفين، ليست معدة للصلاة، إن كانت في إطار المسجد فالجمهور على أنها من المسجد.
والشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - سئل عن مثل هذه الغرف، غرفة للجنة الزكاة، وغرفة لأغراض أخرى، فذكر أن هذا محل احتمال، وأن الاحتياط أن الاعتكاف لا يكون فيها، قال: ولكن عرف الناس عندنا الآن أن الحجر التي في المسجد من المسجد[9].
وعلى هذا جرت فتوى اللجنة الدائمة، أنه طالما أن هذه الغرف يحيط بها سور المسجد، وأبوابها مفتحة إلى المسجد، سواء كانت في الفناء كمكتبة، أو نحو ذلك، ومستودع، أو كانت في الداخل، فإن هذه تكون من المسجد[10].
بخلاف ما لو كانت أبوابها إلى الخارج، أو كانت خارج المسجد.
يعني: بعض المساجد يكون مفصولاً، تجد مصلى نساء مثلاً أحياناً لا يحيط به سور المسجد، أصلاً قد لا يوجد سور للمسجد يجمع الفناء، والبناء.
فمثل هذا لا يكون من المسجد، بل صلاة النساء في تلك المصليات فيها نظر من جهة متابعة الإمام.
أفضل المساجد التي نختارها للاعتكاف بعد المساجد الثلاثة:
إذا كان الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، فما أفضل المساجد التي نختارها للاعتكاف بعد المساجد الثلاثة إذ هي الأفضل؟
يقال: من كان يتخلل اعتكافه جمعة فالأفضل أن يعتكف في الجامع، ثم بعد ذلك يتحرى ما به يحصل مقصود الاعتكاف، ما هو مقصود الاعتكاف؟
إقبال العبد على العبادة، ملازمة المسجد، فهذا يرجع إلى أمور منها ما يتصل بالقلب، فبعض الناس سيقول: أنا أجد قلبي في هذا المسجد، إذا دخلت وجدت الانشراح، والراحة، وبعض المساجد لا أجد قلبي فيها.
من الأمور التي يراعيها: الصلاة، والقراءة، يطمئن إلى الصلاة خلف فلان، فلا يحتاج إلى الخروج ليصلي التراويح، والقيام في مسجد آخر.
وكذلك أيضاً كثرة المعتكفين، يعني: في بعض المساجد يزيد العدد على ألف معتكف، فلا يكون المحل مهيأ للاعتكاف، ففي ظل هذا العدد الكبير تضيع مقاصد الاعتكاف، فيذهب إلى مكان يقل فيه العدد جدًّا.
كلما قل العدد بالنسبة للمعتكفين فهذا أدعى إلى حضور القلب، والإخلاص.
وقل مثل ذلك أيضاً فيما يتعلق بتحقيق حاجاته، ومطالبه، بعض المساجد قد لا يوجد فيها أصلا خدمات تقدم للمعتكفين، فيحتاج أن يخرج إلى البيت من أجل أن يأكل، وما إلى ذلك.
فهنا يجلس في مسجد يكفيه عناء الخروج للأكل، والشرب، وما إلى ذلك.
وهنا ملحظ فيما يراعى فيما يتصل بالعبادة أن ما يرجع إلى ذات العبادة مقدم على ما يتصل بزمانها، ومكانها، يعني: قد نقول الاعتكاف في المسجد الحرام أفضل.
لكن إنسان يقول: أنا في هذا الزحام، ورؤية النساء، والفتن لا أجد قلبي في هذا الاعتكاف.
نقول: الأفضل في حقك أن تراعي ما يعود إلى مقصود العبادة لذاتها، ما يتصل بذاتها، فتعتكف في مسجد آخر يكون ذلك في حقك أفضل من اعتكافك في المسجد الحرام، فقدمنا ما يعود إلى ذات العبادة على ما يعود إلى مكانها.
الركن الثالث: النية.
نية الاعتكاف، فهذه ينبغي أن تستصحب، وقد اختلف أهل العلم فيما لو أنه نوى الخروج، ولم يخرج، فبعضهم يقول: ينقطع اعتكافه.
