الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194]، قال عكرمة عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، وقتادة، ومقسم، والربيع بن أنس، وعطاء، وغيرهم لما سار رسول الله ﷺ معتمراً في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول، والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو، ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]."
معناها بهذا الاعتبار أنهم منعوا النبي ﷺ من دخولها في ذي القعدة، وهو شهر حرام، فدخلها النبي ﷺ في ذي القعدة من السنة التي بعدها معتمراً - عليه الصلاة، والسلام - .
وقوله تعالى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]، الحرمات: جمع حرمة، وهي كل ما حرم الشارع انتهاكه.
"وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: "لم يكن رسول الله ﷺ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، ويغزوا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ". هذا إسناد صحيح."
يعني أنه لم يكن يبدأ بالغزو، فإذا دخل الشهر الحرام مكث في المدينة، لكنه إذا غزي فإنه لا يبقى متفرجاً، ومن المعلوم أن النبي ﷺ لما فتح مكة عام الفتح في رمضان، تجمعت هوازن، ومن معها، حتى جاءوا إلى وادي حنين بين مكة، والطائف فخرج إليهم النبي ﷺ في شوال، ووقع القتال، والحصار لأهل الطائف في ذي القعدة، أي أن قتالهم كان في الشهر الحرام، ولكن من الذي بدأ، ومن الذي جهز، ومن الذي جيش الجيوش؟ الذين بدءوا هم أهل الطائف.
"ولهذا لما بلغ النبي ﷺ، وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل، وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين، بايع أصحابه، وكانوا ألفاً، وأربعمائة تحت الشجرة."
وهذا كان في شهر ذي القعدة، حيث إنه لما بعثه ﷺ ليتفاوض مع المشركين جاءت إشاعة أن عثمان قد قتل، فبايع أصحابه، فبعضهم يقول: بايع على القتال، وألا يفروا، وهذا عليه كثير من المحققين، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [سورة الفتح:18]، فهم عزموا على قتال المشركين؛ رداً على هذا الإجرام، والاعتداء، وهو قتل السفراء، فالسفراء ما كانوا يقتلون لا في جاهلية، ولا في إسلام، ولهذا قال النبي ﷺ لوفد مسيلمة الكذاب: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما[1]، حيث قال، وفد مسيلمة للنبي ﷺ: إن مسيلمة يقول: أنا نبي، وأنت نبي، والله خلق الأرض، وجعلها نصفين، فجعل نصفها لك، ونصفها لي، فغضب النبي ﷺ من هؤلاء، وقال لهم هذا القول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما.
@
"وكانوا ألفاً، وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وجنح إلى المسالمة، والمصالحة، فكان ما كان.
وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين، وتحصن فلُّهم بالطائف عدل إليها فحاصرها، ودخل ذو القعدة، وهو محاصر لها بالمنجنيق، استمر عليها إلى كمال أربعين يوماً، كما ثبت في الصحيحين عن أنس فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها، ولم تفتح، ثم كرَّ راجعاً إلى مكة، واعتمر من الجعرَّانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان - صلوات الله، وسلامه عليه -.
وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، أمرٌ بالعدل حتى في المشركين كما قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126].
وقوله: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] أمرٌ لهم بطاعة الله، وتقواه، وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر، والتأييد في الدنيا، والآخرة."

قال أهل العلم في قوله تعالى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ : لما صدَّ المشركون نبي الله ﷺ عن البيت كان القصاص منهم وفق المعاهدة أن يدخلها في نفس الوقت بعد عام.
إلا أن ظاهر الآية أعم من ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194]، -  والله أعلم - .
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في الرسل (2761) (ج 2 / ص 92)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2399).

مرات الإستماع: 0

"الشَّهْرُ الْحَرامُ الآية، نزلت لما صد الكفار النبي ﷺ والمسلمين، عن دخول مكة للعمرة عام الحديبية، في شهر ذي الحجة، فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة، أي: (الشهر الحرام) الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها".

هذا الذي قاله أكثر المفسرين، وقد جاء عن ابن عباس - ا - والضحاك، والسدي، وقتادة، والربيع ابن أنس، وعطاء[1] وغير هؤلاء، قالوا: إنه لما سار النبي ﷺ معتمرًا في سنة ست من الهجرة (6هـ) وحبسه المشركون عن الدخول، والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم - يعني اقتص منهم - فنزلت في ذلك هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ يعني كل هؤلاء من السلف يقولون: بأن ذلك نزل فيما، وقع من صدهم النبي ﷺ في ذي القعدة، وهو شهر حرام، في السنة السادسة، فأقصه الله منهم في السنة السابعة، فاعتمر في شهر ذي القعدة، وهو شهر حرام، فقال: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ.

"وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي: حرمة الشهر، والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر، والبلد حين صددتم عنها".

هي بلد حرام، وفي شهر حرام، شهر ذي القعدة، والحرمات: جمع حُرمة، وهي: كل ما منع الشرع من انتهاكه، فيقال له: حرمة؛ ولهذا يقال للمرأة: حُرمة، بمعنى أنها تصان، ولا يُعتدى عليها، ولا تُطال بريبة، فهذا من صيانة الشرع لها، وصار ذلك شائعًا كالاسم، حيث يقال: حريم، وحرمة، وكل ذلك حفظًا للنساء، والأعراض من كل دنس، حتى في الاسم صار يقال لها ذلك.

"فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تسمية للعقوبة باسم الذنب، أي: قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة من صدكم عن دخول مكة".

الذنب هو الاعتداء، والعقوبة - المقابلة له - "سماها اعتداء" تسمية للعقوبة باسم الذنب الذي هو الاعتداء، وهذا قريب من قول من قال: بأن ذلك على سبيل المشاكلة، يعني أن المقابلة بالمثل هو من قبيل العدل، وليس من الاعتداء، فسماه اعتداء من قبيل المشاكلة، أو من باب تسمية العقوبة باسم الذنب.

لكن من أهل العلم من يقول: بأنه يقال له: اعتداء، وليس من قبيل المشاكلة اللفظية، والاعتداء قد يكون بحق، وقد يكون بباطل، فالمحرم هو الاعتداء بغير حق، هكذا بعضهم يقول، فلا يعُد ذلك مشاكلة، ولا من باب تسمية العقوبة باسم الذنب، فيجعل الاعتداء منقسمًا، ولكن الأكثر على خلاف هذا.

  1. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 263).

مرات الإستماع: 0

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194].

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ القتال في الشهر الحرام لا يجوز؛ ولكن كما قال الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ إذا كان ذلك على سبيل مقابلة عدوانهم فإن ذلك يكون جائزًا في هذه الحال، وكذلك عند المسجد الحرام وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [سورة البقرة:191].

وهذه الآية كثير من السلف فمن بعدهم يقولون: المراد بذلك أن المشركين منعوا النبي ﷺ من دخول مكة في السنة السادسة وذلك في الحديبية كما هو معلوم، فصدوه هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الفتح:25] فكان النبي ﷺ قد توجه إلى مكة بالشهر نفسه وهو ذو القعدة، وكانت عمرة القضاء، فالشهر الحرام بالشهر الحرام، منعوه من دخول البيت، من دخول مكة في شهر حرام، فدخلها النبي ﷺ من قابل في شهر حرام.

والذي يتعدى حدود الله -تبارك وتعالى- مما حده في الزمان أو المكان أو غير ذلك فإنه يعاقب بمثل فعله، فالكفار حينما يقاتلون المسلمين في الشهر الحرام لا يبقى المسلمون في حال من المتاركة للكافر يقتلونهم ويأسرونهم بحجة أن ذلك وقع في شهر حرام.

وكذلك لو أنهم فعلوه في بيت الله الحرام، فلو أن أحدًا اعتدى في الحرم وعمد إلى أهل الحرم من القاطنين فيه أو الواردين والوافدين عليه من العمار والحجاج يقتلهم ويسفك دماءهم أو نحو ذلك، فهذا لا يُترك بحجة أنه في بلد حرام، وهكذا، والجزاء من جنس العمل.

والله -تبارك وتعالى- يقول في هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، فالله -تبارك وتعالى- يكون معكم فهو أهل التقوى.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ المقابلة بالمثل، وكذلك أيضًا في قوله: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ قصاص هنا مصدر فأخبر عن المحرمات بذلك بالمصدر من باب المبالغة وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ يعني يُقتص من الجاني والمعتدي بمثل فعله، فعبر عن ذلك بالمصدر فقال: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.

وهكذا يؤخذ من قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ يؤخذ منه أن هذا الدين ليس بدين خنوع وضعف وعجز وقعود، وإنما هو دين قوة، فالمعتدي يرد عدوانه، الأمة بحاجة إلى أن يكون لديها من القوة وأسباب القوة والمنعة ما تصد به عدوان المعتدين فتكون مرهوبة الجانب، ويحصل لها بذلك العزة والمنعة والغلبة، ويحسب الأعداء لها ألف حساب، فلا يجترئون عليها ولا يستحلون بيضتها.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ هذا كأنه نتيجة لقوله: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فعقب بالفاء، كالتفريع عليه، بما أن الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم؛ لأن الحرمات قصاص.

وتسمية الاعتداء: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ الرد بالمثل هل يقال له: اعتداء؟

من استشكل هذا قال: إن ذلك من باب المشاكلة يعني عبر بلفظ نحو اللفظ الذي ذكر معه، يعني الذي فعله الكفار هو اعتداء، رد المسلمين ليس باعتداء، فسماه اعتداءً من باب المشاكلة اللفظية، وقد تكلمنا على المشاكلة في بعض المناسبات، وهي عند الكثيرين من أنواع المجاز، كما قال بعضهم:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا[1]

فهؤلاء عرضوا على هذا الإنسان شيئًا من الطعام يصنعونه له وكان بحاجة إلى لباس فعبر بمثل عبارتهم:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا

ما قال: خيطوا لي جبة وقميصًا، هذا الأصل، فعبر بالطبخ مع أن الجبة والقميص لا تطبخان، فهذا يسمونه مشاكلة.

