الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَٰنَهُۥ ۖ بَل لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ۝ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة البقرة:116-117] اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله -، وكذا من أشبههم من اليهود، ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله.يعني هذا باعتبار أن النصارى قالوا المسيح ابن الله، واليهود قالوا عزير ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فكل هذه الطوائف الثلاث، وقعت في هذه الورطة، وإن كان حينما تذكر نسبة الولد إلى الله  فالمتبادر إلى ذلك طائفة من هذه الطوائف اشتهرت به، وهم النصارى؛ لأن ذلك غلب عليهم، أما اليهود فإن الذين قالوا بأن عزيراً ابن الله إنما هي طائفة من اليهود، لا كل اليهود، وكذلك أيضاً الذين قالوا الملائكة بنات الله، ليسوا كل العرب أهل الإشراك، وإنما هم طائفة من العرب، وقعوا في مثل هذا.
قوله: على الرد على النصارى - عليهم لعائن الله - على كلام ابن كثير هي رد على الطوائف الثلاث، وعلى ما ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فهو يرى أن هذه الآية أيضاً رد على النصارى، لأنه ذكرهم أولاً، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ [سورة البقرة:114] قال: هي في النصارى، حينما أعانوا على إخراب بيت المقدس، ومنعوا اليهود من الصلاة فيه، ثم سلى المؤمنين أي آنذاك الذين مُنعوا منه بأن شرع لهم حيثما كانوا أن يتوجهوا إليه سبحانه، ويعبدوه، ثم قال: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] أي النصارى - على كلام ابن جرير الطبري - فهو يرى أن هذه الآية وَقَالُواْ أن الواو عاطفة على قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] عند قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] ثم ذكر بعض مخازيهم فقال: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116].
وكذا من أشبههم من اليهود، ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم، وقولهم: إن لله ولداً فقال تعالى: سُبْحَانَهُ [سورة البقرة:116] أي: تعالى، وتقدس، وتنزه عن ذلك علواً كبيراً.
بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:116] أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات، والأرض، ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم، ورازقهم، ومقدرهم، ومسخرهم، ومسيرهم، ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له، وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين؟ وهو - تبارك وتعالى - ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته، وكبريائه، ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد؟! كما قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:101].
وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ۝ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ۝ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ۝ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۝ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:88-95]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1-4].
فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له، ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد؟!
ولهذا روى البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة عن ابن عباس - ا - عن النبي ﷺ قال: قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولداً، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً[1] انفرد به البخاري.
وفي الصحيحين عن رسول الله - ﷺ، وسلم - أنه قال: لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولداً، وهو يرزقهم، ويعافيهم[2].
سيأتي، وجه الرد عليهم من هذه الآية، من الوجهين الذين ذكرهما الله فيها، وذلك في قوله - تبارك، وتعالى -: سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116]، ثم قال: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة البقرة:117].
قال المؤلف - رحمه الله -، وقوله: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: "قَانِتينَ" مصلين، وقال عكرمة، وأبو مالك: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مُقِرُّون له بالعبودية، وقال سعيد بن جبير: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ يقول: الإخلاص.، وقال الربيع بن أنس: يقول كل له قانتون أي: قائم يوم القيامة، وقال السدي: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ أي: مطيعون يوم القيامة، وقال خَصيف عن مجاهد: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون، كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان، وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله، وهو كاره، وهذا القول عن مجاهد - وهو اختيار ابن جرير - يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت هو الطاعة، والاستكانة إلى الله، وهو شرعي، وقَدري كما قال الله تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15].قوله: عن ابن عباس قال: "قَانِتينَ" مصلين: هل هذا المعنى يتأتى في جميع المواضع؟
يقول النبي – عليه الصلاة والسلام-: أفضل الصلاة طول القنوت[3]، يعني طول الصلاة؟، ويقول تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [سورة آل عمران:43] هل المعنى يا مريم صلي لربك، واسجدي، واركعي؟ ويقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35]، هل يعني المصلين، والمصليات؟
الجواب: ليس بظاهر تفسير القنوت في جميع مواضعه بالصلاة، لكنه يحتمل في بعض المواضع دون بعض.
وقوله: قال عكرمة، وأبو مالك: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ مُقِرُّون له بالعبودية: الذين قالوا بهذا قصدوا به أن هذا الإقرار بالنسبة لأهل الإيمان يكون بألسنتهم، وبالنسبة لغيرهم يكون بأمر آخر، ما هذا الأمر الآخر؟
بعضهم يقول: المراد به ما يظهر عليهم من أثر صنع الله فيه، ودلائل قدرته بخلقه التي تبدو عليه، كل ذلك يجعله عبداً مربوباً مخلوقاً لربه، وخالقه القدير شاء أم أبى، فإقراره بالعبودية من جهة ظهور أثر صنعة الخالق عليه، فهذا هو الإقرار بالنسبة للكافر على قول بعض أهل العلم.
وبعضهم يذهب بهذا بالنسبة لغيرهم كما في السجود في قوله تعالى: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [سورة الرعد:15]، وذلك أنه لما ذكر جميع من في السماوات، ومن في الأرض قالوا: سجود الظلال بالنسبة للكافر.
وقول بعضهم: قانتون بمعنى الإخلاص، وهذا فيه إشكال إذا فسر في جميع المواضع؛ وذلك أنه لا يصح أن يقال في قوله – عليه الصلاة والسلام - مثلاً: أفضل الصلاة طول القنوت[4] أي طول الإخلاص.
لكن ودون شك أن من قال الإخلاص لم يقصد بذلك تفسيرها في جميع المواضع، وإنما يفسر هذه الآية، أي: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] أي مخلصون، وكذلك الأمر في قول من قال: قانتون أي قائم يوم القيامة.
عن الربيع بن أنس: قانتون قال: أي قائم يوم القيامة، وهذا المعنى أخذوه من أصل القنوت، حيث ذهبت طائفة كبيرة من أهل العلم من أهل اللغة، وغيرهم لما نظروا في أصلها اللغوي فقالوا: أصل القنوت في كلام العرب بمعنى القيام، فحينما قال: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة116] أي قائم يوم القيامة، وكأن الذي ألجأه إلى هذا المعنى استشكال ما يقع من جهة الكافر إذا قلنا: إن القنوت هنا بمعنى العبادة، أو بمعنى الخضوع إلى آخره، و"كلٌّ" التي في قوله تعالى: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] هي أقوى صيغ العموم، والكافر جاحد، ومنكر، ومكابر، ومعرض عن الله ؛ فلهذا - والله أعلم - نظر بعضهم إلى أصل معنى القنوت، وحمله على معنىً يكون للمؤمن، والكافر، وذلك في الآخرة، فقال: أي قائمون، وسمي بيوم القيامة لقيام الناس فيه لرب العالمين، وهذا المعنى تفسيره في هذا المقام فيه بعد، وإن كان لوحظ فيه أصل المعنى اللغوي لكن ضعفه في كونه جعله في يوم القيامة.
وقال بعضهم: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] أي مطيعون يوم القيامة، والقنوت يأتي بمعنى الطاعة، لكنهم قالوا: يوم القيامة؛ لأن الكافر غير مطيع، والعاصي عاصي، إذن: هذا يكون يوم القيامة حيث لا يستطيع أحد أن يعصي أصلاً بل كلهم في غاية الذل، والخضوع لله ، فالقنوت قيل بمعنى القيام، وبعضهم يقول: هو بمعنى الطاعة، فإذا ركب هذا المعنى في الدنيا سيستشكل السامع هذا الكلام؛ إذ ليس كل الناس في طاعة، لذلك قالوا: هذه الطاعة تكون يوم القيامة.
وبعضهم لم يجعلها يوم القيامة، وذلك أنهم نظروا إلى معنى آخر للطاعة فيما يتعلق، ويتصل بالأمر الكوني، لذلك تجده يقول هنا: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون، كن إنساناً فكان، وقال: كن حماراً فكان: بمعنى الأمر القدري الكوني الذي لا يستطيع الإنسان أن يتخلص، أو ينفك منه بحال من الأحوال، فالناس في كل حالاتهم إنما هم تحت قدر الله لا يخرجون عن ذلك في قليل، ولا كثير، والمقصود أن بعضهم نظر إلى الطاعة فجعلوها في الآخرة، وبعضهم جعلوها في الدنيا لكنهم لم يجعلوها في الأمر الشرعي، وإنما جعلوها في الأمر الكوني القدري، فهذا قال: مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله فهذا جعلها في الدنيا، إذ الكافر لا يطيع؛ لذلك قال: في سجود ظله، وهو كاره.
ثم قال: وهذا القول عن مجاهد هو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها: كيف يجمع الأقوال كلها؟
أي: إذا كان مطيعاً فهو مصلٍّ، وإذا كان مطيعاً فهو مخلص، وإذا كان مطيعاً فكذلك هو منقاد لأمر الله في كل حالاته، وكذلك هو مطيع طاعة اضطرار في أمر الله الكوني القدري، سواءً كان ذلك في الدنيا، أو في الآخرة.
قال: وهو أن القنوت هو الطاعة، والاستكانة إلى الله، وهو شرعي، وقَدري: الحاصل أن ابن جرير - رحمه الله - يفسر القنوت هنا بالطاعة لله ، والإقرار له - تبارك وتعالى -، وبالعبودية، وهذه الطاعة، والاستكانة، والإقرار بالنسبة للكافر تكون بما يظهر عليه من أثر الصنعة، وبالنسبة للمؤمن بعبودية الاختيار التي يتقرب فيها إلى الله ، فالحاصل أن ما يظهر على الخلق من آثار الصنعة كل ذلك يدل على أنهم قانتون لله  من هذه الحيثية، بمعنى أنهم مُقِرُّون من هذه الجهة، وإن جحدوا بألسنتهم فدلائل قدرته، وخلقه فيهم أظهر من جحود ألسنتهم؛ فأجسامهم شاهدة على هذا الخلق، والقدرة، وما أشبه ذلك، والخلاصة فهذه الطاعة إما إقراراً بالألسن، والجوارح، والقلب، وإما إقراراً بما يظهر عليهم من أثر الصنعة فهو ظاهر عليهم.
وبعضهم يفسر القنوت بمعنى السكون، وبعضهم بمعنى السكوت، حيث إنهم لما كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت: وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [سورة البقرة:238] سكتوا فكان نهي عن الكلام.
شيخ الإسلام له رسالة خاصة في القنوت، وفسره في جميع موارده فقال: إنه يدور في جميع هذه المواطن على معنى المداومة، والاستمرار على الشيء، هكذا قال - رحمه الله -.
وهذا القول يمكن أن يناقش، وقد يرد عليه إشكالات كما يرد على غيره، انظر مثلاً حديث: أفضل الصلاة طول القنوت[5]، فالقنوت في الصلاة قد يستشكل هنا، لكن يمكن أن يفسر هذا بمثل: وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [سورة الأحزاب:35]، ويمكن أن يفسر بمثل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [سورة آل عمران:43]، أي أديمي الطاعة.
وعلى كل حال بعض أهل العلم يقول: إن القنوت مشترك بين هذه المعاني، بمعنى أن القنوت ليس له معنىً، واحداً، وإنما هو مثل لفظة العين، فهي تطلق على العين الباصرة، وتطلق على العين الجارية، وتطلق على الذهب، وتطلق على الجاسوس، وغير ذلك من الألفاظ المشتركة مثل لفظة أمة، فالأمة بمعنى الجماعة من الناس، أو الجماعة المجتمعة على ملة، ودين، أو نحلة، أو بمعنى الرجل الجامع لخصال الخير، أو المدة الزمنية كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45]، إلى غير ذلك من المعاني.
فالمقصود أن القنوت من أهل العلم من يقول: إنه مشترك بين معانٍ متعددة، وهذا القول إذا قلنا به تنحل به كثير من هذه الإشكالات، والاعتراضات التي ترد في بعض المقامات مما لا يصلح أن يفسر بها القنوت بمعنىً بعينه، فيلجئهم ذلك إلى بعض المحامل، والمعاني كالذي يقول في الآخرة، أو غير ذلك.
فالمقصود أننا قد لا نستطيع في كثير من الحالات على الأقل أن نفسر لفظة بلفظة ترادفها، وتأتي بكل معانيها تماماً، ومن ثم يقع الإشكال عند تفسير اللفظة؛ لأنك لا تفسرها بلفظة تؤدي المعنى المطلوب، وإنما هو شيء يقربه فيقع في مثل هذا التفاوت في العبارات، كل واحد يتلمس معنى يقرب المقصود، فيأتي في الواقع ببعضه لا بكله، فلفظة القنوت تفسيرها بمجرد الطاعة لا يكفي، وإنما هي طاعة في سكون مثلاً، تقول: فلان قانت لله ، وفلان من القانتين، فهل المقصود أنه فقط من المطيعين؟ لا، وإنما فيه معنى زائد على مجرد الطاعة، فيرد فيه معنى السكون، ويرد فيه معنى الخضوع، والاستكانة، وفيه معنى المداومة على الطاعة بمعنى أنه لا يقال: قانت، أو فلان من القانتين لمن يطيع الله فترة قصيرة، - والله أعلم -.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة (4212) (ج 4 / ص 1629).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الصبر على الأذى (5748) (ج 5 / ص2262)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم - باب لا أحد أصبر على أذى من الله (2804) (ج 4 / ص 2160).
  3. أخرجه البخاري في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب أفضل الصلاة طول القنوت (756) (ج 1 / ص 520).
  4. سبق تخريجه.
  5. سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

