المراد من الذين منعوا مساجد الله، وسَعَوا في خرابها هم مشركو قريش كما رواه ابن جرير عن ابن زيد في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى، وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه، وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.فقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الاستفهام هنا بمعنى الإنكار، وهو مضمن معنى النفي، بمعنى لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:21] المعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ومثل ذلك قوله - تبارك وتعالى -: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ [ سورة الأنعام:157].
ووجه الجمع بين هذه الآيات أن يقال: تشترك هذه الآيات أن كل آية منها تقول: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل، على أن كلاً منها تكون مختصة بباب معين، ففي باب الافتراء لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المنع من دخول المساجد لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهكذا كل واحدة مختصة بالباب الذي ذكرت فيه، هذا جواب لكيفية الجمع بين هذه الآيات.
والجواب الثاني أن يقال: إن القاعدة في هذا هي أن أفعل التفضيل تمنع من الزيادة، ولا تمنع من التساوي، فإذا قلت: زيد أكرم الناس، ثم بعد مدة قلت: عمرو أكرم الناس، فالمقصود أنه فاق غيره في هذا، أي أن أصل أفعل التفضيل في اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر، زيد أكرم من عمرو، فإذا قلت: زيد أكرم الناس، فهذا لا ينفي أن يكون أحد من الناس يماثله في الكرم، ويساويه، لكن لا يزيد عليه، فإذا قلت: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل فإنه لا يفوقه أحد من الناس، ولكن لا يمنع ذلك من وجود من يساويه، فيكون بهذا الاعتبار، ومن أظلم، لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ولا أحد أظلم من كذب بآيات الله - تبارك وتعالى - فكلهم متساوون إذ بلغوا الغاية العظمى في الظلم لكن لا يزيد أحدهم على الآخر.
قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهٌُ [سورة البقرة:114] أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، هذه الآية عامة تصف من وقع منه هذا الفعل بأنه وقع في أعظم الظلم، ولم يحدد ربنا - تبارك وتعالى - فيها طائفة دون طائفة فيصدق ذلك على المشركين حينما منعوا رسول الله ﷺ، ويصدق على كل من وقع منه هذا الفعل، ومن هؤلاء الذين وقع منهم ذلك النصارى حينما أعانوا بخت نصَّر على خراب بيت المقدس، وحتى بعد أن رحل عنه، وأخذ أشراف اليهود، وكبراءهم بعد أن قتل فيهم قتلاً ذريعاً بقوا هؤلاء النصارى يمنعون اليهود من دخول المسجد، ولا يمكنونهم من ذكر الله ، والصلاة فيه.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - يرى أن هذه الآيات في بني إسرائيل عموماً، منها ما يتحدث عن اليهود خاصة، ومنها ما يتحدث عن النصارى، فيرى أن هذه الآية في النصارى، وليست في مشركي العرب، والقرينة التي يحتج بها هي قوله - تبارك وتعالى - في نفس الآية: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] وقال: إن العرب من المشركين لم يخربوا الكعبة، ولم يسعوا في خراب عمرانها بل على عكس ذلك، فهم كانوا يعمرونها، ويكسونها، ويطيبونها، ويسقون الحاج، ويطعمونهم، إلى غير ذلك مما عرف عنهم من القيام على الوظائف في الحج.
والخراب في قوله تعالى: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا يشمل الخراب الحسي، والخراب المعنوي، فالخراب الحسي بهدم بنيانها، وتعطيلها، أو الحيلولة دون تجديد ما تقادم عهده منها، وانهدَّ بنيانه، وكذلك الخراب المعنوي بمنع ذكر الله ، وبمنع الصلاة، وبتعطيل وظيفة المسجد، كل ذلك من السعي في خرابها، فهو يشمل هذا، وهذا، وبالتالي فإن هذه الآية عامة، وممن يدخل فيها النصارى، ويدخل فيها أيضاً أهل الشرك، إذ إنهم لم يعمروها حقيقة، وإنما عمروا بنيانها مع أن العمارة الأهم، والأعظم هي عمارتها بذكر الله كما قال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة النــور:36]، وكما قال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [سورة التوبة:18]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [سورة التوبة:17]، وهذه الآية في أهل الإشراك.
المقصود أن الآية عامة ويدخل فيها النصارى، وهذه الرواية المذكورة في قصة المشركين هي عن ابن زيد، وابن زيد لم يدرك شيئاً من ذلك، فهي من قبيل المرسل، والمرسل نوع من الضعيف.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114] المساجد في الأصل هي موضع السجود، فأماكن الصلاة يقال لها مساجد.
وقوله: أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114] يمكن أن يكون بدلاً من المساجد - هذا احتمال - ويمكن أن يكون مفعولاً له، أي منع مساجد الله كراهية أن يذكر فيه اسمه.
وأوضح من هذا أن يقال - والله أعلم - هو أن التقدير ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، هذا أوضح هذه التقديرات، ولعله هو المتبادر لهذه الآية - والله تعالى أعلم -، وقيل غير هذا على كل حال، والله أعلم.
وفي قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - أن قُرَيشاً منعوا النبي ﷺ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [سورة البقرة:114].على هذا يكون الخراب معنوي، وعلى كل حال هذه الرواية لا تخلو من ضعف، ولا شك أن المشركين سعوا في خرابها حينما منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام، وكان ذلك في وقعة الحديبية المشهورة.
وأما كلام ابن جرير - رحمه الله - فهو كما ذكرنا أن السياق كله في بني إسرائيل ابتداء من قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة البقرة:34] وأنها كلها تذكير لبني إسرائيل فهو يرى أن الآيات غير خارجة عن الحديث عن بني إسرائيل بطائفتيهم اليهود والنصارى، وعليه فهذه الآية في النصارى حينما منعوا اليهود على قوله – رحمه الله - فهو يحتج بالسياق ويحتج بقوله تعالى:وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114].
لما وجه الله تعالى الذم في حق اليهود، والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول ﷺ، وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، واستحوذوا عليها بأصنامهم، وأندادهم، وشركهم، كما قال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17-18] وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الفتح:25]، فقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ[سورة التوبة:18] فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس، والشرك.لا ينكر أن عمارة المساجد تكون بالأمرين، العمارة الحسية، والعمارة المعنوية، وإلا ما فائدة المساجد إذا كان لا يدخلها داخل؟.
وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم - من دخولها إلا تحت الهدنة، والجزية، ولهذا لما فتح رسولُ الله ﷺ مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: ألا لا يَحُجَّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته[1].
يعني من كان له عهد فعهده إلى مدته.هذه الآية: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ هي في المانعين من المشركين، بمعنى أن هؤلاء - أعني أهل الإشراك - ليس لهم، ولا يحق بحال من الأحوال أن يهيمنوا على المساجد، وأن يمنعوا الناس من إقامة ذكر الله فيها، بل على العكس، ليس الشأن أن يتحكموا هم في المساجد، ويعطلوا عمارتها، وإنما الشأن أن القضية تكون منعكسة، فالواحد من هؤلاء لا يتمكن من دخول المسجد إلا في حال الخوف، والترقب، لا أن يكون متمكناً يمنع الناس منها، ويتسلط عليها، ويسيطر فيسعى في خرابها، ويمنع من شاء، ويفعل ما شاء، ليس لهم أن يبلغوا هذا المبلغ، وإنما الشأن أنهم ليسوا بأهل في دخولها إلا في حال واحدة هي أن الواحد منهم يدخل وهو في غاية الترقب، والخوف، والحذر؛ لأنه قد دخل في عرين الأسد، فالمسجد هو عرين الأسد، وهو موضع القيادة، وهو الذي تعقد فيه الألوية، وتقام فيه الخطب، وينهل فيه من ميراث النبوة، فهو بمنزلة القلب النابض في المجتمع الإسلامي، أو في الحي الإسلامي، أو في المدينة الإسلامية، فلا يتجرأ الواحد من هؤلاء الأنجاس كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] أن يدخل هذه المساجد فيقذرها بدخوله، وإنما يدخل وهو في وجل، وخوف أنه دخل في مكان له هذه المنزلة، والأهمية، والمكانة عند المسلمين، فيدخل في حال العهد، أو الهدنة، أو الجزية كما أدخل النبي ﷺ وفد نصارى نجران إلى المسجد للتفاوض معهم، ودعوتهم للإسلام حتى دعاهم إلى المباهلة، وكذلك ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وكان مشركاً، فما ظنك بمن يربط في سارية من سواري المسجد هل يكون متحكماً فيه، ويكون مهيمناً، ومسيطراً عليه؟
الجواب لا، فهذا هو حق أهل الإشراك، وقدرهم، ومنزلتهم، لا يدخلونها إلا في هذه الحالة، لا أنهم يفرضون سيطرتهم عليه، أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] كما هو الحال في اليهود اليوم، فهم الذين يتصرفون، ويتحكمون في المسجد الأقصى، فتارة يمنعون صلاة الجمعة فيه، وتارة يمنعون صلاة التراويح، وتارة يقفون دون الناس في الصلاة المكتوبة؛ لئلا يدخلوا فيه، وتارة يدخلونه فينجسونه، ويقذرونه بدخولهم هذا.
وأما مسألة دخول المشرك إلى المسجد فليست محل البحث هنا، لكن الراجح أنه يجوز للمشركين أن يدخلوا المساجد حتى المسجد النبوي، لكن هذا الدخول كما قال الله : أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، فلا بأس أن يدخل لإصلاح شيء في المسجد، ولا بأس أن يكون بعض العمال ممن بنى المسجد من المشركين، لا إشكال فالعامل أجير، والنبي ﷺ ربط ثمامة بن أثال في المسجد، ودخل وفد نصارى نجران في المسجد، إلا المسجد الحرام، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [سورة التوبة:28] والمقصود به أرض الحرم جميعاً، وليس فقط بناء المسجد.
فهذه الآية من حيث الصيغة خبر أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، وهي متضمنة لمعنى الطلب، بمعنى لا تمكنوهم من دخولها إلا في هذه الحال، فمن الأحوال التي ينبغي أن يمنعوا منها هذا التسكع الذي يقع في مشارق الأرض، ومغاربها، حيث يتسكعون وهم عراة، حيث توجد مساجد لها منزلة في قلوب المسلمين يأتي السواح يتفرجون عليها كما هو مشاهد في المسجد الأموي، وغير المسجد الأموي في شرق الأرض، وغربها إذ تعتبر هذه المساجد من المعالم السياحية، فيأتونها مع نسائهم في غاية العري، والتبرج ومعهم الكاميرات، ويدخلون بأحذيتهم، فكل واحد يدخل وهو مع كلبته يتفرجون، ويتسكعون في أرجاء المسجد، فليس لهم ذلك، وينبغي أن يمنعوا منه؛ فالآية خبر بمعنى الطلب، ولا شك أن الطلب في الآية أمر شرعي، وليس قدري؛ إذ لو كان المقصود بالطلب الأمر القدري ما كان دخلها أحد من المشركين؛ فالمقصود أنه أمر شرعي لأهل الإيمان أن لا يمكنوا أهل الإشراك إلا في هذه الحال.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:97] هذا خبر، وهو بمعنى الأمر، إذ هو أمر بتأمين من دخل المسجد الحرام، وعدم الاعتداء عليه، فهو أمر شرعي أيضاً، لكن هل ذلك أيضاً واقع من جهة القدر؟
بعض أهل العلم يقول: نعم؛ بدليل أن الله قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت:67]، والله أعلم.
قال المفسر – رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114] قال: وهذا إنما كان تصديقاً، وعملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28]، وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر، المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلم.
وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله ﷺ أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود، والنصارى منها، ولله الحمد، والمنة.
وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً، ونذيراً - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده، والطواف به عرياناً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله، ورسوله.
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة كما روى الإمام أحمد عن بُسْر بن أرطاة قال: كان رسول الله ﷺ يدعو: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة[2]، وهذا حديث حسن.
فخلاصة ما يقال في هذه الآية، هو أن من أهل العلم من يرى أنها بصيغة الخبر، الذي بمعنى الأمر، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ الصيغة خبرية، ومعناها الطلب، أي لا تمكنوهم من دخولها إلا في مثل هذه الحال.
وعلى كل حال معنى هذا الخبر أن هؤلاء الكفار ليسوا بأهل أن يتحكموا، وأن يتولوا شأن المسجد، فيدخلوا فيه من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، وإنما الشأن أن هؤلاء ليسوا بأوليائه إنما أولياؤه المتقون، ومن ثم فإن حق هؤلاء هو الإبعاد، والإذلال، وأنهم لا يجترئون على هذه المساجد بالدخول فضلاً عن العبث، والسيطرة، والتحكم في شئونها، فهذا هو المعنى الأول، والمعنى الثاني: أن ذلك من قبيل البشارة، فقوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ فيه إخبار عن أمر مستقبل سيقع، فتكون الآية بهذا الاعتبار بمعنى الخبر، لكنه خبر عن أمر مستقبل، فعلى كل حال المعنى الأول أقرب، والله تعالى أعلم.
ولو قال قائل بأن ذلك الخبر الذي بمعنى الطلب مضمن معنى البشارة فإن ذلك لا يبعد، وهو أولى من القول بأنه خبر محض عن أمر غيبي فهو في حقيقته بشارة لأهل الإيمان بما سيحصل لهم من التمكين، والغلبة، وقد تحقق ذلك.
لكن الآية - والله تعالى أعلم - تبين حق هؤلاء الكفار الذي ينبغي أن يكون، وهو أنهم في مرتبة دون هذا الذي ارتقوا إليه من التسلط على المساجد، والقيام عليها بصد الناس عن المسجد الحرام.
قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الفتح:25] هذا في المشركين، وكذلك في النصارى حينما دخلت دولة الرومان في النصرانية، وإن شئت أن تقول: حينما أدخلت النصرانية إلى وثنية الرومان وذلك باعتناق قسطنطين النصرانية محملاً بوثنيته؛ فأفسدها، وحصل ما حصل من تسلط الرومان على اليهود من قتل اليهود، وما وقع بعد ذلك من اجتياح بخت نصر لبيت المقدس، وخراب المسجد الأقصى، فأعانه الرومان على ذلك.
- أخرجه أحمد (ج 1 / ص 3) والدارمي (ج 1 / ص 393) وأصله في الصحيحين
- أخرجه أحمد (ج 4 / ص 181) وابن حبان (ج 3 / ص 229) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن.