الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] وهذا - والله أعلم - فيه تسلية للرسول ﷺ، وأصحابه الذين أخرجوا من مكة، وفارقوا مسجدهم، ومُصَلاهم.ابن كثير - رحمه الله - هنا يتحدث عن المناسبة بين هذه الآية، والتي قبلها باعتبار أن الآية السابقة في المشركين، وهي قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114]، أي: أن المشركين منعوا المسلمين من المسجد الحرام، فيقول: ثم سلى الله أهل الإيمان لما صدوا عن المسجد الحرام بأن لله المشرق، والمغرب، وذلك لتخفيف أثر هذا المنع، والصد في نفوسهم.
فهذا باعتبار أن الآية سابقة للمشركين، لكن من قال بأن الآية السابقة في النصارى كابن جرير - رحمه الله - كيف يربط بين هذه الآية، والتي قبلها؟ يعني ومن أظلم من النصارى الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، إلى آخره، ولله المشرق، والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فاذكروه، ولا يمنعكم تخريب بيت المقدس من أن تذكروا الله حيث كنتم، فإن ذكر الله لا يختص بمحل دون محل، فعلى هذا تكون هذه الآية عقب ما حصل من النصارى على قول ابن جرير من إخراب المسجد الأقصى، وإعانة بخت نصر على ذلك، ومنع اليهود منه، أن الله  قال: لا يكن ذلك من هذا الصد، وإخراب المسجد الأقصى سبباً مانعاً من القيام بوظائف العبودية فإن الله  يعبد في كل مكان فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] هذا إذا ربطنا بين الآية، وبين التي قبلها.
ولكن إذا نظرنا إلى أسباب نزول الآية الثانية فهي في التوجه، والاستقبال، وليس في فعل العبادة في محل دون محل، وهذا مع اختلاف الروايات، وتنوعها في سبب نزول الآية - كما سأشير إليه بعد قليل إن شاء الله -.
فالآية الأولى في المنع من التعبد لله في المساجد، وإخراب المساجد بتعطيل ذكر الله فيها، أو إخراب عمارتها، والآية الثانية في التوجه، وذلك أن لله المشرق، والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، فيمكن أن لا نربط بين الآيتين فنقول: هذه آية نازلة في سبب، وتلك تتحدث عن موضوع آخر، ولا نحتاج إلى التكلف في الربط بين الآيات، ومع أن القرآن في غاية التناسق لكن قد لا يظهر وجه ذلك إلا بنوع من التكلف قد نقول هذا.
ومن حاول الربط كابن جرير - رحمه الله - فهو يربط بين هذه القضية، وبين فعل النصارى على أساس أن السابق في النصارى، فإذا سلمنا بأن الآية الأولى في النصارى تكون هذه الآية تسلية لليهود على هذا الاعتبار، لكن هل قصد القرآن تسلية اليهود، وهو في سياق الرد عليهم، وبيان مخازيهم؟
وإذا قلنا: إنها في المشركين فيكون السياق قد خرج عن الحديث عن اليهود، وأهل الكتاب إلى المشركين، وتكون تسلية للمسلمين.
فعلى كل حال الله تعرض للمساجد التي هي محال التعبد فتوعد من قام بتعطيلها، وصد الناس عنها، وعمل على خرابها، ولما تحدث عن المساجد التي هي محل التعبد لله في الأساس، وهي أفضل البقاع عند الله ،  ولما كان الناس فيها يتوجهون في صلاتهم إلى القبلة، تحدث عن قضية القبلة، فنحن إذا عمدنا إلى مثل هذا الربط دون الغوص في الكلام على بعض التفصيلات من حيث الذين عنتهم الآية بتحديدهم على سبيل التخصيص، فإن ذلك قد يظهر وجهه، ولا يكون ذلك متكلفاً بالطريقة التي ذكرتها آنفاً.
وقد كان رسول الله ﷺ يصلي بمكة إلى بيت المقدس، والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد، ولهذا يقول تعالى: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115].على هذا الاعتبار تكون الآية نازلة في تحويل القبلة، وعلى كل حال في قوله: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أين للمكان.
فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ يعني حيثما تتوجهوا فهنالك وجه الله، أي: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ بمعنى هنالك وجه الله.
وقوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وهذا الختم للآية في غاية المناسبة؛ لأنه فتح لهم، ووسع لهم في التوجه بظاهر الآية، فناسب أن يعقبه بقوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115].
 فعلى كل حال الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا أولاً معناه أن ذلك يتعلق بمسألة تحويل القبلة، وهو أحد أسباب النزول الواردة في هذه الآية؛ وذلك أن المسلمين لما توجهوا إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود، ولما كانوا يتوجهون قبل إلى المسجد الأقصى تكلم المشركون، وقالوا: هذا يزعم أنه على دين إبراهيم، ويتوجه إلى غير قبلته، فلما حولت من بيت المقدس إلى الكعبة تكلم اليهود، وأرجفوا بالمسلمين، وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] وهم السفهاء الذين عناهم الله  بقوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] فتكلم اليهود في ذلك فأنزل الله : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، وعلى هذا الاعتبار تكون دلالة الآية إنما هي في الرد على اليهود المعترضين على تحويل القبلة، بمعنى أن الله حيث وجهكم توجهتم، فالجهات كلها لله - تبارك وتعالى -، وبالتالي لا يفهم من هذا بحال من الأحوال أن الإنسان مخير بحيث يتوجه إلى أي الجهات شاء، ويصلي، بل هو مطالب حينما كانت الوجهة إلى بيت المقدس أن يصلي إلى بيت المقدس، ولا تصح صلاته إذا كان عالماً عامداً إلا بهذا، ثم لما وجهت إلى البيت الحرام صار ذلك من الأمر اللازم الذي لا تصح الصلاة إلا به إلا من عذر بأن عجز عن التوجه لخفاء القبلة، أو المحبوس المربوط بحيث لا يستطيع أن يتوجه، أو المريض في بعض حالاته، أو نحو هذا من الأعذار، ففي مثل هذا يكون ذلك عذراً، واستثناءً لهؤلاء. 
لكن إذا نظرنا إلى الأسباب الأخرى الواردة في نزول الآية - وقد صح كثير منها - فستجد معانٍ آخر، فمن ذلك ما ثبت مثلاً عن ابن عمر أنه رأى النبي ﷺ وهو متوجه من مكة إلى المدينة يصلي على راحلته، وابن عمر يقول: وفي هذا نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ [سورة البقرة:115]؛ فهذه الرواية ثابتة، ولكنها غير صريحة. 
ولو فرضنا أن هذه الرواية أنها هي سبب نزول أيضاً - لأنها محتملة - فتكون الآية نزلت في هذا، وفي هذا، وفي هذا وفي هذا، أو يقال بأن ابن عمر أراد أن ذلك مما يدخل في معناها؛ لأن الشارع أذن للمسافر أن يتنفل على راحلته حيث توجهت به، وحتى على غير الراحلة على الأرجح، فهذا صحيح لكنه غير صريح.
وجاء أيضاً في بعض أسباب النزول أن ذلك كان بسبب خفاء القبلة حيث صلوا في ليلة مظلمة، ولم يعرفوا القبلة، فاجتهدوا فصلى كل رجل بحسب اجتهاده على حياله، ثم وضعوا أحجاراً أو شيئاً يعرفون به الجهة التي استقبلها كل واحد منهم، فلما أصبحوا رأوا أنهم صلوا إلى غير القبلة، فأخبروا النبي ﷺ فنزلت الآية، كما في حديث عامر بن ربيعة[1]، فيكون ذلك أيضاً فيمن خفيت عليه القبلة.
ووردت أسباب أخرى منها الصحيح، ومنها الضعيف، منها الصريح، ومنها غير الصريح، فعلى كل حال إذا أردنا أن نجمع في أسباب النزول فإننا نبعد الروايات الضعيفة، مثل أنهم سألوا إلى أين يتوجهون لما أمروا بالصلاة، فأنزل الله : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فهذا لا يصح، وعلى كل حال نبقي الصحيح، ونبعد غير الصريح كحديث ابن عمر الذي قال فيه: إنه رأى النبي ﷺ يصلي على راحلته[2]، قال: وفي هذا نزلت: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] فيبقى معنى أن هذه الآية رد على اليهود في اعتراضهم على تحويل القبلة، وتطمين للمسلمين، وتسلية، وهي أيضاً فيمن خفيت عليه القبلة، ويدخل في معناها أيضاً التوجه إلى غير القبلة في حال العذر، أو الرخصة، مثل المسافر يصلي تطوعاً اختياراً إلى غير القبلة فهو مرخص له، وكذلك أيضاً من صلى إلى غير القبلة جهلاً منه، أو اضطراراً مثل المريض، أو المحبوس، فكل هؤلاء داخلون في عموم قوله - تبارك وتعالى -: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] ويبقى الأصل، وهو أن الإنسان لا يجوز له أن يتوجه إلى غير المسجد الحرام؛ لقوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] إلا فيما ذكر من الأعذار، وكما هو الشأن في صلاة الخوف في حال المسايفة، والاشتباك في الحرب فإنه يصلي، ووجهه هاهنا، وهاهنا.
