"وقوله: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، قال ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد: "يعني السرير"، أي: أجلسهما معه على سريره وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا، أي: سجد له أبواه، وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلاً، وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ، أي: التي كان قصها على أبيه من قبل إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [سورة يوسف:4] الآية.
وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى - عليهما السلام -، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب هذا مضمون قول قتادة وغيره.
وفي الحديث أن معاذاً قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله ﷺ فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: "إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله"، فقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها[1].
والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً، فعندها قال يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100] أي: هذا ما آلَ إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر.
وقوله: قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا أي: صحيحةً صدقاً، يذكر نعم الله عليه وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ أي: البادية".
قوله: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ التأويل هنا بمعنى تحقق الرؤيا، ويأتي التأويل بمعنى التعبير، والتفسير، ومنه قوله: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36]، ويأتي التأويل فيما يتعلق بالخبر بوقوع المخبر، وفيما يتصل بالأمر بفعل المأمور به، فمن تأويل الخبر بوقوع المخبر قوله - تبارك وتعالى -: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [سورة الأعراف:53] يعني وقوع ما أخبر به، ومن تحقيق الأمر قول عائشة - ا -: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن[2] يعني: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [سورة النصر:3].
وقوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [سورة يوسف:100] ذكر الخروج من السجن ولم يذكر الخروج من البئر؛ لئلا يجرح مشاعرهم، ويؤذيهم؛ لأنهم هم الذين ألقوه في البئر، وأما السجن فلم يكن لهم بذلك يد، أو أن المنة بالخروج من السجن أعظم من المنة بالخروج من البئر، فقد خرج من البئر للرق، وخرج من السجن للمُلك.
وقوله: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ أي: من البادية، وقال بعض أهل التفسير: "كانوا يسكنون في قرية معروفة يقال لها بدى، فنسبوا إليها، ولم يكونوا يسكنون البادية"، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:109]، فاحتج بهذه الآية كثير من أهل العلم على أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا من أهل البوادي، وهذا الذي يجعل بعض العلماء يقولون: إن يعقوب وبنيه - عليهم الصلاة والسلام - كانوا من قرية يقال لها بدى ولم يكونوا في البادية، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، والظاهر أنهم كانوا في البادية، ووجودهم فيها - والله أعلم - كان عارضاً، ثم انتقلوا.
مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ أي: أفسد، وهذا التفسير من جهة المعنى، فالشيطان يحرك الإنسان، ويستثيره من أجل أن يوقعه في المحظور.
- رواه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1 / 595)، برقم (1853)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (7 / 55).
- رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب التسبيح والدعاء في السجود (1 / 281)، برقم (784)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (1 / 350)، برقم (484).