وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً، يقول تعالى منبهاً بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطاف رزقه غذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة.
اسْجُدُوا لآدَمَ أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28 - 29]، وقوله: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - ا – عن رسول الله ﷺ أنه قال: خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم[1]، فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة.
ونبه تعالى هاهنا على أنه مِنَ الْجِنِّ أي: إنه خُلِق من نار، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [سورة الكهف:50] يقول الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور".
يشير إلى أن العلة من عدم سجود إبليس لآدم أن أصله قد خانه، فأصله كان من الجن، فحمله أصله على عدم السجود، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فهم مطيعون لله ، ووجه ذلك: أن الوصف الذي يذكر مع الحكم يدل على أنه هو العلة فيه، وهذا الذي يسمى بدلالة الإيماء والتنبيه، أن يقرن الحكم بوصف، لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً عند العقلاء أو عند السامعين، كما في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [سورة الكهف:50] فعلة السجود هو أمر الله ومنه قولك سها فسجد، فعلة السجود السهو، وغفل فعصا فسبب المعصية الغفلة.
قوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ [سورة الكهف:50] فسق أي: فخرج، والفسق هو الخروج عن الطاعة وأصله مطلق الخروج في كلام العرب كما يقال: فسقت الفأرة من جحرها، يعني: خرجت للإفساد، والفاء هنا تفيد التعليل، فعلة خروجه عن أمر الله أنه كان من الجن، وهذا توجيه لكلام ابن كثير – رحمه الله -.
ولا شك أن الكبْر كان سببا لعدم سجوده، وقد أخبر الله عنه أنه قال: أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة ص:76]، وهذا لا ينافي ما ذُكر، فقد استكبر لأن أصله خانه فلو كان من الملائكة فهم لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، أما غيرهم ففيهم الشهوات والأوصاف التي قد تحملهم على الذنوب والمعاصي.
قال: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [سورة الكهف:50]، قال ابن كثير – رحمه الله -: "قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل البشر".
والآية مصرحة بهذا، ولربما كان الجمهور من العلماء يقولون: إن أصل إبليس من الملائكة، وإن اختلفوا في توجيه ذلك، ويستدلون على هذا بأن عامة الآيات التي وردت في ذلك الله - تبارك وتعالى - استثناه منهم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [سورة الكهف:50]، قالوا: والأصل في الاستثناء أنه متصل، ومعنى الاستثناء المتصل أن المستثنى من جنس المستثنى منه، بخلاف المنقطع فإن المستثنى لا يكون من جنس المستثنى منه، فالذين يقولون إنه من الملائكة يقولون: الله يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فهو داخل معهم في الأمر بالسجود، فهو منهم، والله استثناه منهم، والأصل في الاستثناء الاتصال.
وقد قال بعض أهل العلم إنه كان خازن الجنان، وقال بعضهم إنه من قبيلة من الملائكة يقال لها الجن، وأن ذلك هو المراد بقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [سورة الصافات:158] وهم قالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وعلى كل حال كل هذا لا دليل عليه، وهو مبني على روايات إسرائيلية، فظاهر القرآن لا يصح العدول عنه إلى معانٍ خفية إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ولا يوجد دليل واضح على أن إبليس من الملائكة، والله أخبر عنه أنه قال: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة ص:76]، والنبي ﷺ ذكر أن الملائكة خلقوا من نور وأن الجن خلقوا من مارج من نار.
فهذا كله يدل على أن إبليس ليس من الملائكة وإنما هو من الجن، وهذا الذي تدل عليه ظواهر النصوص، والله تعالى أعلم، ودخول إبليس في الأمر اسْجُدُواْ لآدَمَ لأنه كان مع الملائكة ومن جملتهم، ومخالطا لهم، وليس المراد أنه كان منهم.
وقوله: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: فخرج عن طاعة الله فإن الفسق هو الخروج، يقال فَسَقت الرُّطَبة: إذا خرجت من أكمامها، وفسقت الفأرة من جُحْرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد.
ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي.. الآية، أي: بدلاً عني؛ ولهذا قال: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً.
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] إلى قوله: أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62].
يقول - تبارك وتعالى -: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة يــس:60-61].
وفي هذه السورة يقول الله - تبارك وتعالى -: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي [سورة الكهف:50] فإذا قلنا بأن إبليس هو أبو الجن فذريته هم الشياطين.
في هذه الآية كأن الله يقول بأن إبليس عادى ربه - تبارك وتعالى - ووقع ما وقع بسبب أنه امتنع من السجود لأبيكم آدم، فطرده الله من رحمته، فكيف تتخذونه ولياً توالونه وتطيعونه وتكونون من أتباعه وحزبه وتتركون أمر الله - تبارك وتعالى - الذي خلقكم ورزقكم، وكرمكم هذا التكريم؟ حيث أمر إبليس أن يسجد لأبيكم آدم، والنعمة التي تكون على الآباء تلحق الأبناء كما هو معروف؛ ولهذا امتن الله على بني إسرائيل كثيراً: وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة الأعراف:141] والذين نجوا هم آباؤهم.
ويقول الله – تبارك وتعالى -: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:57]، كل ذلك وقع لآبائهم، فالمنة التي تقع للآباء تلحق الأبناء، كما أن المذمة التي تقع على الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72]، وقوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، فكل ذلك وقع لآبائهم.
فمن أعجب شيء أن يطرد إبليس من رحمة الله، بسبب الامتناع من السجود لآدم ثم بعد ذلك تأتي هذه الذرية، ويعبدونه ويطيعونه ويتخذونه ولياً من دون الله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة (4/2294)، برقم: (2996).