بعض أهل العلم أيضاً ينظر إلى لفظة "حيث" في قوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ، فيقول: إن المراد فأينما كنتم، أي: في أي مكان سكنتم من الأرض، وأقمتم فيه فثم قبلة الله، وهي الكعبة، فثم وجه الله، وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، وعلى هذا المعنى فالآية ليست في معنى الرخصة فليست في التوجه إلى غير القبلة، وليست في تحويل القبلة، وإنما هو يعلمهم، ويقول لهم: في أي مكان من الأرض أقمتم فتوجهوا إلى قبلة الله - تبارك وتعالى - وهي الكعبة، وهذا المعنى إذا فسرت الآية به بمجرده هكذا فهو بعيد؛ لأننا سنكون أعرضنا عن أسباب النزول الواضحة الصحيحة التي تبين المراد بالآية بياناً، واضحاً لا يبقى معه غبش، وبالتالي لا يحتاج إلى مثل هذا مع وجود هذه الروايات، والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال يقال في خلاصة الآية: هذه أسباب نزول نزلت الآية فيها جميعاً - والله أعلم -، فهي رد على اليهود، وفي نفس الوقت هي في من خفيت عليه القبلة، وهكذا في صلاة المسافر تطوعاً، وهكذا أيضاً في المريض، والمحبوس، ومن لم يتمكن من استقبال القبلة، فهؤلاء جميعاً معذورون.
وبعضهم يقول: هذه في الدعاء أي فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ [سورة البقرة:115] يعني تتوجهوا بدعائكم إلى أي جهة فثم وجه الله.
وعلى كل حال الحديث عن القبلة لا يختص بالدعاء، وأول ما يتبادر فيه إنما هو الصلاة، التي يطالب الناس فيها باستقبال القبلة، لكن هؤلاء كأنهم نظروا إلى أن الدعاء لا يشترط فيه استقبال فحملوا الآية عليه، وابن جرير الطبري - رحمه الله - يحمل الآية على جميع هذه المعاني، يقول: فإنه لم يرد دليل في تخصيص بعض دون بعض، فالآية تحتملها جميعاً، وكلها داخل فيه، وبهذا الاعتبار لا إشكال، فالدعاء لا يشترط فيه استقبال، نعم، وصلاة التطوع لا يشترط فيها استقبال، ومن خفيت عليه الصلاة في السفر، أو كان في مكان مظلم، أو حتى في الحضر إذا كان معذوراً، لا أن يتساهل في البحث عن جهة القبلة، أو السؤال، أو ينظر إلى المساجد المجاورة، أو نحو هذا فهذا مفرط يجب عليه أن يعيد الصلاة.
وعلى كل حال كل هذه المعاني داخلة فيها، لكن ذلك لا يفهم منه بحال أن استقبال القبلة غير واجب.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة.أول ما نسخ من القرآن القبلة باعتبار أنه أول ما نسخ من الأمور، والأحكام العملية، كما يقول بعضهم، لكن هذا القيد يحتاج إلى نظر، وتأمل؛ إذ هل تسخ غير القضايا العملية أصلاً؟ فمن المعلوم أن العقائد لا يدخلها النسخ، والأخبار لا يدخلها النسخ؛ فإن ذلك يكون تكذيباً لها، إنما النسخ في القضايا العملية، فلهذا يصير ذلك القيد أشبه ما يكون بالصفة الكاشفة التي لا تفيد قيداً، والله أعلم.
وذلك أن رسول ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان أهلُها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو، وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] إلى قوله: فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة:144] فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [سورة البقرة:142]، فأنزل الله: قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:142] وقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115].
وقال عكرمة عن ابن عباس - ا -: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً، أو غرباً، وقال مجاهد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة.
كلام مجاهد هذا بناءً على المعنى الذي ذكرته في الآخر، وهو أن قوله: فَأَيْنَمَا بمعنى حيثما، ولا شك أن أينما بمعنى حيثما، لكن ما المراد بها؟ قال: أي مكان وجدتم على وجه الأرض فعندكم القبلة تتوجهون إليها، وعلى هذا فالآية لا تكون مختصة بمن خفيت عليه القبلة، أو نزلت في كذا أو كذا، وهذا ذكرته آنفاً.
قيل: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ إذناً من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق، أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وشدة الخوف.
فعن ابن عمر - ا - أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115].
معنى يتأول في هذا الموضع معناه العمل بها؛ لأن التأويل يأتي بمعنى التفسير، ويأتي بحسب المقام، فإذا كان ذلك من قبيل الأمر فتأويله العمل بالمأمور، والامتثال، وفي حديث عائشة: "كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن[3]، يعني يتأول قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:3] أي يمتثل الأمر.
وإذا كان ذلك من قبيل الخبر؛ فتأويله يكون بوقوع المخبر، وإذا كان ذلك من قبيل الرؤيا، فتارة يقصد به التفسير كما في قوله تعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36]، هذا في تفسير الرؤيا التي رآها الملك، وتارة يكون بتحقق هذه الرؤيا، ووقوعها، كما قال يوسف : هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف:100] لما سجد له أخوته، وأبواه، فالحاصل أنها كانت تأويل رؤياه التي قال عنها: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] فالمقصود بالتأويل في قول ابن عمر: "كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]": يعني يحقق ويمتثل ويعمل بالآية.
ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي وابن أبي حاتم، وابن مَرْدُوَيه، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر، وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية.أيضاً جاء من حديث عامر بن ربيعة في غير الصحيحين مع ذكر الآية، وإسناده فيه بعض الضعف، لكنه مع وجود هذه الشواهد يكون من قبيل الحسن، والله أعلم.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر - ا - أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم، وركباناً مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، قال نافع: ولا أرى ابن عمر - ا - ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ.بمعنى أن هذه أصلاً قضية توقيفية لا يمكن لابن عمر أن يخترع من عنده طريقة في صلاة الخوف، وصلاة الخوف كما هو معلوم لها صفات متعددة، فابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف بين لهم ذلك عملياً، ولكنه لم يضفه إلى النبي ﷺ لكن ذلك مبناه على التوقيف، ومن ثم فله حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي.
وقيل: نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة لأجل الظلمة، والسحاب، ونحوهما فصلى لغير القبلة.هذا كما في حديث عامر بن ربيعة، لكن في بعض الروايات السابقة التي نقلها عن جماعة من السلف يقول: وقال عكرمة، عن ابن عباس: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115] قبلة الله، وقال مجاهد: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: إلى غير ذلك من الروايات التي جاءت في هذا المعنى مما لم يورده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حيث فسروا بها قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أي فهنالك قبلة الله، ففسروا وجه الله بمعنى القبلة، وبعضهم يقول: الجهة، وعلى هذا الاعتبار تكون الآية ليست من آيات الصفات أصلاً، فهم لم يعدوها ولم يقولوا: إنها من آيات الصفات أصلاً حتى يقول قائل: إنهم قد أولوها مثلاً، وإنما قالوا: الوجه بمعنى الجهة، وليس الوجه الذي هو الصفة المعروفة، تقول: أنا أريد هذا الوجه، يعني هذه الوجهة، وهذا معروف في كلام العرب، والسياق، والقرائن تبين المعنى المراد، وتحدده، فإذا قلت: نظرت إلى وجهك المقصود به الصفة، وإذا ذكرت الإرادة مثلاً، أو السفر، أو نحو هذا، تقول: أريد هذا الوجه فالقرائن تحدد المراد، هل تريد الصفة، أو تريد الشخص، أو تريد الجهة التي تريد أن تتوجه إليها، وتسافر إليها، وتذهب إلى ناحيتها.
بعض أهل العلم من السلف، ومن تبعهم من أهل السنة يرون أن هذه الآية من آيات الصفات، فالذين قالوا: إنها من آيات الصفات قالوا: فيها إثبات صفة الوجه لله على ما يليق بجلاله، وعظمته، فهم حملوها على ظاهرها، وهم لا ينكرون أن الوجه يطلق، ويراد به الذات أيضاً، قالوا: لكن ذلك لا يقال لمن لم يكن متصفاً، فجعلوها دالة على إثبات صفة الوجه.
والأدلة التي تدل صفة الوجه من الكتاب، والسنة كثيرة، فعدوا هذا منها، وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم منهم عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي، رد عليه، وتكلم على هذه الآية، وهذه القضية في رده على هؤلاء المعتزلة.
وممن حملها على هذا المعنى أيضاً أنها من آيات الصفات كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وكذلك الحافظ ابن القيم، وأطال في تقرير هذا المعنى في كتاب الصواعق، وهذه من المواضع القليلة التي خالف فيها شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث إن شيخ الإسلام أيضاً أطال الكلام في أكثر من موضع - في ثلاثة مواضع فيما وقفت عليه على الأقل من الفتاوى - تحدث فيها عن هذه الآية أنها ليست من آيات الصفات أصلاً، وبالتالي لا يستطيع أن يتمسك بها أهل الكلام، وأهل التأويل، والتحريف في نفيهم لصفة الوجه، أو في دعوى أن السلف وقعوا في شيء من التأويل، ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة والكلام عليها فهي في المجلد الثاني، والثالث، والسادس، من الفتاوى، وعزا ذلك إلى جمهور السلف حيث قال: إن جمهور السلف لا يرون أنها من آيات الصفات أصلاً، ولهذا لما وقعت له المناظرة المعروفة معهم في الواسطية، وأمهلهم، ومعروف ما وقع فيها حينما استعانوا بالصفي الهندي في المجلس الآخر، فالحاصل أنه كان مما أورده عليه في المجلس الذي بعده لما تحداهم أن يأتوا بمثال واحد أن السلف أولوا شيئاً من الصفات، فقال له أحدهم: بأنه وقف على مثال وقع فيه التأويل عند السلف، فقال له شيخ الإسلام: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، قال: نعم، قال: هذه أصلاً ليست من آيات الصفات حتى يقال: إنهم أولوها، ثم بين المراد بها، فهو يعزوا هذا إلى الجمهور من السلف - وأرضاهم -.
على كل حال الخلاف عند أهل السنة في مثل هذه الآية ليس خلافاً في قضية اعتقادية إطلاقاً، وإنما غاية ما في الأمر أنه اختلاف في المعنى والتفسير فقط، وغاية ما يقال عن أحد الفريقين بأنه أخطأ في تفسير الآية كأي خطأ في التفسير ليس له علاقة بالاعتقاد بحيث يقال: هذا أوَّلَ وهذا نفى، وهذا أثبت؛ لأنهم يثبتون صفة الوجه من الأدلة الكثيرة الأخرى في الكتاب، والسنة فهم مثبتون هذا الأمر، مقرون به، ولكنهم اختلفوا في آية هل هي تدل عليه، أو لا تتعلق به أصلاً مع إثبات صفة الوجه، فهذا اختلاف في التفسير فقط، وهذا مثل ما يقال أيضاً في الآية الأخرى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [سورة القلم:42] جاء عن بعض السلف، ومنهم ابن عباس، وجماعة بأن الساق بمعنى الكرب، وهذا معنىً معروف، ومشهور في كلام العرب، ولا إشكال فيه، والآية تحتمله، ومن أهل السنة من قال بأن هذه من آيات الصفات، والمقصود بها الساق الذي هو الصفة، واستدلوا عليه بالحديث الآخر، فيكشف عن ساقه[4]، فجاء به مضافاً إلى الضمير العائد على الله ،  وهنا لا يمكن أن يفسر بالكرب، فأهل السنة مثبتون لهذه الصفة مقرون بها، لكن غاية ما هنالك هو هل الآية تتحدث عن هذه الصفة، أو تتحدث عن معنىً آخر، وهذا الخلاف سائغ، ولا إشكال فيه، فهو خلاف في المعنى إذا كنت تثبت الصفة، لكن المشكلة في الذي يقول: الله ليس متصفاً بهذه الصفة أصلاً، لا الوجه، ولا الساق، ولا غير ذلك، فيؤولها بالتأويلات البعيدة، والمحامل المتكلفة، ولا يثبت ذلك ابتداءً، فهذا هو الانحراف، ولا شك أنه انحراف، وأعظم منه من جعل قاعدة، وأصلاً يسير عليه، ويؤول عليه جميع النصوص.
الذين وقعوا في التأويل المذموم منهم من وقع في مفردات، مثل الشوكاني، وجماعة، حتى بعض الأكابر لربما وقع في شيء من هذا، كابن خزيمة في كلامه على حديث: فإن الله خلق آدم على صورته[5]، فالمقصود أن هذه المفردات إذا وقع فيها الإنسان دون أن يضع قاعدة يجري عليها فإن هذا يكون من الخطأ الذي لا يكاد يسلم منه أحد، والله يغفر لهذه الأمة خطأها، وإذا كان الإنسان غير متبع للهوى فإن الله  يتجاوز عنه، وهو بين أجر، وأجرين، لكن الخطير، الأشد هو أن يجعل قاعدة، فاسدة، فيقول مثلاً: كل آية توهم في ذهنه المعوج التشبيه، أو التمثيل فإنها مصروفة عن ظاهرها، ويقول: الأخذ بظواهر الكتاب، والسنة أصل من أصول الكفر.
فهذا الكلام غاية في الانحراف، وهذا لا يقارن بمن أخطأ في مثال، أو مثالين، أو ثلاثة، أو عشرة، دون أن يضع أصلاً بدعياً يجري عليه النصوص، ويحاكمها إليه، فلا بد أن نفرق بين هذا، وبين هذا، ولا نلقي الكلام جزافاً على عواهنه بحيث نجد مثالاً، أو مثالين، أو ثلاثة لأحد من أهل العلم وقع في شيء من التأويل فنجعله بمنزلة ذلك الذي جعل أصلاً منحرفاً يحاكم إليه النصوص، هناك فرق بين هذا، وبين هذا، - والله أعلم -.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما بين المشرق، والمغرب قبْلَة لأهل المدينة، وأهل الشام، وأهل العراق وله مناسبة هاهنا، وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه بلفظ: ما بين المشرق، والمغرب قبلة[6]قوله –عليه الصلاة والسلام-: ما بين المشرق، والمغرب قبْلَة هذا يفيد فائدة، وهي أن البعيد لا يستطيع بتوجهه أن يجزم مائة بالمائة أنه إلى عين الكعبة، وبالتالي فإن الميل اليسير لا يضر بشرط أن لا يتعمد الإنسان الميل، ولذلك حتى الذين يصلون في وسط الحرم يقع منهم مثل هذا الخطأ، وهو عدم التوجه مائة بالمائة إلى عين الكعبة فيكف بالذين يبعدون ألف كيلو متر أو آلاف الكيلو مترات؟!
فالمقصود أنك إذا صليت في الطريق، وأنت مسافر مثلاً، ووقفت متجهاً إلى القبلة فجاءك من يقول لك: هل أنت متيقن أنك متوجه إلى عين الكعبة؟ فقل له: حتى وإن وقع شيء من الميل فإنه لا يضر؛ لأن النبي ﷺ يقول: ما بين المشرق والمغرب قبلة[7]، فالميلان اليسير لا يضر.
وإذا كان السجاد في مصلى المدرسة، أو مكان العمل، أو غيرهما ووجد فيه ميلان إلى حد ما فالصلاة صحيحة، وكذلك لو أن قبلة مسجد ما فيها ميلان يسير فلا حاجة أن تجعل تلك قضية، ومشكلة بحيث تؤدي إلى أن الناس يتحاشون الصلاة فيه بل لا بد من العمل، والاستفادة من هذا الحديث: ما بين المشرق والمغرب قبلة لكن إذا أمكن التحري في هذا، وضبط التوجه في الصلاة فهذا هو المطلوب. 
قال ابن جرير: ومعني قوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] يسع خلقه كلهم بالكفاية، والجود، والإفضال، وأما قوله: عَلِيمٌ فإنه يعني: عليم بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.قوله: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115]: ذكر السعة يتناسب مع قوله سبحانه: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [سورة البقرة:115]، والعلم أيضاً هنا في غاية المناسبة من جهة أن توجيههم من بيت المقدس إلى الكعبة، ومن الكعبة إلى بيت المقدس أولاً، كل ذلك مبني على علمه  المحيط بكل شيء فهو عالم ذلك ابتداءً، وأن ذلك لن يدوم، وسيحولون منه إلى غيره. 
وكذلك مع قوله - تبارك وتعالى -: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [سورة البقرة:144] فالله  عليم به بحاله، وما كان يتطلع إليه النبي ﷺ، وعليم بكلام هؤلاء، ما قالوا، وما سيقولون من جراء تحويل القبلة، فهو عليم بما يصلح خلقه، لا يخفى عليه من أمرهم خافية.
  1. أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة - باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم (345) (ج 2 / ص 176).
  2. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت (700) (ج 1 / ص 486).
  3. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب التسبيح والدعاء في السجود (4684) (ج 4 / ص 1901) ومسلم في كتاب الصلاة – باب ما يقال في الركوع والسجود (484) (ج 1 / ص 350).
  4. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23] (7001) (ج 6 / ص 2706).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب بدء السلام (5873) (ج 5 / ص 2299) ومسلم في  كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (2841) (ج 4 / ص 2183).
  6. أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء ما بين المشرق والمغرب قبلة (342) (ج 2 / ص 171) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب القبلة (1011) (ج 1 / ص  323) وصححه الألباني في مختصر الإرواء برقم (292).
  7.  - سبق تخريجه. 
 

مرات الإستماع: 0

"فَأَيْنَما تُوَلُّوا في الحديث الصحيح: أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة، فنزلت[1]."

قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لاحظ هذه الآية مع ما قبلها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ابن جرير - رحمه الله - يربط آيات هذه السورة، ويقرر أن ذلك في أهل الكتاب في بني إسرائيل، وربط بين هذه الآية، والتي قبلها يعني وَمَنْ أَظْلَمُ من النصارى كما يرجّح أنها في النصارى حينما منعوا اليهود من بيت المقدس وَمَنْ أَظْلَمُ من النصارى الذي منعوا مساجد الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ لاحظ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ اليهود اليوم لا يذكرون فيها اسم الله، وإنما يذكرون كفرًا، وباطلًا، الذي يفعلونه هو من الإخراب المعنوي، والحسي، يقول ابن جرير: ومن أظلم من النصارى الذي منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.

منعوهم قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وجوهكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ يعني اذكروه، ولا يمنعكم تخريب بيت المقدس أن تذكروا الله حيث كنتم، القضية لا تتوقف على مكان بعينه فالله يُعبد، ويُذكر، ويُصلى له في كل مكان، هذا لا يختص بموضع دون موضع، فإذا مُنعتم من موضع فاذكروه حيث كنتم، فابن جرير يربط بين هذا، وهذا، يعني بين الآية، والتي قبلها، هذه يسمونها المناسبة، ما علاقة هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أن ذلك يرتبط بالمنع من الصلاة ببيت المقدس عنده، وعلى القول بالعموم: أن هذا يشمل المشركين منعوا المسلمين من بيت الله الحرام، ويشمل هؤلاء النصارى، ويشمل كل من صدر عنه ذلك، فتكون الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أنكم حيث كنتم فاعبدوا الله - تبارك، وتعالى - ولا يمنعكم من ذلك أن مُنعتم من بعض بيوت الله أن تذكروا اسمه فيها، يعني: يكون هذا المثال من جملة الأمثلة في ذكر السبيل، والمخرج، والطريق، أو البديل، أو نحو ذلك عن شيء قد تعذر، أو تعثر، فهذا في القرآن له أمثلة واضحة لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة: 104] إما أن يكون ممنوع مما منع شرعًا، أو قدرًا، وهناك أمثلة غير صريحة لكن مثل هذا، على هذا القول: أن الآية مرتبطة بما قبلها.

ومن لا يربط بين هذه الآية، وما قبلها بهذه الطريقة يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هذه الآية لا علاقة لها، وإنما نزلت بسبب.

ظاهر هذه الآية قد يُفهم منه وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أنه لا يجب على الإنسان أن يستقبل القبلة، ولهذا اختلفت أقوال المفسرين في توجيهها، فهنا يقول: في الحديث الصحيح: أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة، فنزلت. 

هذا صحيح عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي ﷺ، فنزل: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115][2].

هذا صحيح في أسباب النزول، وسبب النزول - كما سبق - هو قطعي الدخول في العام، فتكون الآية نازلة بسبب الاجتهاد في استقبال القبلة في السفر، فإذا أخطأ ليس عليه الإعادة، قلت: في السفر؛ لأن من الفقهاء من يمنع من الاجتهاد في البلد. يقول: في البلد يستطيع أن يعرف، ويستطيع أن يسأل، ويستطيع أن ينظر إلى المحاريب. فإن غاب عليه العلامات التي في السماء بسبب الغيم، ونحو هذا فإنه يستطيع أن يتوصل إلى هذا بأمور أخرى فيخرج، وينظر إلى محاريب المساجد، فبعض أهل العلم يمنع من الاجتهاد في البد مطلقًا، ويقول: كل اجتهاد في البلد في القبلة أخطأ فيه فإنه مفرط، فعليه الإعادة. وبعضهم يقول: يبقى على اجتهاد في البلد فالإنسان قد يخرج، وينظر إلى المحاريب فإذا دخل في بيته، أو في الشقة الجديدة التي نزلها مؤقتًا، أو بصورة مستديمة قد يحصل له لبس، ويظن أن الجهة التي رأى فيها المحراب من هنا، والواقع أنها من جهة أخرى تمامًا، ويخطئ كما هو مشاهد، وقد يبقى شهورًا، وهو على هذه الحال، وقد يضع بوصلة، وتخطأ هذه البوصلة، فمثل هذا يقول بعض أهل العلم: إذا بذل وسعه رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: (قد فعلت)[3].

فهذا من الخطأ المغتفر، فإذا اجتهد لا إشكال ما لم يكن مفرطًا. يعني مفرطًا بحيث لا يعرف شيئًا، ويقول: أتوقع من هنا، ويصلي. 

فهذا لا يصح بهذه الطريقة: أتوقع من هنا، وإنما يتحرى، ويسأل، يخرج ينظر في المساجد، أو في ما حوله، إذن قوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ يكون فيمن اجتهد في القبلة في السفر فأخطأ كما يدل عليه سبب النزول.

"وقيل: هي في تنفل المسافر حيث ما توجهت به دابته[4]."

هذا جاء في حديث ابن عمر - ا - قال: رأيت النبي - ﷺ - يعني في طريقه من مكة إلى المدينة يعني عكس القبلة - يصلي على راحلته تطوعًا حيثما توجهت به، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

لاحظ هذا ليس بسبب نزول، وإنما قرأ الآية، يعني أن ابن عمر رأى أن هذه الآية تنطبق على الصلاة على الراحلة على غير القبلة في النافلة في السفر، فهذا يدخل فيها فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ التنفل في السفر على الراحلة، يصلي حيثما توجهت به راحلته، وكذلك أيضًا في الرد على اليهود لما اعترضوا على القبلة قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [5].

فتكون ردًا على اليهود، وهذا ثابت، وصحيح في أسباب النزول، والآية قد تنزل على أسباب متعددة يعني حصل أكثر من سبب، هذا إذا كانت هذه الأحداث متقاربة، يعني اعترض اليهود، وحصل اجتهاد من بعض الصحابة في ليلة مظلمة فصلوا، وأخطأ بعضهم في الاجتهاد، فنزلت بعد هذه الحوادث، فيكون ذلك جميعًا هو سبب النزول، فإذا كانت هذه الحوادث متباعدة، فتكون نزلت في أحدها ثم بعد ذلك نزلت الآية مرة ثانية تذكيرًا بالحكم، وأن الحكم فيها كما في الآية التي نزلت قبل ذلك على سبب آخر، فيكون تذكيرًا، تنزل الآية مرتين، وقد تنزل أكثر من ذلك - والله أعلم - فتكون هذه الآية نازلة على جملة من الأسباب: اعتراض اليهود، وأيضًا اجتهاد بعض الصحابة في القبلة، وتكون أيضًا يدخل فيها صلاة النافلة في السفر على الراحلة، ويدخل فيها أيضًا من تعذر عليه استقبال القبلة كالمريض الذي لا يستطيع أن يتوجه، وكذلك أيضًا لو أنه حُبس في مكان، أو رُبط في شيء بحيث لا يستطيع أن يتحرك، ويتوجه إلى القبلة فإنه يصلي فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فيدخل في ذلك جميعًا، ولا يُفهم بحال من الأحوال أن المقصود أن المصلي يتوجه إلى أي جهة كان، ولا يلزمه استقبال القبلة فهذا لا يصح، ولا تصح صلاته؛ لأن استقبال القبلة من جملة الشروط، والله يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فلا تُضرب هذه النصوص بعضها ببعض.

"وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي: إذا مُنعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل: إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة."

مع أنه صح الحديث في هذا في سبب النزول، ما يقال: وقيل.

"فهي كقوله بعد هذا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية والقول الأول هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ المراد به هنا كقوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي رضاه."

هذا تأويل بلا شك، فالوجه لا يُفسر بالرضا، لا يُعرف هذا لا في كلام العرب، ولا في لسان الشرع.

"وقيل: معناه الجهة التي وجهه إليها."

فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: على هذا المعنى الجهة، أنها ليست من آيات الصفات أصلًا، وإنما الوجه يعني بمعنى الجهة، وهذا قول معروف لبعض السلف، أن الآية ليست من آيات الصفات يعني هم لم يؤولوها، وشيخ الإسلام - رحمه الله - في المناظرة في الواسطية لما قال: أمهلكم ثلاث سنين ائتوني بشاهد واحد أن السلف تأولوا صفة من صفات الله . فبحثوا في المجلس الآخر في المناظرة قال له أحدهم: وجدته. فقال شيخ الإسلام: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ؟

قال: نعم، قال: هذا ليس من ذلك. يعني هو ليس من آيات الصفات أصلًا، يعني يكون المعنى حيث توجهتم في صلاتكم نحو الجهة التي شرعها الله فَثَمَّ وَجْهُ تقول العرب: أريد هذا الوجه. يعني هذه الجهة، فالسلف اختلفوا هل هذه من آيات الصفات أصلًا صفة الوجه؟ أو أنها تتحدث عن شيء آخر ليست من صفات الله وإنما الوجه بمعنى الجهة؟ أريد هذا الوجه، يممت وجه كذا يعني جهة كذا، فهذا معنى معروف قال به بعض السلف، والآية تحتمل هذا، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[6] وبعضهم قال: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: قبلة الله.

وبعض أهل العلم أنكره، وقال: الوجه في اللغة لا يقال: للقبلة. ليس من معاني الوجه القبلة، وممن أنكر هذا ابن جرير، لكن يمكن أن يقال: لما كانت الوجهة التي وجهوا إليها هي البيت الحرام يقال لها القبلة؛ لأن المصلي يستقبل الكعبة، فكان ذلك تفسيرًا له بالتسمية التي تقال فيه، الذي يتوجه إليه الناس هو البيت الحرام فيقال له قبلة، فمن قال: بأن فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: القبلة، قبلة الله، القبلة التي أمركم باستقبالها فهذا معنى بهذا الاعتبار لا يقال: إنه غير صحيح. والله أعلم؛ لأن الجهة هي القبلة التي أُمروا باستقبالها، والتوجه إليها هي البيت الحرام، فهو القبلة فيكون فسره بهذا الاعتبار كأنه من قبيل التفسير باللازم، فمنهم من فسره بالقبلة، ومنهم من فسره بالصفة: صفة الله الوجه، الذي هو صفته على ما يليق بجلاله، وعظمته من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تكييف فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هل المصلي يستقبل وجه الله؟ الله فوق سماوته فوق عرشه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فصح عن النبي ﷺ في نهي المصلي أن يبصق إلى القبلة، وإنما عن يمينه، أو عن شماله، وعلل النبي ﷺ ذلك بأن وجهه يكون قِبَل وجه المصلي، وهو فوق عرشه، فالله لا يُقاس بالمخلوقين، ومن ثم فإن الجمع بين الوجهة، والصفة يمكن في هذه الآية تكون جمعًا بين أقوال السلف، فيمكن أن يقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: حيث توجهتم في صلاتكم نحو الجهة التي شرعها الله فإنكم تتوجهون إلى الله تعالى؛ لأن المصلي إذا توجه إلى القبلة فقد استقبل، وجه الله حقيقة، وليس معنى ذلك أن الله تعالى، وتقدس لا يكون في سُفل، وإنما هو فوق عرشه، لكن النبي ﷺ أخبر عن هذا.

"وأما قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله."

هذا ليس من المتشابه فإن الصفات الصريحة التي ذكرها كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] بالنسبة للآية الأولى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أيضًا أهل السنة اختلفوا هل هي من آيات الصفات أصلًا، أو لا؟ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ هذه من آيات الصفات، والنصوص الصريحة الواضحة في الوجه التي لا تقبل التأويل كثيرة، فلا يصح أن يقال: إن هذا من المتشابه يعني من جهة المعنى بحال من الأحوال فإن أعظم ما في القرآن، وأجل ما في القرآن هو الحديث عن الله، وتوحيده، وآياته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، التعريف بالمعبود بإلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته: هذا أجل ما في القرآن، وأعظم ما في القرآن، فكيف يقال: إن هذا من المتشابه؟! والله - تبارك، وتعالى - خاطبنا بهذا القرآن بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] فخاطب العرب بما يعهدون، وما يفهمون، فكيف يكون الحديث عن الله، وصفاته من قبيل المتشابه الذي لا يُعرف المراد به سواء قيل: لا يعرف مطلقًا. كما يقوله غلاة المفوضة، أو يقولون: إن له معنى يحتمل أن يكون على ما قال أهل التأويل، ويحتمل غير ذلك نحن نتورع فلا نخوض فيه، هكذا يقول بعضهم، فأهل التفويض طوائف، ومذاهب، وكل هذا باطل، فصفات الله من المحكم، وليست من المتشابه، ومعانيها معروفة لكنها من المتشابه من جهة الكنه، والكيفية، فكما قال الإمام مالك - رحمه الله -: الاستواء معلوم - يعني معلوم من جهة المعنى - والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب[7].

ولذلك كانت عقيدة أهل السنة، والجماعة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله ﷺ من غير تكييف، فلا نقول: كيف وجهه؟ كيف ينزل؟ لا يجوز، ولا تمثيل: لا نمثل أوصاف الرب - تبارك، وتعالى - بأوصاف المخلوقين، ولا تعطيل: فننفي عنه صفة الوجه، ونؤولها بالرضا، أو نؤولها بغير ذلك، أو نؤولها بالذات كما هنا في القول الأخير الذي نقله عن الأصوليين قال: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود.

هذا غلط لكن يمكن أن يقال: ومن لازم ذلك إثبات الذات مثلًا. بقاء الذات، لكن أن يفسر الوجه بالذات هذا غير صحيح، هذا تأويل، أو يفسر بالرضا، أو نحو هذا، هذا غلط، فهذا مذهب أهل السنة، والآية هذه اختلفوا فيها كما سبق على قولين، ليس في تأويلها، ولكن هل هي من آيات الصفات، أو ليست من آيات الصفات، ولو جُمع بين هذا، وهذا، بين كون الوجه يراد به الوِجهة التي يتوجه إليها، وما دلت عليه السنة من أن الله يكون وجهه قِبَل وجه المصلي، ونحن نثبت ما ثبت بالكتاب، والسنة، ولا نتعرض لتأويله، ولا نحرف، ولا نمثل أوصاف الرب بأوصاف المخلوقين، الله أجل، وأعظم من ذلك كله.

لاحظ يقول: من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويرد علمه إلى الله. المشكلة أن الذين يتحدثون عن هذا الكتاب، وعن عقيدة المؤلف - رحمه الله - التي ذكرها فيه، يقولون: كان من أهل السنة. ويوردون مثل هذه العبارات يظنونها أنها هي مذهب أهل السنة، وهذا قصور، والجالب له هو هذه التخصصات في العلوم الشرعية التي لا تتأتى بهذه الطريقة، أن يكون الإنسان بمعزل عن دراسة العقيدة، أو دراسة ما يُحتاج إلى معرفته، فيتخصص في جزئية من العلم، أو نحو ذلك، فإذا جاءت مثل هذه في كتب التفسير، وقضايا العقيدة ظن أن عقائد المتكلمين أنها هي عقائد أهل السنة.

"وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات، أو عن الوجود."

من يقصد بالأصوليين؟ هم يقسمون الدين إلى أصول، وفروع، فالذين يتحدثون عن الأصول يعني يتحدثون عن العقائد، وكذلك الذين يتحدثون عن الدلائل الإجمالية: أصول الفقه، ولو نظرت، وتتبعت في كلام هؤلاء تجد أنهم حينما يذكرون الأصوليين يذكرون الجويني، والباقلاني، وأمثال هؤلاء ممن يتكلمون في قضايا الاعتقاد، وأيضًا في أصول الفقه، المقصود أن الحديث هنا: وقال الأصوليون. يعني الذين يتحدثون عن قضايا الأصول، وليس الفروع، فيدخل في الأصول قضايا الاعتقاد، والدلائل الإجمالية للفقه: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، دلائل الفقه إجمالًا هذه هي أصول الفقه، فهؤلاء ألفوا في هذا، وهذا، يعني ألفوا في ما يسمونه بعلم الكلام الذي هو العقائد، يسمونها علم الكلام، وألفوا في أصول الفقه، فهو يقصد أمثال هؤلاء، قال الأصوليون. يعني: كالباقلاني، والجويني، والغزالي، وأمثال هؤلاء من أئمة المتكلمين، هو يقصدهم، قال الأصوليون: هو عبارة عن الذات.

وهؤلاء هم أهل التأويل: كالرازي، ونحو هؤلاء، المتكلمون من الأشاعرة، عامة المتقدم منهم كان يغلب عليهم جانب التفويض، يعني هم يقولون: ليست على ظاهرها لكن الله أعلم لا نستطيع أن نحدد معنى. ولهذا لاحظ أنهم يقولون: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم، وأحكم. هم يقصدون السلف منهم سلفهم؛ لأنهم هم فهموا عقيدة السلف أصلًا بأنها التفويض، يقولون: مذهب السلف أسلم لا تحدد معنى معين، تقول: الوجه بمعنى الرضا، أو الاستواء بمعنى الاستيلاء، وإنما قل: بأن ذلك ليس على ظاهره - والله أعلم - المراد به.

فحينما يقولون: مذهب السلف أسلم. هو سلفهم، أو على فهمهم، وإلا فمذهب السلف الصالح أسلم، وأعلم، وأحكم؛ لأنهم يقولون: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم، وأحكم. الخلف أمثال: ابن فورك، والرازي، والجويني، والباقلاني، والغزالي، وأمثال هؤلاء، هذا مذهب الخلف يعني أهل التأويل أعلم، وأحكم، يقولون: السلف لم يتفرغوا لهذه الأشياء، وتورعوا، وجاء هؤلاء فوضعوا هذه على ما يليق بجلاله، وعظمته، وحملوها على المحامل اللائقة، والواقع أنهم حرفوا هذه الصفات.

"وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع."

هذا مذهب السلف أن الوجه صفة ثابتة بالسمع، وعلى كل حال، هذه الآية على الخلاف الذي ذكرته بين أهل السنة، فبعضهم عدّها من آيات الصفات، ممن عدّها من آيات الصفات: الإمام عثمان بن سعيد الدارمي[8] وكذلك أيضًا كبير المفسرين ابن جرير الطبري[9] والحافظ ابن القيم[10] ومن المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن بن السعدي[11] عاملوها على أنها من نصوص الصفات فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إثبات صفة الوجه لله خلافًا لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وشيخ الإسلام عزا القول الذي تبناه، وهو أنها ليست من آيات الصفات للجمهور من السلف، مع أن الحافظ ابن القيم خالفه في هذا، فهو يرى أنها من آيات الصفات، وعزا هذا لعامة أهل الإثبات، وممن قال بأنها من آيات الصفات إمام الأئمة ابن خزيمة - رحمه الله - هؤلاء عدّوها من آيات الصفات، وممن نُقل عنه أنها ليست من آيات الصفات أصلًا كقول شيخ الإسلام من السلف: مجاهد، ومن الأئمة: الشافعي - رحمه الله -[12] إذن هذه الآية لم يختلف أهل السنة في تأويلها، وإنما اختلفوا في محملها أصلًا هل هي من آيات الصفات تتحدث عن صفة الوجه؟ أو تتحدث عن الوجه بمعنى الجهة التي يتوجه إليها المصلي؟ والجمع بين القولين أحسن - والله أعلم -.

شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذهب إلى أن ذلك التوجه فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إلى أي جهة، مما يُفهم من ظاهر الآية أنه قد نُسخ في حق المفترض الذي يصلي الفرض العالم الذي يعرف القبلة يعني يُغتفر في حق الجاهل - والتطوع كما سبق في السفر، فيرى شيخ الإسلام أنه نسخ جزئي في حق المفترض العالم القادر، يعني ليس كالمريض العاجز، ونحوه.

هذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال كما هي القاعدة المعروفة، فحمل الآية على ما سبق من أن ذلك في السفر، وكذلك فيمن خفيت عليه القبلة، وأنها جاءت في سياق الرد على اليهود لما اعترضوا على تحويل القبلة فالله يقول لهم الجهات كلها لله فهو الذي شرع لكم استقبال القبلة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا سواء إلى بيت المقدس، أو إلى الكعبة، إلى بيت المقدس قبل النسخ، أو إلى الكعبة بعد ما حولتم إليها فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وتحتمل الآية عند بعض أهل العلم أن ذلك في صلاة الخوف حال المسايفة، فالواقع أنه لا يستقبل القبلة في حال الالتحام فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فيكون ذلك مما يدخل في معناها فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وبعضهم يقول: هذا في الدعاء لا يشترط استقبال القبلة. فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا في الدعاء فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.ابن جرير - رحمه الله - عمم الآية لتشمل ذلك جميعًا أنها في حال المسايفة، وفي حال الدعاء، وفي حال الصلاة على الراحلة في السفر غير الفريضة، وفي حال خفاء القبلة، وما إلى ذلك. وهذا جيد. 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، رقم: (345)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات، والسنة فيها، باب من يصلي لغير القبلة، وهو لا يعلم، رقم: (1020).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، رقم: (345).
  3.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة: 284] رقم: (126).
  4.  عن ابن عمر، قال: " كان رسول الله ﷺ يصلي، وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت فأينما تولوا فثم، وجه الله [البقرة: 115]. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، رقم: (700).
  5.  تفسير ابن كثير (1/392).
  6. مجموع الفتاوى (2/429).
  7.  حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (6/326).
  8.  انظر: رد الإمام الدارمي على بشر المريسي العنيد (21)..
  9.  تفسير الطبري (2/536).
  10.  مختصر الصواعق المرسلة (392)
  11.  تفسير السعدي، ص (76)
  12.  مجموع الفتاوى (3/193)

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] هذه الآية تتصل أيضًا بما قبلها من الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل، تتحدث عن اليهود، وذلك أنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اعترض اليهود وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [سورة البقرة:142] فقال الله : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:142].

وأنزل الله -تبارك وتعالى- أيضًا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فالجهات كلها لله يوجهكم إلى ما شاء منها، فوجهتكم إلى بيت المقدس كان بأمر الله وتوجيهه واختياره، ثم بعد ذلك وجهكم إلى بيته الحرام، وذلك أيضًا عن حكمة وعلم، وعبادتكم وصلاتكم التي كنتم تتوجهون بها إلى بيت المقدس محفوظة لا يضيع ولا يذهب منها شيء.

ولهذا قال الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فكان ذلك من قبيل الرد على اليهود، وإذا فهم هذا في سبب النزول فإن الآية تفهم على وجهها، أن الله -تبارك وتعالى- له جهتا الشروق والغروب، جهة المشرق والمغرب، وما بينهما، فكل الجهات لله -تبارك وتعالى- فهو الذي يملك الكون كله، فهو ملكه وتحت تدبيره وتصرفه، فأي جهة توجهتم إليها في الصلاة بأمر الله لكم فإنكم تتوجهون إلى الوجهة المشروعة، تبتغون بذلك وجهه؛ لأن قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فسره بعضهم بالجهة، أن ذلك ليس من آيات الصفات أصلاً، يعني صفة الوجه تُثبَت بنصوص أخرى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [سورة الرحمن:27] لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[1] وما إلى ذلك من النصوص الكثيرة في إثبات صفة الوجه، لكن هل هذه من نصوص الصفات؟

بعض أهل العلم من أهل السنة والجماعة يقولون: هذه ليست من نصوص الصفات، وإنما فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: الوجهة، تقول: أنا ذاهب إلى هذا الوجه، يعني إلى هذه الناحية، إلى هذه الوجهة، فهذا معروف في كلام العرب وليس من قبيل التأويل.

وبعض أهل العلم يقولون: هذه من آيات الصفات، ويمكن الجمع بين القولين -والله أعلم- بأن يقال: بأن الوجهة التي تتوجهون إليها وهي القبلة، ولذلك عبر بعض السلف فثم قبلة الله، مع أن بعض الأئمة من المفسرين قالوا: لا يعرف القبلة في اللغة بمعنى الوجه، الوجهة يعني، والواقع أن ذلك من قبيل تفسير الشيء بأمر يتعلق به، يعني قد يفسر بلازمه، وقد يفسر ببعض متعلقاته.

فالوجهة التي يوجههم الله إليها، يلزم يقتضي أن تكون هي القبلة، ومن ثم فإن من قال: فثم قبلة الله، فهو تفسير له بهذا الاعتبار أن الوجهة، الوجه الذي يوجههم إليه يقال له: قبله، فنحن نتوجه هنا إلى الكعبة، إلى جهة الغرب في هذه المنطقة، فهذه تقال لها: قبلة وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة:115] أي قبلته التي شرعها، فإذا قيل: الوجه بمعنى الجهة فهذا لا إشكال، وليست من آيات الصفات عند هؤلاء الأئمة، وليس ذلك من التأويل في شيء، فيمكن أن يقال: بأن هذه: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: الجهة التي يوجهكم إليها، والقبلة التي شرع لكم استقبالها، وهذه القبلة كما جاء عن النبي ﷺ بأن الله -تبارك وتعالى- يعني يكون وجهه قِبَلَ وجه المصلي، ولهذا نهى أن يبصق المصلي في جهة القبلة[2] فيكون هذا جمعًا بين هذه الأقوال فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لأنه يكون قِبَلَ المصلي، بهذا الاعتبار، ونكون قد جمعنا بين القولين -والله تعالى أعلم.

مع أنه صح في سبب نزول هذه الآية غير هذا الخبر وهو أن اليهود اعترضوا على تحويل القبلة فجاء هذا الرد عليهم، كل الجهات يملكها الله ويوجهكم حيث شاء، فليس لأحد أن يعترض، هذا معنى سبب النزول ومقتضاه.

الروايات الأخرى روايات صحيحة منها أنهم اجتهدوا كما في حديث عامر بن ربيعة [3] اجتهدوا في القلبة في سفر في ليلة مظلمة ما عرفوا القبلة فيها، ما استطاعوا النظر إلى النجوم فاجتهدوا، فصلى كل رجل على حياله؛ لأن إذا اجتهد الناس في القبلة ماذا يفعلون؟ يعني عندنا أربعة يصلون فاجتهدوا فاختلفت اجتهاداتهم، فكل واحد قال: القبلة من هذه الجهة، غير جهة الآخر، يعني لم يتفقوا، أربعة كل واحد من جهة، الجهات المتقابلة الجهات الأربع، ماذا يفعلون، كيف يصلون؟ يصلون جماعة، يصلي بهم أحدهم، ولا يجوز لأحد أن يقلد الآخر إذا كان اجتهاده قد أداه إلى أن هذه هي القبلة، إلا الذي لا يعرف يقول: أنا لا أدري أين القبلة، يقلد من يرى أنه أرجح وأعرف، لكن لو أن هذه الاجتهادات كل واحد يقول: أنا هذا اجتهادي، هذه القبلة من هنا، والثاني يقول: لا، من هنا، والثالث يقول: من هنا، والرابع يقول: من هناك، فماذا يفعلون؟

يصلون جماعة كل واحد إلى جهة، إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده، تصور أربعة يصلون كل واحد قد أدار ظهره للآخر في الجهات الأربع، هذا هو الحكم، وصلاتهم جميعًا صحيحة، وهذا هو الواجب عليهم؛ لأنهم مأمورون بالجماعة، واختلف اجتهادهم، فأصحاب النبي ﷺ اجتهدوا في حديث عامر بن ربيعة، فخطوا خطوطًا بالليل كل واحد إلى الجهة التي يعتقد أنها القبلة، فلما أصبحوا تبين لهم القبلة، وخطأ من أخطأ فيها، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت الآية، فهذا سبب صريح في النزول وصحيح، والأول صريح وصحيح أيضًا في اجتهادهم بالقبلة.

وجاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضًا بإسناد صحيح ثابت: أنها نزلت في الصلاة، قال: رأيت، يعني في السفر، النافلة، قال: "رأيت النبي ﷺ وهو جاءٍ من مكة إلى المدينة"، جاي من مكة إلى المدينة يعني مستقبل الشمال عكس القبلة، "يصلي على راحلته حيث توجهت به"، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ"[4] لكن هذا صحيح لكنه غير صريح في سبب النزول، قال: فقرأ، لا يدل على أنها نزلت بسبب هذا، فنبقى مع الأول والثاني، فيقال: بأن ذلك لعله كان في وقت متقارب اعترض اليهود ووافق ذلك أيضًا وقوع هذا الاجتهاد من الصحاب  في سفر، فنزلت الآية بعد الحدثين، بعد الواقعتين، ونكون قد جمعنا بين أسباب النزول.

وإن كان ذلك في الزمان متباعدًا، فيمكن أن يقال: بأن الآية نزلت مرتين، مرة بسبب اعتراض اليهود، ومرة بسبب الاجتهاد في القبلة، والآية قد تنزل مرتين تذكيرًا بالحكم وأن الحكم المتعلق بها هو نفس ما نزل من قبل في الآية النازلة بسبب كذا وكذا.

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فليس لأحد هنا أن يقول: لله المشرق والمغرب والشمال والجنوب، طيب أين هي؟ أليست لله؟ هذه تسمى عجمة في الفهم، فالعرب تذكر طرفي الشيء، تذكر المشرق والمغرب وتريد سائر الجهات، فهذه من أساليب العرب، وبعض أهل العلم يقول: لعل فيه مقدر محذوف وهو: ولله المشرق والمغرب وما بينهما، والأصل عدم التقدير.

ويحتمل أن يكون ذلك: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يعني: ولله المشرق والمغرب فيكون من باب الاكتفاء يعني والشمال والجنوب وسائر الجهات، فالعرب قد تذكر شيئًا ليدل على غيره، فتستغني بذكر ذلك الغير بذكر الأول، وهذا كثير في كلامها سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] والبرد ما ذكر، هذه السرابيل اللباس تقينا الحر وتقينا البرد، لكن الله قال: تَقِيكُمُ الْحَرَّ وتَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [سورة النحل:81] يعني الدروع التي تلبس في الحرب وهي: سرابيل تقيكم الحر والبرد، فيكون من باب الاكتفاء.

وكذلك في مثل قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] إن نفعت، طيب وإن لم تنفع؟ أليس يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليبرئ الإنسان ذمته ويعرف الحكم ولا يضيع الحق في الناس، هو كذلك، فذكر أشرف الاحتمالين إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] وإلا وإن لم تنفع فإنه يجب التذكير، فهذا يسمى باب الاكتفاء، فهنا وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [سورة البقرة:115] كل الجهات لله .

فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة:115] على القول الآخر في إثبات صفة الوجه لله لكن على القول الأول أنها ليست من آيات الصفات أصلاً، كقوله: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [سورة الذاريات:47] يعني: بقوة، ليس ذلك في إثبات صفة اليد، أيد، ودَاوُدَ ذَا الأَيْدِ [سورة ص:17] وهكذا فسر به قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] بعضهم قال: الأيدي هنا يعني القوة، قوة في العبادة وقوة في الدعوة وقوة في البلاغ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله وما إلى ذلك، قوة أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] القوة العلمية، قوة عملية وقوة علمية.

إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] هذا كالتعليل لما قبله، جميع الجهات لله و"إن" تفيد التعليل وتفيد التوكيد إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ فهو من أسمائه الواسع، ومن أسمائه العليم، وهي صيغة مبالغة فسعته -تبارك وتعالى- تشمل السعة في ملكه، والسعة في علمه، والسعة في عطائه، والسعة في قدرته، والسعة في سلطانه، والسعة في غير ذلك مما يدخل تحت هذا المعنى أو تحت هذه الصفة.

إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فيختار من الجهات ما شاء، فكلها له، واسع الملك واسع الغنى عَلِيمٌ يعلم إلى أي الجهات تتوجهون، والقبلة التي وجه الله إليها أهل الإيمان هي البيت الحرام، وهذه القبلة ذكر بعض أهل العلم أنها قبلة الأنبياء قبل النبي ﷺ لكن اليهود كانوا يتوجهون إلى التابوت بعد موسى بأزمنة، في قصة الملك الذي بعثه الله لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [سورة البقرة:248] فهذا التابوت كانوا يحملونه في مغازيهم فإذا أرادوا أن يصلوا وضعوه أمامهم وتوجهوا إليه، فإذا رجعوا من الغزو وضعوه على الصخرة التي في بيت المقدس، فكانوا يتوجهون إلى الصخرة، فكانت قبلتهم إلى الصخرة في حال كونهم في بيت المقدس، ولهذا فإن هذه الصخرة هي مقدسة عند اليهود ولا قداسة لها عند المسلمين.

وما يذكر من الأساطير أنها صخرة معلقة بالهواء أو غير ذلك هذا كله كذب، وإنما الذي بنى عليها القبة، وجعلها بهذه المثابة هو عبد الملك بن مروان في حروبه مع ابن الزبير، فكان بعضهم قال له: بأن الناس يتوجهون إلى الحج والعمرة ويلقون ابن الزبير، وأنت في الشام، فزين الصخرة هذه، ووضع عليها هذه القبة، ووضع عليها، لعل الناس يقصدونها، وبعدما قتل ابن الزبير وصار الملك لعبد الملك لم يهدم هذه القبة ويريح الناس من هذا، أبقاها على حالها، وصار المسجد الأقصى إذا عُرض للأسف لا تعرض إلا هذه القبة والمسجد وهي في ساحته، لكن المبنى للمسجد لا يعرف لدى الأجيال، لا يعرفونه، يعرفون هذه القبة.

وحتى المعنيين، يعني إذا قلنا: إن الأعداء مثلاً يريدون أن يبرزوا صورة معينة للمسجد الأقصى بحيث إذا هدموا المسجد بقيت هذه القبة التي تحتها هذه الصخرة التي يعظمها اليهود، أن هذا المسجد الأقصى ما هدم، قد نقول: هذا من عمل اليهود، لكن الشيء الذي يشيب له المفارق ولا أفهمه منذ نعومة أظفاري إلى الآن ومن كان عنده جواب فليسعف به، المعنيون بالشأن من أهل البلد من فلسطين من الأخيار من الصالحين إذا عرضوا مؤتمرًا أو غير ذلك وضعوا خلفهم صورة قبة الصخرة، لا أعرف لماذا؟ لا أدري لماذا ترسخ في الأذهان أن هذا هو المسجد الأقصى؟

أما النصارى فكانوا يستقبلون المشرق، فعلى كل حال هذا إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:115] فيختار من الجهات، فوفق الله هذه الأمة إلى قبلة أبيهم إبراهيم وإلى بيته الحرام فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] وقال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [سورة البقرة:144] وما قال: قبلة تهواها كما سيأتي، وإنما تَرْضَاهَا فهوى النبي ﷺ تبع لما شرع الله -تبارك وتعالى- هو تبع لمحاب الله، بخلاف أهواء الناس فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:144] هذا -والله أعلم. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله ﷺ: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، برقم (293). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم (406)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، برقم (547). 
  3.  أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، برقم (345)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، برقم (1030). 
  4.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب ومن سورة البقرة، برقم (2958)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد في المسند، برقم (4714)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الملك وهو ابن أبي سليمان العرزمي فمن رجال مسلم، وهو ثقة لم يتكلم عليه غير شعبة من أجل حديث، وثناؤهم عليه مستفيض. يحيى: هو ابن سعيد القطان".