الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَىْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] بين به - تعالى - تناقضهم، وتباغضهم، وتعاديهم، وتعاندهم، كما روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ﷺ أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ فقال رافع بن حُرَيْملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى، وبالإنجيل.
وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك من قولهما: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113].

على كل حال هذه الرواية فيها ضعف، والمقصود أن الله عابهم على هذا، وهذه الآية يستعان بها في تفسير الآية السابقة، وهي قوله تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] فهي تدل على أن (أو) للتقسيم كما سبق، فهم يكفرون النصارى، والنصارى يكفرون اليهود، فلا يمكن أن تقول طائفة عن الطائفة الأخرى بأنها ناجية.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] أي أنهم ليسوا على شيء معتبر، يعبه به، وهم لا شك أنهم على شيء، وهو النصرانية، أو الباطل، ولكن نفي الشيء في لغة العرب يأتي أحياناً لهذا المعنى، وهو كثير، ومعروف في كلامهم، تقول: فلان ليس على شيء بمعنى أنه ليس على أمر يعتد به، فلان ما عنده شيء، يعني ما عنده ما يعتد به، ما عنده شيء يكترث به، يعتد به، وهكذا.
قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ هذا عيب لهم فهؤلاء يتلون الكتاب، ويجدون فيه أن عيسى ﷺ نبي من عند الله حق، والنصارى يتلون في كتابهم أيضاً أن موسى -ﷺ نبي الله، وأن التوراة هي الشرع الذي تعبدهم الله - به إلا ما نسخ منه، ومع ذلك يكابرون، فالمقصود أن هذه الجملة وهي قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ هي نعي عليهم، ومزيد ذم لهم أنهم لم يقولوا ذلك من جهل، وأنهم لم يطلعوا على خلافه، وإنما قالوه، وهم مطلعون على ما فيه، ويؤخذ من هذه الآية أن الذم المتوجه إلى هذه الأمة ممن يشتغل بالعلم، ويطلع على ما لا يطلع عليه غيره من قضايا العلم، ثم يتكلم بخلاف ذلك، أو يقع في أمور يدعوه إلى الوقوع فيها هواه من أمور يختلف فيها مع الناس، ويقع التفرق، والتناحر، وهم يتلون الكتاب، ويرون دلائل الحق فيه واضحة، فتحركهم أهواؤهم، فلا شك أن ذلك أعظم جرماً ممن وقع في مثل هذه الأمور جهلاً منه؛ لأن ذلك لم يبلغه فيه سوى ما تكلم به، واعتقده، فالذين يتلون الكتاب من طلاب العلم جرمهم أعظم من غيرهم حينما يحيدون عنه، ويكونون متابعين لأهوائهم، ويتكلمون بالهوى في الطعن بغيرهم، وتخطئتهم، وما أشبه ذلك، وهم يعلمون أن ذلك من الحق، أو أنه مما يسوغ فيه هذا الاختلاف، أو أن ذلك كله من دين الله كما يحصل في التفرق بين الأمة بسبب تنوع أعمال البر، فهذا يقول: هذا ليس على شيء، وهذا يقول: هذا ليس على شيء؛ لأن هذا يشتغل بإطعام الجوعى، وكفالة الأيتام، وهذا يشتغل بالعلم، وهذا يشتغل بالجهاد، وهذا يشتغل بغير ذلك من القضايا المعتبرة في دين الله ، ومن الأعمال الصالحة، فهذا يشبه هذا، فلا يجوز للإنسان أن يقع فيه.

قال: إن كلاً يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [سورة البقرة:113] يبين بهذا جهل اليهود، والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء، والإشارة.
وقد اختلف في من عنى بقوله تعالى: الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فقال الربيع بن أنس، وقتادة: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود، وقيلهم.
وقال ابن جُرَيج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود، والنصارى، وقبل التوراة، والإنجيل.
وقال السدي: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فهم: العرب، قالوا: ليس محمد ﷺ على شيء، واختار أبو جعفر ابن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم.

قوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ بين بهذا جهل اليهود، والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء، والإشارة، بمعنى أن هؤلاء حينما قالوا: هؤلاء ليسوا على شيء، وأن هؤلاء قالوا: ليس هؤلاء على شيء، ثم قال: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إذا قلنا: إن الذين لا يعلمون هنا هم العرب مثلاً فإن هذا يعني أيضاً نسبة هذا الوصف إلى اليهود، والنصارى؛ لأن هذا إنما يفعله من لا يعلم، سواءً كان لا يعلم أصلاً، أو كان لا يعلم علماً ينفعه.
فقوله: من باب التنبيه، والإشارة: العبارة هنا لا يريد بها بدقة ما يريده الأصوليون؛ لأنه جمع فيها هنا بين دلالة التنبيه، وبين دلالة الإشارة، وهما نوعان متغايران، فدلالة الإيماء، والتنبيه، هذا نوع، وهي أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علةً له لكان ذلك عيباً عند العقلاء.
فهنا يمكن أن يخرج هذا على أن هذا من دلالة التنبيه، فمثلاً، يمكن أن يكون هذا الفعل الصادر إنما كان بسبب الجهل بنوعيه، إما الجهل لأن الإنسان لم يبلغه، أو أنه لم ينتفع بما علم فكأنه لم يعلم، فيكون ذلك من قبيل دلالة التنبيه، وبهذا الاعتبار يمكن أن يخرج على الدلالة المعروفة عند الأصوليين فيكون قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَقَالَتِ النَّصَارَى ثم قوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:113] هذا فيه تنبيه، وإيماء إلى أن هذا الذي صدر إنما هو من قلة العلم، وأن من صدر منه مثل ذلك فهو متصف بهذا الوصف الذي هو قلة العلم، أو عدمه كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [سورة البقرة:113]، وأما المقصود بالإشارة - هنا والله أعلم هنا في كلامه - فهو معنىً أعم مما يقصده الأصوليون، أو مما يقصده المفسرون بما يسمى بالتفسير الإشاري، فهو لا يقصد هذا، لكن من باب التنبيه، والإشارة أي أنه يشير كما نستعمل في كلامنا عادة فنقول: هذه الآية فيها إشارة إلى أن الذين صدر منهم ذلك أنهم لا يعلمون؛ لأنه قال: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [سورة البقرة:113]، وأما دلالة الإشارة عند الأصوليين فهي معروفة.

وهي إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما

أي إشارته إلى معنىً لم يكن مقصوداً للمتكلم حينما تكلم بهذا الكلام مثل قوله - تبارك وتعالى -: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] لما ذكر: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ [سورة البقرة:187] فمعنى ذلك أنه يحل له أن يجامع إلى آخر جزء من الليل، فمتى يبقى وقت الغسل؟ لا شك أن الجنابة ستبقى إلى بعد طلوع الفجر، فالآية ما جاءت لتقرير أن الصوم يصح مع وجود الجنابة، لكن هذا من قبيل دلالة الإشارة، وعلى كل حال يمكن أن يناقش هذا الكلام الذي قاله الحافظ ابن كثير لكن لا أحب الجدل.

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113] أي: إنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه، ولا يظلم مثقال ذرة.
وهذا الآية كقوله تعالى في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة الحـج:17]، وكما قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سورة سبأ:26].

مرات الإستماع: 0

"وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية سببها: اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمّت كل طائفة الأخرى[1]."

هذا أيضًا لا يصح في سبب النزول.

"وَهُمْ يَتْلُونَ تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب."

