في قوله - تبارك وتعالى -: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً الإيراث: الذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود أن الله - تبارك وتعالى - يدخلهم الجنة، ويسكنهم إياها، فذلك هو الإيراث، وكما نقول نحن بأن الله أورثنا الأرض، ويأتي الإيراث أيضاً بمعنى أن يحصل للإنسان ما كان لغيره كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [سورة الأحزاب:27].
وكذلك يقال المواريث بأن فلان قد ورث مال فلان، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن المذكور في الآية هو بهذا المعنى باعتبار أن ما يحصل لأهل الجنة إنما هو نوع من التوارث، مع أن أهل الجنة يسكنون، ويأتون إلى منازلهم في الجنة، لكنه نظر إلى أنهم يتوارثون منازل أهل النار في الجنة كما دل عليه الحديث.
كل واحد له منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار، وأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار التي في الجنة، فحملها على هذا المعنى، ولكن هذا لا يخلو من إشكال، وذلك أنه عبَّر عن إدخالهم الجنة، وسكناهم الجنة بالتوارث، وهذا التوارث الذي يحصل إنما هو لون من ألوان السعة التي تكون لأهل الجنة، وما يحصل لهم من العطاء، والنعيم، إضافة إلى ما يكون لهم ابتداء، يتوارثون أيضاً منازل أهل النار التي في الجنة.
فكيف يحمل عليه معنى هذه الآية، فلا يخلو من الإشكال، ولذلك عامة المفسرين يفسرونه بأنه دخول الجنة هو إيراثهم الجنة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يناقش هذا القول الذي أشرت ورجحه ابن جرير ويرده، وله كلام جيد في هذا.
قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً[1]:
"الإشارة في قوله: تلك إلى ما تقدم من قوله: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ... الآية، وقد بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته، وقد بيَّن هذا المعنى أيضاً في مواضع أخر كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1-2] إلى أن قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة المؤمنون:10-11]، وقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الآيات [سورة آل عمران:133]، وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا.. الآية [سورة الزمر:73]، وقوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43] إلى غير ذلك من الآيات.
ومعنى إيراثهم الجنة: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم، وسرور، قال الزمخشري في الكشاف: "نورث أي: نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى" انتهى.
وقال بعض أهل العلم: معنى إيراثهم الجنة أن الله - تعالى - خلق لكل نفس منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ أراهم منازلهم في النار لو كفروا، وعصوا الله؛ ليزداد سرورهم، وغبطتهم، وعند ذلك يقولون: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ [سورة الأعراف:43].
وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا، واتقوا الله؛ لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة الزمر:57].
ثم إنه - تعالى - يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، فيرثون منازل أهل النار في الجنة، وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول.
قال مقيده - عفا الله عنه، وغفر له -:
ذكر قول ابن جرير، والآن يرد عليه.
"قد جاء حديث يدل لما ذُكر من أن لكل أحد منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب؛ لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بأعمالهم، وتقواهم كما قد قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43]، ونحوها من الآيات، ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار.
والواقع بخلاف ذلك كما ترى، والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند[2]، والحاكم في المستدرك[3] من حديث أبي هريرة : كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني فيكون له شكر، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون عليه حسرة اهـ، وعلَّم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة، وقال شارحه المناوي: قال الحاكم صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح" اهـ.
على كل حال الإيراث يأتي بمعنى هذا وهذا، والأقرب - والله أعلم - أن يفسر هنا بمعنى إدخال الجنة، وسكنى الجنة، فهذا هو الأقرب في تفسيرها - والعلم عند الله -، وإن كان الإيراث يأتي بمعنى تحصيل الإنسان ما كان لغيره كالمواريث ونحو ذلك وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا [سورة الأحزاب:27].
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: (3/471-412).
- مسند أحمد بن حنبل: (16/ 382) برقم: (10653)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط البخاري".
- المستدرك على الصحيحين: (2/473) برقم: (3629).