الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
وَأَتِمُّوا۟ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا۟ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُۥ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِۦٓ أَذًى مِّن رَّأْسِهِۦ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍ فِى ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُۥ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقول الله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196] لما ذكر تعالى أحكام الصيام، وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج، والعمرة" 
هذا الكلام يسمى المناسبة بين الآيات، أو وجه الارتباط بين الآيات.
ما المراد بإتمام الحج، والعمرة في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ؟
من أهل العلم من يقول: إن المراد بذلك أن يأتي بهما من غير إخلال، ولا شائبة، ولا تحمله العجلة على أن ينقص منها، أو يضيع أحكام الله التي فيها، أو يتجاوز حدوده التي حدها، أو يرتكب محظورات الإحرام، أو نحو ذلك، فهذا نقص في الحج، وقد يفضي به أحياناً إلى بطلانه كالجماع.
وبعضهم يقول: الإتمام هو أن يخرج لهما لا لغيرهما، وهؤلاء نظروا إلى لفظة الإتمام بمعنى الإكمال، لكن الله يقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، وهي التجارة في الحج، ولا شك أن من خرج، وهو يريد الحج فحسب هو أتم، وأكمل منزلة، وحالاً ممن كانت نيته مشتركة بأمر يجوز الالتفات إليه يحصل على سبيل التبع، فهذا يجوز، ويصح حجه، لكن مرتبة الأول أعلى، فهم نظروا إلى لفظة الإتمام، فعبر كل واحد بمثل هذه العبارات.
وبعضهم نظر إلى الإتمام فقال: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال: هذا أكمل، والحقيقة أن الإحرام من دويرة أهله أصلاً غير مشروع، وإنما يحرم الإنسان من الميقات، وقصة الرجل الذي سأل الإمام مالك معروفة، فمع أن أبعد المواقيت ميقات المدينة، ومع ذلك لما قال له: أريد أن أحرم من المسجد، قال: إني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة؟ فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النــور:63]، وبين له أن الرسول ﷺ أحرم من ذي الحليفة، فمع أن ذا الحليفة قريب جداً، فهو يعتبر في طرف المدينة، ومع ذلك فالأصل الاتباع لا القرب، والبعد، لكن هناك فرق بين لبس الإحرام في البيت، وبين نية النسك، فلبس ثياب الإحرام في البيت ليس بإحرام، وإنما المقصود بالإحرام الإهلال بالنسك، أو نية الدخول فيه، وعلى كل حال فهذا القول الذي ذكروه فيه إشكال.
وبعضهم نظر إلى أن الكمال، والإتمام هو أن يأتي بالحجة مستقلة في سفرة، والعمرة مستقلة في سفرة، وهذا لا شك أن من فعله ممن لا يتأتى منه حج، ولا عمرة سوى هذه في العام هو أكمل ممن جاء إليهما في سفرة واحدة، وهذا مراد شيخ الإسلام - رحمه الله - حينما قال: إن الإفراد أفضل، فهو يقصد هذا المعنى لا ما فهمه كثير من طلبة العلم.
صور مراتب الكمال في مناسك الحج الثلاثة:
القسمة العقلية التي تبين مراتب الكمال للأنساك الثلاثة في الحج كما يأتي:
المرتبة الأولى:
وهي أعلى مرتبة، وذلك أن يأتي إنسان فيقول: أنا أعتمر في رمضان، وأعتمر في الصيف، وأعتمر في الفصل الدراسي الأول، وأعتمر في الفصل الدراسي الثاني، فما هو الأفضل في الحج الإفرادK أم التمتع أم القِران؟
يقال له: الأكمل، والأفضل لك أن تحج متمتعاً، فإن لم يكن فقارناً، وذلك أنه بدلاً من أن يكون لك أربع عُمَر في السنة، صار عندك خمس عمر.
المرتبة الثانية: أن يأتي إنسان آخر فيقول: أنا ليس بإمكاني أن أعتمر في السنة إلا عمرة واحدة، وحجة واحدة، فهل آتي بهما في سفرة واحدة أم أجعل العمرة في سفرة وحدها، والحجة في سفرة وحدها؟ فهذا نقول له: الأكمل أن تؤدي العمرة في سفرة مستقلة عن سفرة الحج، فيكون الإفراد في هذه الصورة أكمل من أن يتمتع بالعمرة إلى الحج في سفرة واحدة، وهذا الذي قصده عمر حينما نهى الناس عن المتعة، فهو أراد ألا يُهجر البيت بحيث لا يأتيه الناس إلا في مرة واحدة للحج، والعمرة معاً، ويبقى أثناء السنة لا يأتيه أحد.
المرتبة الثالثة في الكمال: هي أن يأتي إنسان يأتي في السنة مرة واحدة للحج، والعمرة معاً.
المرتبة الرابعة، وهو ذلك الإنسان الذي يأتي في السنة مرة واحدة فقط، وبحجة إفراد.
فبعض الناس فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على أنه يقصد هذا بقوله: إن الإفراد أفضل، وهو إنما يقصد أن يأتي بالحجة في سفرة، وبالعمرة في سفرة أخرى.
أما من كان يتردد أثناء السنة فالبيت معمور بأمثال هؤلاء، فمثل هذا يقال له: إذا جئت في الحج فتعال بحج، وعمرة، فهذا من باب الزيادة، والفضل، فالتمتع أفضل بكثير من الإفراد، والقران.
والمقصود من هذا الكلام كله أنهم نظروا إلى لفظ "الإتمام" ففسرها كل واحد بما يحتملها لفظ "الإتمام".
وبعضهم قال: إن كمالها يكون بالإنفاق الطيب، وهذا كله لا شك أنه من الكمال، ولكن المعنى المتبادر هنا هو أن الحج، والعمرة ليستا كغيرهما، فلابد من إكمالهما، فمن أحرم فيهما حتى، ولو لم يكن إحرامه واجباً ابتداءً فإنه إذا شرع، وأحرم فيجب عليه الإتمام.
والعلماء يتكلمون في مسألة العبادات غير الواجبة إذا شرع فيها العبد كصلاة النافلة، أو صيام التطوع، أو الاعتكاف، أو نحو ذلك، هل يجوز له أن يقطعه؟
الراجح أنه يجوز للمتطوع في كل الأعمال الصالحة أن يقطعها من غير حرج، ولا يطالب بالبدل، خلافاً لمن قال: إن عليه أن يكمل، أو قال: عليه البدل لقوله تعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33]، فإنه ليس هذا هو المراد، وإنما المراد لا تبطلوها بالمن، والأذى، والرياء، وبعض أهل العلم يخص بعض العبادات، يقول: يجوز فيها الإكمال، كما في المراقي:
صلاتنا وصومنا وحجنا وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدي فيلزم القضاء بقطع عامد
فالمالكية يرون أنه من الأمور التي يلزم إتمامها إذا شرع فيها ما ذكر في هاتين البيتين، وهي الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، وكذا المأموم إذا اقتدى بإمامه، فهؤلاء جميعاً على مذهب المالكية يلزمهم القضاء إذا قطعوا هذه العبادات عمداً.
والصحيح أنه لا يلزم ذلك إلا في الحج، والعمرة لقوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196].
وهذه الآية يُستدل بها على وجوب العمرة، وقد جاءت أدلة أخرى من السنة تدل على أن العمرة واجبة على الراجح مرة في العمر كالحج، وبالنسبة للاستدلال على هذا من الآية فإنه مبني على أصل مختلف فيه، وهو هل الأمر بالإتمام أمر بالابتداء، أو لا؟ فبعضهم قال: إن الأمر بالإتمام أمر بالابتداء، يعني لزوماً، أو ضمناً، وليس صراحة مطابقة، وعلى كل حال فإن من قال بهذا قال: إن الآية تدل عليه.
وبعضهم لم يأخذ وجوب الابتداء بالنسبة للحج من هذه الآية، وإنما أخذه من قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97].
وإذا أرادوا أن يستدلوا به على العمرة فإنهم يربطون معه أحاديث، وأدلة أخرى مثل قوله ﷺ: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة[1]، ومنها قوله - عليه الصلاة، والسلام -: وتحج، وتعتمر[2]، إلى غير ذلك من الأدلة التي يستدلون بها، كما أنه يقال للعمرة: حج أصغر.
وعلى كل حال ليس حديثنا هنا على هذا الأمر، لكن يشار إشارة إلى الأحكام؛ لأن ابن كثير من منهجه الإشارة إليها، - والله أعلم -.
"وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [سورة البقرة:196] أي صُددتم عن الوصول إلى البيت، ومُنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج، والعمرة ملزم.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: بلغنا أن عمر قال في قول الله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]: مِن تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197].
وقال السدي في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]: أي أقيموا الحج، والعمرة، وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس ، أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف.
وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، قال: قراءة عبد الله، وأتموا الحج، والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت، قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة: أنه قال: وأقيموا الحج، والعمرة إلى البيت، وكذا روى الثوري أيضاً عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج، والعمرة إلى البيت."

