قوله: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [سورة الرعد:8-9].
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ [سورة النجم:32] الآية، وقال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [سورة الزمر:6] أي: خلقكم طوراً من بعد طور، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [سورة المؤمنون:12-14]، وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد[1]، وفي الحديث الآخر: فيقول الملك: أي رب أذكر أم أنثى؟ أي رب أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله، ويكتب الملك[2].
قوله – تبارك وتعالى -: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى، يحتمل أن تكون "ما" موصولة بمعنى الذي، ويكون المعنى: الله يعلم الذي تحمله كل أنثى، ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية، أي: ويعلم حمل كل أنثى.
قوله: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ الغيض: معناه النقص، ويقابله الزيادة، فمن أهل العلم من قال النقص يحصل بخروج الدم، والزيادة هو الدم الذي لا يخرج، ومن أهل العلم من قال: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ يعني: حيض الحامل فما يحصل لها من خروج الدم فإن ذلك يكون نقصاً في نمو الجنين، فإذا خرج من المرأة الدم في أيام حملها، مثلاً عشرة أيام فإن الحمل يزداد عشرة أيام تعويضاً.
وقال بعض أهل العلم: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ أي: ما ينقص فيه الحمل عن تسعة أشهر، وما تزيد فيه في الحمل فقد يكون في عشرة أشهر، وقد يكون في عامين، كما قال الضحاك: بأنه ولدته أمه لعامين، بل ذكر أن بعضهم أن أمه حملت به خمس سنوات، فجعلوا الزيادة في المدة، ومن أحسن ما ذكر في معنى هذه الآية ما قاله ابن القيم – رحمه الله -: "والتحقيق في معنى الآية أنه يعلم مدة الحمل وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالم بذلك دونكم كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى، وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله ... فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم، وعلم وقت إقامته فيه، وما يزيد من بدنه وما ينقص، وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتام ورؤية الدم وانقطاعه والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان"[4].
وأوضح منه ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - بأن مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده؛ لأن معنى تغيض تنقص وتزداد أي تأخذه زائداً فيشمل النقص المذكور، نقص العدد، ونقص العضو من الجنين، ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص، ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد، كما أن الازدياد يشمل زيادة العضو، وزيادة العدد، وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل، وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله[5].
وقال قتادة: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [سورة الرعد:8] أي: بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلاً معلوماً. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي ﷺ ورضي عنها بعثت إليه أن ابناً لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب[6]، الحديث بتمامه.
- رواه البخاري، كتاب القدر (6 / 2433)، برقم (1226)، مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4 / 2036)، برقم (2643).
- رواه البخاري، كتاب الحيض، باب مخلقة وغير مخلقة (1 / 121)، برقم (312).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الرعد (4 / 1733)، برقم (4420).
- تحفة المودود (1 / 268).
- أضواء البيان (2 / 226).
- رواه البخاري من حديث أسامة بن زيد ا برقم (6942)، كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء(110)]، ومسلم برقم (923)، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت.