الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
وَأَنفِقُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلْقُوا۟ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوٓا۟ ۛ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة: 195]، روى البخاري عن حذيفة : وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، قال: نزلت في النفقة، ورواه ابن أبي حاتم مثله." 
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، النفقة هنا أعم من أن تكون مختصة بالنفقة الواجبة التي هي الزكاة، فهو أمر عام بإخراج الأموال، ما كان ذلك الإخراج فيه على سبيل الوجوب كالزكاة، وما كان على سبيل التطوع.
قوله: فِي سَبِيلِ اللّهِ، سبيل الله إذا أطلق في القرآن فالأصل أن المراد به الجهاد، وهذا هو الغالب، ومعلوم أن من مصارف الزكاة الجهاد في سبيل الله كما في سورة براءة: وَفِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة: 60]، فالأرجح من أقوال أهل العلم أن المراد به الجهاد خاصة.
وقوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، العرب تقول للمستسلم: أعطى فلان بيديه، يعني استسلم، وتقول لمن استجاب، وخضع لما يطلب منه: أعطى بيديه، فالعرب تعبر باليدين عن الاستسلام، والانقياد التام من غير معارضة، ولا مقاومة.
فقوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] يعني لا تستسلموا للهلكة.
وأحسن ما فسرت به هذه الآية: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] ما جاء عن ابن عباس - ا - ما خلاصته، ومحصلته: أنكم إذا تركتم النفقة في الجهاد قوي عدوكم، وكان من نتيجة ذلك أن تسلَّط عليكم، وقهركم، وأخذ ما بأيديكم، وقتل من قتل منكم، وانتهك الأعراض، وفعل فعله فيكم، فهذا معنًى يدخل في الآية دخولاً أولياً أصلياً.
ويدخل في معنى الآية أيضا ما ذكره طوائف من السلف من أن تركهم للإنفاق في سبيل الله الذي أمرهم الله به هو لون من إلقاء النفس في التهلكة، وهذا المعنى معنًى ظاهر يدخل في الآية أيضاً بلا شك، فترك أمر الله ، والإعراض عنه من إلقاء النفس في التهلكة.
ويدخل في عموم اللفظ في قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ كل طريق، وسبيل يفضي بالإنسان إلى التهلكة، أي لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، ولا تلقوا بأيديكم، ولا تلقوا بأرواحكم، فمن سلك طريقاً مخوفة من غير موجب يقال له: لا تلق بيديك إلى التهلكة، ومن سافر سفراً طويلاً بعيداً يحتاج معه إلى الزاد فذهب من غير زاد، وليس في طريقه ما يجد فيه حاجته، فإنه يقال: ألقى بيده إلى التهلكة، ومن تعاطى شيئاً من الأمور الضارة فإنه يكون قد ألقى بيديه إلى التهلكة، ومن عرَّض نفسه للأخطار من غير موجب يقال: ألقى بيده إلى التهلكة، وهكذا كل ما يفضي بالإنسان إلى الهلكة من غير موجب، فإن ذلك يدخل تحت عموم هذه الآية.
"قال روي عن ابن عباس ، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد ين جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.
وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجلٌ من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية."