سبق الكلام على أول هذه الآية، وأن أرجح الأقوال في المراد بالإتمام: هو أن يكمل أعمال الحج، والعمرة إذا دخل في واحد منهما؛، وذلك أن الإنسان لا يسعه بحال من الأحوال أن يرفض الإحرام، إلا إذا أحصر فقد جعل الله  له مخرجاً، ولهذا قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، فذلك قاطع للإتمام الذي أمر الله به.
وعبارة من قال: إن الحج عرفة، وبإتمامه يتم الحج، وإن العمرة لله، والعمرة الطواف بالبيت، فذلك باعتبار أن العمرة لا يجاوز بها البيت، بحيث إنه لا يطلب أن يأتي الجمار إلى منى، أو إلى مزدلفة، أو إلى عرفة، أو نحو ذلك، وأما الحج فإن ركنه الأكبر هو الوقوف بعرفة، هذا هو معنى قول من قال: إن الحج عرفة، والعمرة الطواف، وليس معنى ذلك أنه إذا طاف فإنه قد أتى بما طلب منه، وأتم العمرة، ولكن الطواف هو أصل في العمرة، والعلماء يختلفون في السعي كما هو معروف ما لا يختلفون في الطواف، فإذا جاء البيت، وطاف به فإن ذلك قد حصل به معنى الزيارة التي أخذ منها اسم العمرة التي هي الزيارة لبيت الله على وجه القربة، والنسك على وجه مخصوص، ثم عليه أن يطوف، وأن يقصر، أو يحلق.
وكذلك في الحج فإنه إذا وقف بعرفة فليس معنى ذلك أن هذا منتهاه، بل بقي عليه المزدلفة، والجمار، والبقاء في منى، إلى غير ذلك من طواف الإفاضة الذي هو ركن من أركان الحج، وكذلك السعي إن كان لم يسعَ سعي الحج.
"وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست، أي: عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله ﷺ، وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي، وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رءوسهم، وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم بأن يحلقوا رءوسهم، ويتحللوا فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ، حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس، وكان منهم من قصر رأسه، ولم يحلقه، فلذلك قال ﷺ: رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، فقال في الثالثة: والمقصرين[3]."
الذين تأخروا، وتباطئوا في الحلق لم يكن تباطؤهم ذلك اعتراضاً منهم على حكم رسول الله ﷺ، وإنما كما ذكر المؤلف هنا حيث قال: انتظاراً للنسخ، وإلا فهؤلاء هم خيار الناس، وهم أعظم مبادرة إلى امتثال أمر الله، وأمر رسوله ﷺ لكن المراد أنهم كانوا يؤمّلون بهذه المراجعة، والتأخر أن يحصل نسخ، كما حصل في قصة المجادلة حيث إن النبي ﷺ كان يقول لها: ما أراك إلا قد بنتِ منه، وهي لا تزال تراجع النبي ﷺ، وهو يرد عليها هذا الكلام مرة بعد مرة حتى أنزل الله حكمه في ذلك، فليس معنى ذلك أنها معترضة على حكم الله ، وإنما كانت تؤمِّل أن ينزل الله في أمرها شيئاً فيكون فيه مخرج، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة المجادلة:1] الآيات، وإلا فإن الصحابة الكرام يعلمون أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36]، ويعرفون قوله : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [سورة النساء:65]، ويقول: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النــور:51]، فليس معنى ذلك أنها أبطأت، أو أن هؤلاء الصحابة أبطئوا اعتراضاً على حكم الشارع، وإنما المقصود: أنهم كانوا يرجون أن ينزل الله غير ذلك.
وقوله ﷺ: رحم الله المحلقين ثلاثاً فهذا القول قاله مرتين، فحمل مرة على إطلاقه، وعمومه، وذلك في مكة عام الفتح، ومرة في عام الحديبية لما أمرهم بالحلق، وكان معناه أنه لن يكون هناك عمرة هذه المرة، فحلق من حلق، وقصر بعضهم أملاً أنه سيكون هناك شيء آخر، فيستطيع حلق ما بقي من شعره في النسك إذا وصل البيت، - والله أعلم -.
"فقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كل سبعة في بدنة، وكانوا ألفاً، وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طرف الحرم، - فالله أعلم -."
الحديبية منطقة معروفة، جزء منها في الحل، وجزء منها في الحرم، وهم كانوا في الناحية التي تلي الحرم من الحل، وكلام أهل العلم في هذا معروف، وهو هل النبي ﷺ قدم هديه إلى منطقة الحرم فنحر فيه، أو أنه نحر في الحل؟ فهذه مسألة معروفة.
"والحصر: أعم من أن يكون بعدوٍّ، أو مرض، أو ضلال، وهو التوهان عن الطريق، أو نحو ذلك."
مسألة الإحصار مسألة مشهورة، وأشهر ما استدل به من يرى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدوّ لا بالمرض، والكسر، ونحوه قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... [سورة البقرة:196] الآية، وذلك من  ثلاثة، وجوه:
الأول: أنه قال: أُحْصِرْتُمْ فمن أهل العلم من قال: إن هذه الصيغة ليس معناها حبستم أنفسكم، وإنما المقصود وقع الإحصار من غيركم أي: بالعدوّ، فهؤلاء فرَّقوا في الصيغة بين (أحصرتم)، وبين (حصرتم)، فيقولون: إن أحصرتم معناه وقع عليكم الإحصار من غيركم.
الثاني: قالوا: إن هذا وقع للنبي ﷺ بحصر العدوّ، وإن هذه الآية لا تنفصل عن سبب، وملابسات النزول.
الثالث: أن الله قال بعده: فَإِذَا أَمِنتُمْ [سورة البقرة:196].
هذه ثلاثة أمور هي أشهر ما ذكروا في الاستدلال على أن الحصر يكون بالعدوّ، والأقرب أن الإحصار لا يختص بذلك، وأن هذه المناسبة، وإن كان الإحصار فيها بسبب العدوّ إلا أن ذلك لا ينحصر فيه، بل كل ما عاق الإنسان عن الوصول إلى البيت، أو إتمام النسك فإن ذلك يكون من قبيل الإحصار، وللإنسان أن يتحلل بعد أن ينحر هديه، أو يذبحه.
قال بعض أهل العلم: إن ذلك ليس بحصر العدوّ فقط، وإنما المقصود حبستم أنفسكم بسبب المرض، أو أقمتم بسبب حصر العدوّ لكم، أو نحو ذلك، وممن قال ذلك ابن جرير الطبري - رحمه الله - حيث يرى أن أُحصر، إنما يكون بحبس الإنسان نفسه، كما في قول الله تعالى في الآية الأخرى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] حيث إنك إذا نظرت في كلام ابن جرير في تفسيره لهذه الآية تجده يرد على هؤلاء بقوة، ويقول: ليس ذلك بحصر العدوّ... إلى أن قال: ولو كان ذلك بسبب حصر العدوّ لقال: للفقراء الذين حصروا في سبيل الله.
ومن أهل العلم من يقول: (أُحصر) تأتي لهذا، وتأتي لهذا، أي ما يحصل بسبب العدوّ، وما يحصل بحبس الإنسان نفسه، وإن لم يحبسه غيره، وعلى كل حال فالإحصار يكون بسبب العدوّ، وبسبب المرض، والكسر، وما أشبه ذلك مما إذا وقع للإنسان أعاقه عن الوصول إلى البيت .
"روى الإمام أحمد[4] عن الحجاج بن عمروٍ الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كُسر، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى قال: فذكرت ذلك لابن عباس، وأبي هريرة - ا - فقالا: صدق[5]."
مسألة هل يلزم المحصر أن يأتي بنسك آخر بدلاً من الذي أحصر فيه فيها قولان، فالذين يقولون: يجب ذلك يحتجون بأن النبي ﷺ اعتمر من قابل، والذين يقولون: لا يجب ذلك، يقولون: إن الله لم يأمر بذلك، وإنما قال سبحانه: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، ويقولون: إن ما وقع للنبي ﷺ لا يعني أنه يجب ذلك، ولم ينقل عن النبي ﷺ أنه أمر كل من خرج معه ممن تحلل أن يعتمر، وإنما كان ذلك على سبيل المقاصة، والاستيفاء، كما قال الله : وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]، فهؤلاء صدوهم عن البيت فكان من عهدهم أن يعتمر المسلمون من قابل، والمسألة على كل حال محلها كتب الفقه.
"وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة، وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه من عرج، أو كُسر، أو مرض[6] فذكر معناه، ورواه ابن أبي حاتم.
ثم قال: وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر، وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال: حجي، واشترطي أن محلي حيث حبستني[7]، ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله، فصح الاشتراط في الحج لهذا الحديث."

إذا حصل الاشتراط عند الإحرام ولا بد، فله أن يتحلل من غير أن يذبح، ولا شيء عليه، لكن المسألة السابقة فيما إذا لم يشترط.
"وقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]."
التقدير: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [سورة البقرة:196] فالواجب ما استيسر من الهدي، أو فعليكم ما استيسر من الهدي، وهذا باعتبار أن "ما" في محل رفع، أي فالواجب عليكم ما استيسر من الهدي، ويمكن أن تكون في محل نصب، فيكون التقدير فاذبحوا، أو فانحروا ما استيسر من الهدي.
"روى الإمام مالك عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة."
وهذا قول الجمهور؛ لأن الله قال: فَمَا اسْتَيْسَرَ، يعني ما تيسر لك مما يصح أن يقال له: هدي، وأدنى ذلك الشاة، وأعلاه البدنة.
"وقال ابن عباس : الهدي من الأزواج الثمانية، من الإبل، والبقر، والمعز، والضأن، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال: بقدر يسارته، وقال العوفي عن ابن عباس: إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم."
قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ على التفسير الثاني نظر القائل به إلى معنى اللفظة، ودلالتها؛ فالمعنى الأول لقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ تدل على ما تهيأ له، وما تيسر له، وما حصل له، فيكون أدنى ذلك شاة.
والقائل بالتفسير الثاني نظر إلى معنى اللفظة، ودلالتها؛ فإن اليسار فيه معنى السعة، والغنى، وعلى هذا فإن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني أن ذلك لا يكون بأدنى شيء، وإنما بشيء فيه يسار، فإن كان غنياً فبدنة، وإن كان دونه فبقرة، وإن كان دونه فشاة، أي بحسب حاله من الغنى، والفقر.
"وقال هشام بن عروة عن أبيه: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال: إنما ذلك فيما بين الرخص، والغلاء."
صاحب هذا القول لم ينظر إلى الأنواع باعتبارها بدنة، وبقرة، وشاة، وإنما نظر إلى الثمن، والقيمة، فقال: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي لا يكون ذلك بأدنى ما يصدق عليه هدي بحيث يشتري شاة بثمن بخس؛ لضعفها، أو لنوعها، أو نحو ذلك، وإنما يكون ذلك بالمتوسط.
وعلى كل حال فإن السبب في تعدد هذه الأقوال - والله تعالى أعلم - أنهم نظروا إلى بعض دلالات لفظة "استيسر" مع أن دلالتها الظاهرة المتبادرة هي: ما تيسر، وتهيأ له، وأدنى ذلك شاة، ولا شك أن الأفضل، والأكمل في الهدي هي البدنة.
"والدليل على صحة إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهدي من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم."
الهدي في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي من بهيمة الأنعام، وكذلك الأمر في قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، أي من هذه الأنواع التي ذكرها الله في سورة الأنعام، وكذلك حينما يقال: المتمتع، والقارن عليهما الهدي، فهذا هو المقصود به، وإذا قيل: الجزاء فإنه يخير فيه أيضاً بين الأمور الثلاثة، فالدم يكون بالبدنة، أو بالبقرة، أو بالشاة إما وجوباً مثل من جامع في الحج، وإما أن يكون ذلك استحباباً، ويجزيه دونه، ومثل ذلك من جامع في العمرة مثلاً فعليه شاة، ولو أنه نحر بدنة فإن ذلك أكمل.
ومن قص أظافره، أو حلق شعره، أو نحو هذا، وهو محرِم فإنه يخير بين ثلاثة أمور، إما ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام.
وكذلك من ترك شيئاً من نسكه الواجب كما لو لم يحرم من الميقات مثلاً فإنه يقال: عليه دم، فإذا ذبح شاة أجزأ، وإذا نحر بدنة فهذا أكمل، وكذلك إذا اشترك بسُبع بدنة في منزلة الشاة، فهو أفضل من الشاة.
فالهدي في مثل المسائل السابقة لا يكون إلا من هذه الأصناف، وأما في غير هذه المسائل فهل يمكن أن يهدى إلى البيت على سبيل التطوع غير الأنواع الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الأنعام:143]؟
نعم، يمكن أن يهدى إلى البيت كسوة للكعبة، ويمكن أن يهدي طعاماً للحجاج، كما أنه يمكن أن يقدم هدياً من الغنم، أو الإبل، أو البقر، وهو في بلده لم يحج كما فعل النبي ﷺ، ويمكن أن يقدم إلى البيت مالاً دراهم، أو ذهباً، أو يقدم شراباً للحجاج، أو نحو هذا، فكل ما يقدم إلى البيت فإنه يقال له هدي، - والله تعالى أعلم -.
"وهي: الإبل، والبقر، والغنم كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن، وابن عم رسول الله ﷺ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين - ا - قالت: "أهدى النبي ﷺ مرة غنماً"[8]."
قولها: أهدى مرة غنماً، هذا قبل حجته حيث بعث بها وهو في المدينة، وهذا يدل على أنه يمكن للإنسان فعل ذلك، ولا يلزمه شيء من الإحرام.
وقول بعض السلف: إنه يكون كالمحرم حتى ينحر هديه، أو يذبح، فهذا كلام لا دليل عليه، وحديث عائشة في هذا المعنى معروف.
والهدي: جمع هدية، وربما قيل له ذلك؛ لأن مُهديه يتقرب فيه إلى المُهدَى إليه، والإنسان لما يأتي، ويهدي لإنسان هدية فإنما يفعل ذلك من أجل استمالته، فالهدية تذهب، وَحَرَ الصدر، وتفعل في النفوس ما لا يخفى من تحبيب هذا الإنسان، ولذلك جاء في الأثر: تهادوا تحابوا[9].
"وقوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] معطوف على قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، وليس معطوفاً على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] كما زعمه ابن جرير - رحمه الله -."
قوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ تحتمل أن تكون معطوفة على قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ أي كما هي هكذا: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، فإذا قلنا: إنها عائدة إلى قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ، فالمعنى أن من أنشأ حجاً، وعمرة فإنه يلتزم محظورات الإحرام، ومن ذلك حلق الشعر، فلا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله.
والعلماء مختلفون في هذه المسألة إلا أن أقرب ذلك، وأرجحه هو أن الحلق يكون يوم النحر سواء قدم ذبح هديه أولاً ثم حلق، أو حلق رأسه قبل النحر؛، وذلك أن رجلاً من أصحاب النبي ﷺ سأله عن تقديم، وتأخير حصل منهم، فكان في كل مرة يقول - عليه الصلاة، والسلام -: افعل، ولا حرج[10]، فبلوغ الهدي محله يوم النحر، ومن أهل العلم من يقول غير هذا.
وإذا قلنا: إن قوله: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] عائد إلى قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فالمعنى يتغير تماماً، حيث يكون المعنى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، فإن حال دونه حائل فلا يحل لكم أن تحلقوا رءوسكم، وتتحللوا حتى يبلغ الهدي محله.
وعلى هذا فقوله: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196] قيل: إن دم الإحصار يجب أن يكون في الحرم، وبالتالي يجب على المحصر أن ينتظر حتى يُذبح، أو ينحر في الحرم فهو محله، ولا يجزئ خارج الحرم، وهذا على القول بأن النبي ﷺ قدم هديه فنحر في الحرم من الحديبية.
ومن أهل العلم من يقول: إنه ﷺ نحر هديه خارج الحرم، وبالتالي يقدم المحصر هديه حيث أحصر، فلا يلزمه أن يقدمه في الحرم.
والأقرب أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر، ويفرق على من حضره من الفقراء في المحل الذي نحره فيه، ولا يلزم أن ينقل إلى فقراء الحرم، - والله أعلم -.
فالمقصود أن ابن جرير - رحمه الله - لا ينازع في أن قوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، عائد إلى قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، فهو يوافق الجمهور في هذا، ومنهم ابن كثير، وإنما يخالف ابن جرير في قضيتين هما:
الأولى: أنه يجب عليه أن يحج من قابل قضاء لهذه الحجة، وإن كان معتمراً فيجب عليه قضاء هذه العمرة، وأن مجرد نحر الهدي، أو ذبحه لا يعفيه من حجة أخرى، وإنما ذلك رخص له التحلل من الإحرام فقط، وهذا كلام معروف قال به أئمة، فهي مسألة لم ينفرد بها ابن جرير، وإنما قال بها كثير من أهل العلم.
والمسألة الثانية، وهي مسألة خالف فيها عامة أهل العلم: أن ابن جرير في قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] يقول: هذه تتعلق بالمحصر الذي تحلل من إحرامه بالحج، فعليه أن يأتي بعمرة في أشهر الحج القادمة؛ لأنه تحلل، ولم يصل إلى البيت حينما أحصر، فيكون بهذه العمرة قد طاف بالبيت، وسعى، ثم بعدُ يأتي متى ما تيسر له بحجة يقضي بها حجته الأولى.
فابن جرير يرى أن الدم الذي أهداه ليس دم التمتع المعروف في الأنساك الثلاثة، وإنما هو شيء آخر خاص بالمحصر، مع أن المعروف عند أهل العلم، والذي عليه عامتهم أن قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [سورة البقرة:196] يعني التمتع المعروف الذي هو جمع بين الحج، والعمرة في سفرة واحدة.
"لأن النبي ﷺ، وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا، وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن، والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ويفرغ الناسك من أفعال الحج، والعمرة إن كان قارناً، أو مِن فِعل أحدهما إن كان مفرداً."
الفراغ ليس المقصود به الفراغ من كل شيء، وإنما إذا جاء من عرفة، ففي يوم النحر يكون الهدي قد بلغ محله، ولا زال عليه طواف الإفاضة، وسعْي الحج إن كان لم يسعَ، وبقى عليه رمي الجمار.
"أو مِن فِعل أحدهما إن كان مفرداً، أو متمتعاً كما ثبت في الصحيحين عن حفصة - ا - أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر[11]."
قوله: لبدت رأسي، أي أنهم كانوا يضعون صمغة على الشعر؛ لأن شعورهم كثيرة، وفي السفر يحتاج مدة طويلة في إحرامه، فالشعر ينتفش، ويصيبه ما يصيبه من الغبار، والأتربة، ونحو ذلك، فهو يلبد رأسه بأن يضع عليه صمغة تجعله ثابتاًً مستقراً، وبالتالي فإن من ساق الهدي لا يحل إلى يوم النحر، فلذلك لم يتحلل النبي ﷺ كما تحلل أصحابه بعمرة، ولهذا قال - عليه الصلاة، والسلام -: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة[12]
"وقوله: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]: روى البخاري عن عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت عبد الله بن مَعقل، قال: قعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن فِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ، فقال: حملتُ إلى النبي ﷺ، والقملُ يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة[13]."
فقوله تعالى: أَوْ نُسُكٍ : المقصود بالنسك الذبيحة.
وقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، قد يفهم من ظاهر هذا الحديث أنه يُبدأ أولاً بما ذكر هنا، وأن الثلاثة ليست على التخيير بإطلاق، وإنما فيها ترتيب بين ذبح شاة، فإن لم يجد فعندئذ يخير بين الإطعام، والصيام، كما في كفارة اليمين، عتق رقبة، فإن لم يجد فإنه يخير بين الإطعام، أو الكسوة، فإن لم يجد فعندئذ يصوم ثلاثة أيام.
فالمقصود أن هذا في فدية الأذى ليس مراداً، - والله تعالى أعلم -، وإنما رتب ذلك النبي ﷺ باعتبار أنه الأفضل مثلاً، ويمكن أن يقال: إنه قدم الصوم باعتبار أنه الأسهل من جهة الكلفة المادية، وذلك أنه يستطيعه الغني، والفقير بخلاف الذبح مثلاً، أو الصدقة، ويدل على أن هذا على التخيير الروايات الأخرى الواردة في حديث كعب بن عجرة، وهي حادثة واحدة لم تتكرر معه، وذلك أن النبي ﷺ خيره، كما في بعض الروايات أنه قال: فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة[14] فإذا جمعت هذا، وهذا مع الآية، تبين لك المراد، - والله تعالى أعلم -.
والخلاصة أنه لا يقال لمن عليه فدية أذى كحلق الشعر، أو نحو ذلك: إن عليك أولاً أن تذبح، فإن لم تستطع خيرت بين الإطعام، والصيام، بل هو مخير بإطلاق، ولهذا فإنه ينبغي جمع الروايات، والنصوص في المعنى الواحد دون أن يعجل الإنسان، ويأخذ برواية، ويقول: هذا على الترتيب؛ لأن النبي - عليه الصلاة، والسلام - أمره أولاً بالذبح.
"وروى الإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: أتى عليّ النبي ﷺ، وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -، أو قال: حاجبي - فقال: يؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. قال: فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة، قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ[15].
ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل: فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، ولما أمَرَ النبي ﷺ كعبَ بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل، فالأفضل، فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام، فكلٌّ حسن في مقامه، ولله الحمد، والمنة.
وقوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعاً بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص."

يقول تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يمكن أن تكون "ما" في محل رفع، أو تكون في محل نصب، فإن كانت في محل رفع يكون التقدير فعليكم ما استيسر من الهدي، وإن كانت في محل نصب يكون التقدير: فاذبحوا ما استيسر، أو نحو ذلك مما يقدر بحيث تكون في محل نصب.
ومن قال بأن "ما" هنا في محل رفع قال: هذا له نظائر في كتاب الله كقوله تعالى في كفارة اليمين: فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة:89] أي فعليه صيام ثلاثة أيام.
"وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج."
هذا هو التمتع الخاص، والمقصود به أن يجمع بين الحج، والعمرة في سفرة واحدة، وهذا الذي فسر به عامة أهل العلم قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، إلا أن ابن جرير - رحمه الله - يفسرها بغير هذا، فهو يقول: إن قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ هذه في المحصر، وليست في التمتع الخاص المعروف الذي هو أحد الأنساك الثلاثة، ويقول: فإنه إذا اعتمر في أشهر الحج التي تأتي فإنه يستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج فعليه ما استيسر من الهدي، هذه عمرة يأتي بها المحصر الذي لم يستطع الوصول إلى البيت إذا أمن.
"وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقول: تمتع رسول الله ﷺ، وآخر يقول: قرن،  ولا خلاف أنّه ساق الهدي."
نعم فالقارن يجب عليه الهدي؛ لأنه جمع بين الحج، والعمرة بسفرة واحدة مع أنه لم يحصل له إحلال، ولا تمتع، والآية تقول: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، وذلك أنه يتمتع بإحلاله فيفعل كل ما كان محظوراً عليه فعْله، فالقارن أيضاً عليه هدي باعتبار أنه جاء بالعمرة مع الحج، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم خلافاً للظاهرية الذين قالوا: إن هذا لم يرد عليه دليل، وهو قياس على التمتع، والقياس أصلاً لا يصح عندهم.
"وقال تعالى: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله ﷺ ذبح عن نسائه البقر."
على كلام ابن كثير هنا تكون "ما" في محل نصب، أي: فليذبح ما استيسر من الهدي.
"وقال الأوزاعي: "عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذبح بقرة عن نسائه، وكنَّ متمتعات" رواه أبو بكر بن مَرْدويه."
وجاء في بعض الروايات: "ضحى عن نسائه بالبقر"[16] ففهم منه بعض أهل العلم أن الحاج يضحي أيضاً إضافة إلى الهدي، ولكن الروايات يفسر بعضها بعضاً، فالمقصود بأنه ضحى عن نسائه في الرواية المشهورة أن ذلك كان في الحج، فهو من قبيل الهدي لا الأضحية، وبالتالي فإن الحاج حقه الهدي، وليس عليه أضحية، لكن لو أنه ترك أهله في البلد، وترك عندهم أضحية فهذا لا إشكال فيه، لكن الكلام فيه هو هل يضحي أم أنه ليس مطالباً بذلك، وإنما يكتفي بالهدي؟
"وفي هذا دليل على مشروعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين - ا - قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله ﷺ، ولم ينزل قرآن يُحَرّمها، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات، قال رجل بِرَأيه ما شاء، قال البخاري: يقال: إنه عُمَر ."
سبق الكلام في الدرس الماضي لماذا عمر  نهى عن التمتع، وأن ذلك كان من قبيل السياسة الشرعية رعاية لمصلحة تتصل بالبيت، وذلك أنه كره أن يهجر البيت سائر العام، أي حتى لا يأتي الناس بالعمرة، والحج في سفرة واحدة أيام الحج فقط، ويخلو البيت من المعتمرين في سائر السنة، فهو طالبهم أن يأتوا أثناء العام بالعمرة.
"وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول: "إن نأخذ بكتاب الله يأمر بالتمام، يعني قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، وفي نفس الأمر لم يكن عمر ينهى عنها محرِّماً لها، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين، ومعتمرين، كما قد صرح به .
وقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196] يقول تعالى: فمن لم يجد هدياً فَلْيصُمْ ثلاثة أيام في الحج، أي: في أيام المناسك.
وقال العوفي: عن ابن عباس - ا -: إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة."

لم يجده بمعنى أنه لم يجد الثمن، أو أنه لم يجد الهدي إذا عدم مثلاً بحيث لم يقف على شيء منه، هذا هو المراد بقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196].
"إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله."
قوله: صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، بمعنى أنه لا يبدأ بها يوم عرفة، وليس المقصود أن يوم عرفة غير داخل فيها، وإنما يبتدئ هذه الأيام الثلاثة قبل عرفة.
والعلماء لهم كلام كثير في مسألة متى يبتدئ هذه الأيام الثلاثة، وهل له أن يصوم هذه الأيام الثلاثة بمجرد الإحرام الأول الذي وقع منه، كأن يكون أحرم بالتمتع مثلاً في اليوم الأول من ذي الحجة، ثم لما تحلل من العمرة له أن يصوم بإحلاله هذا؟ أم أنه يجب أن يصوم إذا لبى بالحج؟، وهذا الكلام بخلاف ما إذا كان قد جاء مفرداً، أو قارناً فهو محرم بالحج لم يتحلل من الإحرام، فله أن يصوم حتى، وإن جاء يوم الخامس عشر من ذي القعدة؛ لأنه محرم بالحج، لكن الإشكال فيما إذا جاء متمتعاً فتحلل، متى يصوم؟
يقول: يحرم بالحج، ويصوم قبل يوم عرفة، فإذا أحرم يوم الرابع من ذي الحجة فله أن يصوم مثلاً يوم خمسة، وستة، وسبعة، أو يصوم يوم سبعة، وثمانية، وتسعة، ومن المعلوم أنه يحرم بالاتفاق صيام يوم النحر، وأما ما يتعلق بأيام التشريق فالراجح أنه يحرم صيامها إلا لمن لم يجد الهدي، لكنه لا يؤخر الصوم على الأرجح إلى أيام التشريق إلا إن اضطر لذلك، كأن يكون هذا الإنسان مثلاً مرض، ولم يستطع الصوم إلا في أيام التشريق فإنه يصومها، أو أن يكون هذا الحاج لم يفقد ماله إلا يوم العيد، فهذا ليس أمامه إلا أن يصوم أيام التشريق، فيرخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم هذه الأيام الثلاثة، والمقصود أن صيام هذه الأيام لمن لم يجد الهدي مأمور بها على التفريق، فلا يصوم الأيام العشرة سرداً في الحج.
والعلماء لهم كلام في هذه الصورة الثانية، وهي فيمن لم يتمكن من صيامها إلا في أيام التشريق، هل يصوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؟، وهل له أن يصوم الباقي معها على أن المراد بقوله: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إذا رجعتم إلى رحالكم، أم أن المقصود إذا رجعتم إلى بلادكم؟
فمن قال من العلماء: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ أي رجعتم إلى رحالكم يعني من منى، يقول: يصح له أن يسرد الصوم عشرة أيام؛ لأنه رجع من منى، ومن فسره بأن المراد إذا رجعتم يعني إلى أهلكم - وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم - فإنه لا يسردها، وإنما يصوم السبعة الباقية إذا رجع إلى أهله، وهذا أيضاً على خلاف بينهم في رجوعه هذا ما المراد به؟ أي هل يكون الرجوع بمجرد الشروع فيه بحيث يصوم في الطريق إذا استراح ببلد مدة أسبوع، أو أكثر، أم لا بد من الوصول إلى بلده؟ فمن أهل العلم من قال: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ يصدق عليه القول بشروعكم في الرجوع، وعلى هذا له أن يصوم إن شاء، ولو لم يصل إلى موطنه، والمشهور من كلام أهل العلم أن ذلك إنما يكون برجوعه إلى بلده.
"وكذا روى أبو إسحاق عن، وبرة عن ابن عمر - ا - قال: "يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة"، وكذا روى عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي أيضًا."
قوله: يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، هذا يفسر الكلام السابق من أنه قبل يوم عرفة، يعني الابتداء، وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضًا.
ومثْل ابن جرير الطبري - رحمه الله - لا يفرق في ذلك، فهو لا يقول: إنه يصوم أيام التشريق إذا اضطر إلى هذا، كأن لم يجد قدرة إلا في أيام التشريق، أو نحو ذلك، وإنما يقول: هو مخير، إن شاء صام قبل عرفة، وإن شاء صام في أيام التشريق، فكل ذلك يكون فيه ممتثلاً؛ لأن الله قال: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فهو لازال في الحج.
والذي عليه عامة أهل العلم أنه يصومها قبل عرفة، وإن اختلفوا في التفصيلات، مثل متى يبتدئ الصيام؟، ولكن أيام التشريق لا تصام؛ لأن النبي ﷺ قال عنها: أيام أكل، وشرب، وذكر الله [17]، وعدَّها من أيام العيد، فقال: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام[18]، ونهى عن صيامها ﷺ.
"فلو لم يصمها، أو بعضها قبل العيد يجوز أن يصومها في أيام التشريق؛ لقول عائشة، وابن عمر في صحيح البخاري: "لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لا يجد الهَدي"[19].
وروى سفيان، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.
وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي، وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير؛، وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:196].
وأما ما رواه مسلم عن قتيبة الهذلي قال: قال رسول الله ﷺ: أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر الله [20] فهذا عام، ورواية عائشة، وابن عمر مخصوصة منه."

الآن صار النظر في هذه النصوص على ثلاثة مناحٍ هي:
الأول: أنه يمنع مطلقاً صيام أيام التشريق؛ باعتبار أنها أيام أكل، وشرب.
الثاني: الجواز، والإباحة بإطلاق لمن لم يجد الهدي، أي أن له أن يتخير صيامها ابتداءً فيقول مثلاً: أنا لا أريد أن أصوم يوم ثمانية، ولا يوم سبعة، أنا أريد أن أصوم أيام التشريق، وهذا قول ابن جرير - رحمه الله -.
الثالث: - وهذا أعدل هذه الأقوال - أن يصوم قبل يوم عرفة فإن لم يتمكن فإنه يؤخر ذلك إلى أيام التشريق.
"وقوله: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196] فيه قولان: أحدهما: إذا رجعتم إلى رحالكم، الثاني: إذا رجعتم إلى أوطانكم.
روى عبد الرزاق عن سالم، سمعت ابن عمر - ا - قال: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196] قال: إذا رَجَع إلى أهله، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس."

