قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً [سورة الإسراء:82].
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسول الله ﷺ وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد-: إنه شفاء ورحمة للمؤمنين: أي يُذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضاً رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، فإنه يكون شفاءً في حقه ورحمة، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيد سماعه القرآن إلا بُعداً وكفراً، والآفة من الكافر لا من القرآن، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[سورة فصلت:44]، وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ[سورة التوبة: 124-125]، والآيات في ذلك كثيرة، قال قتادة في قوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً أي: لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
فقوله - تبارك وتعالى -: وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ "مِن" هنا ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، أو لبيان الجنس، وكما لا يخفى فإن المعنى يختلف تماماً، فإذا قلنا: إنها تبعيضية فيكون بعض القرآن شفاء وليس كل القرآن، وإذا قلنا: إنها لابتداء الغاية أو لبيان الجنس فإن جميع القرآن شفاء، وهذا هو الصحيح، وهذا الشفاء يدخل فيه المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو أنه شفاء لأمراض القلوب من الشبهات والشكوك، فيجلي ذلك، ويذهبه، فلا يبقى شيء منها مع أنوار القرآن، فالله بين فيه الحقائق كما بين فيه الحلال والحرام، ولم يعد للتخرُّصات والأوهام محل في صدور أهل الإيمان، بخلاف ما كان الناس عليه في الجاهلية، حيث يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فجاءهم هذا الفرقان الذي يفرق الله فيه بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ويدخل فيه النوع الآخر أيضاً من الشفاء وهو شفاء الأبدان، مما ألمّ بها من العلل، والأوصاب، وهذا أمر لا شك فيه، وآثاره ظاهرة، ويتفاوت الناس في هذين الشفاءين، القرآن من حيث هو شفاء، ولم يقل الله : إنه دواء؛ لأن الدواء قد يتخلف معه البرء وقد لا يناسب بعض الناس، فيحصل بسببه الداء، وأما الشفاء فهو نتيجة مباشرة ذكرها الله ، وشفاء القلوب، وشفاء الأبدان، يتفاوت الناس فيه؛ بحسب تقبلهم له، وما يكون عند الإنسان من اليقين، فالذي ينظر إلى القرآن باعتبار أنه كتاب يتلى للتقرب والتعبد بحروفه وكلماته ونحو ذلك فحسب، لكنه لا يفهم معانيه كالأعجمي فمثل هذا لا تذهب وساوسه وأوهامه وشبهاته بهذا القرآن؛ ولهذا يتفاوت الناس بحسب ما عندهم من اليقين والمعرفة بمعاني هذا القرآن، وهكذا فيما يتصل بشفاء الأبدان، فإن ذلك يتفاوت أيضاً بحسب المحل القابل، فالذي يرقى بالقرآن مثلاً، وهو يعتقد أن هذه أشياء لا أثر لها، وأن ذلك لا جدوى له، أو أنه يفعل ذلك على سبيل التجربة، فمثل هذا لا شك أن أثر هذه الرقية سيكون ضعيفاً غاية الضعف، وما ذكره الله من أثر هذا القرآن على الذين لا يؤمنون به، فهو كما قال الله ، كما أنه شفاء للمؤمنين كذلك بالنسبة لغير المؤمنين يكون عليهم عمى، - نسأل الله العافية -، ولهذا فإن ما أنزله الله من الهدى والحق كما أن النفوس الطيبة تنتفع به غاية الانتفاع، كذلك النفوس الرديئة لا يزيدها إلا رجساً وارتكاساً في ضلالها وعمايتها، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ، وهكذا ما يتفرع من ذلك من العلم النافع، فإن من الناس من قد يتعلم العلم ولا يزيده ذلك إلا تيهاً وكبراً وتعالياً وتعاظماً على الناس وغروراً مع ما يحصل له من الجفاء وقسوة القلب، - نسأل الله العافية -؛ ولهذا كان من أسباب إعراض الصوفية عن العلوم الشرعية كما ذكر الغزالي في كتابة "بداية الهداية" أن العلم لربما يحمل صاحبه على الغرور والكبر والتعاظم والتعالي على الخلق، ومعلوم أن العلم لا يحمل على هذا، لكن قد يوجد في محل لم يروض بطاعة الله ظاهراً وباطناً، فمن أخذ العلم بغير الطريق الصحيح فإنه قد يضل ويزل، قد يتعلم الإنسان العلوم الشرعية ويكون ذلك سبباً لمزيد من الحيل والبحث عن المخارج والتبريرات، ويعلل لنفسه ويزين لها أفعالاً يتحرز منها العامة، فهو يخرّج كل هذه التصرفات والانحرافات بتخريجات فقهية، وإذا عرف من خلاف العلماء أشياء فإن ذلك يكون بالنسبة إليه مبرراً للأخذ بما يهوى من الأقوال، وهذا يوجد، فكلما ازداد تعلماً ازداد انحرافاً، ومثل هؤلاء إن لم يصلح حاله وقلبه فلربما الأفضل له أن يبقى على جهله، ولا يعرف من كلام العلماء في المسائل ما يكون سبباً لانحرافه.