وبعض أهل العلم لا يسمي ذلك مشاكلة، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فسمى الرد هنا اعتداءً، لكنه اعتداء بحق، اعتداء بموجب، وذلك في مقابل عدوانهم.

هنا قيَّد هذا الرد بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فإن من شأن النفوس في مقابلة العدوان أنها لا تقف عن حد، فيحصل لها من التشفي مجاوزة الحد بالزيادة على ذلك كالمثلة وغير ذلك من الصور، فأمر الله -تبارك وتعالى- بالرد بالمثل: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وذلك بالوقوف عند حدود الله -تبارك وتعالى.

وهكذا إذا كان ذلك مع الكفار المعتدين يطلب العدل معهم في رد عدوانهم فكيف بأهل الإسلام في تعاملنا معهم فالعدل معهم أوكد وأوجب، سواء كان ذلك في الأقوال أو الأفعال، والعاقل يضع نفسه في مقامهم الآخرين، ومن ثم فلا يصدر عنه شيء إلا ما يرضاه لنفسه، وهذا غاية الإنصاف.

كذلك يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] فهنا هذا الرد على اعتداء هؤلاء الكفار إنما هو استجابة لأمر الله -تبارك وتعالى، وإقامة للحق والعدل فأمر معه بتقوى الله -تبارك وتعالى؛ ليكون ذلك عوضًا لهم من حظ نفوسهم، وحاجزًا لهم من العدوان الذي لا يكون بحق من الاعتداء والتجاوز ونحو ذلك، فالنفوس إنما تُزم بتقوى الله -تبارك وتعالى، وإلا فالنفوس جماحها قد لا يقف عند حد في حال الحرب أو الانتصار أو نحو ذلك، فيقتل الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان ونحو ذلك، تخرب دور العبادة ونحو هذا، فهذا ليس بحق في القتال.

ثم أيضًا رغَّبهم بذلك قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، فهذه معية خاصة لأهل التقوى بأن يكون الله -تبارك وتعالى- معهم بالنصر والتأييد والتمكين والرعاية والحفظ ونحو ذلك، ولذلك فإن المقاتلين يحتاجون إلى مثل هذا بحفظ حدود الله -تبارك وتعالى- وترك الالتفات إلى حظوظ النفس والبعد عن كل ما يكون سببًا للهزيمة، إذا كان في غزوة أحد ومعهم رسول الله ﷺ وهم خير جيل، مجرد معصية واحدة بنزول بعض الرماة وليس كل الرماة من مواقعهم فعصوا رسول الله ﷺ في خطة حربية، ومع ذلك كانت النتائج كبيرة مدمية، فقتل منهم سبعون، وقع النبي ﷺ بالحفرة وكسرت رباعيته وشج وجهه الشريف، وهزم المسلمون في تلك الوقعة بعد ذلك الانتصار الساحق في أول الوقعة، معصية واحدة فكيف إذا كانت المعاصي كثير أو الكبائر أو حظوظ النفس حاضرة، والشعارات التي يدور الناس حولها مما يرتبط بحظوظ نفوسهم أو نحو ذلك.

فهذا لا يحصل معه النصر، النصر يحتاج إلى تقوى الله -تبارك وتعالى، فهما عدتان:

العدة الأولى: وهي إعداد القوة المادية.

والعدة الثانية: هي تقوى الله -تبارك وتعالى، فإذا اجتمع هذا وهذا لا يقف في وجه هؤلاء من أهل الإيمان أحد.

وهذه على كل حال الآية تدل على فضيلة التقوى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، فالتقوى بها تنال معية الله ، وهذه لا شك من أعظم المطالب والمكاسب، ومن كان الله معه فإنه لا يُخذل بحال من الأحوال، فالله ناصره ومؤيده ومثبته ومقويه، وكانت التقوى بذلك سببًا لتحقيق هذه المعية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، ما قال: اتقوا الله إن الله مع المتقين، قال: وَاعْلَمُوا يؤكد عليهم بذلك زيادة على مجرد الإخبار.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا أنه كما قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

كذلك في القصاص فإنه يقتص من الجاني بمثل جنايته، ولا يتشفى بالتمثيل فيه، أو بقتل غير الجاني ممن كان في الجاهلية، كانوا يرون أن الجاني لربما لا يكافئ المجني عليه فيقتلون سيدًا في قومه، أو يقتلون جماعة فيه لم يشاركوا في قتله، فمثل هذا لا يجوز، وذلك خلاف التقوى، ولهذا قال أهل العلم: بأن القصاص من الجاني لا يكون إلا بحضرة السلطان أو نائبة، بمعنى أن ذلك يكون حاجزًا من المجاوزة، وإلا فإنه قد -نسأل الله العافية- يصل إلى حال من التمثيل والتشفي من هذا الجاني بأكثر مما فعل. 

  1. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 467).