والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول على قوله تعالى: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: "أي مرجعكم كلكم إليَّ، فأجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر"، مرجعكم جميعاً إليَّ، فيحتمل أن يكون هذا من قبيل التهديد والوعيد، كأنه يقول: أينما تذهب أنت ومن اتبعك فطريقكم عليّ، بمعنى أنك ستعاقبه وتحاسبه بما فعل وما صدر منه، وبعضهم يفسر هذا هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: هذا حق عليّ مراعاته، وهو أن عبادي الذين أخلصتهم ليس لك عليهم سلطان.
قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ من قبيل التهديد، يعني أن طريقكم عليّ فأعاقبكم وأحاسبكم وآخذكم، فأين تذهبون؟، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، وقوله: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: بيان السبيل القاصد، والسبيل: هي الطريق، تذكر وتؤنث، والقصد صفة لها، فهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وعلى الله بيانها وإيضاحها، أو المعنى الثاني: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: أنها توصل إليه.
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تفسير قول الله تعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ: "قال الحسن: معناه صراط إليّ مستقيم، وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض.
فقامت أداة "على" مقام "إلى"، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السلف، أي صراط موصل إليّ، وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء، وهذا مثل قول الحسن وأبين منه وهو من أصح ما قيل في الآية، وقيل: عَلَيَّ فيه: للوجوب أي: عليَّ بيانه وتعريفه والدلالة عليه، والقولان نظير القولين في آية النحل وهي: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر أن السبيل القاصد - وهو المستقيم المعتدل - يرجع إلى الله ويوصل إليه، قال طفيل الغنوي:
مضَوْا سلفاً قصد السبيل عليهمُ | وصرفُ المنايا بالرجال تشقلب |
أي: ممرنا عليهم وإليهم وصولنا، وقال الآخر:
فهنّ المنايا أي واد سلكته | عليها طريقي أو عليّ طريقها |
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة "إلى" التي هي للانتهاء لا أداة "على" التي هي للوجوب، ألا ترى أنه لما أراد الوصول قال: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:25-26]، وقال: إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [سورة لقمان:23]، وقال: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:17]، وقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود: 6] ونظائر ذلك.
قيل: في أداة "على" سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى، وهو حق، كما قال في حق المؤمنين: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [سورة البقرة:5] وقال لرسوله ﷺ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [سورة النمل:79]، والله هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في أداة "على" على هذا المعنى ما ليس في أداة "إلى" فتأمله فإنه سر بديع"[1].
بمعنى أن "على" تدل على الظهور والاستعلاء، فمن سلك الصراط المستقيم فهو مستعلٍ بسلوكه، ولهذا جاء التعبير بعلى في بعض المواضع في كتاب الله فيما يتعلق بسلوك الصراط، فالآية تدور على هذين المعنيين، ويبقى التعليل إذا قيل بأن المقصود من قوله: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: "إليّ" لماذا عبر بـ"على"؟، فيكون هذا من النكات البلاغية فقط، وإلا فيكون أصل المعنى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي: أنه بمعنى "إليّ"، والمعنى الثاني: صراط عليّ بيانه وإيضاحه.
وقال - رحمه الله -: "فإن قلت: فما الفائدة في ذكر "على" في ذلك أيضاً، وكيف يكون مستعلياً على الحق وعلى الهدى؟
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في الإتيان بأداة "على" ما يدل على علوه وثبوته واستقامته، وهذا بخلاف الضلال والريب فإنه يؤتى فيه بأداة "في" الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه كقوله تعالى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [سورة التوبة:45]، وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:39]، وقوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [سورة المؤمنون:54] وقوله: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة هود:110].
وتأمل قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، فإن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قول ثالث وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ كما يقال: طريقك عليّ وممرك عليّ، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك ولا معجز، والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله، فإنه قاله مجيباً لإبليس الذي قال: لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم ولا طريق لي عليهم، فقرر الله ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط؛ لأنه صراط عليّ، ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحَوْم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين أيهما أليق بالآيتين وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف.
وأما تشبيه الكسائي له بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فلا يخفى الفرق بينهما سياقاً ودلالةً فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم عليّ لمن لا يسلكه، وليست سبيل المهدد مستقيمة، فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله، فلا يستقيم هذا القول ألبته"[2].
فقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ من قبيل الوعيد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ بالرصد، والرصد إنما يكون في الأصل على الطريق، فهو يقول: طريقكم عليّ، فأين تذهبون؟ وأين تفرون؟ هذا مرادهم بهذا القول، وإلا فهم لا شك أنهم غير سالكين للصراط، وللتعبير في مثل هذا الموضع بقوله: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ نظائره في القرآن، وإذا ذكر الصراط في القرآن، الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]، فهو الطريق الذي يسلكه أولياؤه، وهو الطريق الذي رسمه الله لعباده؛ ولهذا أضافه إلى نفسه فقال: صِرَاطِ اللَّهِ [سورة الشورى:53] يعني: هو الذي رسمها وشرَّعها وأمر بسلوكها، وأضافها إلى أهل الإيمان قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:7]، باعتبار أنهم هم السالكون، الشيء يضاف تارة إلى سالكه، وتارة إلى من يملك ذلك، كما قال الله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33]، مع أن البيوت للنبي ﷺ، وقال: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ [سورة الطلاق:1]، أضاف البيوت إليهن مع أنها للزوج، باعتبار أن الزوجة هي المنتفعة بها، هي الساكنة لها فأضافها إليها.
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية يقول: وهما نظير قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [سورة الليل:12-13]، قال: فهذه مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1] إلا معنى الوجوب، أي علينا بيان الهدى من الضلال، ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا هذا المعنى كالبغوي، وذكر في "الحجر" الأقوال الثلاثة، وذكر الواحدي في بسيطه المعنيين في سورة النحل، واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث"[3]أ.هـ.
كما قال الله : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:3]، أي: سبيل الحق والهدى والرشاد والصراط المستقيم، إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/15-16).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/16-17).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/17-18).