 يعني: حال كونهم يتلون الكتاب فهذا أقبح، وأشد فإن صدور ذلك ممن لا بصر له، ولا معرفة بالكتاب أسهل، وإن كان ذلك من قبيل السوء، والشر، لكن الشر يتفاوت، فصدور ذلك ممن يتلو الكتاب يكون في غاية السوء، والقبح، فإنهم لا يجدون في كتابهم هذا، وإنما يجدون في كتابهم أن من أسلم وجهه لله، وهو محسن، وأن الذي يدخل الجنة هم أهل العبادة الحقة: الذين يجمعون بين الإخلاص، والمتابعة، وهم أهل الإيمان، والإسلام، وذلك يكون لمن اتبع نبيه قبل تُنسخ شريعته، فالذين اتبعوا موسى - عليه الصلاة، والسلام - والذين اتبعوا عيسى - عليه الصلاة، والسلام - قبل مبعث النبي ﷺ وهم على الإخلاص، والمتابعة فهؤلاء يكونون من أهل الجنة.

"الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ المشركون من العرب؛ لأنهم لا كتاب لهم."

وهذا القول عزاه ابن عطية للجمهور من المفسرين[2] وسيأتي الموضع الآخر: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة: 118] هناك خلاف كثير كما سيأتي في المراد بهم لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ هل هم أهل الإشراك؟ أو أهل الكتاب؟.

على كل حال فهنا كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هنا لما ذكر اليهود وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ فذكر الطائفتين كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ من بقي؟

بقي أهل الإشراك، وهم أهل الجهالة فهم لا كتاب لهم، وقال بعض السلف كعطاء - رحمه الله -: هم أمم قبل أهل الكتاب[3].

إذا قلنا: إنهم العرب، هل قالوا ليست اليهود على شيء، وليست النصارى على شيء؟ هذا ما عُرف عن العرب أنهم كانوا يقولون هذا، بل يعتقدون أنهم أهل كتاب، وأنهم أهل علم، فمن هنا جاء الإشكال عند هؤلاء، فقال عطاء - رحمه الله -: بأن هؤلاء أمم قبل أهل الكتاب. كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ باعتبار أن العرب لم يقولوا هذا في أهل الكتاب، لكن من حمله على العرب: كالسُّدي[4] قال: المراد أنهم قالوا: ليس النبي ﷺ ومن تبعه على شيء.

اليهود قالوا: ليست النصارى على شيء. والنصارى قالوا: ليست اليهود على شيء. كذلك قال الذين لا يعلمون من العرب: ليس النبي ﷺ على شيء.

لكن مثل ابن جرير - حمه الله -حملها على العموم[5] فكل من كان موصوفًا بالجهل، وادعى دعوى كهذه فهو داخل فيه، فيدخل فيه العرب، ويدخل فيه غيرهم ممن صدر عنه ذلك.

  1.  تفسير الطبري (2/ 513- 514)
  2.  تفسير ابن عطية (1/199).
  3.  تفسير الطبري (2/517).
  4. المصدر السابق.
  5.  المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما ذكره من خبر بني إسرائيل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113] لما ذكر قولهم قبله أنه: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:111، 112] فهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة.

ثم بعد ذلك ذكر حال هؤلاء من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كيف كان بعضهم يضلل بعضًا، ويكفر بعضهم بعضًا وهم يتلون الكتاب المنزل عليهم، ولم يقف ذلك على هؤلاء بل قال الذي لا يعلمون من أهل الإشراك ممن لم ينزل عليهم كتاب قالوا مثل قولهم، يعني قالوا: بأن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، والمقصود أن الآية التي قبل هذه وهي قوله: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] فـ"أو" بمعنى التقسيم، أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، ويدل لهذا المعنى هذه الآية، أن كل طائفة تنفي عن الأخرى أنها على شيء من الدين الصحيح، تنفي عنها أنها على حق أو على جادة صحيحة، وهم يقرؤون التوراة والإنجيل وفيهما وجوب الإيمان بجميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والإيمان بجميع الكتب المنزلة، فكون ذلك يصدر عنهم فيكفرون بعيسى أعني اليهود، أو أن النصارى يكفرون بما جاء به موسى وهم يجدون في كتبهم لزوم الإيمان بذلك جميعًا.

