وقوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي: فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم.
وقوله: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه.
العين تطلق على ينبوع الماء في اللغة، والينبوع هو الماء الكثير، ومن ثم قال بعض أهل العلم: يصح إطلاقه على البحر بهذا الاعتبار، أي الماء الكثير، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وإذا قلنا: بمعنى حارة، أو بمعنى حمئة أي متغيرة كما سيأتي، قالوا: فإن قاع البحر متغير وأسود، فلما وصل إلى أقصى المغرب فإن وراءه البحر المحيط، محيط الأطلسي، فالذي يقف على شاطئ البحر يرى الشمس إذا غابت كأنها تقع في البحر، فمن فسره بالبحر - كما قال ابن كثير هنا - قال: هذا هو المراد، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وصل إلى نهاية اليابسة في الغرب فوقف على البحر فرأى الشمس وهي تغرب كأنها تقع في هذا البحر، ومن فسره بما هو أخص من هذا أن العين هي ينبوع الماء المعروف، وليس المقصود أن جرم الشمس يقع في هذا المكان، وإنما ما يراه الناظر في الماء من انعكاس صورة الشمس، لكن هذا قد يرد عليه شيء من الإشكال، إلا إن كان شيئاً كثيراً بحيث يقف الإنسان دونه فيرى الشمس وهي تغرب كأنها تنزل فيه، أما من يقف على عين ليست بكثيرة المياه فإنه قد لا يرى مثل هذا، الشمس تغرب بعد ذلك، لقرب اليابسة بعدها، وبعضهم يقول غير هذا، ولكن ليس المقصود في هذه الأقوال جميعاً أن نفس الشمس تنزل في هذه العين حقيقة؛ لأن الشمس كما هو معروف تجري وتدور، فإذا غابت من جهة الغرب ظهرت على الجهة الأخرى وهكذا، ثم ترجع، وتدور، والشمس تجري لمستقر لها، ولهذا يقول ابن كثير - رحمه الله -: انتهى إلى ساحله، كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه، لا تفارقه، بمعنى أنها في منزلتها في السماء، ما تنزل عنها ثم تنحدر وتقع في العين أو في البحر، وإنما هي في نفس مستوى الارتفاع، لكن يراها الناظر من بعيد كأنها نزلت في الماء، كأنها نزلت في البحر إذا وقف الإنسان على الشاطئ، هذا المقصود مما يتناهى عنده النظر، والأرض كروية فإذا ذهبت الشمس من الناحية الأخرى يراها الإنسان كأنها تنزل في الماء.
والحمِئة مشتقة - على إحدى القراءتين - من "الحَمَأة" وهو الطين، كما قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
يعني وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، أي: طين، الطين المتغير، متغير اللون ومتغير الرائحة يقال له ذلك، وهناك قراءة متواترة قرأ بها ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي حامية، وقرأ الآخرون بـحَمِئَةٍ، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي: منتنة متغيرة، والقراءة الأخرى وجدها تغرب في عين حامية يعني: حارة، وإذا كان للآية قراءتان وكل ذلك يرجع إلى ذات واحدة فإن هذا يكون من باب الزيادة في صفة تلك الذات، هنا ذات واحدة وهي العين، تارة قال: حَمِئَةٍ، وفي القراءة الأخرى: حامية، وتنوع القراءات ينزل منزلة تعدد الآيات، فإن كان ذلك يعود إلى ذات واحدة فهو من باب الزيادة في الصفة لها، أو الحكم لهذه الذات، كما قال الله في حكم الأرجل في الطهارة في الوضوء: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [سورة المائدة:6]، وفي القراءة الأخرى وَأَرْجُلَكُمْ، فهنا القراءتان تعودان إلى ذات واحدة وهي الرِّجل، فهذا من باب الزيادة في الحكم أو الصفة لهذه الذات، فالرِّجل تارة تكون ممسوحة، وتارة تكون مغسولة، فقراءة المسح – أي بالجر - إذا كان على الرجل الجورب أو نحو هذا، وقراءة النصب تكون إذا كانت الرجل مجردة من ذلك، يعني تدل على حكم الغسل، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222]، وفي القراءة الأخرى بالتشديد وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يطَّهرن، يعني يتطهرن، فدلت القراءة الأولى يَطْهُرْنَ على انقطاع الدم، ودلت القراءة الثانية على الاغتسال، وكل ذلك يرجع إلى ذات واحدة وهي المرأة، فيكون من باب زيادة الحكم لهذه الذات، فهنا نفس الشيء، حَمِئَةٍ وحامية، فكل هذه الأوصاف حاصلة فيها، وقراءة حَمِئَةٍ هي التي نقرأ بها وهي قراءة أهل المدينة، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، قراءة حفص عن عاصم وغير هؤلاء السبعة وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ مثل القراءة التي نقرأ بها.
كما قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ [سورة الحجر:28] أي: طين أملس. وقد تقدم بيانه.
وقوله: وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا أي: أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.
أمة عظيمة: هذا كله مُتلقى عن بني إسرائيل، لكن يمكن أن يؤخذ هذا من جهة اللفظ، لكنه لا يقطع به؛ لأن التنكير أحياناً يكون للتعظيم، أحياناً، كقوله تعالى مثلا: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10]، أي تجارة عظيمة، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ [سورة الصف:13] أي: نصر عظيم من الله، وتارة يدل على التحقير، التنكير أحياناً يدل على التحقير، وتارة لا يدل على هذا ولا هذا، وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20] جاء رجل، والبعض قد يتكلف في هذا فيقول: {وَجَاء رَجُلٌ} أي: رجل عظيم، مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى، ولا حاجة لمثل هذا، إنما هو إخبار أن رجلاً جاء من أقصى المدينة يقول كذا وكذا.
و
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى - في كتابه فتح القدير:
واختلفوا في ذي القرنين اختلافاً كثيراً، فقيل: هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها، اليوناني باني الإسكندرية، وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح، وقيل: هو ملك اسمه هرمس، وقيل: ملك اسمه هردبس، وقيل شاب من الروم، وقيل: كان نبياً، وقيل: كان عبداً صالحاً، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبأ.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما كان على عهد إبراهيم ، والآخر كان قريباً من عيسى ، وقيل: هو أبو كرب الحميري، وقيل: هو ملك من الملائكة، ورجح الرازي القول الأول، قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الإسكندر اليوناني، كما تشهد به كتب التاريخ، قال: فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر، قال: وفيه إشكال؛ لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق؛ وذلك مما لا سبيل إليه.
قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً، فلعله أخذ منهم ما صفا، وترك ما كدر، والله أعلم.
أرسطاطاليس: يعني أرسطو.
ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما اثنان كما قدمنا ذلك، وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان وزيره الخضر، وأما الثاني: فهو الإسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره.
ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية.
وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال: وإنما بينا هذا - يعني: أنهما اثنان -؛ لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير، وفساد كثير، كيف لا؟! والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً، ووزيره الخضر، وقد قيل: إنه كان نبياً، وأما الثاني: فقد كان كافراً ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من هذا؟! انتهى.
قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه، والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم، لا كما ذكره الرازي، وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ، وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث - إن شاء الله -.
وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، وقيل: إنه كان له ضفيرتان من شعر، والضفائر تسمى قروناً، ومنه قول الشاعر:
فلثَمتُ فاها آخذاً بقرونها | شُرْبَ النزيف ببرْد ماءِ الحشرج |
والحشرج: ماء من مياه العرب، وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل: كان له قرنان تحت عمامته، وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر، وقيل: إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل: لأنه أُعطي علم الظاهر والباطن، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه كان لتاجه قرنان.
وقال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [سورة الإسراء:36] وقال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] هذا كله من كذب بني إسرائيل، وتحريفهم، فيأتون بالأقوال المتناقضة، ولو أن الإنسان وقف عند حد ما يعلم ما كان قال واحد: إنه ملك، والثاني يقول: نبي، والثالث يقول: كافر، وهكذا هذا التناقض في سبب التسمية: أخذ بقرني الشمس، أو برؤيا، أو كان له ظفيرتان، أو من جهة نسبه، أو من جهة كذا، هذه الأقوال لا يمكن أن تتفق، ولا حاجة بنا لها؛ لكن أردت أن أذكرها كنموذج للجرأة والكذب عند هؤلاء الإسرائيليين، وتلفيق الأخبار، واختلاق مثل هذه الأمور.