وقال: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، يقول الحافظ ابن كثير: "المعايش جمع معيشة"، وهذا الكلام الذي ذكره الحافظ - رحمه الله -، الكلام الذي قبله يبيّن مراده، قال: "يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة"، بمعنى أن الله - تبارك وتعالى - جعل الأرض صالحة للحرث، وأودع فيها من المعادن وغير ذلك من الأمور التي ينتفع بها الناس، فيتصرفون فيها بألوان التصرفات فتقوم معايشهم في هذه الحياة الدنيا، والمعنى الثاني: أن المقصود بالمعايش المطاعم والمشارب، وما يأكله الناس، يعني جعل فيها ما يعيش عليه الإنسان من الطعام والشراب، هذا المعنى الثاني، والآية تحمل المعنيين، وكل ذلك صحيح - والله تعالى أعلم -، فالله جعل هذه الأرض مهيأة بحيث تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم، كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [سورة الملك:15]، فذللها لهم من أجل أن يتنقلوا عليها ويعملوا فيها من أجل تحصيل أرزاقهم وأقواتهم، والمعنى الثاني: جعل فيها ما تقوم عليه حياتهم من الطعام والشراب وهذا كله حاصل وواقع، وكله داخل في هذه المعايش، - والله تعالى أعلم -.
وقوله: وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، فسرها كثير من السلف بمعنى: لا تقومون برزقهم، وإنما الله - تبارك وتعالى - هو الذي يرزقهم، من الدواب التي تركبونها، أو تأكلونها، وكذلك قول من قال: الوحوش والسباع، يعني جعل الله لها في الأرض معايش، وكذلك العبيد، الإماء، وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، فقوله: وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ "مَن" هذه تفيد العموم، وهي وإن كانت تستعمل للعاقل إلا أنه يمكن أن يدخل فيها غير العاقل تغليباً للعاقل، فالله - تبارك وتعالى - جعل في هذه الأرض معايش تقوم عليها حياة الناس، وجعل فيها معايش تقوم عليها حياة غيرهم ممن لا يرزقونهم، بل قد لا نعلمهم نحن من صنوف الحيوان، وغير ذلك من الحشرات والطيور، ومن أهل العلم من يفسر الآية بغير هذا، فيقول بأن قوله: وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ الضمير يعود على محل لكم في قوله: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ يعني كما جعلنا لكم فيها معايش جعلنا فيها من لا تقومون برزقهم، فجعل الأمرين، جعل المعايش وجعل هؤلاء من العبيد والإماء والدواب، والفرق بين المعنيين ظاهر.