الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا۟ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُۥ ۖ قَالَ يَٰبُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةً ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۝ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:19-20].

يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف حين ألقاه إخوته، وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً، فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش، وقال محمد بن إسحاق: لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يَصنع، وما يُصنع به، فساق الله له سيارة فنزلوا قريباً من ذلك البئر، وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء، فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها تشبث يوسف فيها فأخرجه، واستبشر به وقال: يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ.

وقال العوفي عن ابن عباس - ا - قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم فنادى أصحابه يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ يباع، فباعه إخوته".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ [سورة يوسف:19] السيارة هم المجموعة من الرفقاء المسافرين السفر، وقول ابن كثير - رحمه الله -: "فمكث في البئر ثلاثة أيام" هذه الرواية مما أخذ عن بني إسرائيل.

وقد قصد إخوة يوسف وضْعه في مكانٍ يمر عليه المسافرون؛ لأنهم قالوا: وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [سورة يوسف:10] فهو في مكانٍ يأتيه الناس من أجل أن يستقوا منه الماء - والله تعالى أعلم -.

قوله - تبارك وتعالى -: فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ [سورة يوسف:19] أي: أرسلوا الذي يستقي لهم الماء فَأَدْلَى دَلْوَهُ والدلو هو ما يستقى به قال: يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وقرأ الجمهور يا بشرَايَ.

والنداء في قوله: يَا بُشْرَى هو للبشرى، وهذا معروف في كلام العرب، خلافاً لمن زعم أن قوله: يَا بُشْرَى  نداء لرجل اسمه بشرى، وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أنه بعيد غاية البعد، وهو من غرائب التفسير، ولا يدل عليه السياق.

قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً [سورة يوسف:19] أي: أسروه حال كونه بضاعة، ومعنى أسروه أي: أنهم كتموا أمره، والضمير في قوله: وَأَسَرُّوهُ يحتمل أن يكون راجعاً إلى إخوة يوسف، وهذا هو اختيار ابن كثير - رحمه الله -، وقد ذكر رواية العوفي عن ابن عباس - مع ضعف هذه الرواية - فقال: "يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابه يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ يباع، فباعه إخوته"، وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية أنهم قالوا: هذا مملوكٌ لنا آبق، فلما استُخرج من البئر باعوه من المسافرين، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً راجعاً إلى الوارد المستقي وأصحابه من التجار، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -.

قوله - تبارك وتعالى -: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] يحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى إخوة يوسف، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله - ومعنى وَشَرَوْهُ أي: باعوه، ويرجح هذا المعنى قوله: وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وهم إخوة يوسف، أما الذين وجدوه فقد حرصوا عليه غاية الحرص، ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذين وجدوه في غيابة الجب.

"وقوله: وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي: عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54]".

قوله: وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي: عليمٌ بمكر إخوة يوسف، فهو عليم بكل شيء، وقد تجلى هذا العلم في هذه القضية عن هذه العواقب العظيمة، وما وقع ليوسف - عليه الصلاة والسلام - من ألوان البلاء من إلقائه في البئر، ودخوله في السجن بتهمة سيئة في غاية السوء، ويبقى في هذا السجن هذه السنوات الطويلة، وقد قال بعض أهل العلم: "إن نعمة خروج يوسف ﷺ من السجن أعظم من نعمته عليه بخروجه من البئر".

"وفي هذا تعريض لرسوله محمد ﷺ، وإعلام له بأنّي عالم بأذى قومك لك، وأنا قادرٌ على الإنكار عليهم، ولكني سأملي لهم، ثم أجعل لك العاقبة، والحكم عليهم؛ كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته".