الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُۥ وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَ ۚ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114].
المراد من الذين منعوا مساجد الله، وسَعَوا في خرابها هم مشركو قريش كما رواه ابن جرير عن ابن زيد في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى، وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه، وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
فقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الاستفهام هنا بمعنى الإنكار، وهو مضمن معنى النفي، بمعنى لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:21] المعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ومثل ذلك قوله - تبارك وتعالى -: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ [ سورة الأنعام:157].
ووجه الجمع بين هذه الآيات أن يقال: تشترك هذه الآيات أن كل آية منها تقول: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل، على أن كلاً منها تكون مختصة بباب معين، ففي باب الافتراء لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المنع من دخول المساجد لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهكذا كل واحدة مختصة بالباب الذي ذكرت فيه، هذا جواب لكيفية الجمع بين هذه الآيات.
والجواب الثاني أن يقال: إن القاعدة في هذا هي أن أفعل التفضيل تمنع من الزيادة، ولا تمنع من التساوي، فإذا قلت: زيد أكرم الناس، ثم بعد مدة قلت: عمرو أكرم الناس، فالمقصود أنه فاق غيره في هذا، أي أن أصل أفعل التفضيل في اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر، زيد أكرم من عمرو، فإذا قلت: زيد أكرم الناس، فهذا لا ينفي أن يكون أحد من الناس يماثله في الكرم، ويساويه، لكن لا يزيد عليه، فإذا قلت: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل فإنه لا يفوقه أحد من الناس، ولكن لا يمنع ذلك من وجود من يساويه، فيكون بهذا الاعتبار، ومن أظلم، لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ولا أحد أظلم من كذب بآيات الله - تبارك وتعالى - فكلهم متساوون إذ بلغوا الغاية العظمى في الظلم لكن لا يزيد أحدهم على الآخر.
قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهٌُ [سورة البقرة:114] أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، هذه الآية عامة تصف من وقع منه هذا الفعل بأنه وقع في أعظم الظلم، ولم يحدد ربنا - تبارك وتعالى - فيها طائفة دون طائفة فيصدق ذلك على المشركين حينما منعوا رسول الله ﷺ، ويصدق على كل من وقع منه هذا الفعل، ومن هؤلاء الذين وقع منهم ذلك النصارى حينما أعانوا بخت نصَّر على خراب بيت المقدس، وحتى بعد أن رحل عنه، وأخذ أشراف اليهود، وكبراءهم بعد أن قتل فيهم قتلاً ذريعاً بقوا هؤلاء النصارى يمنعون اليهود من دخول المسجد، ولا يمكنونهم من ذكر الله ، والصلاة فيه.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - يرى أن هذه الآيات في بني إسرائيل عموماً، منها ما يتحدث عن اليهود خاصة، ومنها ما يتحدث عن النصارى، فيرى أن هذه الآية في النصارى، وليست في مشركي العرب، والقرينة التي يحتج بها هي قوله - تبارك وتعالى - في نفس الآية: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] وقال: إن العرب من المشركين لم يخربوا الكعبة، ولم يسعوا في خراب عمرانها بل على عكس ذلك، فهم كانوا يعمرونها، ويكسونها، ويطيبونها، ويسقون الحاج، ويطعمونهم، إلى غير ذلك مما عرف عنهم من القيام على الوظائف في الحج.
والخراب في قوله تعالى: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا يشمل الخراب الحسي، والخراب المعنوي، فالخراب الحسي بهدم بنيانها، وتعطيلها، أو الحيلولة دون تجديد ما تقادم عهده منها، وانهدَّ بنيانه، وكذلك الخراب المعنوي بمنع ذكر الله ، وبمنع الصلاة، وبتعطيل وظيفة المسجد، كل ذلك من السعي في خرابها، فهو يشمل هذا، وهذا، وبالتالي فإن هذه الآية عامة، وممن يدخل فيها النصارى، ويدخل فيها أيضاً أهل الشرك، إذ إنهم لم يعمروها حقيقة، وإنما عمروا بنيانها مع أن العمارة الأهم، والأعظم هي عمارتها بذكر الله كما قال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة النــور:36]، وكما قال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [سورة التوبة:18]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [سورة التوبة:17]، وهذه الآية في أهل الإشراك.
المقصود أن الآية عامة ويدخل فيها النصارى، وهذه الرواية المذكورة في قصة المشركين هي عن ابن زيد، وابن زيد لم يدرك شيئاً من ذلك، فهي من قبيل المرسل، والمرسل نوع من الضعيف.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114] المساجد في الأصل هي موضع السجود، فأماكن الصلاة يقال لها مساجد.
وقوله: أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] يمكن أن يكون بدلاً من المساجد - هذا احتمال - ويمكن أن يكون مفعولاً له، أي منع مساجد الله كراهية أن يذكر فيه اسمه.
وأوضح من هذا أن يقال - والله أعلم - هو أن التقدير ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، هذا أوضح هذه التقديرات، ولعله هو المتبادر لهذه الآية - والله تعالى أعلم -، وقيل غير هذا على كل حال، والله أعلم.
وفي قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - أن قُرَيشاً منعوا النبي ﷺ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114].
على هذا يكون الخراب معنوي، وعلى كل حال هذه الرواية لا تخلو من ضعف، ولا شك أن المشركين سعوا في خرابها حينما منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام، وكان ذلك في وقعة الحديبية المشهورة.
وأما كلام ابن جرير - رحمه الله - فهو كما ذكرنا أن السياق كله في بني إسرائيل ابتداء من قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34] وأنها كلها تذكير لبني إسرائيل فهو يرى أن الآيات غير خارجة عن الحديث عن بني إسرائيل بطائفتيهم اليهود والنصارى، وعليه فهذه الآية في النصارى حينما منعوا اليهود على قوله – رحمه الله - فهو يحتج بالسياق ويحتج بقوله تعالى:وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114].
لما وجه الله تعالى الذم في حق اليهود، والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول ﷺ، وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، واستحوذوا عليها بأصنامهم، وأندادهم، وشركهم، كما قال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17-18] وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الفتح:25]، فقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ[سورة التوبة:18] فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس، والشرك.لا ينكر أن عمارة المساجد تكون بالأمرين، العمارة الحسية، والعمارة المعنوية، وإلا ما فائدة المساجد إذا كان لا يدخلها داخل؟.
وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم - من دخولها إلا تحت الهدنة، والجزية، ولهذا لما فتح رسولُ الله ﷺ مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: ألا لا يَحُجَّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته[1].
يعني من كان له عهد فعهده إلى مدته.
هذه الآية: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ هي في المانعين من المشركين، بمعنى أن هؤلاء - أعني أهل الإشراك - ليس لهم، ولا يحق بحال من الأحوال أن يهيمنوا على المساجد، وأن يمنعوا الناس من إقامة ذكر الله فيها، بل على العكس، ليس الشأن أن يتحكموا هم في المساجد، ويعطلوا عمارتها، وإنما الشأن أن القضية تكون منعكسة، فالواحد من هؤلاء لا يتمكن من دخول المسجد إلا في حال الخوف، والترقب، لا أن يكون متمكناً يمنع الناس منها، ويتسلط عليها، ويسيطر فيسعى في خرابها، ويمنع من شاء، ويفعل ما شاء، ليس لهم أن يبلغوا هذا المبلغ، وإنما الشأن أنهم ليسوا بأهل في دخولها إلا في حال واحدة هي أن الواحد منهم يدخل وهو في غاية الترقب، والخوف، والحذر؛ لأنه قد دخل في عرين الأسد، فالمسجد هو عرين الأسد، وهو موضع القيادة، وهو الذي تعقد فيه الألوية، وتقام فيه الخطب، وينهل فيه من ميراث النبوة، فهو بمنزلة القلب النابض في المجتمع الإسلامي، أو في الحي الإسلامي، أو في المدينة الإسلامية، فلا يتجرأ الواحد من هؤلاء الأنجاس كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] أن يدخل هذه المساجد فيقذرها بدخوله، وإنما يدخل وهو في وجل، وخوف أنه دخل في مكان له هذه المنزلة، والأهمية، والمكانة عند المسلمين، فيدخل في حال العهد، أو الهدنة، أو الجزية كما أدخل النبي ﷺ وفد نصارى نجران إلى المسجد للتفاوض معهم، ودعوتهم للإسلام حتى دعاهم إلى المباهلة، وكذلك ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وكان مشركاً، فما ظنك بمن يربط في سارية من سواري المسجد هل يكون متحكماً فيه، ويكون مهيمناً، ومسيطراً عليه؟
الجواب لا، فهذا هو حق أهل الإشراك، وقدرهم، ومنزلتهم، لا يدخلونها إلا في هذه الحالة، لا أنهم يفرضون سيطرتهم عليه، أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] كما هو الحال في اليهود اليوم، فهم الذين يتصرفون، ويتحكمون في المسجد الأقصى، فتارة يمنعون صلاة الجمعة فيه، وتارة يمنعون صلاة التراويح، وتارة يقفون دون الناس في الصلاة المكتوبة؛ لئلا يدخلوا فيه، وتارة يدخلونه فينجسونه، ويقذرونه بدخولهم هذا.
وأما مسألة دخول المشرك إلى المسجد فليست محل البحث هنا، لكن الراجح أنه يجوز للمشركين أن يدخلوا المساجد حتى المسجد النبوي، لكن هذا الدخول كما قال الله : أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، فلا بأس أن يدخل لإصلاح شيء في المسجد، ولا بأس أن يكون بعض العمال ممن بنى المسجد من المشركين، لا إشكال فالعامل أجير، والنبي ﷺ ربط ثمامة بن أثال في المسجد، ودخل وفد نصارى نجران في المسجد، إلا المسجد الحرام، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [سورة التوبة:28] والمقصود به أرض الحرم جميعاً، وليس فقط بناء المسجد.
فهذه الآية من حيث الصيغة خبر أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، وهي متضمنة لمعنى الطلب، بمعنى لا تمكنوهم من دخولها إلا في هذه الحال، فمن الأحوال التي ينبغي أن يمنعوا منها هذا التسكع الذي يقع في مشارق الأرض، ومغاربها، حيث يتسكعون وهم عراة، حيث توجد مساجد لها منزلة في قلوب المسلمين يأتي السواح يتفرجون عليها كما هو مشاهد في المسجد الأموي، وغير المسجد الأموي في شرق الأرض، وغربها إذ تعتبر هذه المساجد من المعالم السياحية، فيأتونها مع نسائهم في غاية العري، والتبرج ومعهم الكاميرات، ويدخلون بأحذيتهم، فكل واحد يدخل وهو مع كلبته يتفرجون، ويتسكعون في أرجاء المسجد، فليس لهم ذلك، وينبغي أن يمنعوا منه؛ فالآية خبر بمعنى الطلب، ولا شك أن الطلب في الآية أمر شرعي، وليس قدري؛ إذ لو كان المقصود بالطلب الأمر القدري ما كان دخلها أحد من المشركين؛ فالمقصود أنه أمر شرعي لأهل الإيمان أن لا يمكنوا أهل الإشراك إلا في هذه الحال.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97] هذا خبر، وهو بمعنى الأمر، إذ هو أمر بتأمين من دخل المسجد الحرام، وعدم الاعتداء عليه، فهو أمر شرعي أيضاً، لكن هل ذلك أيضاً واقع من جهة القدر؟
بعض أهل العلم يقول: نعم؛ بدليل أن الله قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، والله أعلم.
قال المفسر – رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] قال: وهذا إنما كان تصديقاً، وعملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28]، وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر، المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلم.
وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله ﷺ أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود، والنصارى منها، ولله الحمد، والمنة.
وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً، ونذيراً - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده، والطواف به عرياناً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله، ورسوله.
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة كما روى الإمام أحمد عن بُسْر بن أرطاة قال: كان رسول الله ﷺ يدعو: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة[2]، وهذا حديث حسن.

