الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى:

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ۝ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ۝ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:47 - 49].

يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ۝ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9-10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88]، وقال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:5]، وقال:  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ۝ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107] يذكر تعالى أنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض، قَاعًا صَفْصَفًا أي: سطحاً مستوياً لا عوج فيه، وَلا أَمْتًا أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً أي: بادية ظاهرة ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحداً، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.

قال مجاهد وقتادة: وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً لا خمر فيها ولا غَيابة، قال قتادة: لا بناءَ ولا شجر.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47] يحتمل أن يكون قوله: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ متعلقاً بما قبله: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ۝ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف: 46-47]  يعني: خير عند الله في الآخرة في اليوم الذي تُسير فيه الجبال، ولعله أحسن من هذا أن يقال بأن ذلك متعلق بمقدر، والتقدير: واذكر يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة، وهنا أورد المصنف - رحمه الله - قوله - تبارك وتعالى -: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [سورة النمل: 88] يعني: في الآخرة إذا قامت القيامة، وليس المقصود بذلك في الدنيا كما يذكره بعض من يتكلم في الإعجاز ويستدل به على دوران الأرض، وأن المقصود بذلك دوران الأرض وما عليها يدور ويتحرك بحركتها، فالجبال تدور بدوران الأرض، ليس هذا هو المراد، وإنما الآيات يفسر بعضها بعضاً، فذلك حينما تقوم القيامة.

وقوله: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً يقول: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ترى الأرض بارزة أي: بادية ظاهرة، ليس فيها معلم لأحد، ولا بناء ولا عمارات ولا أشجار ولا جبال، يقول: بل الخلق كلهم ضاحون لربهم، أي: بادون ظاهرون، وكما في الحديث: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي[1] بمعنى: أنه بادٍ للشمس لا يستتر بشيء.

قال مجاهد وقتادة: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47] لا خمر فيه ولا غيابة، فلا يوجد ماء يسترهم، فالخمر قيل له خمر؛ لأنه يخامر العقل أي: يسترها، والخمار خمار المرأة لأنه يسترها ويغطيها، فلا يوجد ما يسترهم أو يكنّهم.

والغيابة كل شيء سترك وغطاك من سحاب أو غير ذلك يقال له غيابة، ومنه غيابة الجب؛ لأن من كان بداخله وفي قعره، فإن العيون لا تراه يكون مستتراً بهذا البئر، وهكذا في الحديث: كأنهما غيايتان [2]، فما يستر الإنسان من سحاب ونحو ذلك يقال له غياية وغيابة، قال قتادة: لا بناء ولا شجر.

وأما من قال في معنى قوله - تبارك وتعالى -: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً أنها تُخرج ما فيها من الأجداث والكنوز فلا تدل عليه هذه الآية، وإنما تدل عليه آيات أخرى، كقوله: وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [سورة الانشقاق:4]، وقوله: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [سورة الزلزلة:1-2] وإذا أخرجت أثقالها أخرجت ما فيها من الموتى، وأخرجت ما فيها من الكنوز.

وقوله: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا أي: وجمعناهم الأولين منهم والآخرين فلم نترك منهم أحداً، لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ[الواقعة:49-50]، وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103].

  1. رواه ابن حبان في صحيحه (9/164)، برقم: (3853)، وابن خزيمة (4/263)، برقم: (2840)، وأبو يعلى في مسنده (4/69)، برقم: (2090)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/497)، برقم: (3774).
  2. رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (1/553)، برقم: (804).