وبعضهم يقول: لا ينقطع.
أما من جلس بغير نية الاعتكاف فإنه لا يكون معتكفاً.
الركن الرابع: اللبث، والمكث في المسجد.
ينبغي أن يجلس، وأن يلزم المسجد، فلو طرأ له طارئ من الأمور الضرورية، فقيل له: إن بيتك قد احترق، أو حصل مكروه لبعض أهله، وتطلب ذلك أن يحضر، أو نحو هذا، فهل هذا الخروج ينقطع معه الاعتكاف، أو لا ينقطع؟
خروج المعتكف من معتكفه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يخرج لأمر ينافي الاعتكاف.
لو خرج مثلاً ليجامع أهله، فهذا يبطل به الاعتكاف.
القسم الثاني: من خرج لأمر لابد له منه، وهي حاجات الإنسان، كالأكل، والشرب، وقضاء الحاجة، فهذا لا يبطل الاعتكاف، سواء اشترط هذا الخروج، أو لم يشترط.
القسم الثالث: ما لا ينافي الاعتكاف، ولكن عنه مندوحة، مثل تشييع الجنازة، عيادة المريض، زيارة القريب، وما إلى ذلك، فهل هذا يبطل الاعتكاف؟
بعض أهل العلم يقول: إذا اشترطه لم يبطل، وإن لم يشترط فإنه يبطل، وهذا الاشتراط إنما يستدلون عليه بقول النبي ﷺ في الإحرام: فإن لك على ربك ما استثنيت[11].
قاله في الإحرام، فقالوا: إن عمومه يدخل فيه الاعتكاف، ولا يختص بالإحرام، فللعبد على ربه ما اشترط، ولكن ذاك في التحلل من الإحرام، إذا كان يتخوف العوارض من المرض، أو نحو ذلك.
لكن هذا هو لا يريد قطع الاعتكاف، وإنما يريد الخروج، ثم الرجوع مع بقاء الاعتكاف على حاله، هل يصح هذا الاشتراط، أو أن حقيقة الاعتكاف تكون قد انتفت أصلاً؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد؟.
ولهذا فإن بعض أهل العلم لم يصحح الاشتراط، وقالوا: لا يصح أن يشترط في اعتكافه، ولا يجزئه.
وعلى كل حال، أقول فيمن يشترط: إذا خرج فيما اشترط فالأحوط أن يستأنف عند الدخول نية الاعتكاف، بحيث إنه على القول الآخر يكون خروجه غير مصحح، فيكون قطعاً للاعتكاف، فإذا دخل يستأنف نية جديدة، احتياطاً للعبادة - والله تعالى أعلم -.
لكن هذا الذي خرج لهذا الأمر الطارئ فبعض أهل العلم يقول: إن اعتكافه لا يبطل؛ لأنه مضطر إلى ذلك، فيخرج، ثم يرجع، وهذا ذكره الشيخ محمد صالح العثيمين - رحمه الله -.
ولكنه قال: ولو قيل بالبطلان فإنه يكون قد خرج من مستحب إلى واجب[12].
وإذا خرج المعتكف من أجل إيقاظ أهله للسحور، وصلاة الفجر، لعدم وجود من يوقظهم لهذا، نحن طبعاً نفترض أنه يمكن الاتصال، لكن لو قلنا: ما عندهم، أو ما يستيقظون على صوت الهاتف، أو اتصل وما رد أحد، فما الحكم؟
جاء في فتوى اللجنة الدائمة أن هذا الخروج لإيقاظ أهله لعمل السحور، أو ليتسحروا، أو من أجل أن يقوموا لصلاة الفجر أنه لا يبطل الاعتكاف، ولا يؤثر فيه، وأن هذا من التواصي على الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[13].
لكن لو أنه احتاط لذلك قبل أن يعتكف، اتفق معهم على أمر يوقظهم به، يسمعونه، يستيقظون به دون أن يخرج؛ لأن مثل هذا الخروج قد يؤثر على اعتكافه.
ولو أنه خرج لموعد في المستشفى، هل له ذلك؟ عند من يقول بالاشتراط يقول: إن اشترط فلا إشكال، وإن لم يشترط، أو عند من لا يصحح الاشتراط أصلاً فقد أفتى بعض أهل العلم كالشيخ محمد صالح العثيمين - رحمه الله - أن ذلك لا يقطع عليه الاعتكاف[14].
والأحوط في حق هذا أنه إذا رجع إلى المسجد أن يستأنف النية، ينوي نية جديدة عند دخوله المسجد، يحتاط لعبادته.
والسنة أن لا يخرج المعتكف من معتكفه إلا لحاجة الإنسان، هذا المشروع، هذا الواجب، فلا يخرج لقضاء حوائج أهله، ولا لشهود الجنازة، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لحديث عائشة السابق، قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج إلا إلى ما لابد منه".
وعلى هذا جاءت فتوى اللجنة الدائمة.
هل له أن يخرج ليغتسل للتنظف؟
ليس لغسل مشروع كغسل الجمعة، أو غسل واجب اتفاقاً كغسل الجنابة، وإنما خرج للتنظف، من عادته أن يغتسل كل يوم للتنظف، هل له أن يخرج؟ هل هذا يعذر بمثله؟
أفتى بذلك الشيخ عبد الله الجبرين - رحمه الله - أنّ له أن يخرج ليغتسل للتنظف إن كان له عادة في ذلك كل يوم فلا بأس، إن كان في كل يومين فلا بأس.
ولكنه يبقى المدة التي يحتاج إليها، يعني: بعض الناس يسترسل في الخروج، فيطوِّل، ولربما يقف مع أناس عند باب المسجد، أو في دورات المياه - أعزكم الله - عند أماكن الوضوء، ويتحدث، فمثل هذا قد يبطل اعتكافه، وهذا شيء مشاهد يتكرر، وبعض الناس يخرج خارج المسجد، ويتصل بالتليفون، ويطيل الحديث، فهل من أعذار الخروج أن يخرج الإنسان ليتصل؟ فهذا أمر يتكرر، مشاهد، فينبغي أن يحترز منه.
لكن إذا كان الخروج إلى دورات المياه - أعزكم الله - ويوجد في المسجد دورات مياه للنساء مثلاً، فهل يقال: يتعين عليه أن يذهب إلى الدورات التي في داخل المسجد، ولا يخرج خارج المسجد.
هو مهما وجد مندوحة عن الخروج فهذا هو المطلوب، فيذهب إلى دورات المياه التي في المسجد، لكن لو كان العدد كثيراً، ويحصل عليهم بذلك حرج، قد يتأخرون عن الصلاة؟ يقال: لا حرج أن يذهب إلى دورات المياه التي في خارج المسجد.
هل له أن يغير مكان الاعتكاف؟
اعتكف في هذا المسجد فما اطمأن قلبه، فيريد أن ينتقل إلى مكان آخر، فهذا له حالان:
الحال الأولى: أن يكون قد خرج لعذر من أعذاره، كالأكل، والشرب، وحاجة الإنسان، وما إلى ذلك، فله أن يغير المعتكف بهذا الخروج، يذهب إلى مسجد آخر.
ولكن هل له أن يخرج من أجل أن يذهب إلى مسجد آخر؟
هذا الأقرب - والله أعلم - أنه يقطع الاعتكاف، فيحتاج إذا ذهب إلى ذلك المسجد أن يستأنف بنية جديدة.
وحينما نقول: إنه يقطع الاعتكاف، نقول: إن مكث قبله مكثاً يصدق عليه أنه مكث طويل، فإن ذلك يكتب له أجره، بمعنى أنه لا يضيع.
لكن احتاج إلى نية جديدة ليكون ما يستقبل هو من قبيل الاعتكاف.
- مجموع الفتاوى (27/252).
- فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (10/410).
- مجموع فتاوى ابن باز (15/442).
- مجموع فتاوى، ورسائل العثيمين (20/155).
- أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/201)، رقم: (2771)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها، وفوائدها (6/667)، رقم: (2786).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/301)، رقم: (9509)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4/ 139).
- المحلى بالآثار (3/431).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/302)، رقم: (9511).
- مجموع فتاوى، ورسائل العثيمين (14/352).
- فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (5/234).
- أخرجه النسائي، كتاب مناسك الحج، كيف يقول إذا اشترط (5/167)، رقم: (2766).
- مجموع فتاوى، ورسائل العثيمين (20/342).
- فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (9/320).
- مجموع فتاوى، ورسائل العثيمين (20/174).
هذا الإنسان الذي جلس في المسجد في غير رمضان بنية الاعتكاف.
الأقرب أنه لا يشترط الصيام، وقد جاء ذلك عن عليٍّ وابن مسعود، وجماعة من التابعين كابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وطاوس[1] وهو قول الشافعية[2] والحنابلة[3] والظاهرية[4] وبهذا أفتت اللجنة الدائمة[5] أنه لا يشترط، ولكن الأفضل أن يكون مع الصيام للعلة التي ذكرنا، أن يحصل له الانقطاع من هذا، وهذا، من الخلطة، ومن الطعام، والشراب، والجماع.
ولذلك ذُكر الاعتكاف آخر آيات الصيام، ولهذا كان الفقهاء - رحمهم الله - يذكرون الاعتكاف في كتب الفقه بعد الصيام.
وهكذا النبي ﷺ اعتكف في العشر الأواخر من رمضان.
- المغني لابن قدامة (3/ 188).
- الحاوي الكبير (5/96)، والمجموع شرح المهذب (6/491).
- المغني لابن قدامة (3/188)، والشرح الكبير على المقنع (7/566).
- المحلى بالآثار (3/413).
- فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (10/410).
يقال: بالنسبة للعبادات المحضة فإن ذلك يكون من قبيل المستحب من الذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، وما إلى ذلك.
لكن العبادات المتعدية هذه نوعان:
نوع واجب، كأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر في المسجد، من رأى منه منكراً، أو نحو ذلك، فهذا يجب عليه، وهو لا يستغرق إلا زمناً يسيراً في العادة، أن يتصدق على فقير، أن يعطي أحداً الزكاة، ويوصلها إلى مستحقيها، وهكذا رد السلام، والإفتاء لمن يحتاج إلى ذلك، فهذا لا إشكال فيه.
فإن لم يكن واجباً عليه، وكان أداؤه يستغرق وقتاً طويلاً كالتدريس، والتعليم، ونحو ذلك فأهل العلم في ذلك على قولين:
منهم من يرى أن هذا من قبيل المشروع، ولا إشكال فيه كما يقول الأحناف[1] والشافعية[2].
ومنهم من كرهه إذا كان يستغرق وقتاً طويلاً كالمالكية[3] والحنابلة[4].
إذا كانوا كرهوا الجلوس للتعليم في وقت طويل، فكيف بالجلوس على الحديث، والمؤانسة، وأمور لا طائل تحتها، أو الاشتغال بهذه الوسائل التي سبقت الإشارة إليها؟!.
النبي ﷺ تحدث مع إحدى زوجاته لما زارته في معتكفه، فهذا لا إشكال فيه، فالشيء اليسير لا يضر، ولكن النبي ﷺ اعتكف في قبة تركية، وضع على سُدّتها - على بابها - حصيراً لينقطع عن الناس، ومع ذلك أخرج لهم رأسه ﷺ وكلمهم.
وهكذا حينما كان يخرج رأسه لعائشة - رضي الله عنها - فتُرجِّل رأسه.
فهذا الاشتغال إن لم يكن طويلاً فلا إشكال فيه، والأفضل أن يكون اشتغاله بنفسه من ذكر، وقراءة، وما إلى ذلك من ألوان العبادات الخاصة.
والاتصال بالهاتف لقضاء حوائج الناس، إنسان يرأس جمعية خيرية، أو الناس لربما يحتاجون إليه في استشارات علمية، أو تربوية، أو أسرية، أو في فتاوى، وأجوبة على الأسئلة التي يسألونها.
فهذا الأمر يجوز، ولكن إن كان عنه مندوحة فالأولى أن يؤجل، أو يوكل ذلك إلى آخر يقوم مقامه، ويتفرغ هذا للذكر، والعبادات، ويقبل على ربه، ويصفي قلبه.
وهناك أمور مباحة كما قلنا من التزين، والتنظف، والترجل، والله يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31].
وقد استحب بعض أهل العلم - كما يقول ذلك فقهاء المالكية - [5] أن يأخذ معه ما يحتاج إليه إذا أراد الاعتكاف بحيث لا يحتاج إلى الخروج من المسجد.
يأخذ الثياب التي يحتاج إليها، يأخذ الطعام الذي يحتاج إليه، الفراش الذي يحتاج إليه من أجل أن لا يخرج.
وقد جاء في حديث أبي سعيد : اعتكفنا مع رسول الله ﷺ العشر الأوسط، فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا، فأتانا رسول الله ﷺ فقال: من اعتكف فليرجع إلى معتكفه[6].
"نقلنا متاعنا" دل على أنهم يأتون معهم بما يحتاجون إليه.
ولكن على كل حال - كما سبق - ينبغي أن يترك فضول الكلام، والاشتغال بما لا يعنيه، وكما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه[7].
فدل على قصده ﷺ الخلوة، والانقطاع عن الناس.
- البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق، وتكملة الطوري (2/38).
- المجموع شرح المهذب (6/528).
- مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 462)، والشرح الكبير للشيخ الدردير، وحاشية الدسوقي (1/549).
- المغني لابن قدامة (3/201).
- الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/323).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب من خرج من اعتكافه عند الصبح (3/50)، رقم: (2040).
- أخرجه مسلم، كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (2/831)، رقم: (1172).
على كل حال يباح للمعتكف الأكل، والشرب في المسجد، والنوم، ويباح له أن يلزم بقعة بعينها يضع فيها بساطاً، أو نحو ذلك، يرجع إليه، ويأوي إليه، أو يضع فيها فراشاً كما، وضع النبي ﷺ أو كما ضُربت له القبة في المسجد، فكان له مكان مخصص - عليه الصلاة، والسلام-.
وهكذا له أن يزور، أو يعود المريض في المسجد، لو وُجد أحد من الناس في المسجد يعاني من مرض فيعوده، ولو صُليت في المسجد جنازة يصلي معهم.
والأمور التي تكون خفيفة كالحديث الخفيف مع الناس، وهكذا الاتصال بالهاتف في أمور لا تطول لا إشكال فيه - إن شاء الله - فهو من الأمور المباحة، لكن ينبغي مع ذلك أن تراعى حرمة المسجد.
ما يُنهى عنه المعتكف:
أما ما ينهى عنه المعتكف، ويمنع منه فذلك كل ما يتنافي مع حرمة المسجد، أو ما يخل بمقصود الاعتكاف، كالخروج بلا حاجة، أو بلا عذر.
وحينما يشتغل بأمور تنافي مقصود الاعتكاف، ولذلك نجد الفقهاء من المذاهب الأربعة، وغيرهم يذكرون أموراً من المنهيات.
أذكر منها كما يقول الأحناف: أن يحضر سلعة في المسجد للبيع.
فيقولون: إن هذا من الأمور التي لا تجوز[1].
وعند المالكية: ألا يأخذ القادر معه في المسجد ما يكفيه من أكل، وشرب، ولباس؛ لئلا يحتاج إلى الخروج.
وهكذا عندهم الاشتغال حال الاعتكاف بتعلم العلم، أو تعليمه إلا ما كان على سبيل فرض العين، وهكذا أيضاً الاشتغال بالكتابة بالأجرة، أو نحو ذلك مما يكتسب به إلا إذا اضطر.
وهكذا أيضاً الاشتغال بغير الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والصلاة على النبي ﷺ.
ولهذا قال القرطبي - رحمه الله - وهو من المالكية - : يكره الدخول فيه - يعني الاعتكاف - لمن يُخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه[2].