طبعاً هذا ليس محل اتفاق كما سبق بيانه آنفاً من أن بعض أهل العلم يقول: إن قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ يصدق عليه الشروع في الرجوع، ولو لم يصل إلى موطنه، والقول بأن الرجوع في الآية يقصد به رجوعه إلى رحله في مكة، أو نحوها هو قول الإمام مالك.
وبعضهم بالغ في هذا غاية المبالغة فقال: قوله: يقول: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ هذا ليس على الوجوب، وإنما هو من أجل التخفيف، والرفق بالمكلفين فقط، وإلا فإنه إذا شاء أن يصوم في أيام الحج فإنه يصوم، وهذا قال به ابن جرير، ويقولون: إن هذا مثل قوله: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184]، فالمريض، والمسافر إذا صام في مرضه، وسفره فإنه يجزئه، وإنما قال له: أفطر، وصم أياماً تقضِ فيها ما أفطرت على سبيل الرفق به فقط، فإذا قال: أنا أريد أن أتجشم الصوم فإن هذا يصح، ولا إشكال فيه، وكذلك في الحج يقال: إنما هو من باب الإرفاق بالمكلفين فقط.
وهذا خلاف ما عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، بل إن الكثير منهم قالوا: لا يجزئه الصوم إلا بالتفريق؛ لأن الأمر بالصيام جاء على ثلاثة أنواع: تارة يأمر بها بإطلاق كما في كفارة اليمين على القراءة المتواترة، فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة:89].
وتارة جاء الأمر به مقيداً بالتتابع كما في كفارة القتل، وكفارة الظهار، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92]، [سورة المجادلة:4]، وتارة جاء مقيداً بالتفريق كما هنا في عدم إمكانية الهدي قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196]، وكما جاء في كفارة اليمين في قراءة ابن مسعود غير المتواترة، وهي: (صيام ثلاثة أيام متتابعات).
وعلى كل حال فإن الله فرق بينها بهذه الطريقة فيمتثل العبد ذلك بأن يصوم أياماً متفرقة، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، - والله أعلم -.
"وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر - ا - قال: تمتع رسول الله ﷺ في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة، وبدأ رسول الله ﷺ فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج، فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النبي ﷺ مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل من شيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت، وبالصفا، والمروة، وَلْيُقَصِّر، وليَحللْ ثم ليُهِلّ بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وذكر تمام الحديث، والحديث مخرج في الصحيحين[21]."
وجاء أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس - ا -: وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم[22].
والحديث جاء فيه الأمر بالصوم مفرقاً، ولم يفصل لهم فيه، أي: أنه لم يقل لهم النبي ﷺ: وذلك ليس بعزيمة مثلاً، أو نحو ذلك، ثم إن الأصل أن الأمر للوجوب ما لم يصرف عن ذلك صارف، إلا أن مثل ابن جرير - رحمه الله - يرى أن الصيغة، والصورة خبرية لكنها بمعنى الأمر، وهذا خلاف المشهور في تفسير الآية.
"وقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196] قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي."
في قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ يقول ابن كثير: هذا تأكيد، والمعنى أنه خبر محض، فهو يخبر أن صيام سبعة أيام، وثلاثة نتيجته عشرة أيام، لكن ابن جرير يقول: لا، ليس المعنى هنا هو التأكيد، وإنما المقصود أن هذا خبر مضمن معنى الإنشاء الذي هو الأمر، أي: عليكم أن تكملوا صيام هذه الأيام العشرة من غير نقص.
"وقال الله تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، وقال: وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [سورة العنكبوت:48]، وقال: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف:142]، وقيل: معنى كَامِلَةٌ الأمر بإكمالها، وإتمامها."
قوله: وقيل: معنى كَامِلَةٌ الأمر بإكمالها، وإتمامها، هذا قول ابن جرير - رحمه الله -، وأما ابن كثير فإنه يقول: إن قوله: كَامِلَةٌ جاءت للتأكيد كقوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، فالطائر لا يطير برجليه، وكقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، ومعلوم أن الإنسان لا يتكلم بأذنه، وكقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، والإنسان لا يكتب برجله، وهذا أسلوب عربي معروف، وله دلالة في كل موضع بحسبه.
ومن العلماء من يذكر وجوهاً أخرى في التفسير، ففي قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] يقولون: لئلا يتوهم أن المقصود الإسراع؛ لأن العرب تعبر بالطائر أحياناً لتكني به عن السرعة، وإنما المقصود هنا الطائر المعروف.
وقال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]: أي ليسجل عليهم هذا الجرم من باب الإدانة، وفي قوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، أي: أنه لم يكتبه غيره، أو عزاه إلى غيره بكتابته، وإنما قاله بفيه، والمقصود أن هذا أسلوب عربي معروف.
فالمقصود أن بعض أهل العلم لا يخرج ذلك عن قول من قال: إنه للتوكيد كما قال ابن كثير؛ أو للاحتراز من أن يفهم غير المراد، فالله تعالى قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196]؛ لئلا يتوهم أنه بقي منه شيء بعد ذكر السبعة، والثلاثة لما قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196]، إذ يمكن أن ينتظر السامع زيادة أيام أخرى يطالب بها، فهو أغلق هذا الاحتمال فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196]، يعني من غير زيادة.
كما أنه يمكن أن يقال: إنه قال ذلك لئلا يرد وهمٌ آخر حيث قد يظن السامع أنه مخير بين صيام ثلاثة أيام في الحج، أو يصوم سبعة إذا رجع، فيكون ذلك لا على سبيل الجمع، وإنما يكون ذلك على سبيل البدل، إما هذا، أو هذا، فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [سورة البقرة:196]، - والله أعلم -.
"وقوله: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196] حاضروه هم أهل الحرم، فلا متعة لهم، وروى عبد الرزاق عن طاوس قال: المتعة للناس لا لأهل مكة."
هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهو أن أهل مكة ليس عليهم متعة، والعلماء مختلفون في أهل مكة هل تشرع لهم العمرة أم لا؟ وذلك باعتبار أن العمرة هي الزيارة، وأهل مكة هم قاطنو البيت، وعلى قول من قال: إن العمرة تشرع لهم فإنهم يخرجون إلى الحل ليجمعوا بين الحل، والحرم، فيكون قاصداً للبيت من خارج الحرم.
وابن جرير - رحمه الله - يحمل قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196] على من لم يكن بينه، وبين مكة مسافة قصر، أي: حتى لو كان من غير أهل الحرم، فالتنعيم مثلاً هو حي من أحياء مكة حيث إن بعضه في الحل، وبعضه في الحرم، وعرفة من الحل، وكذلك القرى القريبة من عرفة، ونحو ذلك، فهل أهل هذه المناطق يشرع لهم التمتع أم لا؟ ابن جرير - رحمه الله - يقول: من ليس بينه، وبين مكة مسافة قصر فهو من حاضري المسجد الحرام.
"عن طاوس قال: المتعةُ للناس لا لأهل مكة مَنْ لم يكن أهله من الحرم، وكذا قول الله : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قال: وبلغني عن ابن عباس - ا - مثلُ قول طاوس."
يقول: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، اسم الإشارة ذَلِكَ يعود إلى التمتع، والمعنى أن التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فمفهوم المخالفة أن من كان أهله من أهل المسجد الحرام فإنه لا متعة لهم.
وبعض أهل العلم يحمل اسم الإشارة على أنه يرجع إلى وجوب الهدي، والصيام المذكور في قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [سورة البقرة:196]، أي أن صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إذ إنه إذا كان من أهل الحرم فكيف سيرجع إلى المصر الذي جاء منه ليصوم الأيام السبعة.
والقائلون بهذا يقولون: إن أهل مكة يتمتعون كما يتمتع غيرهم، بل إن بعضهم يقول: حتى من ساق الهدي يمكن أن يتمتع لكنه لا يحل من إحرامه لوجود المانع، وأما النسك فإنه يقع تمتعاً، وهذا القول قال به قليل من أهل العلم، لكن المعنى المشهور هو أن اسم الإشارة ذَلِكَ يعود إلى التمتع، أي أن التمتع إنما يكون لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وبالتالي فأهل مكة لا متعة لهم، إلا أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن المسألة ليست محل اتفاق.
"وقوله: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي: فيما أمركم، وما نهاكم، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196] أي: لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره."
  1. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب إفراد الحج (1792) (ج 2 / ص 90)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3373).
  2. أخرجه الدارقطني (ج 2 / ص 282)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح. 
  3. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الحلق، والتقصير عند الإحلال (1640) (ج 2 / ص 616)، ومسلم في كتاب الحج - باب تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير (1301) (ج 2 / ص 945).
  4. ذكره الإمام الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار.
  5. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب الإحصار (1862) (ج 1 / ص 575)، والترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في الذي يهلُّ بالحج فيكسر، أو يعرج (940) (ج 3 / ص 277)، والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن أحصر بعدو (2860) (ج 5 / ص 198)، وابن ماجه في كتاب المناسك - باب الحصر (3077) (ج 2 / ص 1028)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2497).
  6. صحيح ابن ماجه في كتاب المناسك - باب الحصر (3078) (ج 2 / ص 1028).
  7. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب الأكفاء في الدين (4801) (ج 5 / ص 1957)، ومسلم في كتاب الحج - باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض، ونحوه (1207) (ج 2 / ص 867).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب تقليد الغنم (1614) (ج 2 / ص 609).
  9. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ج 1 / ص 532)، وأبو يعلى (ج 11 / ص 9)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3004).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الفتيا على الدابة عند الجمرة (1650) (ج 2 / ص 619)، ومسلم في كتاب الحج - باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي (1306) (ج 2 / ص 948).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب التمتع، والإقران، والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1491) (ج 2 / ص 568)، ومسلم في كتاب الحج - باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في، وقت تحلل الحاج المفرد (1229) (ج 2 / ص 902). 
  12. أخرجه أبو داود في كتاب الحج - باب حجة النبي صلى الله عليه، وسلم (1218) (ج 21 / ص 886).
  13. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31] (4245) (ج 4 / ص 1642)، ومسلم في كتاب الحج - باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها (1201) (ج 2 / ص 859)، واللفظ للبخاري.
  14. سيأتي تخريجه.
  15. أخرجه أحمد (ج 4 / ص 241)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  16. أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من ذبح ضحية غيره (5239) (ج 5 / 2113)، ومسلم في كتاب الحج - باب بيان، وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج، والتمتع، والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه (1211) (ج 2 / ص 870).
  17. أخرجه أحمد (ج 5 / ص 76)، وقال شعيب الأرنؤوط:  إسناده صحيح على شرط مسلم.
  18. أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295).
  19. أخرجه البخاري في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (1894) (ج 2 / ص 703).
  20. أخرجه مسلم في كتاب الصيام - باب تحريم صوم أيام التشريق (1141) (ج 2 / ص 800) دون قوله: وذكر الله عز، وجل، ورواه أحمد، واللفظ له (ج 5 / ص 75).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب من ساق البدن معه (1606) (ج 2 / ص 607)، ومسلم في كتاب الحج - باب، وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله (1227) (ج 2 / ص 901).
  22. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب قول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:196] (1497) (ج 2 / ص 570).