"وَقالُوا اتَّخَذَ قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون، وبعض العرب: الملائكة بنات الله."

قوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا يقول: قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون، وبعض العرب. يعني أنها عامة.

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا تصدق على كل من صدر عنه ذلك من هذه الطوائف، وقد عدّها أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[1] والحافظ ابن كثير[2]: أنها من قبيل الرد على النصارى، فابن جرير يرى أنها معطوفة على ما قبلها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فهو يرى أنها في النصارى - كما سبق - حينما منعوا اليهود من بيت المقدس، وأخربوه إعانة لبختنصر، فهنا وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أنها في جملة ذم النصارى، فهو يربط بين هذه الآيات، لكن ابن كثير - رحمه الله - يضيف إلى هذا إلى كونها في النصارى أنها أيضًا فيمن أشبههم من اليهود، ومن مشركي العرب، يعني: أنها في النصارى، ويدخل فيها من أشبههم من اليهود، والمشركين، وابن جرير حينما يقول: بأنها معطوفة على ما قبلها مؤيدًا القول بأنها في النصارى وَسَعَى فِي خَرَابِهَا يرى أن ذلك قرينة مرجحة لأحد هذه الاحتمالات، وإلا فإنه في العادة كما هو معروف من منهجه أنه حينما يُذكر أقوالًا، أو احتمالات في الآية يقول: وليس لنا أن نحمل الآية على أحد هذه المعاني إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

فعادته أنه يقول: هذه الآية تبقى على هذه الاحتمالات. يعني إلا إذا وجد دليل كقرينة، ونحو ذلك، فيرى أن هذه هي القرينة - والله أعلم -.

لكن وَقَالُوا الواو هنا عاطفة، وقالوا بما يظهر، بهذا الاعتبار رأى أنه ترتبط بما قبلها، الحديث في السابق إذا حملناه على النصارى وَقَالُوا أي: النصارى، لكن حينما نقول: إن الآية سابقة لا تختص بالنصارى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أنها عامة وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا فذكر أيضًا من جملة هذه الجرائم الكبار نسبة الولد إلى الله فيدخل في ذلك كل من وقع في هذا.

"سُبْحانَهُ تنزيه له عن قولهم."

كما ذكرنا في القاعدة أن القرآن حينما يذكر مقالة، فإما أن يذكر قبلها، أو بعدها، أو في أثنائها ما يدل على بطلانها، أو يسكت عن هذا، قلنا: إن السكوت غالبًا يدل على أن هذه المقالة صحيحة. فهذا مثال على الرد بعدها وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا يقف هنا، ثم تقول: سُبْحَانَهُ: ننزهه عن هذا القول الذي هو أعظم الإفك، والافتراء على الله.

"بَلْ لَهُ الآية ردّ عليهم؛ لأن الكل ملكه، والعبودية تنافي البنوة."

أي: لو كان له ولد فهذا الولد سيكون شريكًا له، والله يقول: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ فاللام هذه للمِلك، هم مربوبون عبيد لله فيكف يكون له ولد؟!.

"قانِتُونَ أي: طائعون منقادون."

أي: بمعنى لا يخرجون عن مشيئته، وقدرته، وملكه، بل هم عبيد، مقهورون، مدبَرون، وهم منقادون خاضعون للنواميس الإلهية في أبدانهم، وغيرها طوعًا، أو كرهًا، يعني: هذا الانقياد إما انقياد اختيار، وعبودية، وإما انقياد قهر، يعني: أنهم منقادون له شرعًا طوعية، أو قدرًا يتصرف فيهم كما يشاء، ويجري عليهم من أقداره ما شاء لا يستطيعون دفع ذلك، وبنحو هذا قال كثير من السلف: كابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسُّدي، وعكرمة[3].

وبعضهم يقول: بأن القنوت أصله القيام كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ يعني: قائمون بالعبودية إما إقرارًا كأهل الإيمان، أو أن أثر الصَنعة ظاهر عليهم كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] فإذا كان يأكل الطعام معناه أن قيامه بغيره، وكذلك يحتاج إلى الخلاء، والإله لا يكون كذلك، فهنا كُلٌّ لَهُ أثر الصنعة ظاهر عليهم؛ لأن (كل) أقوى صيغة من صيغ العموم كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ فإذا قلت: أهل الكفر يدخلون في هذا.

فهذا يكون من قبيل قنوت القهر بإجراء الأقدار عليهم، أو بظهور أثر الصنعة، وكل هذا لا إشكال فيه - والله تعالى أعلم - وبعضهم فسر  ذلك بمعنى السكون القنوت، وبعضهم فسره بالطاعة، وبعضهم يقول: مشترك بين هذه المعاني.

وابن جرير فسر كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بالإخلاص، وبعض السلف: كابن عباس جاء عنه أن قوله: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ أي: مصلون[4].

ويقول السُّدي: مطيعون يوم القيامة[5]. باعتبار أن الكافر متمرد على الله لكن يوم القيامة لا يوجد تمرد. 

وجاء عن الربيع بن أنس قَانِتُونَ يعني: كل له قائم يوم القيامة[6] ومجاهد فسره بما يشبه المعنى السابق الذي ذكرنا من جريان القدر، لكنه ذكر شيئًا يشبه المثال كن إنسانًا فكان كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ يعني: أن مراد الله نافذ فيه، وجاء عن مجاهد أيضًا: بأن طاعة الكافر في سجود ظله، وهو كاره[7]. واختاره ابن جرير، وذكر ابن كثير - رحمه الله -: أن القنوت هو الاستكانة، والطاعة، وأنه على النوعين اللذين ذكرنا سابقًا: قدري، وشرعي[8]. كما قال الله : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد: 15] فابن جرير يفسر القنوت هنا بالطاعة، والإقرار لله  والدلالة على وحدانيته فهو إخبار بأن جميع من في السماوات، والأرض كلها مقرة بدلالتها على ربها، وأن بعضهم، وإن جحد فإن ألسنتهم، وأجسامهم شاهدة على أن الله - تبارك، وتعالى - هو الذي خلقهم، ويتصرف فيهم كما شاء، الإنسان لا يختار صورته، ولا يختار وقت ولادته، ولا وقت وفاته، وهكذا ما يجري عليه بين ذلك إنما هو محكوم بقدر الله - سبحانه، وتعالى - لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في قنوت الأشياء لله وقد استقرأ مواضع القنوت، ورجح أن ذلك يرجع إلى معنى واحد: هو دوام الطاعة في كل القرآن يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران: 43] دوام الطاعة وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ [الأحزاب: 35] الذين يديمون الطاعة، ونحو هذا.