كذلك قال الذين لا يعلمون من أهل الإشراك كقولهم بأن كل من خالف ما هم عليه من الشرك يقولون: بأنه ليس على شيء فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [سورة البقرة:113] يفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، ويجازي كلاً بعمله.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] ما جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- في هذه الطوائف المختلفة في الكتاب المخالفة له من أهل الكتاب ومن طوائف هذه الأمة التي فارقت الجماعة وركبت الضلالة، يقول: "بأنهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب"[1] قد جمعوا وصفي الاختلاف الذي ذمه الله -تبارك وتعالى- في كتابه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2] فالله ذم الذين خالفوا الأنبياء والذين اختلفوا على الأنبياء، كل هؤلاء في موضع الذم.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] يؤخذ منها شدة العداوة بين اليهود والنصارى، وأنهم لا يرون أنهم على دين صحيح أصلاً، لكنهم يجتمعون في حرب المسلمين، ولو أن ذلك وجه واستغل من قبل أهل الإيمان لاشتغل بعض هؤلاء ببعض، فبينهم من العداوة ما لا يقادر قدره، بل إن بين أهل الطائفة الواحدة من العداوة والتفرق والاختلاف والتكفير ما لا يعلمه إلا الله، ولا يحصيه إلا الله، طوائف اليهود، اليهود على فرق مختلفة متناحرة، يكفر بعضها بعضًا، والنصارى على طوائف، وفرق، وتحت كل فرقة من الفرق ما لا يحصيه العاد.

فالنصارى يفترقون إلى أرثوذوكس وتحتهم طوائف، وينقسمون أيضًا ويفترقون إلى كاثوليك، ويفترقون أيضًا إلى بروتستانت، وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها، وترى أنها على ضلالة، وأنها لا تُمثل من الحق قليلاً ولا كثيرًا، ولو أن هذا استغل من قبل المسلمين لاشتغل بعض هؤلاء ببعض، ولكن اجتمعوا على حربنا، يجتمع الذي في الكنيسة الشرقية هناك في روسيا مع صاحب الكنيسة الغربية وبينهم من العداوة ما لا يعلمه إلا الله، يكفر بعضهم بعضًا وهم نصارى، ولكن يجتمعون في حرب هذه الأمة.

يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] إذًا القضية ليس أن هؤلاء يختلفون معهم في مسائل فرعية أو جزئية أو قضايا قابلة للأخذ والرد، ليسوا على شيء، يعني يرون أنهم على دين مختلق باطل، والنصارى يرون أن اليهود على دين مختلق باطل، فهم يتراشقون بالكفر، وتتعصب كل طائفة لما عندها، وهذا ذكره الله لهذه الأمة؛ لتحذر من الوقوع في مثل ذلك، فلا يصح لمن كان من أتباع هذا الدين أن يتفرق فيه، وأن يرمي من خالفه بالكفر والضلالة من غير موجب شرعي، فيكون قد شابه هؤلاء من أهل الكتاب، كل طائفة يعني ممن ينتسب إلى الإسلام حينما يشابهون هؤلاء تأخذ ببعض الدين، أو تأخذ بقضايا قد دخلها ما دخلها من التبديل والتحريف والتغيير والبدع والأهواء، ثم بعد ذلك ترمي من خالفها بالكفر والضلالة.

فالله -تبارك وتعالى- قد جاء بهذا الدين كاملاً شاملاً وسمانا المسلمين، وكان الجيل الأول الذين تلقوا عن رسول الله ﷺ هذا الدين نقيًا ينتسبون إلى الإسلام فحسب، لا يوجد بينهم مذاهب، ولا طوائف، ولا فرق، إنما ينتسبون إلى النسب الشرعية، وهم قد حققوا ما أمرهم الله به من قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103] وحينما وقع بينهم القتال في الفتنة لم يؤدِ ذلك إلى تضليل بعضهم لبعض، ولا تكفير بعضهم لبعض، فكان بعضهم يشهد للآخر بالفضل والخيرية، ويشهد له إن كان ذلك قد جاء عن الشارع يشهد له بالجنة.

وكان علي مع ما وقع من القتال مع أهل الشام يقول: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة في الجنة"[3] فهذا كان حالهم مع وجود القتال، فكانوا مجتهدين متأولين في ذلك.

أما الخلاف الذي ذمه الله -تبارك وتعالى- وهو أن يحصل التنازع بين طوائف الأمة فيضلل بعضهم بعضًا، فهذا الدين الذي أنزله على نبيه ﷺ أنزله نقيًا كاملاً شاملاً، لا يجوز لأحد أن يجزئه فيأخذ ببعض هذا الدين، ثم بعد ذلك يتعصب لمن دخل معه في هذه الأعمال ويكون من لم يدخل معه مذمومًا معيبًا فضل عن أن يكون ضالاً في نظره، فهذا يكون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.

فمن أراد السلامة والنجاة والخلاص من هذا كله فليكن على ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- حيث لم يحصل بينهم هذا الشر والتفرق والاختلاف والتحول إلى طوائف متنازعة، فيسعنا ما وسعهم، ويكفينا ما كفاهم، وفي هذا عبرة لمن اعتبر وتبصرة لمن تبصر.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:113] أن العتب على من نزل عليهم الهدى والوحي حينما يقع منهم الانحراف أو التفرق أن ذلك يكون أعظم في حقهم والجرم يكون أشد، ومن ثم فإن العقوبة تكون أشنع، فهؤلاء أهل كتاب ويتلون في هذا الكتاب، وكما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الذم قد توجه لأهل الكتاب، فإن الذم الذي يتوجه لهذه الأمة التي هي أشرف وأعظم وأكمل وأعلم ونبيها أكرم وأعظم وكتابها أشرف الكتب وأعظم الكتب فإن الذم الذي يلحقهم حينما يفعلون فعل أولئك يكون أشد، والنصوص الواردة في النهي عن التنازع والتفرق كثيرة جدًا في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ ومع ذلك نجد من الأحوال التي تخالف ذلك وتضاده شيئًا كثيرًا، أمة نزل عليها نصوص كثيرة مستفيضة في هذا الباب تنهاهم تزجرهم عن الاختلاف، وتأمرهم بالاجتماع، ثم بعد ذلك يقع بينهم هذا الذي حذرهم الله منه.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113] هذا خبر يراد به التوبيخ والوعيد يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إذًا سيرجعون إليه ويفصل بينهم ويجازي كلاً بعمله، ودخول الفاء فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ باعتبار ما هو مفرع على تلك المقالات وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113] وكذلك أيضًا قول الذين لا يعلمون: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فهذا الحكم مسبب عن هذه المقالات التي قالوها والدعاوى التي ادعوها.

وهنا: اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة الزمر:3] ما قال: فيما يختلفون فيه، قدَّم الضمير المتعلق بهم فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وذلك للاهتمام بجانب هؤلاء المختلفين الذين جعلوا دينهم على هذه الحال والمثابة فكانوا أوزاعًا، وجعلوا دينهم زبرًا تنازعوه بينهم، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "صار لكل طائفة من الكتب التي تعتمدها وترجع إليها وتنبذ ما سواها"[4] فهذا فعل هؤلاء من أهل الكتاب، وتقديم هنا الظرف "فيه" على متعلقه يَخْتَلِفُونَ للاهتمام به، وأيضًا لمراعاة فواصل الآيات. 

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (15/ 284)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 353). 
  2.  المصدر السابق. 
  3.  انظر: تفسير الطبري (10/ 199)، تفسير ابن كثير (3/ 416). 
  4.  انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 148)، والفوائد لابن القيم (ص:104).