"وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم:64-65].
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لجبرائيل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟، قال فنزلت: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ إلى آخر الآية، انفرد بإخراجه البخاري[1] فرواه عند تفسير هذه الآية.
وقال العوفي عن ابن عباس - ا -: "احتبس جبرائيل عن رسول الله ﷺ، فوجد رسول الله ﷺ من ذلك، وحزن، فأتاه جبريل، وقال: يا محمد وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ الآية".
فقوله تعالى: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ سبب نزول هذه الآية هو حديث ابن عباس - ا - في الصحيح أن النبي ﷺ قال لجبرائيل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت الآية، وأما الرواية الثانية التي من طريق العوفي فلا تصح يعني لم تنزل بسبب أن جبريل أبطأ عن النبي ﷺ، وقوله: وَمَا نَتَنَزّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبّكَ الذي عليه عامة المفسرين، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ؛ أن المقصود نزولهم إنما يكون بأمر الله لا من عند أنفسهم، فإذا أمرهم الله بالنزول نزلوا، فهم مطيعون لله - تبارك وتعالى -، متعبدون له لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6]، والمعنى الثاني الذي ذكرته الآية وهو أن المراد وما نتنزل إلا بأمر ربك أي إنهم إنما ينزلون بالوحي، يتنزلون بالوحي الذي يبلغونه إلى أنبياء الله - تبارك وتعالى -، وواضح الفرق بين المعنيين.
الأول: أن نزولهم إنما يكون عن أمر الله فلا ينزل من عند نفسه، فالنبي ﷺ يقول له: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا يقول: أنا لا أنزل من عند نفسي وإنما إذا أمرت بالنزول نزلت.
المعنى الثاني: أننا لا ننزل من أجل الزيارة؛ وإنما نتنزل بأمر الله يعني بما نحمله من رسالة، أو وحي، أو نحو ذلك، والذي عليه عامة المفسرين هو الأول، والذي قد يفهم من ظاهر الآية، أو يتبادر مع أن الآية؛ تحتمل المعنى الثاني - والله تعالى أعلم -.
قوله: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا يحتمل أن يكون المراد بذلك الجهات، والأمكنة، ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يرجع إلى الزمان، وأقوال المفسرين ترجع إلى هذين المعنيين، فمنهم من يقول: له ما بين أيدينا، وما خلفنا؛ أي من الجهات، والأمكنة، وبعضهم يقول: يعني ما بين السماء يعني الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي ورائنا، وما بين السماء والأرض؛ هذا كله يرجع إلى المكان، والجهة، ومن حمل ذلك على الأزمنة فبعضهم يقول: له ما بين أيدينا، وما خلفنا؛ أي من الأزمنة الماضية، والمستقبلة، وما بينهما أي الوقت الذي نحن فيه، وبعضهم يقول: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ما مضى من الأعمار، وما بقي منها، ومابين ذلك الوقت، أو الحالة؛ التي نكون فيها.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "المراد مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أمر الدنيا، وَمَا خَلْفَنَا أمر الآخرة، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ما بين النفختين، هذا قول أبو العالية وعكرمة إلى آخره"، وقيل: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ما يستقبل من أمر الآخرة، وَمَا خَلْفَنَا أي ما مضى من الدنيا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أي ما بين الدنيا والآخرة، يعني ما بقي من الدنيا إلى الآخرة ما نستقبله من الزمان دون الآخرة، يعني ما بين أيدينا ما يستقبل من الآخرة، وما خلفنا ما مضى من الدنيا، بقي المدة التي من لحظته إلى الآخرة، هذا وما بين ذلك، وهذا القول لعله أقرب الأقوال، وأوجه الأقوال، ولو قال قائل بأن الآية تحمل على الأعم من المعاني لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فيشمل الأوقات ما مضى، وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك من ساعتنا هذه إلى الآخرة، وكذلك أيضاً لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا من الجهات والأمكنة، فيحمل ذلك على معان، وهذا كله واقع، وصحيح، فإن ذلك كله لله - تبارك وتعالى -، والله أعلم.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [سورة مريم:64]، برقم (4454).