الإثنين 21 / ذو القعدة / 1446 - 19 / مايو 2025
فَٱخْتَلَفَ ٱلْأَحْزَابُ مِنۢ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره، ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود - عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله، وقال آخرون: بل هو ابن الله، وقال آخرون: ثالث ثلاثة، وقال آخرون: بل هو عبد الله، ورسوله، وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون، وابن جريج، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف".

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة مريم:36]، لما خاطبهم بذلك وقع الاختلاف، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ، فبعضهم يقول: إن "من" هنا زائدة إعراباً يعني اختلف الأحزاب بينهم يعني فيما بينهم، اختلفوا في شأن عيسى - عليه الصلاة والسلام -، والمقصود بالأحزاب هم الذين أشار إليهم الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حيث إن عيسى ﷺ بعث إلى بني إسرائيل، فلما جاء - عليه الصلاة والسلام -، وخاطبهم بهذا وهو في المهد؛ انقسموا فيه إلى طوائف، فطائفة قالوا: ابن زنا وهم الذين بقوا على اليهودية، وطائفة آمنت به، والذين ألَّهوه وقالوا: إنه الله، أو أنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة؛ هذا وقع بعد ذلك، فما حصل هذا الغلو إلا بعد هذا، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ الفاء تدل على التعقيب المباشر، وأن المباشرة فيها في كل شيء بحسبه، فوقع الاختلاف بينهم مباشرة بعد ما جاءت مريم به، وسمعوا هذا الصبي يتكلم في المهد - وهذه آية ومعجزة - ومع ذلك اليهود قالوا فيه ما قالوا، فهذا الاختلاف وقع منذ البداية، لكن بعض هذه الطوائف المختلفة فيه وقع لها مقالة وانحراف بعد ذلك بمدة، يعني الذين ألَّهوه، أو غلوا فيه، أو نحو ذلك المعروف أنه وقع لهم بعد رفع المسيح - عليه الصلاة والسلام -.

وتفرقت أقوالهم في هذا فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ يقول: أي: اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره، ووضوح حاله، ويقول: فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود - عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى إنما تكلم الله وهذه الطائفة يقال لها اليعقوبية، وهي طائفة معروفة عند النصارى، لو قرأتم في كتاب الملل والنحل للشهرستاني ستجدون هذه الطوائف، ومعتقداتها، وقال آخرون وهم النسطورية: بل هو ابن الله، وقال آخرون وهم المَلْكية: ثالث ثلاثة، وقال آخرون وهم أهل التوحيد: بل هو عبد الله، ورسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهؤلاء لم يكن قولهم هو الذي انتشر وغلب، ولما حصل الاجتماع بين هذه الطوائف لمناقشة شأن المسيح - عليه الصلاة والسلام - في مجمع يقال له "مجمع نيقيا" الذي اعتمد في ذلك هو أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - ثالث ثلاثة، وهذا هو الذي تبناه ملك الرومان لما دخل في النصرانية بعد المسيح بمدة طويلة، وصارت عقيدة النصارى في الغالب هي هذه العقيدة، وبقي أهل الإيمان والتوحيد يُستضعفون إلى أن بعث الله محمدًا ﷺ، فأظهر الله التوحيد، وأذل الله اليهود، والنصارى.

على كل حال هذه أقوال الذين اختلفوا فيه كما قال الله : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ [سورة النساء:157]، وهنا قال الله - تبارك وتعالى -: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، إذا فسر "يمترون" بأنه يجادلون، أو فُسر بالمعنى الآخر أي: يقع لهم فيه المرية، والشك، كلاهما محتمل.

وعلى كل حال الآية الأخرى: لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ الله يخبر عن مكنونات نفوسهم، وأن النصارى ليس لهم ثقة باعتقادهم، فهم في ريب، ومرية، وشك، وهذا أمر في غاية الأهمية نحتاج إليه؛ لأن هؤلاء ملؤوا الأرض دعوة إلى باطلهم بكل وسيلة مستطاعة، فيُنَصِّرون المسلمين، ويُنَصِّرون غير المسلمين، فمعرفة مثل هذه الأشياء وهذه الأمور الخفية التي يخبر الله عنها هي في غاية الأهمية لمن أراد أن يرد على النصارى، ويبين باطلهم.

"وقوله: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ تهديد، ووعيد شديد لمن كذب على الله، وافترى، وزعم أن له ولداً، ولكن أنظرهم - تعالى - إلى يوم القيامة، وأجَّلهم حلماً، وثقة؛ بقدرته عليهم، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه كما جاء في الصحيحين: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[1] ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102].

وفي الصحيحين أيضاً عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم، ويعافيهم[2] وقد قال الله - تعالى -: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة الحج:48]، وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [سورة إبراهيم:42]، ولهذا قال هاهنا: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي يوم القيامة.

وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل[3]".

قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال: أي يوم القيامة، هو لا شك أن اليوم العظيم هو يوم القيامة، وقوله: مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ بعض أهل العلم يقول: أي من شهود يوم عظيم، مشهد بمعنى شهود، وهذا الذي اختاره ابن جرير وطائفة من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع -، من شهود يوم القيامة لما يكون فيه من الأهوال، والأوجال، وبعضهم يفسره: من مشهد يوم عظيم أي: من مكان الشهود فيه، والأول أقرب من هذا، وبعضهم يفسره بقول أبعد من هذين وهو أن مشهد بمعنى شهادة: من شهادة يوم عظيم، على كل حال الأقرب - والله أعلم - أن المقصود بذلك من مشهد يوم عظيم أي: من شهود يوم عظيم، يعني: حضور، تقول: فلان شهد الوقعة بمعنى حضرها.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة هود (4/1726) برقم: (4409).
  2. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى (5/2262) برقم: (5748) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لا أحد أصبر على أذى من الله (4/2160) برقم: (2804).
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم... (3/1267) برقم: (3252) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (1/57) برقم: (28).