هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو جواب على سؤال معروف وهو أن السماوات، والأرض؛ ليست دائمة ومستمرة باقية، والله يقول: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة إبراهيم:48]، والله قال عن أهل الجنة، وأهل النار من جهة خلودهم: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، فيرد سؤال: أن السماوات والأرض يحصل لهما الزوال، فكيف علّق خلودهم بأمر زائل؟ والجواب: هو أن العرب قد تعلق الأمر بزائل وتقصد بذلك التأبيد؛ كما يقولون: هذا باقٍ بقاء السماوات، هذا باقٍ ما غرد الطير، وهبت الريح، وتتابع الليل، والنهار؛ وما أشبه هذا، ويقصدون به الدوام، والاستمرار، والقرآن نزل بلغة العرب، وبأساليبهم، فنعيم أهل الجنة لا يزول، وعذاب أهل النار لا يزول.
"قلت: ويحتمل أن المراد بـ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الجنس؛ لأنه لا بد في عالم الآخرة من سماوات، وأرض كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [سورة إبراهيم:48]؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله: مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ قال: يقول سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه، فما دامت تلك السماء، وتلك الأرض.
وقوله: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، كقوله: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [سورة الأنعام:128] قيل: إن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين".
بعد أن انتهى من السؤال الأول وهو: كيف علق خلود أهل الجنة أو أهل النار ببقاء السماوات، والأرض؟ وأجاب عنه بجوابين، جاء السؤال الثاني وهو أن الله علق الخلود بالمشيئة، فقال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، وللعلماء في هذه المشيئة أقوال مختلفة.
هذا المعنى وجه جيد في الجواب، وهو اختيار ابن جرير، وهناك أقوال أخرى في توجيه هذه الآية فمن أهل العلم من قال: إن الاستثناء في قوله - تبارك وتعالى -: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107] يرجع إلى قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [سورة هود:106] إذا كانت هذه الآية تعم المسلمين، والكافرين؛ فالذين شقوا يكونون في النار إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ويكون المعنى: الذين شقوا في النار إلا من شاء الله، فلا يدخل النار بسبب رحمة الله، أو بشفاعة أحد الشافعين، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك من الموانع.
وقال بعض أهل العلم: الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يرجع إلى الزفير والشهيق أي: لهم أنواع من العذاب غير الزفير والشهيق، وهذا لا يخلو من بُعد.
وقال بعضهم: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يرجع إلى قوله: خَالِدِينَ، وهذا الذي مشى عليه المصنف - رحمه الله -، وسبقه إليه طائفة من السلف، وقال به ابن جرير الطبري - رحمه الله - فيخلد الكفار، ويخرج أهل الإيمان كما جاء في الأحاديث أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان[1].
وقال بعضهم: إن الاستثناء في قوله - تبارك وتعالى -: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يرجع إلى قوله: خَالِدِينَ فِيهَا وهم الكفار، قالوا: إن الكفار يفنون، تفنيهم النار، ثم يتجدد خلقهم، ثم تفنيهم، ويتجدد خلقهم، وهكذا.
ومنهم من قال: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ دليل على أن النار تفنى، وهذا القول منسوب إلى طائفة من السلف، واحتجوا ببعض الآثار الواردة في ذلك، ولكن لا يصح من هذه الآثار شيء، واحتجوا بقوله - تبارك وتعالى -: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [سورة النبأ:23]، وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أنه قول باطل، والنصوص والآيات واضحة في بقاء العذاب، ودوامه، وأنه لا ينقطع، ولا يفتر، ولا يخفف عنهم كما قال الله في آيات كثيرة: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
وقال بعض أهل العلم: الاستثناء في قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ بمعنى سوى، وهذا بعيد.
وأرجح الأقوال في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107] أن التعليق فيها بالمشيئة كالتعليق في قول الله - تبارك وتعالى -: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [سورة الفتح:27] فدخولهم المسجد الحرام حاصل قطعاً، فقد قضاه الله وقدره، وإنما ذكر المشيئة؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله فكذلك التعليق في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال (1 / 16)، برقم (22)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (1 / 172)، برقم (184).