الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [سورة الكهف:49] أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا أي: لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر، إِلا أَحْصَاهَا أي: ضبطها وحفظها.

قوله: وَوُضِعَ الْكِتَابُ يحتمل أن يكون جنس الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال، أعمال العباد والذنوب والطاعات وسائر الأعمال التي يعملونها، ويحتمل أن يكون المراد كتاب كل إنسان، فكل إنسان يعطى الكتاب الذي يخصه قد كتبت فيه أعماله الصغار والكبار، كما قال الله - تبارك وتعالى -: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6]، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله وآخذٌ كتابه من وراء ظهره، كل بحسب حاله وعمله، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49] هذه قرينة تدل على أن المراد بالكتاب هنا كتاب الأعمال الذي يخص كل واحد؛ لأنه حينما يطلع عليه ويرى فيه هذه الأمور الدقاق الصغار والكبار، فكل إنسان يجد أعماله حاضرة حينما يطلع على كتابه الذي دونت فيه سائر الأعمال، حتى قال ابن عباس - ا -: إن الملَك يكتب كل شيء، حتى أكلتُ وشربتُ وذهبت وجئت، ثم بعد ذلك يُمحى ما لا يترتب عليه الثواب والعقاب، الله يقول: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، وهذا للعموم، وبعضهم يقول: هذا من العام المراد به الخصوص، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  [سورة ق:18] يعني: مما يتصل به الثواب والعقاب.

وقوله: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا أي: من خير وشر، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا.. [آل عمران:30] الآية، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.

روى الإمام أحمد عن أنس عن النبي ﷺ قال: لكل غادر لواء يومَ القيامة يعرف به[1]، أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان[2].

وقوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً، ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويُخلَّد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47] إلى قوله: حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] والآيات في هذا كثيرة.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله - ا - يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي ﷺ، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رَحْلي، فسرت عليه شهراً، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشُر الله الناس يوم القيامة - أو قال: العبادَ - عُرَاةَ غُرْلاً بُهْماً، قلت: وما بُهْماً ؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله حفاة عُراة غُرْلاً بُهْماً ؟ قال: بالحسنات والسيئات[3].

وعن شعبة عن العوام بن مُزَاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان أن رسول الله ﷺ قال: إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة[4]، رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أُخر، وقد ذكرناها عند قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47]، وعند قوله تعالى: إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[الأنعام:38].  

  1. رواه البخاري، كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت فقضي بقيمة الجارية الميتة ثم وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمنا(6/2555)، برقم:(6565)، ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر(3/1361)، برقم: (1737).
  2. جاء عند البخاري، كتاب الأدب، باب ما يدعى الناس بآبائهم (5/2285)، برقم: (5824) بلفظ: ( إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان )، وجاء عند مسلم، كتاب الجهاد والسير باب تحريم الغدر (3/1359)، برقم: (1735)، بلفظ: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان). ولهما من حديث ابن عمر.وجاء عند مسلم،  كتاب الجهاد والسير،  باب تحريم الغدر، (3/1361)، برقم: (1738) من حديث أبي سعيد : عن النبي ﷺ قال: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة).   
  3. رواه الإمام أحمد (25/431)، (16042)، وقال محققو المسند: إسناده حسن.
  4. مسند أحمد (1/542)، برقم: (520)، قال محققو المسند: حسن لغيره، وإسناده ضعيف.