قال المصنف - رحمه الله تعالى -: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء [سورة الرعد:39] منها وَيُثْبِتُ يعني: حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله ﷺ.
وقال مجاهد: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإنهما لا يتغيران.
وقال منصور: سألت مجاهداً فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء، فقال: حسن، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر، فسألته عن ذلك، فقال: إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ الآيتين، قال: يقضي في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب الشقاوة والسعادة فهو ثابت لا يُغير.
وقال الأعمش عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة: إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، رواه ابن جرير، وروي نحواً من هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود - ا -.
ومعنى هذه الأقوال: أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثَوْبَان قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه، ولا يرد القَدرَ إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر[1]. ورواه النسائي وابن ماجه.
وثبت في الصحيح: أن صلة الرحم تزيد في العمر[2]، وفي الحديث الآخر: إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض[3]
.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ يقول: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله، وهو الذي يثبت.
وروي عن سعيد بن جُبَير: أنها بمعنى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284].
فقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ، من أهل العلم من فسر المحو والإثبات بالنسخ الذي يقع في الكتب التي أنزلها الله - تبارك وتعالى -، فهي منسوخة بالقرآن، والقرآن مهيمن عليها، كما أن الله - تبارك وتعالى - ينسخ ما شاء من القرآن، كما قال الله : مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ [سورة النحل:101]، والأشهر أن المحو والإثبات في المقادير، وإن اختلف أصحاب هذا القول، ما الذي يحصل به المحو والإثبات؟، هنا نقل عن مجاهد، قال: إلا الحياة والموت، يعني: أن المحو يحصل في المقادير إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة، إلا هذه الأشياء لا تتغير، هكذا قال بعض السلف، ومنهم من أطلقه، ولهذا أورد بعض الأدعية في طلب تغيير ما كتب من الشقاء إن كان قد كتب وتحويل ذلك إلى السعادة، فهذا باعتبار أن المحو يكون حتى في ديوان الشقاء، أو فيما يتعلق بالشقاء والسعادة، وهكذا الحياة والموت، كما أورد الأحاديث التي تدل على أنه يزاد في العمر، سواءً ما ذكره هنا أو مما لم يذكره، من سره أن ينسأ له في أثره...[4] إلى آخره، فهذا في العمر، وهكذا الحديث العام: إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض....
وبعض أهل العلم يقول: إن المحو والإثبات - يعني ممن قال: إن ذلك يتعلق بالمقادير - هو محو من حان أجله، وإثبات من لم يحن أجله، وهذا هو اختيار ابن جرير، يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ، والتقدير: منه ما هو أزلي، قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة[5]، فهذا هو التقدير الأزلي، وهناك تقدير يقال له: التقدير العمري، فالجنين إذا بلغ أربعة أشهر، بعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، وهناك تقدير يقال له: التقدير الحولي فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان:4]، مما يكون خلال السنة، وكذلك الكتابة، يعني: القدر، والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله الأزلي، وبكتابته أن الله كتب ذلك، بالإضافة إلى المشيئة، فالكتابة في اللوح المحفوظ، وهناك مكتوب في صحف في أيدي الملائكة، وهذه النصوص المنقولة عن النبي ﷺ مما ذكره ومما لم يذكره لا تتناقض، والأقرب - والله تعالى أعلم - من أقوال أهل العلم في هذه المسألة هو أن يقال: إن ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ويمكن أن يقال: ما كان في علم الله فإنه لا يتبدل ولا يتغير، ولا يمكن أن يحصل له التغير؛ لأنه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، هذا لا يحصل به التبديل، والله لا يستجد له علم في شيء لم يكن يعلمه، فالذي في علم الله، الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير، وإنما يتغير الذي كان في صحف الملائكة، فيكون هذا الإنسان قد كُتب في اللوح المحفوظ أنه يعيش سبعين سنة، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة أنه يعيش ستين سنة، ويكون في علم الله الأزلي أن هذا الرجل سيصل الرحم وأنه سيزاد له في العمر عشر سنوات، فيُمحى الذي في صحف الملائكة ويزاد له في العمر، وهكذا يكون الرجل في علم الله الأزلي أنه يحصل له الأمر المعين، ويقدر الله - تبارك وتعالى - لهذا الإنسان أن يرفع يديه وأن يدعو، فيكون ذلك سبباً لحصول هذا المطلوب فيحصل المحو والإثبات في الصحف التي بأيدي الملائكة، لا يرد القضاء إلا الدعاء، يكون في علم الله الأزلي أن هذا الإنسان يبرأ من هذا المرض، في صحف الملائكة يحصل التبديل والتغيير، أن هذا الإنسان مثلاً قد يموت، والله في علمه الأزلي قد علم وكتب في اللوح المحفوظ أن هذا الإنسان يرفع يديه ويدعو فينجيه الله ، فما كان في علم الله لا يتغير، وعلمه محيط بكل شيء، هذا هو الأقرب - والله أعلم - في المحو والإثبات، أن الذي يمحى ما كان في صحف الملائكة، والذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا من أشهر الأقوال في الآية، وقيل فيها غير هذا، يعني بعضهم يقول كما جاء عن بعض السلف: إن المحو والإثبات لا يتعلق بالقدر، وإنما يتعلق بالأعمال، فالملك يكتب كل شيء، وهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يكتب الملك كل ما ينطق الإنسان به، مَا يَلْفِظُ كما هو ظاهر الآية: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، كما جاء عن ابن عباس - ا - أنه يكتب أكلت وشربت وقمت وقعدت، كل شيء، كل ما ينطق به الإنسان، ثم بعد ذلك يُمحى ما لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، ويبقى ما يتعلق به الثواب والعقاب، وبعضهم يقول: الذي يمحى هو متعلق بالأعمال وليس بالقدر، فيمحو الله من السيئات والذنوب ما شاء، فلا يعاقبه على بعض أعماله، ويثبت عليه ما شاء أن يثبته، لكن قوله: وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ هنا قد يكون قرينة تقوي ما ذكر من أن ذلك يتعلق بالقدر، والله أعلم.
وقوله هنا: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ، هذه قراءة ثلاثة من السبعة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الباقون بالتشديد ويُثبِّت.
- رواه أحمد في المسند، برقم (22386)، وقال محققوه: "حسن لغيره دون قوله: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصيبه"، وهذا إسناد ضعيف، عبد الله بن أبي الجعد أخو سالم لم يروِ عنه غير اثنين، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقد عدَّه الحافظ ابن حجر من الطبقة الرابعة، وهي طبقة صغار التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن كبارهم، ثم إنه كوفي، وثوبان شامي، فيغلب على الظن أنه لم يسمع منه، سفيان: هو الثوري، وعبد الله بن عيسى: هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري"، وابن حبان في صحيحه، برقم (872)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة دون زيادة: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصيبه"، برقم (154).
- رواه البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، برقم (2067)، وبرقم (5985)، في كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم.
- رواه الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء، برقم (2139)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7687).
- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، برقم (5985)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2557).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم (4700)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2018).