ضرب - تبارك وتعالى - مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أُنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أبٍّ وقضْب وغير ذلك، حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا أي: زينتها الفانية، وَازَّيَّنَتْ: أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان، وَظَنَّ أَهْلُهَا الذين زرعوها وغرسوها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أي: على جذاذها وحصادها، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها، ولهذا قال تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أي: يابساً بعد الخضرة والنضارة، كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ أي: كأنها ما كانت حيناً قبل ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [سورة يونس:24]، أي: اختلط بسببه نبات الأرض، واشتبك بعضه ببعض، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ضرب - تبارك وتعالى - مثلاً لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أُنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أبٍّ وقضْب وغير ذلك".
الأبُّ: هو النبت الذي قد تهيأ للرعي وصار متهيئاً للجز، والقضْب: هو النبات الرطب كالبقول ونحو ذلك.
وقد قال الله عن الحياة الدنيا: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا [سورة الكهف:45] فبهجة الدنيا كالمطر النازل الذي تخرج الأرض به بهجتها وزينتها فتستهوي الناظرين، ثم ما يلبث عن قريب أن ييبس ويتغير وتتحول خضرته إلى صفرة حتى يصير بعد ذلك هشيماً تذروه الرياح، والله المستعان.
وقوله: حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ [سورة يونس:24] الزخرف يقال للذهب كما قال الله - تبارك وتعالى - في سورة الزخرف: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا [سورة الزخرف:33-34] وهو الذهب، وشبّه ما يخرج من الأرض بألوانه حتى يكون حلة زاهية يكسوها بالزخرف، ومعنى الآية: حتى إذا أخذت الأرض رونقها ولونها الحسن.
ولهذا جاء في الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذاباً في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا[1]، وقال تعالى إخباراً عن المهلَكين فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ [سورة هود:67-68].
قوله: تَغْنَ، أي: كأن لم تنعم، تقول: غنينا بالمكان يعني بقينا أو أقمنا به مدة ثم ارتحلنا عنه، ومن أراد أن يعرف هذا المعنى فليرجع إلى نفسه وينظر إلى أيام الصبا وماذا تمثل له بالنسبة إليه، فهو لا يجد شيئاً من متعها ولذاتها، ولعبها وإنما يجد ما يعانيه في ساعته ويكابده من هموم وآلام ومشقات وكد في طلب العيش، وتلك الأيام تلاشت، وإذا فارق الإنسان الحياة الدنيا ستكون ذكرى قصيرة عابرة كذكرى الطفولة، وإذا كان الإنسان في لحظاتها الأخيرة تكون كأنه ما مر عليه عمر طويل ذاق فيه الحلوة والمرة، وأنس واجتمع بمن يحب، وصار له من ألوان اللذات ما لربما ينسيه ذكر الله فكل ذلك يتلاشى، وتبقى ذكرى عابرة لا طعم لها، فهذه طبيعة الحياة الدنيا، ولذلك تجد الرجل يكون من أكثر الناس ثروة وغنىً وتمتعاً في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك يتلاشى ويموت، ويوضع في حفرة لربما بجوار أفقر الناس، فلا يُختار له حتى في حفرته من يشاكلونه في الغنى والثروة.
- رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صبغ أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤساً في الجنة (4 / 2162)، برقم (2807).