السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وهذا هو الذي أراد يوسف ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه أي: فتشها قبله تورية، ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ".

هذا من حسن التدبير، ومن كيده لهم، أو من كيده لأخذ أخيه، ما بدأ بوعاء الأخ على أساس أنه ما يحصل لهم شك، فبدأ بأوعيتهم، وأخّر هذا، ويذكر بعض المفسرين أنه كان يفتش فحينما لا يجد شيئاً في رحل من فتشه يستغفر، فلما بقي بنيامين قال: أما هذا الصغير فلا يحصل منه شيء، فأصروا هم من أجل إظهار البراءة، وأن يطمئن الطرف الآخر من أنه لم يحصل منهم سرقة، فأصروا إلا أن يفتش الأخير: بنيامين، فلما فتح رحله فإذا به الصواع، وهذا ليس له مستند إلا الإسرائيليات.

"ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ فأخذه منهم بحكم اعترافهم، والتزامهم، وإلزاماً لهم بما يعتقدونه؛ ولهذا قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة، والمصلحة المطلوبة".

قوله تعالى على لسانهم: جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ أي: جزاء السارق أن يؤخذ هو دون أحد سواه، نطقوا بالحكم، واختاروا شريعة يعقوب، أو شريعة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فكان ذلك إلزاماً لهم بما أجراه الله على ألسنتهم؛ فليس لهم أن يحتجوا بعد ذلك بحجة يتنصلون بها من هذا الحكم، وكان ذلك سبباً لتمكنه من أخذ أخيه مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي: في شريعة الملك، و"ما" هذه نافية، ما كان ليأخذه في شريعة الملك وقانونه؛ لأن قانون الملك ليس فيه أن من وُجد عنده المسروق يصير أمره إلى المسروق منه، إنما يعاقب بالعقوبة المتقدمة، ثم يذهب، فلو أعمل فيه قانون الملك لفاته هذا المقصود - والله أعلم -.

"وقوله: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي: "لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر" قاله الضحاك وغيره، وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم؛ ولهذا مدحه الله - تعالى - فقال: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ [سورة المجادلة:11] الآية، وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال الحسن البصري: "ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله "، وكذا روى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير، قال: "كنا عند ابن عباس - ا - فحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال: الحمد لله فوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: "بئس ما قلت: الله العليم، وهو فوق كل عالم"".

ما ذكره الحسن - رحمه الله -، وقول الإنسان: فوق كل ذي علم عليم، لا إشكال فيه إطلاقاً، والله صرح بهذا: وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، ولا يقصد به أن ذلك بإطلاق بحيث يكون فوق علم الله - تبارك وتعالى - ما هو أعلم، وإنما المقصود من الخلق فوق كل ذي علم عليم، فإذا قالها الإنسان، وأطلقها في مناسبة من المناسبات، أو من غير مناسبة؛ فهذا لا تحفظ فيه إطلاقاً، ويوجد في كثير مما يذكر في المنهيات أن بعض العبارات تؤخذ، وتوضع في بعض كتب المنهيات، ويقال: لا يسوغ أن يقال كذا؛ على أنه من المنهيات اللفظية، وهذا ليس على إطلاقه، فمنه ما ليس بمنهي أصلاً، ومنه ما يحتاج إلى تفصيل، إن قصد به القائل كذا فهو منهي، وإن قصد به القائل كذا فهو صحيح، بحسب قصد القائل.

"وكذا روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال: "يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم"، وهكذا قال عكرمة، وقال قتادة: "وفوق كل ذي علم عليم، حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ، وتعلمت العلماء، وإليه يعود"، وفي قراءة عبد الله: "وفوق كل عالم عليم"".