يعني أن هذا الرجل حينما دخل في صف العدو لوحده، أو إذا خرج إلى العدو من غير درع، قالوا عنه: ألقى بيده إلى التهلكة، فهل هذا هو المراد؟
يقال: الجواب لا؛ لأنه يجوز للإنسان في الجهاد أن يخرج من غير درع، ويجوز له أن يحمل على العدو لوحده، ولو كان المظنون غالباً أنه يقتل إذا كان لا يتحمل تبعة ذلك غيره من المسلمين بحيث يعود عليهم بالضرر، أما إذا كان تصرفه يفضي إلى ضرر يتحمله غيره فيقال له: لا، وألف لا؛ لأنه يسع الإنسان في نفسه ما لا يسعه في غيره، وهذه قاعدة مهمة، فالإنسان يمكن أن يحمل نفسه على أمور من الورع، أو أمور تتصل بالجهاد أو نحو ذلك من الأمور التي فيها لون من المخاطرة بالنفس، لكن لا يتحمل تبعة هذا غيره، ولذلك عمر لم يكن يولي البراء بن مالك مع أنه من خيار الصحابة؛، وذلك لفرط جراءته، ففي يوم اليمامة كما هو معلوم طلب من الصحابة أن يجعلوه على ترس، ويرفع على أسنة الرماح الطوال، ثم ألقوه في حديقة الموت في حصن أهل اليمامة، فنزل عليهم يضربهم بالسيف حتى فتح الباب، فهذا  الأمر يمكن أن يفعله رجل واحد، وإن كان المتوقع غالباً أنه يموت، لكن لا يقدم على هذا إنسان يقود مجموعة من الجيش، ويحملهم على هذه الأمور بهذه الطريقة فيفضي بهم ذلك إلى هلكة، وموت غالب، فهو يسعه في نفسه ما لا يسعه في غيره، وهذا إذا كان قتله بيد العدو، وهو بخلاف ما إذا كان موته بيده هو، فهذه قضية ثانية.
"فقال أبو أيوب: "نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله - ﷺ، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام، وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًّا فقلنا: ..."
نجيًّا: يعني في حال نجوى، أي نتناجى، أي أنهم انفردوا عن غيرهم، فالنجوى: كل حديث تنفرد به طائفة عن غيرها، وهذه الطائفة اثنان فأكثر.
"فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ﷺ، ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال، والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا، وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد". رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وان جرير، وابن مردويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
ولفظ أبي داود: عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام رجل يريد فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه، فقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل الله هذه الآية."

