الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مُوسَىٰٓ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ۝ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ۝ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [سورة مريم:51-53] لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل، وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم، فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: "يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس"، وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [سورة الأعراف:144]".

الآن قراءة الكوفيين وهي قراءة عاصم، وحمزة، والكسائي مخلَصاً بالفتح أي مصطفى إن الله استخلص موسى - عليه الصلاة والسلام -، واصطفاه من بين أهل زمانه، وأخبر أنه اصطفاه على الناس برسالته، وبكلامه له جميعاً، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75] يعني يختار، فهذا معنى هذه القراءة بفتح مخلَصا، والقراءة الثانية أيضاً قراءة بقية السبعة مخلِصا يعني متجرداً لله - تبارك وتعالى -، يريد وجهه لا يريد شيئاً، ولا يلتفت إلى شيء سواه قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي [سورة الزمر:14]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة البينة:5] فهذا هو الذي أمر به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأمروا به أتباعهم.

فموسى - عليه الصلاة والسلام - كان مخلِصاً وكان مخلَصاً، ومن قواعد التفسير أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى، وتعودان على ذات واحدة؛ فإن ذلك يكون من تعدد الأوصاف لتلك الذات، فموسى - عليه الصلاة والسلام - كل ذلك يرجع إليه، فتكون القراءة الأولى تصفه بالإخلاص، والقراءة الثانية تصفه بأنه مخلص أي مصطفى اصطفاه الله على الناس.

"وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً جمع الله له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلوات الله عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين -".

قوله:  وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً  في موسى - عليه الصلاة والسلام -، ولما ذكر الله - تبارك وتعالى - إسحاق ويعقوب قال: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا، ولما ذكر إسماعيل قال: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا، ولما ذكر بعد ذلك إدريس - عليه الصلاة والسلام - قال: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [سورة مريم:56]، ولم يذكر الرسالة فيفهم من هذا أن من لم تذكر رسالتهم لا في هذه السورة، ولا في موضع أخر؛ أنه يكون نبياً وليس برسول، وهذا يبين أن قول من قال بأن كل الذين ذكروا في القرآن رسل فيه نظر.

ويبين غلط من قال: بأن النبي هو الرسول، وأن التفريق بين النبي والرسول إنما هو من قول بعض المتأخرين، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، هذه الآيات تدل على هذا، والله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52] من رسول، ولا نبي، ففرق بين هذا وهذا، وفي حديث أبي ذر ذكر عدد الأنبياء[1]، وعدد المرسلين، وكل هذا يدل على التفريق.

وفي كتب التفسير يذكر المفسرون أقوالاً يفرقون فيها بين الرسول والنبي مثل تفسير ابن جرير، والدر المنثور، وكذلك أيضاً يوجد في بعض كتُب من كتَب في الفروق مثل أبي هلال العسكري أوائل القرن الرابع الهجري وغيره، وليس أول من جاء به شيخ الإسلام، أو أنه ما عرف إلا في القرن السابع الهجري، أو الثامن الهجري؛ ليس بصحيح، وإن اختلفوا في الفرق بين النبي وبين الرسول، فشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرى أن النبي أرسل أو نبأه الله فهو يدعو إلى شريعة من قبله في قومه، وأما الرسول فيكون أرسل إلى قوم من الكافرين يدعوهم إلى الإسلام، فيوسف - عليه الصلاة والسلام - كان رسولاً؛ لأنه كما أنه نبي لبني إسرائيل فقد أرسل أيضاً للفراعنة؛ لأن مؤمن آل فرعون قال: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [سورة غافر:34]، وإسماعيل - عليه الصلاة والسلام - ذكر الله له الوصفين هنا أنه رسول، وأنه نبي، فيكون أرسل إلى جرهم الذين نزلوا مكة وهكذا، هذا على قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

وأما المشهور الذي تتداوله الألسن يقولن النبي هو الذي أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه؛ فهذا باطل تماماً، هذا مثل القول المشهور بأن آخر آية نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة:3] وهذا من أبطل الأقوال، أو قول من يقول بأن المعجزة هو أمر خارق للعادة يقصد به التحدي، على سبيل التحدي، هذا على اشتهار هذا القول؛ لأنه قول المتكلمين من الاشاعرة ونحوهم.

فهذا التفريق غير صحيح، وبعضهم يقول الرسول هو الذي أنزل إليه كتاب، والنبي لم ينزل إليه كتاب، وبمعنى أنه جاء بشريعة جديدة، والنبي لم يأت بشرع جديد - والله أعلم -.

  1. عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر هل صليت؟، قلت: لا، قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت، ثم جلست، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شر شياطين الإنس، والجن، قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال: نعم، قلت: يا رسول الله! الصلاة؟ قال: خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر قال: قلت: يا رسول الله! فالصوم؟ قال: قرض مجزئ، وعند الله مزيد، قلت: يا رسول الله! فالصدقة؟ قال: أضعاف مضاعفة، قلت: يا رسول الله! فأيها أفضل؟ قال: جهد من مقل، أو سر إلى فقير، قلت: يا رسول الله! أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: نعم نبي مكلم، قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر، جماً غفيراً، وقال مرة: خمسة عشر، قال: قلت: يا رسول الله آدم أنبي كان؟ قال: نعم، نبي مكلم، قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] رواه أحمد في المسند برقم (21546)، وقال محققوه: إسناده ضعيف جداً؛ لجهالة عبيد بن الخشخاش، ولضعف أبي عمر الدمشقي، والحاكم في المستدرك برقم (3039)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني مختصراً في تحقيقه مشكاة المصابيح برقم (5737).