فخلاصة ما يقال في هذه الآية، هو أن من أهل العلم من يرى أنها بصيغة الخبر، الذي بمعنى الأمر، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ الصيغة خبرية، ومعناها الطلب، أي لا تمكنوهم من دخولها إلا في مثل هذه الحال.
وعلى كل حال معنى هذا الخبر أن هؤلاء الكفار ليسوا بأهل أن يتحكموا، وأن يتولوا شأن المسجد، فيدخلوا فيه من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، وإنما الشأن أن هؤلاء ليسوا بأوليائه إنما أولياؤه المتقون، ومن ثم فإن حق هؤلاء هو الإبعاد، والإذلال، وأنهم لا يجترئون على هذه المساجد بالدخول فضلاً عن العبث، والسيطرة، والتحكم في شئونها، فهذا هو المعنى الأول، والمعنى الثاني: أن ذلك من قبيل البشارة، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ فيه إخبار عن أمر مستقبل سيقع، فتكون الآية بهذا الاعتبار بمعنى الخبر، لكنه خبر عن أمر مستقبل، فعلى كل حال المعنى الأول أقرب، والله تعالى أعلم.
ولو قال قائل بأن ذلك الخبر الذي بمعنى الطلب مضمن معنى البشارة فإن ذلك لا يبعد، وهو أولى من القول بأنه خبر محض عن أمر غيبي فهو في حقيقته بشارة لأهل الإيمان بما سيحصل لهم من التمكين، والغلبة، وقد تحقق ذلك.
 لكن الآية - والله تعالى أعلم - تبين حق هؤلاء الكفار الذي ينبغي أن يكون، وهو أنهم في مرتبة دون هذا الذي ارتقوا إليه من التسلط على المساجد، والقيام عليها بصد الناس عن المسجد الحرام.
قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الفتح:25] هذا في المشركين، وكذلك في النصارى حينما دخلت دولة الرومان في النصرانية، وإن شئت أن تقول: حينما أدخلت النصرانية إلى وثنية الرومان وذلك باعتناق قسطنطين النصرانية محملاً بوثنيته؛ فأفسدها، وحصل ما حصل من تسلط الرومان على اليهود من قتل اليهود، وما وقع بعد ذلك من اجتياح بخت نصر لبيت المقدس، وخراب المسجد الأقصى، فأعانه الرومان على ذلك.
  1. أخرجه أحمد (ج 1 / ص 3) والدارمي (ج 1 / ص 393) وأصله في الصحيحين
  2. أخرجه أحمد (ج 4 / ص 181) وابن حبان (ج 3 / ص 229) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن.

مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ أَظْلَمُ لفظه الاستفهام، ومعناها: لا أحد أظلم منه حيث، وقع."

هذا الاستفهام مضمن معنى الإنكار، والنفي لا أحد أظلم، وذكرنا في بعض المناسبات بأن مثل هذا يورد عليه السؤال المعروف، وهو ما جاء في نظائره من قوله تعالى مثلًا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ كما سيأتي، وكذلك وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 21، 93] [هود: 18] [العنكبوت: 68] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] ففي كل موضع يقول: لا أحد أظلم منه. قلنا: إن هذا يجاب عنه بجوابين معروفين:

الجواب الأول: بأن ذلك يُخرج على القاعدة المعروفة، وهي أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع الزيادة، يعني لا أحد يزيد عليه في الظلم، لكن يمكن أن يستوي معه، فيكون هؤلاء جميعًا قد بلغوا في الظلم غايتهم، لا أحد أظلم ممن افترى على الله، ولا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه، وحصل منه الإعراض، فكل هؤلاء قد بلغوا الغاية، أفعل التفضيل تمنع الزيادة، لا أحد يزيد عليه لكن يمكن أن يستوي معه.

الجواب الثاني: أن كل واحدة تختص ببابها، ففي المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي المفترين: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وفي المعرضين: لا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه، ثم أعرض عنها.

"مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس، أو على العموم."

 لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وهذه الآية عامة في لفظها، وظاهرها، لا أحد أظلم منه، لكن هنا يقول: قريش منعت الكعبة.

هذا قول، وهو رواية عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، واختاره الحافظ ابن كثير[1] لاحظ السياق في أهل الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ثم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فقال: يعني قريشًا منعت الكعبة. صدوا النبي ﷺ عن المسجد الحرام. 

قال: أو النصارى منعوا بيت المقدس. يقولون: بأن النصارى أعانوا بختنصر لما حصل خراب بيت المقدس فوقف النصارى معه ضد اليهود، ثم صاروا يمنعون اليهود من الصلاة في بيت المقدس.

وهذا قال به جمع من أهل من السلف، فمن بعدهم: كالسُّدي، وقتادة، والحسن البصري، واختاره كبير المفسرين: أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله -: أن هذا في النصارى، واحتج ابن جرير لهذا بأن السياق في بني إسرائيل[2].

أي: ليس السياق في ذكر العرب حتى يقال: بأن المشركين منعوا المسلمين من الكعبة، والبيت الحرام.