قوله: قلنا فيما بيننا، هذه هي النجوى، وقوله: فأنزل الله هذه الآية، هذا من قبيل سبب النزول الصريح الذي عرفناه في درس ماضٍ، وذلك بأن يذكر، واقعة أو سؤالا ثم يقول بعده: فأنزل الله، وهذا بخلاف ما لو قال كما في الرواية السابقة: إنما نزلت فينا معشر الأنصار، فهذه الرواية غير صريحة، وإنما المعنى أننا ممن يدخل في معناها، لكن في هذه الرواية قال في آخرها: فنزل فينا، فهذا مثال على أحد أنواعه، وهو ما جمع فيه بين الصيغتين، ففي أول الحديث غير صريح، وفي آخره جاء ذلك صريحاً حيث قال: فنزلت الآية، ولهذا فإن أهل العلم تكلموا في هذا النوع، وهو فيما إذا قال: هذه الآية نزلت في كذا، هل له حكم الرفع أم ليس له حكم الرفع؟
كثير من أهل العلم يقولون: ليس له حكم الرفع؛ لأنه متردد، فهو يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، كما في مثل قول ابن عمر - ا - لما رآهم يغلقون حوانيتهم للصلاة قال: في هؤلاء نزلت: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ [سورة النــور: 37]، وكان هذا بعد، وفاة النبي ﷺ بمدة طويلة، فلا يمكن أن تكون نزلت هذه الآية في هؤلاء الذين أغلقوا الحوانيت، وإنما يقصد أن هؤلاء ممن يدخلون في معناها، أي في عمومها، والمقصود أن هذا اللفظ محتمل، فأحياناً يقصد به سبب النزول، وأحياناً لا يقصد ذلك، ولذلك لا يحكم عليه بأنه من قبيل المرفوع إلا ما كان صريحاً، فهذا المثال - الرواية السابقة - هي مثال واضح على أن ذلك تارة يراد به هذا، وتارة يراد به هذا، وهي مثال على ما اجتمع فيها الصيغتان.
والخلاصة: هي أن هذه الرواية في قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] نزلت في الرجل الذي أغار على الروم لوحده أو دخل في صفهم، وهي تدل على أنهم كانوا يفهمون من عموم الآية أنه إذا اقتحم الإنسان طريقاً يغلب فيه عليه الهلاك فهو مقصود بالآية، لكن في هذا المثال المعين كان الحكم غير صحيح؛ لأن هذا الفعل كما قلت آنفاً فيه قربة، وطاعة، وجهاد، وهو إنما اقتحم بنفسه، ولم يحمل غيره على هذا الاقتحام، فيسعه في نفسه ما لا يسعه في غيره من العمل المشروع في أصله لا الأمر غير المشروع.
صور من إلقاء النفس في التهلكة:
تقرأ في الأخبار - في الإنترنت مثلاً - أن رجلاً ذهب ليجاهد في العراق، ثم دخل بين الرافضة في يوم عاشوراء، وفجر نفسه، هل هذا جهاد؟
هذا إلقاء بالنفس في التهلكة، وهو من أسوأ الأعمال؛ حيث يترك أهله، ويسافر، ثم هذه نهايتها، لكن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به عدوه نسأل الله العافية.
كيف تكون نهاية الإنسان بهذه الطريقة؟، ومن الذي حمله على هذا؟، ومن الذي زين له هذا العمل، ومن الذي قال له: إن عملك هذا جهاد، وإن عملك هذا مشروع؟.
قد عدَّ نفسه أنه على خير، وطاعة، وقربة، والحقيقة أن من يفعل هذا يقال له: ليتك ثم ليتك ما ذهبت، ولا جاهدت.
"وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب : "إن حملت على العدو، وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟" قال: "لا، قال الله لرسوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ [سورة النساء: 84]، وإنما هذه في النفقة" رواه ابن مردويه، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ورواه الثوري، وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء، فذكره، وقال بعد قوله: لا تكلف إلا نفسك، ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتوب."
من الصور التي تدخل في إلقاء النفس في التهلكة أن يتقحم الإنسان الذنوب، ومعصية الله ، ويستمر على ذلك.
وقل مثل ذلك في الأمور الأخرى التي أشرت إليها آنفاً، كأن يركب الإنسان الأخطار من غير موجب، فيسافر من غير زاد، وهو يعلم أنه لن يجد في طريقه ذلك، فهذا يكون ألقى بيده إلى التهلكة، وهكذا في كل ما يتصور في هذا من غير موجب.
وهذه الآثار التي تذكر هنا يستدل بها عادة من يقول بجواز ما يسمى بالأعمال الانتحارية، وليس الأمر كذلك فيما أظن؛ لأن الذين ذكروا في هذه الآثار التي استُدل بها إنما قتلوا على يد عدوهم، وليس على أيديهم هم.
"وقال عطاء عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] قال: ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة."
القتال من الممكن أن يكون فيه تهلكة، وذلك أنه لو حمل قائد الجيش جيشه على ارتكاب المهالك، والأخطار العظيمة التي تفضي بهم إلى الهلكة غالباً، وإنما قوله هنا: ليس ذلك في القتال: يعني على ما فهمه هؤلاء من أن هذا الإنسان الذين اقتحم في صف العدو وحده ليس هو المراد، وإنما المراد ترك النفقة في الجهاد في سبيل الله، فإن ذلك إلقاء باليد إلى التهلكة، ويوضحه قول ابن عباس - ا - الذي سبق ذكره، وهو قوله: "إذا تركتم النفقة في الجهاد قوي عدوكم، وكان من نتيجة ذلك أن تسلَّط عليكم، وقهركم، وأخذ ما بأيديكم، وقتل من قتل منكم، وانتهك الأعراض، وفعل فعله فيكم".
"ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك، ودمار لمن لزمه، واعتاده.
ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة فقال: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة: 195]."

أمرهم الله بقوله: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، ثم أمرهم بالإحسان عموماً فقال: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة: 195]، وذلك لا يختص بوجه دون وجه، ولذلك حمله ابن جرير على أوسع معانيه، فقال: أحسنوا بأداء فرائضي، واجتناب النواهي، والإنفاق في سبيل الله، وبعض أهل العلم يقول: وَأَحْسِنُوَاْ أي: أحسنوا ظنكم بالله في إخلافه عليكم، وعائدته عليكم بهذه النفقة التي أنفقتموها كي لا تضيع، لكن هذا المعنى بعيد، فالأصل في مثل هذا حيث يحذف المتعلق أنه يحمل على أعم معانيه، فهو قال: وَأَحْسِنُوَاْ، ولم يقل: ظنكم، ولا يوجد في السياق ما يدل عليه، لكن بعض المفسرين لما نظروا إلى قوله: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ، قالوا: هذا إحسان بالمال، ثم قال ثانياً: وَأَحْسِنُوَاْ، فقالوا: هذا الإحسان إذاً إحسان الظن، وليس ذلك بلازم، وإنما يقال: إن قوله: وَأَحْسِنُوَاْ أي إضافة إلى إحسانكم السابق بالإنفاق في سبيل الله الذي أمرهم به، فيدخل فيه النفقة، ويدخل فيه سائر، وجوه الإحسان القولية، والفعلية، والمالية، فيحمل على عموم معناه، حيث لم يخصص معنًى دون معنى، وهكذا التهلكة تحمل على أعم المعاني، وإن كان يدخل فيها ما سبق دخولاً أولياً، وهو سبب نزول الآية.
وفي الأصول - أصول الفقه - أن الأفراد الداخلة تحت العموم ثلاثة أنواع من حيث القوة، ومنها:
الأول: صورة السبب - سبب النزول - فهي تدخل دخولاً أولياً تحت العام، فالعام هنا مثلاً قوله: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة: 195] فكل صورة من صور التهلكة داخلة فيه، والتي نزلت بسببها الآية هي ترك النفقة في سبيل الله، وهذا بعض أفراد العام، فالتهلكة يدخل فيها ترك النفقة في سبيل الله، ويدخل فيها إنسان يربط الحبل في عنقه، ويدخل فيها أن يرقى إنسان جبلاً شاهقاً، أو عمارة عالية من غير موجب، أو تكون هوايته تسلق الحبل المربوط بين عمارتين، ونحو ذلك من صور التهلكة، فهؤلاء جميعاً يقال لهم: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لكن ترك النفقة في سبيل الله هي صورة سبب النزول فهي أقوى صورة داخلة من أفراد العام في هذا المعنى.
النوع الثاني الذي يلي الصورة الأولى في الدرجة، وفي قوة الدخول في العام هو ما يسمى بالتخصيص بالمجاورة، أي المجاور لسبب النزول، أي علاقة المناسبة بين الآيات، ومثال ذلك قوله - تبارك، وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء: 51]، فالمقصود بذلك هم اليهود لما ذهبوا إلى قريش، وحرضوهم على قتال النبي ﷺ، وسألهم المشركون أيُّنا أهدى؟ فقالوا: أنتم أهدى من محمد، وسجدوا لآلهة المشركين إلى آخر القصة المعروفة، وهي كانت بعد غزوة أحد، وقد نزلت مجموعة من الآيات بسبب هذه القضية في سورة النساء، وبعد هذه القضية يقول تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [سورة النساء: 58]، وهذه ليس لها علاقة بهذه القضية فهي نزلت عام الفتح، ويذكرون فيها سبب نزول جاء في رواية فيها ضعف، وذلك في قصة مفاتيح الكعبة، إلا أن قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ [سورة النساء: 58] يدخل فيها جميع أنواع الأمانات، من أمانة الكلمة، والشهادة بالحق، وإذا أخذت من الإنسان شيئاً يجب أن ترجعه إليه، ويدخل في ذلك دخولاً صورة سبب النزول - إن صحت -، وهي إرجاع مفاتيح الكعبة لأصحابها، ويدخل في ذلك أنك إذا أخذت من الإنسان شيئاً ترجعه إليه، ويلي ذلك في القوة ما جاوره مع أنه لم ينزل معه، وهو ما ذكر في المقطع الذي قبله أي شهادة اليهود التي كتموها، وذلك أنهم قالوا: أنتم أهدى من محمد، فالشهادة بالحق تدخل تحت أفراد العام، ويدخل فيه سائر أفراد العام مثل لو أن إنساناً استكتمك على شيء فعليك كتمه، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي تدخل في هذا الموضوع، ومثل هذا قوله: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة: 195] فهو يحمل على معناه الأعم في الإحسان، فتدخل فيه النفقة في سبيل الله، ويدخل فيه التصدق على الفقراء، والإحسان إلى الأقارب، ويدخل فيه الإحسان بالقول، والكلام كما قال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [سورة البقرة: 83]، ويدخل فيه الإحسان بالفعل، وإعانة المحتاج، ومواساة المريض إلى غير ذلك. 

مرات الإستماع: 0

"وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة، وقيل: لا تقنطوا من التوبة، وقيل: لا تقتحموا المهالك، والباء في بِأَيْدِيكُمْ زائدة، وقيل: التقدير: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم".

 

بأيديكم أي: بأنفسكم، والعرب تقول للمستسلم: أعطى فلان بيديه، والمعنى: لا تستلموا للهلكة، فالإنسان يدفع بيديه، ويقاتل بيديه، فإذا أعطى بيديه فيكون قد ترك الدفع، والقتال، ويكون ذلك بمعنى الاستسلام، ويدخل فيه كل ما يؤدي إلى الهلكة، كما اختاره ابن جرير - رحمه الله -[1] فيدخل في هذا معانٍ ذُكرت، منها: لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، كما قال أبو أيوب الأنصاري [2].

وقيل: لا تتركوا النفقة، وهذا جاء في الصحيح عن حذيفة قال: نزلت في النفقة[3]. وجاء نحو هذا عن جماعة من السلف: كابن عباس - ا - ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، كل هؤلاء يقولون: إنها نزلت في النفقة[4]. أي: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة، فهذا معنى صحيح، وقد جاء عن ابن عباس - ا- معنى جيد في هذا، حاصله: أنهم إن منعوا النفقة في سبيل الله - يعني الجهاد - فإن عدوهم يقوى بذلك، ويضعف المسلمون، فيتغلب عليهم، فيزهق النفوس، ويأخذ الأموال، فيكونون بذلك قد تسببوا في هذا الذي حصل لهم[5] ووقع عليهم، ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، حيث حبسوا النفقة في سبيل الله - تبارك، وتعالى - سواء كان ذلك شحًا، وبخلًا، وخوف العيلة، أو كان ذلك للاشتغال بالأموال.

وحديث أبي أيوب الأنصاري في القصة المعروفة، لما كانوا يحاصرون القسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فخرج رجل ليس عليه درع من المسلمين، فشق صف الروم، وخرج من الناحية الأخرى، فقال أُناس: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة[6] يعني أنه قد غامر، وخاطر بدخوله في صف الكفار من غير درع، فأنكر عليهم أبو أيوب الأنصاري هذا الفهم، وبين لهم المراد، وذكر لهم أنهم حينما نصر الله دينه، وأعز رسوله ﷺ قال الأنصار فيما بينهم: إن الله قد أعز دينه، ورسوله ﷺ فلو التفتنا إلى أموالنا فأصلحناها، وكانوا قد تركوا أموالهم، وزروعهم، ونحو ذلك اشتغالًا بالجهاد في سبيل الله، وكأنهم قالوا: قد كثر الداخلون في الإسلام، وأعز الله دينه، فلو رجعنا إلى أموالنا، وأصلحناها، فأنزل الله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بالاشتغال بالأموال عن الجهاد، فهذا داخل في الآية بلا شك، ويدخل فيها كذلك منع الإنفاق في سبيل الله، ويدخل فيها سائر الصور، كما قال ابن جرير - رحمه الله -[7].

ويستدل العلماء بقوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ عادة على منع ما من سبيله الضرر، وما يؤدي إلى الهلاك، فيقولون مثلًا في الاستدلال على تحريم التدخين مثلاً: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ لأنه يضر، ويؤدي إلى أمراض مستعصية، ونحو ذلك، وهكذا في سرعة الإنسان، وهو يقود مركبته مثلًا بطريقة يخاطر بها، ونحو ذلك، أو يفعل بعض الأفعال التي يفعلها بعض السفهاء، ويتعرض للأخطار، ويعرض الآخرين كذلك، فيُحتجون على منع ذلك بقوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أخذاً بعموم اللفظ؛ ولهذا قال: "وقيل: لا تقتحموا المهالك".

وقوله: التَّهْلُكَةِ بمعنى الهلاك؛ وذلك يقال بحيث يصير الشيء إلى الاضمحلال، والذهاب، لا يُدرى أين هو؟ فتهلكة مصدر (هلك هلاكًا، وتهلكة) لا تلقوا بأيديكم إلى الهلكة، أو الهلاك.

وقوله هنا: "الباء زائدة" مضى الكلام في بعض المناسبات على الزيادة، هم يقصدون (زائدة) إعرابًا، لكن من أهل العلم من منع من هذا تأدبًا، فقال: لا يقال في القرآن شيء زائد، وهم متفقون على أنه لا يوجد شيء زائد في المعنى؛ لأنه لا يوجد في القرآن حشو، لكن الكلام في الإعراب، فيقولون: زائدة إعرابًا.

