الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَٰمًا ۖ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً أي: هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا، وقوله: إِلاَّ سَلاَماً استثناء منقطع كقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ۝ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [سورة الواقعة:25-26]".

الاستثناء المنقطع عرفناه، ومر في مواضع متعددة كقوله - تبارك وتعالى -: مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] اتباع الظن ليس من قبيل العمل، وسبق في الكلام على قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34]، وإبليس ليس من جنس الملائكة وهكذا في قوله: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ۝ إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [سورة الليل:19-20] وذلك ليس مما قبله، وهكذا في قوله: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [سورة الدخان:56] فالموتة الأولى ليست من جنس الموت المذكور، فالموتة الأولى ليست في الآخرة، وهكذا أيضاَ في مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [سورة النساء:29]، التجارة ليست من أكل الأموال بينهم بالباطل إلى غير ذلك؛ قد مضى مراراً، على كل حال في قوله - تبارك وتعالى -: إِلاَّ سَلاَماً أحسن ما يفسر به - والله تعالى أعلم - هو ما ذكر بعده إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ومعنى القيل: القول، سلاماً سلاماً، وذلك أن الله يسلم عليهم كما قال الله - تبارك وتعالى -: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يس:58]، وتسلم عليهم الملائكة، وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ۝ سَلاَمٌ عَلَيْكُم [سورة الرعد:23-24]، وهكذا يسلم بعضهم على بعض كما قال الله - تبارك وتعالى -: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ  [سورة الأحزاب:44] تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [سورة إبراهيم:23] يحيي بعضهم بعضاً، وما يُحيَّون به هو هذا السلام، وبعضهم نظر إلى معنى السلام فقال: السلام هو اسم جامع للخير، فهو متضمن للسلامة، وهذا يعني أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم أو شيئاً يزعجهم، وإنما يسمعون ما يحصل به لهم اللذة، والراحة، والسرور، والحبور، والطمأنينة وما أشبه هذا.

والذي تدل عليه الآيات في القرآن أنهم يسمعون السلام الذي هو التحية، وذلك ليس من اللغو في شيء، فهذا من قبيل الاستثناء المنقطع، واللغو كل كلام باطل لا قيمة له، كل كلام لا نفع فيه، ولا طائل تحته؛ فهو لغو، فيدخل فيه الكلام المحرم، ويدخل فيه أيضاً الكلام الذي لا ينتفع به، وهذا يدل على أن من النعيم، وراحة القلب؛ أن يعرض الإنسان، وينزه سمعه، وقلبه؛ عن سماع الكلام الباطل، وعن سماع ما لا ينفع، لا يشتغل بما لا ينفع، ولا يرخي سمعه لكل من تكلم، والله يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [سورة الإسراء:36].

"وقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً أي: في مثل وقت البكرات، ووقت العشيات لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار كما روى الإمام أحمد[1] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخطون فيها، ولا يتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب، والفضة، ومجامرهم الألوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة، وعشياً أخرجاه في الصحيحين[2].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة، وعشياً تفرد به أحمد[3]، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً قال: مقادير الليل، والنهار".

قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً قال الضحاك عن ابن عباس قال مقادير الليل، والنهار، يعني أن ذلك تقديراً باعتبار أنه لا يوجد شمس في الجنة، ولا يوجد فيها بكرة، ولا عشي، وإنما ذلك مقادير البكرة، والعشي؛ يأتيهم فيها رزقهم، وعلى كل حال العرب تعبر بهذا، فيقولون: بكرة، وعشياً، يأتيه في الغدو، والآصال، في البكور، والعشي، وما أشبه ذلك، يعني أن ذلك شيء يتعاقب، ويستمر، ويدوم، ويتكرر، وإن لم يقصدوا بذلك هذا الوقت بالذات، فيقولون: يأتي فلان في الغدو والعشي، أو في البكور والعشي، أي: أن مجيئه دائمٌ مستمر متكرر وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً أي: أن ذلك يحصل تكرره، وتتابعه؛ بلا انقطاع.

هكذا العرب تعبر عن هذا المعنى، والقول الآخر الذي ذكره هو مقارب لهذا أن هذا بهذا التقدير، أي: أوقات الغدو أو البكور، والبكور هو في أول النهار كما هو معلوم، والعشي ما يكون بعد الزوال.

قال الشنقيطي - رحمه الله - تعالى في كتابه "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": "وقوله في هذه الآية الكريمة: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً فيه سؤال معروف، وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة، والعشي، مع أن الجنة ضياء دائم، ولا ليل فيها، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:

الأول: أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن كقوله: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] أي قدرها شهر، وروي معنى هذا عن ابن عباس - ا -، وابن جريج وغيرهما.

الجواب الثاني: أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً، وعشاءً؛ فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم، وإن كان في الجنة أكثر من ذلك.

هذا معنى آخر أن هذه التعبير عن النعيم على طريقة العرب أن من وجد هذا وهذا فهو في سعة، ونعيم، ورغد، يقال: فلان يأتيه رزقه غدوة، وعشياً؛ يعني: مكفي.

الجواب الثالث: أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة، والعشي، والمساء، والصباح، كما يقول الرجل: أنا عند فلان صباحاً ومساءً، وبكرة وعشياً، يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.

الجواب الرابع: أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم، والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال، وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.

هذا الآن في الجنة اشتغال باللذات في الجنة، وبعد الاشتغال بها، لكن ما قبله أوضح منه.

الجواب الخامس: هو ما رواه الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة، قالا: "قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما يهيجك على هذا؟ قال: سمعت الله - تعالى - يذكر: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً، فقلت: الليل بين البكرة والعشي، فقال رسول الله ﷺ: ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح، والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله - تعالى - لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة انتهى"[4].
هذا لا يثبت.

  1. مسند أحمد بن حنبل: (13/ 520) برقم: (8198 )، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه البخاري كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3/1185) برقم: (3073)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم: (2834).
  3. مسند أحمد بن حنبل (4/220) برقم: (2390)، وقال محققوه: " إسناده حسن، ابن إسحاق حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح".
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (3/470)