ومن أهل العلم من حملها على العموم، وأن ذلك إلى يوم القيامة: كابن عطية[3] قال: هي عامة تشمل النصارى، وتشمل المشركين، وتشمل كل من صدر عنه ذلك إلى يوم القيامة. بل وسع المعنى أكثر وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ قال: الذي يدخل فيه من أخرب بلاد الإسلام؛ لأنه إذا أخرب بلاد الإسلام فإن ذلك يستتبع إخراب المساجد. إخرابًا حسيًا، أو الاخراب المعنوي بمنع الناس من الصلاة فيها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وعلى كل حال الآية عامة، والسياق في أهل الكتاب، لكن العموم في لفظها يدخل في كل من صدر عنه ذلك - والله تعالى أعلم -. 

"خائِفِينَ في حق قريش؛ لقوله ﷺ: لا يحج بعد هذا العام مشرك[4] وفي حق النصارى ضربهم عند بيت المقدس، أو الجزية."

قال: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ أن يدخلوا هذه المساجد، فإذا كان هذا في قريش، فيقول: بأن النبي ﷺ قال: لا يحج بعد هذا العام مشرك فلا يدخل هؤلاء الكفار آمنيين، بل يدخلون في حال من الوجل، والخوف من أهل الإسلام، وفي حق النصارى قال - باعتبار أنهم منعوا اليهود -: ضربهم عند بيت المقدس.

ضرب النصارى عند بيت المقدس يقول ابن عطية: بأنه كان بعد مدة لما صاروا يمنعون اليهود من الصلاة في بيت المقدس أنه جاء زمان لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أُوجع ضربًا. وهذا ذكره أيضًا قتادة، والسُّدي[5].

أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ بحال من الأحوال أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ فذلك الذي كان يقع عليهم من الضرب كان تفسيرًا لهذا الخوف الذي وقع عليهم. قال: أو الجزية. باعتبار أن هذه الجزية هي ذل لهم، ويوجه المعنى بهذا الاعتبار كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: بأنه خبر معناه الطلب[6].

أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة، والجزية.

وبعضهم يقول: هو بشارة للمسلمين أن الله سيظهرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد حتى لا يدخل أحد من المشركين المسجد الحرام إلا خائف.

إنها بشارة في المستقبل، ويحتمل أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك، كما يقول السُّدي: لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه[7].

يعني بعد فتح المسلمين لها، أو قد أُخيف بضرب الجزية، يعني هم يدخلون في حال من الضعف، والذل أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ والذي يظهر - والله أعلم - لو قيل: بأن المعنى أن هؤلاء ليس لهم أن يمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أو أن يسعوا في خرابها، بل اللائق بهم ألا يدخلوها إلا في حال من الخوف لا أن يستطيلوا هذه الاستطالة فيمنعوا مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، وإنما اللائق أنهم يكونون في منزلة، ومرتبة دون ذلك بكثير، فلا يصلون إلى هذا، ولا يقربون منه حال يعني كون هؤلاء يتمكنون فيمنعون بيوت الله من أن يذكر فيها اسمه، ويخربونها، وإنما اللائق بهم أن يكونوا في حال من الضعف، والمهانة فلا يتمكن الواحد من دخولها إلا وهو خائف، والخائف ضعيف بخلاف ذاك الذي يمنع مساجد الله من أن يُذكر فيها اسمه، فالكفار اللائق بهم أني يكونوا في هذه المرتبة تحت المسلمين، ولا يرتفعوا إلى هذا الحال، والحد الذي يتمكنون فيه من منع بيوت الله من أن يذكر فيها اسمه، فيستقوون، ويحصل لهم مثل هذا الطغيان، والعدوان على بيوت الله، وعلى من يَعْمر هذه المساجد مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا ما كان ينبغي لهم دخول هذه المساجد إلا حال كونهم في خوف، وتحت نظر المسلمين، ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - الخلافة أراد أن يزيل ما وضع على المسجد الأموي من الأحجار الكريمة، والفسيفساء، ونحو ذلك، المسجد قد زين بأنواع من الأحجار، والزينة، وبذلت فيه أموال طائلة، فأراد أن يزيل ذلك؛ لأن زخرفة المساجد ممنوعة شرعًا، فقيل: له إن تجار المسلمين قد بذلوا فيها الأموال، ونقلوها من بلاد الروم - يعني هذه الأحجار - فأمر بوضع الستور عليها، هذه التي يقولون عنها: الزخرفة الإسلامية.

لا يوجد شيء اسمه زخرفة إسلامية، بل هذا وُجد في أوقات الترهل، والترف، وإلا فالنبي ﷺ نهى عن زخرفة المساجد، فلا يُشرع زخرفة المساجد، ولا المصاحف، بل ولا التوسع في عمارة القصور، ونحو ذلك، وبذل الأموال في هذا في زخرفة، وزينة، ونحو ذلك.

الشاهد أنه جاء رجل من كبراء أهل ملتهم النصارى إلى الشام، فدخل المسجد الأموي، فلما رأى هذا البناء قال: هذا لا يكون إلا لأمة عظيمة. يعني كأنه قد انبهر بما شاهد، فقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: لا أرى هذا إلا غيظًا لأعداء الله.

