الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40] هذه موعدة من الله - تعالى - لنوح إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة، والهتان؛ الذي لا يقلع، ولا يفتر، بل هو كما قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ۝ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ۝ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ [سورة القمر:11-14]، وأما قوله: وَفَارَ التَّنُّورُ فعن ابن عباس - ا -: التنور وجه الأرض أي: صارت الأرض عيوناً تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءاً، وهذا قول جمهور السلف، وعلماء الخلف، فحينئذ أمر الله نوحاً أن يحمل معه في السفينة من كلٍ زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، قيل: وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وأنثى، فقيل: كان أول من أدخل من الدواب الذرة، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار؛ فتعلق إبليس بذنبه، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه، فجعل يقول له نوح : "مالك ويحك ادخل"، فينهض ولا يقدر، فقال: ادخل؛ وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة".

قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، [سورة هود:40] حتى ابتدائية دخلت على الجملة الشرطية إِذَا جَاء أَمْرُنَا، فصارت غاية لقوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [سورة هود:37]، ومعنى قول ابن كثير - رحمه الله -: "والهتان الذي لا يقلع، ولا يفتر" أي: المتتابع الكثير.

قوله - تبارك وتعالى -: وَفَارَ التَّنُّورُ اختلف العلماء في معنى التنور المذكور في هذه الآية، فقال ابن عباس أن التنور هو وجه الأرض.

وقال ابن جرير - رحمه الله -: إن التنور هو الذي يخبز عليه بدليل أنه هو الظاهر المتبادر عند الإطلاق، وجمع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بين هذين القولين فقال: "أي: صارت الأرض عيوناً تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءاً، وهذا قول جمهور السلف، وعلماء الخلف"، وهناك أقوال كثيرة في تفسير التنور ولكنها في غاية الغرابة، والبعد، فقيل: التنور هو المكان الذي يجتمع فيه الماء في السفينة، وقيل: بأن التنور هو مكان معيّن عند مسجد الكوفة، وقيل: التنور مكان عند الموصل، وقيل: مكان في الهند، وقيل: التنور هو طلوع الفجر، وهذه الأقوال في غاية الغرابة، والبعد، والأشهر هو اختيار ابن جرير - رحمه الله -.

"وقوله: وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [سورة هود:40] أي: واحمل فيها أهلك، وهم أهل بيته، وقرابته، إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ منهم ممن لم يؤمن بالله فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده، وامرأة نوح وكانت كافرة بالله، ورسوله".

قوله: وَأَهْلَكَ أي: واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته، وقرابته، إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ممن لم يؤمن، وإذا حملنا قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ على عموم الكفار فيكون المستثنى منه قوله: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

وإذا قلنا: إن قوله: وَأَهْلَكَ عام باقٍ على عمومه يدخل فيه المؤمن والكافر في اللفظ، فإن قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يكون من قبيل الاستثناء المتصل، وإذا قلنا: إن قوله: وَأَهْلَكَ عام مراد به الخصوص الذين هم أهل الإيمان، فإن قوله: إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من قبيل الاستثناء المنقطع أي أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.

وقول ابن كثير: "فقيل: كان أول من أدخل من الدواب: الذرة، وآخر من أدخل من الحيوانات: الحمار، فتعلق إبليس بذنبه، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس، وهو متعلق بذنبه، فجعل يقول له نوح : "مالك ويحك ادخل"، فينهض ولا يقدر، فقال: "ادخل، وإن كان إبليس معك" فدخلا في السفينة" من الروايات الإسرائيليات، والأصل ألا يثبت مثل هذه الروايات في كتب التفاسير.

"وقوله: وَمَنْ آمَنَ أي: من قومك، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ أي: نزر يسير مع طول المدة، والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعن ابن عباس - ا -: "كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم"".

كان عدد الذين كانوا في السفينة مع نوح قليل بدليل قول الله - تبارك وتعالى -: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [سورة هود:40]، وهذا الحدث فيه عبرة عظيمة، فقد أغرق الله جميع من في الأرض من الآدميين، والحيوانات، والهوام؛ من أجل كفر بني آدم، وأنقذ الله من كان على الإيمان، ثم بعد ذلك نسي الناس هذه الآية، ووقع الكفر من جديد في ذرية نوح .