  1.  تفسير الطبري (2/537).
  2.  تفسير ابن كثير (1/396).
  3.  المصدر السابق (1/397).
  4.  المصدر السابق.
  5.  تفسير الطبري (2/538).
  6. تفسير الطبري (2/539)
  7.  المصدر السابق (2/538).
  8.  تفسير ابن كثير (1/397).

مرات الإستماع: 0

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] هذه المقالة صدرت عن اليهود: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة:30] وصدرت عن النصارى: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة:30] وصدرت أيضًا عن المشركين فقالوا: إن الملائكة بنات الله، وقد رد القرآن عليهم ذلك: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ يعني البنات وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى [سورة النحل:62] قال: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [سورة الصافات:153] قال ذلك إنكارًا على مقالتهم، فهذا قاله بعض طوائف من قبائل العرب، فهذه المقالة مقالة مشتركة، وقد نزه الله -تبارك وتعالى- نفسه عن ذلك سبحانه من هذا القول الباطل ومن كل عيب ونقص، ومما يصفه به الواصفون من هؤلاء الكفار والمشركين وأهل الأهواء والبدع، فكل من في السماوات والأرض هم ملكه وعبيده، وهم جميعًا خاضعون مسخرون لتصرفه، تحت تصرفه وتدبيره، فهم ملك له.

يؤخذ من هذه الآية: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [سورة البقرة:116] اتخذ، فهذا لا يتأتى مع نسبة الولد إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الاتخاذ يدل على معنى الاكتساب، وهذا ينافي الولدية، فالولدية تأتي بدون صنع ولا اكتساب، فإذا جاء الصنع جاءت العبودية: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وفي هذا هذه العبارة: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الولد يصدق على الذكر والأنثى، فاليهود قالوا: بأن عزيرًا ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، واليهود قالوا: الملائكة بنات الله، فالولد هنا يشمل ذلك جميعًا الذكر والأنثى، فيكون نفيًا لمقالة هؤلاء جميعًا.

بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116] "كل" هذه حينما تقطع عن الإضافة كما في هذا الموضوع وقد نونت كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ يصح فيها مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، فجاء هنا مراعيًا للمعنى، فإن ذلك يدل على الجمع، فقال: قَانِتُونَ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ والقنوت بمعنى دوام الطاعة، فكل ما في هذا الكون هو مطيع لله دائم الطاعة، وكما قال الله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44] فكل شيء مسبح، وكل شيء مطيع، ويبقى هذا التمرد يصدر عن الثقلين عن الجن والإنس، أعني من كفر بالله منهم وعصاه، باقي الكائنات من الجمادات، والنباتات، والدواب، وأنواع الحيوان في البر والبحر، والطير في الهواء كل ذلك مسبح لربه وخالقه غير مستنكف عن عبادته.

ثم أيضًا جاء تأكيد الخبر هنا باسمية الجملة، وتقديم الجار والمجرور له على قَانِتُونَ للتأكيد كُلٌّ لَهُ لله دون ما سواه، فهي قانتة له وحده، فإن تقديم الجار والمجرور هنا يدل على الاختصاص والحصر فهي قانتة لربها وخالقها فهي تعرفه.