الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً  [سورة الإسراء:23-24].

يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له، فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر، قال مجاهد: وَقَضَىَ يعني: وصّى، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم: ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه؛ ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين، فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً أي: وأمر بالوالدين إحساناً، كقوله في الآية الأخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان:14].

قوله: وَقَضَىَ أي: أمر بعبادته، هذا أحد المعاني التي تأتي لها قضى؛ لأنها تأتي بمعنى أمر وتأتي بمعنى حكم، الله يقضي بالحق، وتأتي بمعنى وصى، وتأتي بمعنى الفراغ من الشيء، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ  [سورة البقرة:200] وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [سورة الجمعة:10] يعني فرغ منها، وتأتي بمعانٍ أخرى، وتفسيره لها بمعنى أمر، وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُيرِد عليه إشكال وهو أن هذه الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآيات فيها أمور منهية،  وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ[سورة الإسراء:31]،  وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [سورة الإسراء:32]،  وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[سورة الإسراء:34]، وما شابه ذلك، فهذه منهيات، فإذا فسرت  قَضَىَ بمعنى أمر يرد عليها هذا الإشكال؛ ولهذا أحسن ما تفسر به - والله أعلم - وهو الذي تدل عليه القراءة الأخرى غير المتواترة ووصى ، والقراءة الآحادية تفسر القراءة المتواترة، فيكون  قَضَىَ  بمعنى وصى، وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ بمعنى وصى أن لا تبعدوا إلا إياه، وصى بعبادته، والوصية بمعنى الأمر والنهي، تجمع بينهما، فإذا جاءت النواهي بعدها فهذا داخل فيها، فهي أمر ونهي يقصد توثيقه وتأكيده، وتقريره، فتقول: أوصيك بكذا وأوصيك بكذا.

وقوله:  إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ أي: ولا تُسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ،  وَلاَ تَنْهَرْهُمَا أي: ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله:  وَلاَ تَنْهَرْهُمَا أي: لا تنفض يدك عليهما.

أصل النهر، الإغلاظ في القول، ونفض اليد يلحق به من جهة الفعل، أما "نهره" فمعناه أغلظ له في القول، يعني قال له قولاً فيه غلظة وشدة، وقوله:  إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ، لا يختص بحالة الكبر، لكن ذكرت حالة الكبر؛ لأن الحاجة فيها أشد إلى الرعاية واللطف؛ لأسباب كثيرة.

وقوله هنا:  أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا  فهذا إنما جيء به - والله تعالى أعلم - ليدل على أن حق كل واحد منهما ثابت على سبيل الاستقلال، حق ثابت له؛ لأن الإنسان قد يثقل عليه القيام بحقهما معاً وقد يقوم بحق أحدهما براً بالآخر، يعني قد لا تكون علاقته على وئام بأحدهما فيقوم بحقه براً بالآخر، أبوه يأمره ببر أمه، وهو ليس على حالة مرضية معها، فيقوم بالبر من أجل أنه يبر أباه بهذا، فهذا لا يجوز، حتى لو حصل البر، فهذا حق ثابت لكل واحد منهما على سبيل الاستقلال،  أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فهذان معنيان، والله تعالى أعلم.

ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن، فقال:وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً أي: ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم.

لا يكفي أن يكون الإنسان لا يصدر منه تصرف سيئ، يكف عما لا يليق في التعامل مع الأبوين فقط، بل لابد من التعامل الحسن، والكلام الطيب، والفعل الجميل من برٍ بالمال، إن كانا محتاجين، أو بالتلطف بالعبارة، وحسن المعاشرة، وما أشبه ذلك، فهذا كله داخل فيه،وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً.