الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِىٓ إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، قري عينا القُر هو البرد، ويقال: قرة عينه يعني بردت، فدموع الحزن ساخنة، ويقولون: دموع الفرح باردة، فقرة العين بمعنى الرضا، والفرح، والسرور، والبهجة، بخلاف ما إذا قلت: دعوت عليه بأن الله يُسخن عينه، أو تكون عينه ساخنة؛ فمعناه أنه يحزن، ولذلك يقال: أثلج صدره بكذا يعني حينما يمتلأ القلب بالحبور، والفرح، والسرور ونحو ذلك يجد برده، أما المصيبة فيجد حرها.

وفي قوله: قال عمر بن ميمون: "ما من شيء خير للنفساء من التمر، الرطب، ثم تلا هذه الآية" يعني استنباط لطيف مع أنها كانت في بلاد الشام، وابن القيم - رحمه الله - لما ذكر الرطب، وفوائد الرطب؛ أجرى مقارنة بين التمر، وبين التين والزيتون؛ أيهما أنفع؟ ولماذا أقسم الله بالتين، والزيتون؟ هل التين والزيتون أفضل؟ العلماء لهم كلام في هذا، ومقارنات، وأقوال، بعضهم يفضل هذا، وبعضهم يفضل هذا، والقسم لا يكون إلا بمعظم، فابن القيم توسط بين القولين فقال: إن الرطب والتمر أفضل في البلاد الحارة، وأما البلاد الباردة فالأنفع هو التين، والزيتون هكذا ذكر، لكن على هذا الاستنباط فإن هذا يدل على أن الرطب أفضل إلا إذا قال ابن القيم - رحمه الله - هذا في قضية خاصة وهي للنفساء فقط، وليس على سبيل الإطلاق، فهذا مثل الدواء، فيكون للنفساء في أي مكان - والعلم عند الله -.

"قال أنس بن مالك في قوله: إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً قال: صمتاً، وكذا قال ابن عباس - ا - والضحاك، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام، والكلام؛ نص على ذلك السدي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وقال عبد الرحمن بن زيد: "لما قال عيسى بن مريم: أَلاّ تَحْزَنِي، قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج، ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا، قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً ۝ فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً قال: هذا كله من كلام عيسى لأمه"، وكذا قال وهب".

قوله: إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَنِ صَوْماً المقصود بالصوم هنا الصوم عن الكلام، وأن هذا كان جائز في شريعتهم، وأما في هذا الشريعة فلا يشرع ذلك، ولا يتعبد لله به، وتعرفون الخبر الثابت عن النبي ﷺ، الرجل الذي يقال له "أبو إسرائيل" لما رآه النبي ﷺ وهو يخطب وقفاً في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: إنه نذر أن يصوم، ويقف، ولا يجلس، ولا يستظل، فأمره أن يجلس، وأن يستظل ...[1].

فلا يشرع الصمت قصداً على سبيل القربة، والتعبد؛ لهذا الحديث، لأن الله لا يتعبد له بذلك، ومما يفسر ذلك أن المقصود بالصوم هنا الصوم عن الكلام ما جاء في رواية أبي وهي ليست متواترة، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا صمتاً، صوماً صمتاً تفسير، وجاءت هذه القراءة عن أنس، وجاء عن أنس: "صوماً وصمتاً"، فالقراءة الثانية محتملة أن تكون الواو عاطفة عطف تفسير، ويحتمل أن تكون عطف مغايرة بحيث أن تصوم عن الطعام، والشراب، وأيضاً عن الكلام، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، ومما يدل على أنها قصدت الكلام أنها أشارت إليه فلم تتكلم - والله أعلم -.

وقوله: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا مفهوم المخالفة أنها تكلم غير الإنسي، فتكلم مثلاً الملك.

لو نذر أحد ألا يتكلم لا يفي بنذره سواء قلنا بأن النذر كما يقوله كثير من أهل العلم إنما يكون في أمر على سبيل القربة، ولا يكون في مباح فضلاً عن المكروه، أو الحرام، فمن نذر في غير قربة فليس بشيء، ومن يقول: إن الشيء المباح يدخل في النذر كأن يقول الإنسان: أنا عليّ نذر إذا نجحت أن أعمل حفلة في المدرسة مثلاً، حفلة لأصدقائي؛ ما يقصد التقرب، فبعض أهل العلم يقول: يلزمه هذا، لكن الكلام في النذر يعتبر فيه بدعة، ومخالفة، أمر غير مشروع؛ فهذا لا يفي به، لكن الخلاف بين أهل العلم هل يجب عليه الكفارة أو لا يجب؟

فمن أهل العلم كالإمام مالك، وطائفة من يقول: أنه لا يجب عليه؛ لأن النبي ﷺ لم يذكر الكفارة، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه؛ لأنه لم يقل: وليكفر عن يمينه، وبعضهم يقول: حال هذا حال سائر النذر، بأن فيه كفارة يمين أخذاً من إطلاق ذلك في الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ.

  1. رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، برقم (6326).