الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى:كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ قال ابن عباس - ا -: على ناحيته، وقال مجاهد: على حدته وطبيعته، وقال قتادة: على نيته، وقال ابن زيد: دينه، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وهذه الآية - والله أعلم - تهديد للمشركين ووعيد لهم، كقوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الآية، ولهذا قال:يَئُوساً قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىَ سَبِيلاً أي: منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا يخفى عليه خافية.

قوله تعالى:قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ هذه اللفظة "الشاكلة" مأخوذة من الشكل، تقول: لست على شكلي، لست على شاكلتي، ويقال: وما كان على هذه الشاكلة، يعني على هذا الشكل، نظير ذلك، من الأمور التي تشابهه، فالشكل هو النظير والشبيه والمثيل، والمعنى أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها، وهذا في كل الأشياء، فالمعاني التي ذكرها السلف هنا: على ناحيته، على طبيعته، على نيته، على دينه، وهكذا قول من قال: على طريقته، كل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، وعباراتهم متقاربة، كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ على طريقته، على ما يشاكل طبعه وهواه، وما تميل إليه نفسه، سواء كان ذلك في باب الأعمال بالجوارح، فهذا يجدّ في معصية الله ، وهذا يشغل سمعه بسماع المعازف، وهذا يشغل سمعه بسماع القرآن، وهذا يشغل لسانه بالغيبة والنميمة، وهذا يشغل لسانه بذكر الله - تبارك وتعالى -، وهذا يشغل بصره بالصور المحرمة، وهذا يشغل نظره بالنظر إلى آيات الله  المتلوة والمشهودة، وكذلك في باب الخلطة والمصاحبة، هذا يخالط الأشرار ويميل إليهم، وهذا يخالط الأخيار والصالحين، هذا يخالط أهل الدنيا والجِدة والثراء، ويحب مجالستهم ومخالطتهم، والآخر يحب مجالس الذكر والعلم، من الناس من يضيق ذرعاً إذا حضر موعظة أو خطبة جمعة، أو كلمة لمدة سبع دقائق، وآخر لا يشبع من مجالس الذكر، فهي روضة بالنسبة إليه من رياض الجنة كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى-، فقد ترى الرجل أحياناً ينشأ في بيئة طيبة وبيئة صالحة وبيئة علم ودعوة، ولا يميل إلى هذه الأشياء أبداً، وينفر منها غاية النفور، لكن يبحث عن شيء آخر إما مجالس التجار، وإما أصحاب اللهو، وإما يبحث عن الشِّعر النبطي، وإما يبحث عن الأكل والمطاعم، وأنواع الخلطات السرية، وآخر ليس له شغل إلا التجول في الأسواق، كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ، في كل جانب من جوانب الحياة، وهكذا فيما يتعلق بالاعتقادات، فتجد أن اليهود يميلون إلى من يشاكلهم، والنصارى يميلون إلى من يشاكلهم، وأن المنافقين يميلون إلى من يشاكلهم، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى أي شيء يميل قلبه، وهل يجد قلبه في مجالس الذكر أو أن قلبه يجذبه إلى مجالس الأشرار وأعمال الفجار، فيعرض الإنسان نفسه على كتاب الله .

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "قال تعالى:قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ.

في تصديره الباب بهذه الآية دلالة على عظم قدره وجلالة محلّه من هذا العلم، فإن معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها عامل على ما يناسبه، ولا يليق به سواه، ومحب الصور عامل على ما يناسبه ويليق به، فكل امرئ يهفو إلى ما يحبه وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، فالمريد الصادق المحب لله يعمل ما هو اللائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به والأنسب لها"[1].

وقال - رحمه الله - تعالى: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى: قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ أي: على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها، فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم، ومحبته، والثناء عليه، والتودد إليه، والحياء منه، والمراقبة له، وتعظيمه وإجلاله"[2].

وقال - رحمه الله -: "قال تعالى:قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ أي: على ما يشاكله ويناسبه ويليق به كما يقول الناس: كل إناء بالذي فيه ينضح، فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، ولو أن ملِكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقْطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس في ملكه وقالوا: لا يصلح للملك، فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالك الملوك في داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم؟"[3]

هذا المعنى يجده الإنسان في كل شيء، فالذي يفتح القنوات والإنترنت مثلاً أين يذهب؟، قل له: كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ، هذا يبحث عن مواضع في العلم الشرعي، وهذا يبحث عن مواعظ، وهذا يبحث عن الخلاعة، وذاك يبحث عن الشبهات - نسأل الله العافية -، مواقع محادة لله يبحث عنها ويقرأ فيها، ويجد نفسه هناك، فمثل هذه المعاني جديرة بأن الإنسان يقف عندها ويعرض نفسه وقلبه وعمله عليها، وهذا الأمر قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ، يراد به ليس الإباحة أو الوجوب، وإنما يفهم منه معنى التهديد، كقوله:فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [سورة فصلت:5].

  1. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام ابن القيم (2/371).
  2. الفوائد، للإمام ابن القيم الجوزيه (176-177).
  3. طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام ابن القيم (177-178).