وبعضهم يُغير هذه اللفظة فيقول: صلة، أو نحو ذلك.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 325).
  2.  المصدر السابق (3/ 322).
  3.  المصدر السابق (3/ 312).
  4.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 331).
  5.  تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/ 129).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 323) ومسند أبي داود الطيالسي (1/ 491 - 600) وشرح مشكل الآثار (12/ 99 - 4685).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 325).

مرات الإستماع: 0

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195].

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بالإنفاق في سبيله، وسبيله -تبارك وتعالى- من أهل العلم من قال: إنه إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد.

وبعض أهل العلم عممه فقال: يحمل على كل نفقة في طاعة الله -تبارك وتعالى- ووجوه البر والإحسان والمعروف.

وقال بعده: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هنا نهي عن الإلقاء إلقاء الأنفس بالتهلكة وذلك يشمل صورًا متعددة كما سيأتي في الكلام على الهدايات التي تستخرج من هذه الآية.

وَأَحْسِنُوا هذا أمر بالإحسان مطلق بجميع وجوهه وصوره وأشكاله، الإحسان بالمال، والإحسان بالقول قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [سورة البقرة:263]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [سورة البقرة:83]، فهذا مما أمر الله -تبارك وتعالى- به، وكذلك أيضًا الإحسان إلى القرابات والمحتاجين، والإحسان إلى المسيئين وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195] فهذا فيه إثبات صفة المحبة لله -تبارك وتعالى- محبة أهل الإحسان هنا.

هذه الآية: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذكر أبو أيوب الأنصاري سبب نزولها، وذلك في القصة المعروفة حينما كانوا يحاصرون القسطنطينية فخرج صف من المشركين عظيم، فخرج رجل من المسلمين من غير درع ودخل في صفهم ثم خرج، يعني أغار عليهم وشق صفهم ثم خرج إلى المسلمين بعد ذلك، فقال قائلون: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، يعني أنه قد غامر وأنه دخل في صف الكفار من غير درع وعرَّض نفسه إلى القتل، فقال أبو أيوب الأنصاري : "نزلت فينا معشر الأنصار، وذلك أن الله تعالى لم أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام"، يعني الأنصار أهل زروع وحروث ونحو ذلك فتركوها واشتغلوا عنها بالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى سبيله فيقول: "قالوا في أنفسهم قالوا فيما بينهم: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام، ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]"[1].

فعلى هذا التهلكة صارت بترك الجهاد في سبيل الله وإنفاق الأموال في طاعته ومرضاته، هذا سبب نزول الآية، وهو مستند من قال: بأن المراد بقوله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في الجهاد في سبيله، وأن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو بترك الإنفاق في سبيل الله كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما[2]، ومنع النفقة ثم بعد ذلك يقوى العدو فيجتاح المسلمين ويأخذ ما بأيديهم، ويكونون في حال من الضعف؛ لأنه كما هو معلوم لا قيام للمصالح الدينية والدنيوية إلا بالمال، فإذا لم يحصل الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك مؤذن بقوة العدو وضعف أهل الإسلام، فهذه التهلكة.

ومعلوم أن النفقات والجهاد في زمن النبي ﷺ كان على إنفاق المحسنين، فإذا كفوا عن ذلك فإن ذلك يؤدي إلى ضعف وتراجع مع قوة الأعداء، فالأعداء ينفقون أموالهم في نصر باطلهم كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ۝  لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأنفال:36، 37].

فهذا حال هؤلاء الكفار كما ذكر الله تعالى: يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ولكن تلك النفقات تذهب أدراج الرياح وتكون حسرة عليهم ثم بعد ذلك تكون العاقبة لأهل الإيمان، فينصرهم الله -تبارك وتعالى، لكن إذا بذل المسلمون وسعهم وأخذوا بأسباب القوة ولم يحصل منهم شيء من التواني والتفريط، فإن الله -تبارك وتعالى- ينصرهم؛ لأن الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [سورة الأنفال:60]، وقال مذكرًا لهم بنعمته عليهم في يوم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123] يعني ليس معهم كبير سلاح ولا كثير عدد ولا كثير خيل وركاب وإنما كانت أشياء قليلة ومحدودة ومع ذلك حصل النصر، فإذا بذل أهل الإيمان وسعهم واجتهدت الأمة في طاعة الله -تبارك وتعالى- ونصر دينه فإن الله -تبارك وتعالى- لا يطالبهم بأكثر من ذلك.

وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ من العموم في لفظها الإنفاق في سائر وجوه الطاعات، وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فيدخل في ذلك الإنفاق في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، الإنفاق في إغاثة المنكوبين والملهوفين، وإعانة المتضررين، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16]، فهذه العقبة فسرها الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يوم شدة، وحاجة مُلحَّة.

ونحن نشاهد اليوم أحوال إخواننا المسلمين في بلاد الشام وفي غيرها وما هم فيه من الجوع والبرد والخوف، وذلك سائلنا الله -تبارك وتعالى- عنه ومحاسبنا عليه، فنحن نرفل في ألوان النعم واللذات، أدام الله  علينا وعليكم وعلى هذه البلاد، وبلاد المسلمين نعمته وعافيته، وأصلح أحوال الأمة، وأعان هؤلاء من إخواننا المسلمين المتضررين، ورفع ما بهم من ضر، وقواهم، ونصرهم، وأعزهم، وعافا مرضاهم، ورحم موتاهم، وأظهرهم على عدوه وعدوهم.

وهكذا أيضًا فإن الشح والإمساك هو مما يدعو إليه الشيطان: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [سورة البقرة:268]، فهذا وعد الشيطان وهذا وعد الله -تبارك وتعالى- المغفرة والفضل، وهذا الفضل يشمل الفضل الدنيوي والفضل الأخروي، فما أنفقه الإنسان فإن الله يخلفه، وربنا -تبارك وتعالى- هو الغني الرزاق ذو القوة المتين.

وهكذا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- من هذا العموم: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أنه نهي عن كل لون من أسباب التهلكة والإلقاء فيها، سواء كان ذلك بالنظر إلى مجموع الأمة، أو كان ذلك بالنظر إلى الأفراد، فبالنسبة لمجموع الأمة حينما يكون ذلك يجرها إلى أمور ليست مستعدة لها، وإيقاعها في مصائب وعظائم يكون بعد ذلك لها من العواقب السيئة ما يسلط عليها أعداءها فيجتاحونها ويستحلون بيضتها، فمثل هذا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة.

كذلك أيضًا فيما يتعلق بالأفراد فإن الإنسان ليس له أن يتعاطى ما يؤدي به إلى الضرر والهلاك، ولذلك يستدل أهل العلم بهذه الآية على تحريم جميع الأشياء الضارة التي تؤدي إلى الأمراض أو تؤدي إلى الموت والهلاك ونحو ذلك، وهكذا أولئك الذين يغررون بأنفسهم ويغررون بغيرهم بمزاولات في مركباتهم لربما يقع له في أي لحظه بسبب هذه التصرفات ما يكون فيه ذهاب نفسه، فهو يستعرض بهذه المركبة بطريقة تدل على أنه قد سلب العقل، فهذا داخل في قوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وهكذا في كل ما يؤدي إلى الضرر والعطب ونحو ذلك بمزاولات لا تليق بالعاقل، فهي داخلة في هذا المعنى.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هنا الإحسان كما قلنا: بجميع وجوهه وأشكاله وصوره، حتى الإحسان إلى الأعداء، وذلك بالوقوف عند ما حده الله -تبارك وتعالى، وكما قال النبي ﷺ: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[3]، ويكون ذلك مع الحيوان ومع غيره، هذا الإحسان يكون بالقول والفعل والمال، ويكون بأنواع المواساة والرفق ونحو ذلك، فهو لفظ عام: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا كما هو معلوم الجزاء من جنس العمل، وكما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "بأن من أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه"[4]، فالمحسن الذي يحسن إلى الناس هو حري بإحسان ربه -تبارك وتعالى- وجوده وفضله وعطائه. 

  1. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، برقم (2512)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البقرة، برقم (2972)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (13).
  2. تفسير الطبري (3/ 314)، وتفسير ابن كثير (1/ 528)، وأخرجه البخاري عن حذيفة ، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195]، التهلكة والهلاك واحد، برقم (4516).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة، برقم (1955).
  4. انظر: بدائع الفوائد (3/ 17).