فأمر بنزع الستور، يعني راعى هنا مصلحة، هو لم يبتدئ بناء هذا، وهم بإزالته فلما رأى الأثر غلب هذا الجانب، واجتهد فأمر بنزع الستور؛ ليكون ذلك غيظًا لأعداء الله، فهذا نظر، ونحن لا نقول: بأنه تُبنى المساجد مزخرفة من أجل إغاظة أعداء الله؛ لأن هذه القضية وردت فيها نصوص. لكن القاعدة الشرعية أن الدفع أسهل من الرفع، يعني الابتداء أصعب، وأشد من الدوام، كما هو معروف في القواعد الفقهية، فلا يُبتدأ هذا لكن ما وجد هل يقال: إنه يزال مثلًا إذا كان في ذلك مصلحة كهذه، أو لا؟ فهناك أمور غير المساجد يُطلب أن يوجد شيء من المهابة في نفوس الناس لا سيما إذا خف الدين عندهم، على سبيل المثال: المكان الذي يكون فيه القاضي أو نحو ذلك ينبغي أن يورث مهابة في نفوس الناس، ولا يكون مبتذلًا، وهكذا أهل الحسبة، فيكون لهم من المباني، والمكاتب ما يبعث على الهيبة في نفوس من يدخل هذه الأماكن، ولا يدخل إلى أماكن ضعيفة، وأماكن مبتذلة فيستخف بهؤلاء، ويهون الواحد منهم في نظره، ويُحتقر، فهذه من الأمور التي تتعلق بالسياسة الشرعية، أما دخول الكفار للمساجد من أجل الفرجة، والتصوير، ويدخلون أشباه عراة، ونحو ذلك فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال، لكن أصل دخول الكافر للمسجد غير المسجد الحرام أن هذا لا يُمنع شرعًا، فله أن يدخل ليرى، ليستمع، ليرى المصلين، إذا كان ذلك فيه مصلحةن أو حاجة، أو نحو هذا، وقد أسر النبي ﷺ ثمامة بن أُثال رُبط في المسجد، وكذلك أيضًا جاء في غير هذا من النصوص، وأيضًا بعض هؤلاء الكفار أسلم بسبب سماع آية قرأها النبي ﷺ في الصلاة، وجاء نصارى نجران أنزلهم النبي ﷺ في المسجد، وهذا قد لا يثبت من جهة الإسناد، لكن دخول الكفار للمسجد جائز لكن بهذه الصفة لا يدخلون في حال استطالة، ومع منكراتهم، وفي عريهم بنسائهم، ونحو ذلك يصورون هنا، وهناك يلتقطون الصور للذكريات، ونحو هذا، ويدنسون هذه المساجد، لا، ولكن لو دخل يتعرف على الإسلام فلا إشكال في ذلك، أو دخل في حاجة كأن يكون صانعًا، أو نحو هذا، فالمسلم أولى، لكن يجوز أن يُتخذ الكافر أجيرًا لعمل في المسجد، يعني يصلح شيئًا، يبني، أو نحو ذلك، والمسلم أولى.

"خِزْيٌ في حق قريش غلبتهم، وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية. "

 مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ والخزي يكون بمعنى الذل، والمهانة، وأن يكون الواحد منهم في حال السفول، ونحو ذلك، خزي يقابله العز، والرفعة، قال: في حق قريش. باعتبار إذا فُسر ذلك بقريش أنهم هم الذين منعوا مساجد الله.

يقول: هي غلبتهم، وفتح مكة. على كل حال هؤلاء الذين يمنعون مساجد الله أيًا كانوا سواء كانوا من قريش، أم كانوا من الهندوس، أم كانوا من اليهود، أم كانوا من النصارى، أو نحو هذا هؤلاء متوعدون بالخزي في الدنيا يعني هذه من الأشياء التي جاءت فيها العقوبة المعجلة في الدنيا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ فإذا رأيت من يمنع مساجد الله من أن يُذكر فيها اسمه فبشره بالخزي سواء كان هذا من اليهود، أم من النصارى، أم من غيرهم، حتى بعض من ينتسب إلى الإسلام إذا سعى في خراب المساجد فهو متوعد بالخزي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مع عذاب الآخرة، فهذا الخزي بمهانته، وسقوطه، وحقارته، وذله بعد العز الذي كان فيه، ويُحتقر، ويُبتذل، ويُهان هذا هو اللائق بهم، وفي حق النصارى فتح بيت المقدس، أو الجزية. لا شك أن المسلمين لما فتحوا بيت المقدس صار النصارى أهل ذمة، وأخذ الجزية منهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] وما ذُكر من أن هذا في النصارى، وأنهم منعوا اليهود من الصلاة في بيت المقدس كان ذلك على سبيل العدوان، والظلم، والبغي من النصارى فهذه طوائف منحرفة ضالة يصدر عنها مثل هذه المظالم، وتعطل، وتخرب بيوت الله - تبارك، وتعالى - لكن ما يتعلق بما يقع اليوم من دخول اليهود في المسجد الأقصى، والفساد الذي يعيثون فيه بأنواعه، مثل هذا هو كفعل النصارى معهم حينما يفعلون ذلك مع المسلمين.

ومثل هؤلاء كما قال الله : أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ فلا يدخلون بهذه الاستطالة، وبهذه الصفة، ويقيمون باطلهم، وشركهم، وضلالهم في بيوت الله فبيوت الله ينبغي أن تطهر الطهارتين: الطهارة الحسية من الأقذار، والأنجاس، والطهارة المعنوية من البدع، والضلالات، والأهواء، والكفر، ونحو ذلك، فهؤلاء يقيمون كفرًا، والذي يصدر عنهم هو ظلم لا شك فيه، فدخلوهم بهذه الصفة هو ظلم، وإقامة للكفر فما كان ينبغي لهؤلاء أن يدخلوها إلا خائفين، لو كان لأهل الإسلام عز، وللمسلمين مهابة، وقوة لما تمكن هؤلاء من هذا العبث، وهذه الجرأة، لكن حينما يقابلون بغير الإسلام، يقابلون باعتبار أن الطرف الذي يواجههم يتحدث عن عروبة، أو نحو هذا فهذا لا يمكن أن يحقق شيئًا، ولا أن ينال نصرًا أبدًا، وهذا نعبر به بأقوى صيغة من صيغ النفي: لن يحقق شيئًا، ولن ينال مطلوبًا، وإنما هو ذل، يعقبه مهانة، يعقبه سقوط، وتلاشي كما هو مشاهد، كل يوم خسائر جديدة، لكن هؤلاء يقابلون بالحق، وليس بباطل لربما هو أعظم من باطلهم. 

  1.  تفسير ابن كثير (1/388).
  2.  تفسير الطبري (2/520-521).
  3.  تفسير ابن عطية (1/199).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك، رقم: (1622)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وبيان يوم الحج الأكبر، رقم: (1347).
  5.  تفسير ابن عطية (1/199).
  6.  تفسير ابن كثير (1/389).
  7.  تفسير ابن كثير (1/389)

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114].

وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم، فهذا استفهام مضمن معنى النفي، لا أحد أظلم من الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، منعوا ذكر الله في المساجد من إقام الصلاة وتلاوة القرآن وما إلى ذلك مما يدخل في الذكر، مجالس الذكر بأنواعها، وجدوا في تخريبها بالهدم أو الإغلاق أو بمنع المصلين من دخولها، أولئك الذين يفعلون هذا ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا على خوف ووجل من العقوبة، لهم بذلك خزي في الدنيا وصغار وفضيحة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم شديد.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ يعني: لا أحد أظلم، كما عرفنا، وقد أوردنا سؤالاً في هذا ونحوه في بعض المناسبات، وهو أن الله -تبارك وتعالى- كما قال هنا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يعني لا أحد أظلم من هذا المانع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وأظلم هذه أفعل تفعيل يعني لا أحد أكثر ظلمًا منه، وفي موضع آخر يقول الله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [سورة السجدة:22] فهذا لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات الله ثم حصل له الإعراض عنها.

وفي موضع ثالث: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ [سورة الصف:7] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [سورة الأنعام:21] فهذا لا أحد أظلم منه، فهذه الآيات يرد فيها سؤال معروف: إذا كان الله -تبارك وتعالى- يقول: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي موضع: ممن ذكر بآياته وأعرض عنها، وفي موضع ثالث: مما افترى عليه كذبًا، والعلماء يجيبون عن هذا بجوابين:

الأول: أن تختص كل آية ببابها، يعني لا يوجد تعارض بين آيات القرآن، ففي المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي المعرضين: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، وفي المفترين: لا أحد أظلم ممنى افترى على الله كذبًا، هذا الجواب الأول، كل واحدة في باب معين.

وبعض أهل العلم يجيبون بجواب آخر وهو جواب أيضًا وجيه، وهو أن يقال: بأن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة، أن يزيد أحد عليه، فهؤلاء كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، فإذا قال: لا أحد أظلم ممن فعل كذا، يمكن أن يقال في مناسبة أخرى: ولا أحد أظلم ممن فعل كذا في قضية أخرى، فيكون كل هؤلاء قد بلغوا الغاية في الظلم، فأفعل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع أن يزيد أحد هؤلاء على الآخر، فيمكن أن تقول في مناسبة: فلان أشجع الناس، وفي مناسبة أخرى تقول عن شخص آخر: فلان أشجع الناس، ليس هذا بتناقض أن كل واحد من هؤلاء قد بلغ في هذا الوصف غايته.

كذلك يمكن أن تقول: فلان أكرم من رأيت، وفي مناسبة تقول عن شخص آخر: فلان أكرم من لقيت أو من رأيت، ولا يكون تناقضًا، فيكون ذلك باعتبار أن كل واحد منهما قد بلغ في الكرم الغاية، هذا جوابان.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فقد ظلم، فالمساجد إنما عمرت لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى- فإذا منعت من هذا المقصود من عمارتها فإن ذلك يكون في غاية الظلم، هذا بالإضافة إلى أن ذلك المنع هو منع لطاعة الله وعبادته والتقرب إليه، فإذا منع حقه -تبارك وتعالى- من العبادة التي خير مواضعها المساجد، كما قال النبي ﷺ : أحب البقاع إلى الله مساجدها[1] هذه المساجد هي أفضل البقاع وأحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- ولما ذكر الله في سورة النور نوره وهداه: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [سورة النور:35] إلى أن قال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة النور:36] يعني مواضع هذا الهدى ومظانه، ومحاله هي المساجد، لا الأسواق، والطرقات.

ويؤخذ من قوله: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أن المشروع في الذكر ذكر الله -تبارك وتعالى- أن يكون باللسان باسمه -تبارك وتعالى- تقول: سبحان الله، والحمد لله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [سورة الأعلى:1] سبحه ذاكرًا اسمه، أما الذكر كما يفعل بعض الصوفية بالضمير "هُو" مثلاً يرددونها "هو"، يقولون: "هو"، يرددون هذا ويقولون: إن هذا أفضل الذكر، فهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، وفعل السلف الصالح وإنما يذكر -تبارك وتعالى- بذكر أسمائه لا بذكر الضمير، فتقول: سبحان الله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [سورة الأعلى:1] سبحه ذاكرًا اسمه.

ويؤخذ من هذه أيضًا الاستبعاد: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] هذا يدل على استبعاد مثل هذا الصنيع مع الإنكار، ويؤخذ من إضافة المساجد إلى الله مَسَاجِدَ اللَّهِ يؤخذ منه شرف هذه المساجد، منزلة هذه المساجد أضافها إليه -تبارك وتعالى- فمن ثم فهي جديرة بالتطهير والتعظيم فلا ترفع فيها الأصوات ولا يكون فيها الصخب، ولا يكون فيها البيع والشراء، ولا يكون فيها التدنيس بأي لون من ألوان التدنيس: التدنيس الحسي أو التدنيس المعنوي.

