نعم، هنا الضمير إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهو إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ، فهنا أقرب مذكور هو الرب، "لربه" يعني: الرب على ذلك لشهيد.
فإذا نظرت إلى المُحدَّث عنه وهو الإنسان، وما يتصل بأوصافه المذكورة هنا فهو كنود، وَإِنَّهُ أي: الإنسان، واضح؟ أي: الإنسان.
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، إذا قلنا: إن ذلك بالنسبة للرب - تبارك وتعالى -، وهو قول الجمهور، اختاره ابن جرير، وفي قراءة غير متواترة شاذة، هذه التي ذكرها، (وإن الله على ذلك لشهيد) لمّا قال: قال قتادة وسفيان الثوري، القراءة ذكرها قتادة: وإن الله على ذلك لشهيد، هذا لفظ القراءة الشاذة، هي صريحة بهذا الاعتبار.
والقراءة الشاذة إذا صح سندها فإنها تفسر القراءة المتواترة.
إذا: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، هنا صار يؤيده أمران:
الأمر الأول: عود الضمير إلى أقرب مذكور، هذه القاعدة.
والثاني: القراءة الشاذة.
كما أنه أيضاً قول الأكثر؛ لأن من أهل العلم من يرى حال التساوي والاحتمال الترجيح بقول الأكثر في الفقه، وفي غيره، وهذا ليس محل اتفاق، ليس دائماً.
لكن من ضمن المرجحات الكثيرة، وطرق الترجيح التي تبلغ المائة، هي حالات لا يوجد فيها مرجح، فقد يرجح بقول الأكثر.
ويحتمل - كما قال ابن كثير - أنه يرجع إلى الإنسان المُحدَّث عنه، الموصوف إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، يقول: قاله محمد بن كعب القرظي، قال به غيره كالحسن، وأيضاً هو مروي عن آخرين.
يؤيد هذا القول: أولاً: أن ذلك يرجع إلى المحدَّث عنه وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ.
ثم أيضا: أن ذلك يجري على قاعدة "توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها".
يعني الآن إذا قلنا: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ أي: الإنسان، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، هذا بالإجماع أن المقصود به الإنسان، فصار ذلك يرجع إلى الإنسان.
أَفَلا يَعْلَمُ من؟ الإنسان.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يعني: الناس، فهذا كله يرجع إلى الناس، فيكون بهذا الاعتبار إذا قيل: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ إنه الإنسان، فهذا يجري على قاعدة: "توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها"، فلا يقال بتفريقها إلا لموجِب، بحيث إنه لا يستقيم المعنى، وربما لا يستقيم إلا بضرب من التكلف، ودعاوى في التقديم والتأخير لا حاجة إليها, وهنا يمكن أن يستقيم المعنى من غير تكلف.
وقوله: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ابن كثير بين هذه الشهادة قال: بلسان حاله، أي: ظاهرٌ ذلك عليه في أقواله وأفعاله كما قال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، لكنهم لا يشهدون بلسان المقال، ولكن بلسان الحال بأفعالهم هذه الشركية.
لو قيل: إن ذلك يرجع إلى الله، ويرجع إلى الإنسان، باعتبار الاختلاف في مفسر الضمير، يحتمل هذا، وهذا.
فالله شهيد عليه، وحاله شاهدة أيضاً عليه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، لو قيل ذلك لم يكن بعيداً، فيكون جمعنا بين القولين؛ لاحتمال مفسر الضمير.
كما ذكرنا في مناسبات مشابهة تارة يكون بين المعنيين ملازمة، وتارة لا يكون بينهما ملازمة، مثل قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] هل هو مِن علم أقرب مذكور وهو: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، أو من علم الله: يعلم أي: الله؟، فبين المعنيين ملازمة، فإن علم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ هو جزء من علم الله - تبارك وتعالى -، فإذا كانوا لا يحيطون به فإنه باب أولى أنهم لا يحيطون بعلم الله - تبارك وتعالى.