أما الشافعية فعندهم: ما لا يؤمن معه تلويث المسجد كالحجامة، والفصد فهذا يكره، وكذلك الاشتغال بصنعته في المسجد إذا كثر[3].
وكذلك أيضاً عند الحنابلة: كرهوا إقراء القرآن، وتعليم العلم[4].
بمعنى أنه لا يشتغل بغير الإقبال على العبادات الخاصة به من الذكر، وقراءة القرآن، ونحو ذلك.
ومسألة البيع، والشراء في المسجد فيها كلام لأهل العلم معروف، والذين منعوا من ذلك على سبيل التحريم - وهم الحنابلة - استدلوا بقوله - تبارك، وتعالى - : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 36 - 37].
واستدلوا بحديث أنس : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة، وقراءة القرآن[5].
فقالوا: النبي ﷺ ذكر أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، والقذر.
وفي الحديث الآخر: كلام الناس[6] كما في حديث معاوية بن أبي الحكم السُّلمي، فقالوا: البيع، والشراء من كلام الناس.
وقوله "لا تصلح" يدل على النهي، والنهي يقتضي الفساد.
وكذلك في قوله ﷺ : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا[7].
على كل حال، الجمهور يقولون: يصح البيع، والشراء.
ولكنهم قالوا: ينبغي ألا يكثر؛ لئلا يتحول مكان العبادة إلى سوق.
فلا يكثر إما بالتكرار، والمزاولة المستمرة، وإما بأن تُجلب السلع، وتكثر في المسجد، ويتحول المسجد إلى صورة أخرى.
واستدلوا على ذلك أيضاً بأدلة، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.
يرد هنا سؤال معروف: طيب إذا كان المعتكف يريد أن يطلب طعاماً من المطعم، أو نحو ذلك، أو يشتري أشياء لأهله في العيد ليوصلها البائع إلى أهله، أو نحو ذلك، فما الحكم؟
هذا بيع، وشراء، فبعض الناس يعقد ذلك في المسجد، يتصل، ويطلب ما يريد، هذا هو عقد الصفقة، فإذا جاءه البائع خرج من باب المسجد، وأخذها منه.
هو عقد بيع بهذه المهاتفة، وأما هذه المعاطاة التي تعقبه فليست هي عقد البيع، فله أن يأخذها في المسجد.
ولكن عند التأمل هذا البيع الذي حصل، أو الشراء الذي حصل من هذا المعتكف لما يحتاج إليه من أجل أن لا يضطر إلى الخروج هو يخدم مقصود الشارع من المكث في المسجد، والاعتكاف.
فمثل هذا لو قيل: إنه لا يدخل في الحظر لكان له وجه - والله تعالى أعلم - فلا بأس بهذا مما يحقق مقصود الشارع في الاعتكاف، وهذا أسهل من كونه يخرج فإن هذا الخروج يؤثر في الاعتكاف، فإن الاعتكاف هو لزوم المسجد.
فيرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، فعندنا أمر يتعلق بالعبادة التي هو متلبس بها، وعندنا أمر يتعلق بالمكان، فنقدم ما يتعلق بنفس العبادة - والله تعالى أعلم - لاسيما أن الجمهور يرون أن ذلك ليس على سبيل التحريم.
- المبسوط للسرخسي (3/122).
- تفسير القرطبي (2/333).
- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (3/189).
- المغني لابن قدامة (3/201)، والمحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/232).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول، وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها (1/236)، رقم: (285).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (1/381)، رقم: (537).
- أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد (1/397)، رقم: (568).
أمّا المبطلات فبالاتفاق الجماع[1] ولكنهم اختلفوا فيما دون ذلك كالمباشرة إذا أنزل فإنه يبطل أيضاً، وقد نقل أيضاً بعض أهل العلم عليه الاتفاق[2].
أما الاحتلام فلا يبطله، ولو أنزل بالتفكر فإن الجمهور يقولون: لا يبطل.
لكن لو أنه أنزل بالنظر فبعضهم يفرق بين تكرار النظر، وعدمه.
وبعضهم يقول: لا يفسد إلا إذا كرر النظر، وهو قول الحنابلة[3].
لكن لو أنه استمنى هل يبطل اعتكافه؟ الجمهور يقولون: إنه يبطل، وإن ذلك يخالف مقصود الاعتكاف.
أما الحيض، والنفاس فإن المرأة الحائض، أو النفساء ممنوعة من المكث في المسجد، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاعتكاف لا يبطل بالحيض، والنفاس، ولكنها تكون قد خرجت بعذر، فتخرج إلى بيتها، ثم إذا طهرت اغتسلت، ورجعت إلى معتكفها، وهي متصلة بنيتها الأولى، هذا قول الجمهور، خلافاً للأحناف الذين يرون أنه يبطل بالحيض، والنفاس[4] ولهذا يشرع عند الجمهور أنها إذا أصابها الحيض، أو النفاس خرجت إلى بيتها، ثم ترجع بعد ذلك بنيتها الأولى.
وهنا مسائل أخرى تتعلق بالنية أشرت إلى بعضها فيما لو نوى الخروج، ولم يخرج، فهذا منهم من يرى أنه يقطع الاعتكاف، ومنهم من لا يرى قطعه به.
مسائل تتعلق بالنذر:
من نذر أن يعتكف يوماً فمِن متى يبدأ ذلك؟
من أهل العلم يقول: من ليلته.
يعني من غروب الشمس في الليلة التي قبله؛ لأن الاعتكاف عنده لا يصح إلا يومًا، وليلة، ومنهم من يقول: من طلوع الفجر الثاني يعتكف إلى غروب الشمس.
والأقرب - والله تعالى أعلم - أن يقال: إن ذلك يرجع إلى نيته، وقصده.
فإن قصد باليوم اليوم، والليلة فإنه يعتكف منذ بدء الليلة التي قبله؛ لأن الليلة تكون سابقة لليوم، والعرب تارة تطلق الليلة، وتقصد ما يعقبها من اليوم أيضاً، وتطلق اليوم، وتقصده مع ليلته أحياناً، وقد تعني به اليوم فقط.
وقد تطلق الليلة، وتقصد الليل فقط، فيُنظر في نية هذا الإنسان.
لو نذر أنه يعتكف ليلة؟ فيقال: بحسب نيته.
لو نذر أن يعتكف يوماً؟ فبحسب نيته، لو نذر أن يعتكف يومين؟ نقول: بحسب نيته.
فإن قصد النهار فإنه يعتكف من الفجر إلى غروب الشمس، ثم يخرج، ثم يأتي في اليوم الثاني.
وهل يجب التتابع؟
الجواب: لا، إلا إذا نواه.
لكن لو نوى أنه يعتكف عشرة أيام مثلاً فإن هذا يُرجع فيه إلى النية على خلاف بين أهل العلم، أقصد من جهة التتابع.
وهل يلزم مع الليالي، أو لا؟ هذا فيه قولان لأهل العلم.
وعلى كل حال اليوم يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليلة تبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
- بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/80).
- الإجماع لابن المنذر (ص: 50).
- الشرح الكبير على المقنع (7/418).
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/108).
بالنسبة للاعتكاف المستحب لا يجب قضاؤه على الأرجح، ويجوز قطعه لو قطعه، اعتكف يوماً، وما كمله عند من يشترط أن أقل الاعتكاف يكون يوماً، أو يومًا، وليلة، ما كمل، فهذا الراجح أنه لا يجب عليه أن يواصل، وهو مخير، لكن كون الإنسان يواصل في العبادة إلى منتهاها هذا هو الأفضل.
فلو أنه قضاه فقد قضى النبي ﷺ الاعتكاف لما تركه، فهذا على سبيل الاستحباب.
أما الاعتكاف الواجب - المنذور - فلو أنه تركه في اليوم الذي نذره فيه، أو قطعه، وأبطله فإنه يجب عليه أن يقضي ذلك.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالاعتكاف.
وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يفقهنا، وإياكم في الدين، وأن يجعلنا، وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله، وصحبه.