ومن التدنيس المعنوي أن توضع فيها القبور، قبور الموتى، فإن هذا لا يجوز وهو من ذرائع الشرك، من التدنيس المعنوي أن يدعا فيها غير الله أن يدعا غير الله وأن يكون الشرك بالله -تبارك وتعالى- في المساجد، فهذا من أعظم الإثم والإجرام، فهو بخلاف ما بنيت له المساجد وما وضعت له هذه المساجد، المساجد بنيت لتعظيم الله وإقامة ذكره وتوحيده، فإذا وضعت لإقامة الشرك فهذا خلاف مقصود الشارع، ويكون ذلك من تدنيسها.

هذا بالإضافة إلى أنه يؤخذ من هذا الموضع مَسَاجِدَ اللَّهِ استواء الناس في الحق فيها، هذه المساجد مساجد الله -تبارك وتعالى- لا يقول أحد: أنا أحق بهذا المسجد منك، الحق فيه يستوي بين جميع الناس، فهذه بيوت الله ومن ثم فهذه المساجد التي هي بيوت الله وهي وقف لهذا الغرض، لا يصح لأحد أن يتحجر فيها موضعًا، يتحجر فيها موضعًا كأن يضع له سجادة دائمًا، كل من جاء تحاشا هذا المكان، أو يضع كرسيًّا دائمًا في مكان معين، يتحجر هذا الموضع، لا يجوز.

هذه مساجد الله، من سبق إلى شيء فهو أحق به، هذه المواضع، لا يجوز له أن يتحجر كرسيًّا من كراسي المسجد، يعني فرق لما يكون جاء بكرسي من بيته، وكذلك المصاحف لا يجوز له أن يتحجر مصحفًا منها إلا أن يكون قد جاء به يملكه، فبعض الناس قد يأخذ مصحفًا يقرأ به لا يريد أن يغير أحد الموضع الذي وصل إليه فيضع عليه خرقة، ويضع المصحف في غلاف، أو يربط عليه رباط أو نحو ذلك؛ لئلا يُقرأ فيه، فهذا لا يجوز، هذا نوع من الغصب، ومثل هذا يقع لبعض الناس لربما الصف الأول أو كثير أو من وراء الإمام أو نحو ذلك يتحجر، فرق بين إنسان في المسجد فذهب يتوضأ أو ذهب ليأكل أو ذهب في آخر المسجد يستريح ويرجع إلى مكانه فهذا له أن يضع شيئًا، لكن أن يذهب إلى بيته ويضع المكان هذا لصلاة الفجر، يضع السجادة، أو أن يضعها من صلاة الفجر ويرجع إلى بيته وينام لصلاة الجمعة، فيأتي قبل طلوع الخطيب على المنبر ويجلس خلف الإمام فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال.

وقل مثل ذلك أيضًا فيما يقع من هذا القبيل في الحرم، فلربما يستأجر من يجلس في مكان يعطى مقابل أجرة من أجل أن يبقى هذا المكان محجوزًا دائمًا لزيد أو لعمرو، يعني يأتي شخص ويعطي إنسانًا أجرة ويقول له: كل يوم سأعطيك كذا، أو كل شهر سأعطيك كذا، كل يوم تأتي من بعد صلاة العصر وتضع هذا الفراش أو هذه السجاد وتجلس في هذا المكان، فإذا أتيت أنا بعد المغرب أجلس بين المغرب والعشاء أجد المكان مهيأ، والناس يأتون قبل ذلك، ويأتون في أوقات مبكرة ولا يجدون مكانًا يجلسون فيه أو لا يجدون في هذا الموضع الذي قد يقصدونه لقربه من الإمام أو نحو ذلك فلا يجدون فيه موضعًا، والسبب أن هذا قد حجزه بهذه الطريقة، وهذا حجزه وهم في بيوتهم، فهذا لا يصح، ولا يستأجر لهذا.

وكذلك أيضًا لربما جاء الإنسان وعمد إلى مكان قد وضع فيه غيره ما يدل على أنه لربما سبق إليه، وذهب يتوضأ فيأتي إنسان وينحيه ويجلس مكانه، هذا يعتبر في حكم الغصب، وتقع أشياء من هذا القبيل ومزاولات لا يتفطن لها كثير من الناس، يأتي الإنسان أحيانًا إلى الحملة في منى، منى من الحرم، وهي مناخ من سبق، فإذا جاء إلى المخيم وجد أن الناس قد سبقوه، ولم يجد فراشًا إلا قريبا من الباب فيستنكف من ذلك ويضيق به ذرعًا، ثم ينظر إلى المكان فيجد موضعًا عليه حقيبة قد سبقه إليه غيره ولكن لا يوجد فيه أحد، هذا الإنسان اطمأن ووضع حقيبته وذهب يعتمر، فيأتي ويأخذ الحقيبة ويضعها على فراشه عند الباب، ثم يأخذ حقيبته هو ويضعها في ذلك المكان الذي في موضع متوسط في هذا المخيم، هذا لا يجوز، هذه بداية غير صحيحة في الحج، هذا يعتبر من قبيل الغصب، البداية مكان مغصوب، وكثير من الناس لا يتفطن لهذا، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8] فهذا من المخالفات.

وكذلك هنا في قوله -تبارك وتعالى: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] الفعل مبني للمجهول يُذْكَرَ فهذا يشمل الرجال والنساء، الكبار والصغار، فهذه المساجد مفتوحة للجميع، وهنا أيضًا يدل على كثرة الذاكرين فحذف الفاعل ما قال: أن يذكره فلان أو أن يذكره الرجال، أو أن يذكره المصلون فقط، فإن الذي يذكره المصلي في صلاته ويذكر في خارج الصلاة، فجاء بالفعل مبنيًا للمجهول.

