"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [سورة هود:7-8].
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك، كما روى الإمام أحمد عن عمران بن حصين - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان، قال: كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء، قال: فأتاني آتٍ فقال: يا عمران انحلت ناقتكم من عقالها، قال: فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي[1].
وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري[2] ومسلم[3] بألفاظ كثيرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء[4]، وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: قال الله : أَنفِق أُنفِق عليك، وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سَحّاءَ الليل والنهار، وقال: أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؛ فإنه لم يغضِ ما في يمينه، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان؛ يخفض، ويرفع[5]".
اختلف أهل السنة والجماعة في أول المخلوقات فقال بعضهم: إن أول المخلوقات كان العرش، ومنهم من يقول: القلم لحديث: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب[6]، فيحتمل أن الله - تبارك وتعالى - أول ما خلق القلم قال له: اكتب، وليس المراد بأنه أول المخلوقات فهي أولية نسبية، ومن أهل العلم من يقول: "إن العرش أول المخلوقات"، ويستدلون بهذه الآية، والأحاديث المتقدمة، والستة الأيام من أهل العلم من يقول: إنها بحساب الله : وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحج:47]، وبعضهم يقول: ليس الأيام التي عندنا، باعتبار أن هذه الأيام إنما وجدت بعد الشمس، والقمر، والسماوات، والأرض، وحينما ذكر الله هذا المعنى خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لم يكن هناك لا شمس، ولا قمر، ويمكن أن يكون ذلك بحسابها، وتقديرها - ولا مانع من هذا - في ستة أيام، والخلق بدأ يوم الأحد ثم بعد ذلك إلى يوم الجمعة، في يوم الجمعة خُلق آدم، وفيه اكتمل الخلق، وهو أحد المعاني في سبب تسمية يوم الجمعة بهذا الاسم لاجتماع الخلائق، يعني اكتمل خلقها في يوم الجمعة، أو لأنه اجتمع فيه خلق آدم، وقيل غير ذلك، فيمكن أن يكون ذلك بحسابها وإن لم يكن هناك شمس، ولا قمر، ويوجد في الجنة يوم الجمعة، وورد في طوبى أن الراكب يمشي في ظلها مسيرة كذا، ولا يوجد شمس، فهذه المعاني التي جاءت عن الله كلها حق، ولا يشترط أن يكون الظل من شمس، تقول: مشينا في ظل القمر، فالأنوار قد يوجد ما يحول بين الإنسان وبينها، فيوجد تحته ما يمكن أن يشبه الظل، أو يكون ظلاً، فمثل هذه الأمور أخبر الله عنها، وكلها حقائق ثابتة.
"وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أي: خلق السماوات، والأرض؛ لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، ولم يخلق ذلك عبثاً، كقوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [سورة المؤمنون:115-116]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] الآية.
وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ولم يقل: أكثر عملاً، بل أحسن عملاً، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله على شريعة رسول الله ﷺ، فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط، وبطل".
الله خلق الخلق من أجل إحسان العمل كما في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ولم يقل: أكثر عملاً، فالعبرة ليست بالكثرة؛ وإنما العبرة بإتقان العمل، وهذا ينبغي أن يعتبر به الإنسان في كل أمر من أموره.
قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أي: ليختبر صبركم، وعملكم، وبذْلكم، وكل ما يصدر منكم، فالله جعل هذه الدنيا داراً للابتلاء يبتلي بها خلقه، فيتمايزون، ويتفاضلون فيها غاية التفاضل، والتمايز، فيظهر منهم من ينافق إما ابتداءً، وإما لعارض حصل من شدة نزلت به أو نحو ذلك فيحصل له نوع نفاق، ومنهم من يحصل له ردة وتكذيب، ومنهم من يحصل له شك، ومنهم من يثبت إيمانه، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22]، كل هذا يحصل للناس في هذه الحياة.
ويحتمل أن يكون إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أي: هذا الذي تقوله باطل كبطلان السحر، لكن هذا لا يظهر كل الظهور؛ لأنه جعله هنا بمنزلته يعني مشبهاً به، وهنا الآية ظاهرها إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ؛ لهذا قال بعضهم: إن اسم الإشارة "هذا" يرجع إلى القرآن، إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ، وهذا كثير في القرآن، أخبر عن مقالتهم في القرآن أنهم قالوا فيه: سحر، وقيل: إن اسم الإشارة يرجع إلى النبي ﷺ باعتبار قراءة أخرى متواترة: قراءة حمزة، والكسائي إِنْ هَذَا إِلاَّ سَاحْرٌ مُّبِينٌ، فقراءة إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يمكن أن يكون المراد بها القرآن، ويدخل فيه ما جاء من الإخبار عن البعث، فهذا الذي جئت به سحر مبين، وعلى القراءة الأخرى يكون ذلك موجهاً إلى النبي ﷺ.
- رواه الإمام أحمد في المسند (33/108)، برقم (19876)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه البخاري برقم (3019)، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27]، بلفظ أن عمران بن حصين قال: "دخلت على النبي ﷺ، وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات، والأرض، فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها".
- رواه الإمام مسلم بمعناه برقم (2648)، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته.
- رواه مسلم برقم (2653)، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى - عليهما السلام -.
- رواه البخاري برقم (4407)، كتاب التفسير، باب قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [سورة هود:7].
- رواه أبو داود برقم (4700)، كتاب السنة، باب في القدر، والترمذي برقم (3319)، وقال: هذا حديث حسن غريب، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ن، وأحمد في المسند (37/378) برقم (22705)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2017).