كذلك أيضًا تقديم الجار والمجرور: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] ما قال: أن يذكر اسمه فيها، كما يكون نسق الكلام في الأصل، فالتقديم يدل أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا الكلام عن المساجد فذكر ما يتعلق بها من الضمير، ما قال: أن يذكر اسمه فيها أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] وكذلك المساجد مساجد الله مذكورة في اللفظ قبل اسم الله مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ فأعاد في الضمير ما يرجع إليها إلى المساجد أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا في المساجد يعني اسْمُهُ الله مَسَاجِدَ اللَّهِ جاءت مرتبة بهذه الطريقة، فلما عاد عليها الضمير قال: فِيهَا اسْمُهُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114].

وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] يعني سعى، السعي يدل على بذل جهد واجتهاد في هذا الخراب، هذا الخراب سواء كان حسيًّا أو كان خرابًا معنويًّا، الخراب الحسي في هدمها وتخريبها، عدم السماح بترميمها؛ من أجل أنها تتهالك مع الزمن وتندثر، والخراب المعنوي منع الذاكرين لله -تبارك وتعالى- من دخولها، ومنع المصلين، وهذا يشمل كل أنواع الذكر كما سبق، فالمساجد ينبغي أن تكون عامرة، فعمارة المساجد تشمل هذا وهذا.

منع العمارة الحسية كما يفعل اليهود، وهذه الأيام تشاهدون ماذا يجري في المسجد الأقصى، ومن قبل كذلك، يمنعون من ترميمه، يبنون الأنفاق تحته من أجل أن يبقى متهالكًا متهاويًا يترقبون سقوطه في أي لحظة، ثم بعد ذلك يمنعون من صلاة الجمعة فيه، أو من صلاة التراويح، أو من بعض الصلوات، أو يريدون أن يكون بعض الأيام لليهود وبعض الأيام للمسلمين، أو أن يكون في بعض الأوقات لليهود وبعض الأوقات للمسلمين، وهؤلاء ليس عندهم إلا التدنيس لبيوت الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- فهذا من الخراب الحسي، ومن الخراب المعنوي منع ذكر الله فيها كما في هذه الشواهد والأمثلة.

ولما قامت الثورة الشيوعية حولوا المساجد وبعض تلك المساجد لها أكثر من ثمانمائة سنة حولت إلى ملاهي ومراقص ومتاحف بما يسمى بالجمهوريات الإسلامية، منعوا الناس من الصلاة فيها، وحولوها إلى مثل هذه، وهكذا المساجد التي كانت في الأندلس لا زالت قائمة وشاهدة لكن تحولت إلى شيء آخر، تحولت إلى متاحف، تحولت إلى كنائس.

ويؤخذ من الآية إذا كان هذا الوعيد: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114] هؤلاء الذين يخربونها الخراب المعنوي أو الحسي أن من عمَّر المساجد العمارة الحسيّة أو العمارة المعنوية أنه له في الدنيا أحسن الجزاء وفي الآخرة أحسن العاقبة لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114] يعني العقوبة في الدنيا وفي الآخرة الذي يُخرب بيوت الله -تبارك وتعالى- ويمنع من ذكره فيها، فالذي يعمرها عمارة حسية أو يعمرها عمارة معنوية، أو يقوم بالعمارتين لا شك أن هذا له في الدنيا الجزاء المعجل الحسن، وله في الآخرة الجزاء الحسن الذي يجده عند الله -تبارك وتعالى- وقد جاء في الحديث المشهور أن: من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة[2] والجزاء من جنس العمل، لما بنى بيتًا لله بنى الله له بيتًا في الجنة، وشتان بين البيت في الدنيا وبين البيت الذي يكون في الجنة.

وكذلك أيضًا ينبغي أن يكون المؤمن إن وفق لعمارة مسجد عمارة حسيًا، يعني بنى مسجدًا عمر مسجدًا أن يحرص على العمارة المعنوية، أن يكون هذا المسجد في مكان يصلي فيه كثيرون، في مكان الحاجة إليه ماسة وجود مسجد، فهي تجارة مع الله أن يجعل في هذا المسجد من حلق القرآن، مجالس الذكر والعلم وما إلى ذلك بحيث يبقى هذا المسجد عامرًا، فيأتيه من الأجر والثواب ويكون المسجد معمورًا في كل الأوقات.

وقوله -تبارك وتعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ نُكِّر الخزي هنا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ هذا للتعظيم والتهويل، يعني خزي عظيم، وهذا يدل على أن الذين يخربون بيوت الله خرابًا معنويًّا أو خرابًا حسيًّا متوعدون بالعقوبة العاجلة في الدنيا، هذا مما تعجل عقوبته، الخزي في الدنيا، فهؤلاء اليهود ماذا ينتظرون إلا الخزي، فإن أفعالهم تجلب الخزي مع ما يلاحقهم من لعنة الله وغضبه.

ووصفه أيضًا بعظيم وهي صيغة مبالغة، خزي وعذاب عظيم، وكذلك نكَّر العذاب هنا وهذا التنكير يدل على التعظيم والتهويل، وكذلك قدم الجار والمجرور لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ فهذا للتوكيد وبين شدة هذا العذاب.

وأيضًا يؤخذ من هذه الآية من المعاني التي أشرت إليها ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- يقول: "وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه فلا أعظم إيمانًا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسيّة والمعنوية، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: 18]"[3]

  1. - أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (1599)، والحاكم في المستدرك، برقم (2149)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3271). 
  2.  أخرجه ابن ماجه، أبواب المساجد والجماعات، باب تشييد المساجد، برقم (738)، وأحمد في المسند، برقم (2157)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف جابر الجعفي"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6128).
  3.  تفسير السعدي (ص: 63).