مرات الإستماع: 0

"وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي: أكملوهما إذا ابتدأتم عملهما، قال ابن عباس: إتمامهما إكمال المناسك[1]. وقال عليّ: إتمامهما أن تحرم بهما من دارك[2] ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة؛ لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء."

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال: أكملوها إذا ابتدأتم عملهما. هذا هو ظاهر الآية إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وما نقله عن ابن عباس - ا - من قوله: إتمامهما إكمال المناسك. هو بهذا المعنى، لكن ما نقله عن علي : أن تحرم بهما من دارك. هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن ذلك أن يحرم بهما من دويرة أهله أنه أكمل عند القائل بذلك، مع أن هذا خلاف فعل النبي ﷺ فالمشروع أن يُحرم من الميقات، ولا يحرم من بيته، ولا من مسجد النبي ﷺ أو غير ذلك، لكن هذا توجيه لهذا القول.

وبعضهم نظر إلى الإتمام من ناحية أخرى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يعني من غير إخلال، ولا شائبة، والواقع أن هذا يرجع إلى القول الأول، إتمام المناسك أن يأتي بها على الوجه المشروع تامة من غير نقص، ولا إخلال.

وبعضهم نظر إلى معنى آخر لا سيما مع قوله: لِلَّهِ فقال: أن يخرج لهما لا لغيرهما. يعني: أن يفرد القصد، وهذا فيه إشكال كما سيأتي في قوله - تبارك، وتعالى -: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] وهو التجارة بالحج - كما سيأتي - ونقل عليه بعضهم الإجماع، والتشريك في أمر مباح على سبيل التبع أن ذلك لا يُخل بالعبادة: كالتجارة في الحج، وقد جاء رجل لابن عمر - ا - وسأله عن حاله، وما كان يزاوله، الرجل كان يكري في الحج يعني كأنه جمال، أو حمال فيخرج إلى الحج يكتسب، ويرتزق، ويحج، فقال له بعضهم: لا حج لك. فسأل ابن عمر - ا - فذكر له ابن عمر ما سمعه من رسول الله ﷺ حيث جاء رجل فسأل عن مسألته، فأخبره النبي ﷺ أن له حجًا[3] يعني ليس كما قالوا: لا حج لك، لكن هؤلاء كأنهم نظروا إلى أن هذا أكمل، ولا شك أن من انفرد قصده مريدًا العبادة دون الالتفات إلى أمر آخر مباح أن هذا أكمل، وأعلى المراتب أن يفرد القصد لطلب ما عند الله - تبارك، وتعالى - دون الالتفات إلى أمر مطلوب آخر، ولو على سبيل التبع.

والمرتبة التي تليها: أن يلتفت إلى أمر يصح الالتفات إليه على سبيل التبع: كالتجارة في الحج، والغنيمة في الجهاد، لكن يريد إعلاء كلمة الله، ويلتفت إلى هذا الأمر معه، فهذا دون الأول، ثم تأتي بعد ذلك مراتب لا تحل، ولا تجوز حيث يحصل فيها الالتفات إما بالتشريك بالنية، وإما بتمحض القصد لمطلوب فاسد: كالرياء، والسمعة، أو إرادة الدنيا دون الالتفات إلى ما عند الله، يريد بعمله الدنيا فقط.

وبعضهم نظر إلى الإتمام من ناحية أخرى، وهي: فيما هو الأكمل في أعمال النسك أن يفرد الحج في سفر، والعمرة في سفر آخر، يعني أن يحرم بالحج على سبيل الإفراد، والعمرة على سبيل الإفراد، وكلام أهل العلم في تفضيل الإفراد عند من فضله على التمتع، والقران نظروا في جملة ما نظروا إليه إلى أن إفراد الحج في سفر، والعمرة في سفر آخر أكمل ممن جاء بالحج، والعمرة في سفرة واحدة، وكلام شيخ الإسلام في هذا معروف، ولا نناقش هذه المسألة الآن؛ لأنه ليس ذلك هو موضعها، ولكن هذا قول لبعض أهل العلم في الإتمام أن ذلك أكمل في النسك، فقالوا: هذا هو المراد وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.

وبعضهم نظر إلى ملحظ آخر، وذلك من جهة النفقة: أن تكون النفقة من حلال، وكسب طيب فذلك أكمل في النسك، ومعلوم أن من حج بنفقة فيها شبهة، أو محرمة أن الأقرب أن الحج صحيح، ويجزئ، ولكنه يأثم على هذه النفقة، وقد لا يُقبل؛ لأن القبول قدر زائد على الصحة كما هو معلوم، فهذا مراتب، يعني قد يصح العمل، لكنه لا يُقبل؛ لوجود مانع كما هو معلوم بجملة من الموانع التي قد لا ترفع للعبد معها صلاة، أو لا تقبل له صلاة، وقد يكون ذلك في مدة في أربعين يومًا، أو نحو ذلك، لكن لا يطالب هذا الإنسان بالإعادة؛ لأنها تجزؤه، فهناك مراتب الصحة، والقبول، ولهذا يقول الأصوليون[4]:

وصحة وفاق ذو الوجهين ...

يعني ما يقع على وجهين: وجه صحيح، ووجه فاسد، مثل لو أنه مثلًا صلى في غير الوقت فهذا وقع على غير الوجه المشروع، وصلى في الوقت فهذا يقع على وجهين، على وجه صحيح، ووجه غير صحيح، لكن ما لا يقع إلا على،د وجه واحد: كقراءة القرآن، والذكر، ونحو ذلك، الذكر المشروع، فيقولون: هذا لا يدخل في هذا النوع من ذي الوجهين لكن يحتاج إلى تصحيح القصد، والنية، فله وجه واحد، قرأ القرآن، قرأ الفاتحة فلا يكون له قصد فاسد.

وجاء عن مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات[5] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وهذا على كل حال داخل في الإتمام، فلا يجاوز الميقات، هذا كمن قال: بأنه من غير إخلال، ولا نقص.

وجاء عن ابن عباس: الحج عرفة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يعني من لم يقف بعرفة فلا يصح حجه، فهو الركن الأعظم في الحج، وأن ذلك في العمرة هو الطواف بالإتمام، ولا شك أن ركن العمرة الأعظم هو الطواف، والسعي فيه الخلاف المعروف، هل هو ركن أو واجب؟ وهناك من قال بأنه ليس بركن، ولا واجب، وُجد من قال هذا، وإن كان ذلك لا يصح، وقد جاء في قراءة ابن مسعود ما يؤيد هذا القول، المنقول عن ابن عباس - ا -: "وأتموا الحج، والعمرة إلى البيت"[6]. يعني بالطواف.

وجاء عن علقمة: "لا يجاوز بالعمرة البيت" يعني: أن هذا غاية الإتمام، ولكن الذي عليه الجمهور، وهو الأقرب: أن الإتمام وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ يعني: أن يأتي بأعمال النسك من غير إخلال، ويدخل فيه بعض ما ذُكر، يعني مثلًا المشركون الحُمُس منهم أعني قريشًا، ومن ولدت كانوا يقفون دون عرفة عن حد الحرم، فهؤلاء ما أتموا النسك، وهكذا من أحرم بعد الميقات ممن موطنه يكون خارج المواقيت، فيجب أن يُحرم من الميقات: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج، أو العمرة[7] فهذا كله داخل فيه، والسلف قد يفسرون بالمثال، لكن قول من قال مثلًا: بأن يحرم من دويرة أهله. فهذا بناء على أن ذلك مشروع، وقد فعله بعض السلف، بعضهم أحرم من العراق، وبعضهم أحرم من خراسان، لكن هذا لا يُشرع، ونعلم ما جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - إمام دار الهجرة، لما ذكر له رجل أنه يريد أن يحرم من عند القبر من مسجد النبي ﷺ فقال: "إني أخشى عليك الفتنة"[8]. منعه من هذا، قال: وأي فتنة؟ يعني في هذه الزيادة، والميقات قريب، فذكر له قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] فخلاف هدي النبي ﷺ لا يقال له: إتمام، ولا كمال، وإنما غاية ما هنالك أن يقال: إن بعض هذه الأقوال المنقولة عن بعض السلف هي تدخل فيه فكأنها من قبيل التفسير بالمثال، يعني مثلًا من يقول: الوقوف إلى أن يقف بعرفه. لا شك أن هذا لا بد منه لا كما كان يفعله الحُمس.

وهكذا في الطواف بالبيت فيما يتصل بالعمرة.

وهكذا أيضًا ما يتعلق بالكسب الحلال، وتوقي محظورات الإحرام، لكن يجمع ذلك أن يأتي بالعبادة على الوجه المشروع على سبيل الكمال، والتمام، ما كان واجبًا فيجب عليه الإتيان به، وما كان مندوبًا فإنه يُندب في الجملة ما لم يؤدي ذلك إلى محظور، أو مفسدة معتبرة شرعًا. 

هنا يقول: ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة؛ لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بعض أهل العلم يقول: الأمر بالإتمام أمر بالابتداء. وعلى هذا قالوا: بأن العمرة واجبة أخذًا من هذه الآية. أن الأمر بالإتمام أمر بالابتداء، وهذا ليس على إطلاقه فإن هذه الآية تشمل الحج، والعمرة الواجبين، وكذلك إن كان ذلك على سبيل التطوع؛ لأنه يجب المضي في الإحرام، والإتمام للنسك، ولو كان الحج، أو العمرة على سبيل التطوع كما هو معلوم، فإنه لا يجوز قطع النسك: الحج، أو العمرة، من قِبَل نفسه إلا لعذر معتبر كالإحصار، فيذبح في الموضع الذي أُحصر فيه كما سيأتي، ويحلق، أو يقصر، أما أن يصرف النظر، ويقطع النية فإن ذلك لا يصح، ولا ينقطع به الإحرام بل يبقى على إحرامه، ولو رفض الإحرام؛ لأنه لا يصح رفضه، وهذا أعدل الأقوال، والذي دل عليه ظاهر القرآن، ودلت عليه السنة، فالحج، والعمرة هي العبادة الوحيدة التي يجب المضي فيهما بعد الشروع، والإحرام، والتلبس بذلك، فلا يصح رفضه، يعني لو أنه قطع نيته فإن ذلك لا ينقطع يبقى ذلك على إحرامه.

وبعض أهل العلم يزيد على هذا، كالأحناف[9] معلوم أنهم يوجبون المضي في العبادة، ويحتجون بقوله: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] وهذا الاستدلال في هذا الموضع لا يخلو من نظر، فيصح للإنسان أن يقطع العبادة من صوم تطوع، أو صلاة نافلة، والفريضة في بعض الحالات، وهكذا الطواف التطوع له أن يقطعه، وما إلى ذلك من الاعتكاف، ونحو هذا، وإن كان الأولى الإتمام لكن يجوز له ذلك، ولا يجب عليه القضاء، والمالكية - رحمهم الله -[10] خصوا ذلك في بعض المسائل يعني وجوب الإتمام، وأن عليه القضاء كما يقولون:

صَلَاتُنَا وَصَوْمُنَا وَحَجُّنَا وَعُمْرَةٌ لَنَا كَذَا اعْتِكَافُنَا
طَوَافُنَا مَعَ ائْتِمَامِ الْمُقْتَدِ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِقَطْعِ عَامِدِ[11]

 

هذه المسائل عند المالكية خصوها، ولكن لا دليل على ذلك، إنما هو الحج، والعمرة هذا الذي عليه الدليل، وهذا الذي للأسف يقع الإخلال فيه كثيرًا فيأتي، ويحرم بالحج، والعمرة، فإذا وصل مكة، ورأى الزحام رجع، ولم يتم، لكن هنا في قوله: ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة.  ولو قيل هذا أيضًا فإنه قد وُجد من السنة ما يدل على وجوب العمرة، أن تحُج، وتعتمر، فهي واجبة على الأرجح في العمر مرة كالحج.

والأدلة على وجوب الحج كثيرة، يعني حتى لو قيل: بأن هذه الآية لا تدل على وجوب الابتداء فإن ذلك لا يتوقف عليه بل هو ركن من أركان الإسلام كما هو معلوم، فهو من آكد الأعمال، ومن أوجبها، وهذا أمر لا يخفى.

"فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ المشهور في اللغة: أحصره المرض بالألف، وحصره العدو، وقيل: بالعكس، وقيل: هما بمعنى واحد، فقال مالك: أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدي، ولم يوجبه على من حصره العدو[12] وقال الشافعي، وأشهب: يجب الهدي على من حصره العدو، وحملا الآية على ذلك[13] واستدلا بنحر النبي ﷺ الهدي بالحديبية[14] وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصور بعدو، أو مرض[15]."

قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ الإحصار بمعنى المنع، ويرجع أصله إلى الجمع، والحبس، والمنع، وقد مضى الكلام في الغريب، وبصرف النظر عن هذا التفريق الذي ذكره بعضهم بمعنى الإحصار باعتبار قولهم: أحصره المرض، وحصره العدو، أو حصره المرض، وأحصره العدو. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ بناء عليه وقع الخلاف؛ لأنه جاء هنا بأُحصر فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ما قال: فإن حصرتم. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فمن قال: بأن ذلك لا يكون إلا من إحصار عدو أخرج المرض منه. لو أنه كُسر، أو مرض، ومن قال: بأن أحصرتم بالمرض، وليس بالعدو. فيكون يترتب عليه ما ذُكر فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ التحلل. .. إلخ إذا كان بالمرض، والواقع أن ذلك يشمل هذا، وهذا.

أما الإحصار بالعدو فهذا يدل عليه ما وقع في الحديبية، فالنبي ﷺ نحر هديه، وأمر أصحابه بذلك، وحلق، وتحلل، وابن عمر - ضي الله تعالى عنه - حينما حاصر الحجاج ابن الزبير في مكة خرج، ولبى، وقيل له بأنه قد يُمنع، فاعتذر بأنه إن حصل له ذلك تحلل يعني يكون في حكم المحصر، وهذا من الخلاف الذي يقع بسبب معنى اللفظة عند أهل اللغة، فأهل اللغة أحيانًا يختلفون فيقع اختلاف الفقهاء بناء على ذلك، وهذا له نظائر يعني مثل النمص، ما معنى النمص؟ هل يختص بالحاجبين؟ هذا قال به بعض أهل اللغة، فخصه بعضهم به، يعني لو أنها أزالت من شعر الوجه غير الحاجبين، أو ما بين الحاجبين فلا إشكال، وبعضهم فسره بإزاله شعر الوجه عمومًا، وبناء عليه قال بعض الفقهاء: لا يجوز لها أن تزيل شيئًا من شعر الوجه، واستثنى هؤلاء ما لو ظهر لها شارب، أو لحية على غير المعتاد كالرجل ففي هذه الحال لها أن تزيله، عمموا ذلك يعني جعلوه في شعر الوجه.

 فالإحصار الأقرب هو أنه يكون بالعدو، وبغيره يعني المرض، والكسر، ونحو ذلك، لكن الذين خصوه بالعدو نظروا إلى المرض باعتبار أنه يمكن أن يتربص، يمكن أن يُحمل إلى البيت، ولكن قد لا يتأتى له، وقد يحصل معه زيادة في علته، ويتضرر، ونحو ذلك، يحصل مشقة كبيرة عليه، وعلى من معه، لا سيما في السابق هذا الكسير يحملونه.

فهؤلاء نظروا إلى هذا أيضًا باعتبار أنه لا يوجد مانع، أو السبيل إلى البيت غير ممتنع، فيستطيع أن يصل هذا المريض أن يُحمل إليه، ونحو ذلك، لكن هذا ليس على إطلاقه، فيجب الهدي على المحصر بعدو، أو مرض من غير تفريق فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وهذه رواية عن ابن عباس - ا -[16] وبه قال ابن مسعود[17] وابن الزبير[18] وعلقمة[19] وسعيد بن المسيب[20] وعروة بن الزبير[21] ومجاهد[22] وقتادة[23] وإبراهيم النخعي[24] وعطاء[25] ومقاتل بن حيان[26] وهو اختيار الحافظ ابن كثير[27].

وجاء عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كُسِر، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى قال: فذكرت ذلك لابن عباس، وأبي هريرة فقالا: صدق[28].  وفي رواية: من عرج، أو كسر، أو مرض[29] هذا نص صريح في المرض، والكسر، والعرج يعني من غير حصر العدو، فقد حلّ، وعليه حجة أخرى، فاعتُبر الإحصار بالمرض، ونحوه.

"فَمَا اسْتَيْسَرَ أي: فعليكم ما استيسر من الهدي، وذلك شاة."

أي: فعليكم ما استيسر باعتبار أن (ما) موصول مبتدأ فعليكم ما استيسر، والخبر محذوف، ويحتمل أن (ما) هذه مفعول لفعل محذوف مقدر: فليُهدي ما استيسر من الهدي، فإن أحصرتم فليهدي ما استيسر من الهدي.

يقول: وذلك شاة. هذا قول الجمهور، وبه قال على [30] وجماعة.

وجاء عن ابن عباس - ا -: من الأزواج الثمانية[31].  وهذا لا شك؛ لأن الهدي لا يكون إلا من بهيمة الأنعام، من الأزواج الثمانية، وهو مخير؛ لأن الله قال: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فلا يُخص بالشاة لكن أدناه شاة، جاء عن ابن عباس -ا - أنه بقدر يسارته[32].

وجاء في رواية لا تصح عنه من طريق العوفي: "إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم"[33].

وحمله عروة بن الزبير - رحمه الله -: على التوسط[34]. يعني بين الغلاء، والرخص، يعني أن يكون الهدي متوسطًا كما يكون الإطعام في الكفارات متوسطًا مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89] على هذا المعنى، على كل حال لا شك أنه مخير، والله - تبارك، وتعالى - قد وسع عليه، فإن ذبح شاة أجزأه، وإن نحر بدنة، أو ذبح بقرة فإن ذلك يجزؤه، أما إن كان قد ساق هديه معه فإنه لا شك يذبح الهدي لا يرجع به، لكن هذا للإحصار، يعني فَمَا اسْتَيْسَرَ يعني تيسر، وتسهل من الهدي هذا معناه.

"وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ خطابًا للمحصر بمرض عند مالك[35] لأنه لا يتحلل بالحلق حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي: موضع نحره، وهو مكة، أو منى عند مالك، وقال الشافعي: محله حيث أحصر[36] وقيل: هو خطاب للمحصر، وغيره."

مكة، أو منى عند مالك، وقال الشافعي: محله حيث أحصر: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ إن كان محصرًا فإنه يحلق في موضعه الذي أُحصر فيه كما فعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويذبح الهدي في الموضع الذي أحصر فيه، وأما إن كان غير محصر فإن ذلك يكون بيوم النحر، يذبح في موضع الذبح فمنى كلها منحر، وكذلك مكة وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ هذا معطوف على قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وليس معطوفًا على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بمعنى أنه يجب الإتمام، والمضي في النسك بهذه الحال فإنه لا يحلق، ولا يقصر إلا إذا بلغ الهدي محله، وذلك في يوم النحر، ولو كان قبل الذبح، فإنه سُئل النبي ﷺ عن مثل هذا التقديم، والتأخير فقال: لا حرج[37] فإذا كان يوم النحر فقد بلغ الهدي محله، وبناء عليه لا يكون هذا خطابًا للمحصر، وإنما لمن تلبس بالنُسك.

قال: وقيل: هو خطاب للمحصر، وغيره.  وهذا الذي اختاره ابن عطية[38] وشيخ الإسلام[39]؛ لعموم اللفظ: أنه ممنوع من حلق شعره، أو تقصيره، فالتقصير كالحلق لكنه ذكر الحلق أخذ منه بعض أهل العلم لكونه أشرف، وأكمل، ولهذا استدلوا من القرآن على تفضيل الحلق على التقصير أنه خصه بالذكر مع أن التقصير في معناه، وله حكمه من السنة الحديث المشهور: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثًا[40]

قال: وقال الشافعي: محله حيث أحصر.  وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[41] هذا بالنسبة للمحصر، وعزاه البغوي لأكثر أهل العلم[42] الشنقيطي يقول: "هذا قول الجمهور"[43]. يعني أن يكون هدي المحصر في الموضع الذي أحصر فيه، هذا لا إشكال فيه، لكن لاحظ هنا قول الإمام مالك - رحمه الله -: خطابًا للمحصر بالمرض باعتبار أنه يمكن الوصول إلى البيت، فيرسل الهدي حتى يُنحر هناك، لكن من حصره العدو لا يستطيع ذلك، وعلى كل حال السنة دلت على أن المحصر يذبح في موضعه الذي أُحصر فيه - والله أعلم -.

"فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا الآية، نزلت في كعب بن عجرة حين رآه النبي ﷺ فقال له: لعلك آذاك هوامك قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أنسك بشاة[44]."

هذا الحديث حديث كعب فيه في الرواية: فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة. فهو سبب النزول، ويؤخذ من قوله: وهي لكم عامة. فائدة في أصول التفسير فيما يتصل بأن العبرة بعموم اللفظ، والمعنى لا بخصوص السبب، فيؤخذ هذا من جملة الأدلة التي يُستدل بها على أن العبرة بعموم اللفظ، والمعنى، وهي لكم عامة، وقلّ أن تجد مثل هذا الدليل في جملة الأدلة التي تُذكر في هذه المسألة. 

"فمعنى الآية: أن من كان في الحج، واضطره مرض، أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النحر جاز له حلقه، وعليه صيام، أو صدقة، أو نسك حسبما تفسر في الحديث، وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج منها إلا الصيد، والوطء، وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بد في الآية من مضمر لا يستقل الكلام عنه، وهو المسمى فحوى الخطاب، وتقديرها: فمن كان منكم مريضًا، أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه فدية."

عرفنا من قبل أن فحوى الخطاب يقصد بها هنا دلالة الاقتضاء، يعني هناك مقدر محذوف تقديره: فمن كان منكم مريضًا، أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية، كما في الصوم: فمن كان مريضًا، أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أُخر، فهذا في محظورات الإحرام، هنا جاء ذلك في الرأس، كما في حديث كعب بن عجرة، ونفس الآية: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ فلو احتاج إلى أخذ شيء من شعر البدن، أو الأظفار، أو نحو ذلك، قاسوه على شعر الرأس، مع أن بعض الفقهاء كالظاهرية قالوا: بأن أخذ ذلك غير ممنوع أصلًا؛ لأنه لم يرد إلا في شعر الرأس[45]؛ لأنهم يمنعون من القياس كما هو معلوم، ولكن الجمهور يلحقون ذلك بشعر الرأس، فلو احتاج إلى شيء من هذا، أو إلى شيء من محظورات الإحرام كأن يلبس اللباس الذي يكون مفصلًا على عضو يسمى بالمخيط، أو نحو هذا، فيكون له نفس الحكم في هذه المحظورات، سائر الأشياء التي يُمنع الحاج منها إلا الصيد باعتبار أن الصيد فيه الجزاء المعروف فهو يحرم عليه الصيد، ولو صاد لا يقال: إن عليه فدية أذى. 

والوطء باعتبار أنه يُبطل، أو يُفسد الإحرام، فقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس؛ لأن غيره عندهم أصلًا لا حرج فيه سواء كان ذلك لحاجة، أو لغير حاجة، يعني للمحرم أن يأخذ من شعر بدنه بلا إشكال، وأن يقص أظفاره، لاحظ هنا في حديث كعب بن عجرة: أنه قال: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة بدأ بالأسهل، الصيام ليس فيه بذل مال، ثم الإطعام: إطعام ستة مساكين، ثم أعلاها: انسك شاة، لكنه في بعض رواياته بدأ بالشاة، ولذلك تجدون في كلام بعض أهل العلم في مثل هذا الموضع فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ يقولون: بدأ في الآية بالأسهل؛ لأن ذلك عام للمكلفين، وفي مقام التشريع الذي مبناه على التيسير، والتسهيل، فبدأ بالأسهل، لكن يقولون: في حديث كعب بن عجرة: أنه أمره بأن يذبح شاة في البداية، ثم الإطعام، ثم ذكر له الصيام، قالوا: أرشده إلى الأكمل، لكن حديث كعب بن عجرة في رواياته الصحيحة منها ما بُدأ به بالأسهل يعني على وفق الآية، ومن ثم فإن مثل هذا الجمع لا يخلو من نظر باعتبار أنه على بعض ألفاظ، وروايات الحديث.

فنحن لا نعلم يقينًا ما الذي ابتدأ به النبي ﷺ في حديث كعب بن عجرة، هل أرشده إلى الأعلى، والأكمل بالذبح أولًا، أو أنه كما في هذه الرواية أرشده إلى الأسهل فيكون موافقًا للآية، فإن هذا السؤال يورده بعض أهل العلم يقول: لماذا في حديث كعب أرشده إلى الأعلى، وفي الآية ابتدأ بالأسهل؟.

"فَإِذا أَمِنْتُمْ أي: من المرض على قول مالك، ومن العدوّ على قول غيره، والمعنى: إذا كنتم بحال أمن سواء تقدم مرض، أو خوف عدو، أو لم يتقدم."

هذه قرينة قد يحتج بها من يقول: بأن الإحصار إنما يكون من قِبَل العدو فَإِذَا أَمِنْتُمْ. لكن ذكر مثل هذه الصورة لا يمنع من أي يكون الإحصار بما يمنعه من الوصول إلى البيت فيدخل فيه المرض، والكسر، ونحو ذلك، يعني الآن لا يشترط أن يكون المنع من قِبَل العدو؛ لأن هؤلاء الذين يذهبون، وليس عندهم تصريح في الحج فيمنعون، ما الحكم؟ هل يذهب، ويرجع هكذا؟

الجواب: لا، هذا في حكم المحصر فعليه أن يذبح هديًا في الموضع الذي مُنع فيه، ثم يحلق، أو يقصر، ويتحلل، أما أن يرجع هكذا مجانًا، إلا إذا كان اشترط، على كلام في الاشتراط هل يشترط؟ هل لكل أحد أن يشترط؟ أو أن الذي يشترط هو من كان يتخوف العلة يعني كان فيه علة، أو مرض يخشى ألا يستطيع الإتمام مثلًا؟ أو كان يتوقع أن يُرد فيشترط فيتحلل مجانًا، يعني ما يحتاج إلى ذبح هدي، لكن إذا كان ما اشترط فليس له أن يرجع هكذا، ولا يتحلل من قِبَل نفسه، وإنما يكون تحلله بعد أن يذبح، ويحلق، وإلا فإنه لا يزال على إحرامه، ولو لبس الثياب. 

"فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ التمتع عند مالك، وغيره: هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه، فهو قد تمتع بإسقاط أحد السفرين للحج، أو العمرة.

وقال عبد الله بن الزبير: التمتع هو أن يحصر بعدو عن الحج حتى يفوته الحج فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج من قابل قضاء لحجته، فهو قد تمتع بفعل الممنوعات في الحج، من وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل، وقيل: التمتع هو قران الحج، والعمرة."

هذه الأقوال الثلاثة:

الأول: أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه. هذا الذي نقله عن مالك، وغيره: هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه، يعني على المعنى المعروف المشهور للتمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ثم يتحلل، ثم يحرم بالحج بعد ذلك فيكون قد تمتع بالتحلل بين النسكين، وجاء بهما في سفر واحد، ومن نظر إلى هذا المعنى أيضًا ألحق به القِران، قالوا: بأن هذا لم يتحلل بين الحج، والعمرة بين النسكين، ولكنه جاء بهما في سفرة واحدة. فمثل هذا عليه هدي شكران الذي هو هدي التمتع، والقرآن، لكن هذا ليس محل اتفاق، فبعض الفقهاء يقولون: بأن القارن ليس عليه هدي باعتبار أن الله - تبارك، وتعالى - نص على التمتع فَمَنْ تَمَتَّعَ فهذا لم يتمتع باعتبار أنه لم يتحلل من العمرة، إلا إذا كان قد ساق الهدي فيجب عليه أن يذبح الهدي، وأما غيره فقالوا: لا يجب عليه.

والمشهور أنه يجب عليه الهدي كما يجب على المتمتع؛ لأنه قد جاء بالنسكين في سفر واحد، وأيضًا من قال كابن الزبير : بأن التمتع هو بأن يحصر عن الحج بعدو حتى يفوته الحج فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج من قابل قضاء لحجته. الآن هذا الذي حُصر فهو باق على الإحرام، فيتحلل بعمرة إذا استطاع الوصول إلى البيت فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ فيكون ذلك توسعة له بالتحلل، فلا يبقى إلى العام القادم ليحج لما فاته الحج، لكن الجمهور على الأول: أن المقصود التمتع المعروف بالجمع بين النسكين. يقول: فهو قد تمتع بفعل الممنوعات في الحج من وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل.  وهذا القول هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - لاحظ خلاف قول الجمهور، أن يكون المحصر يتحلل بالعمرة فيكون ذلك تمتعًا إلى الحج القابل.

يقول: وقيل: التمتع هو قران الحج، والعمرة. ابن كثير - رحمه الله - حمله عليهما، يعني القران، والتمتع، وأن التمتع الخاص هو المعروف في كلام الفقهاء: أن يتحلل من عمرته، ثم بعد ذلك يُحرم في الحج، ولكن التمتع العام هو شامل للنوعين: التمتع بالتحلل من العمرة، ثم الإحرام بالحج، أو أن يأتي بهما في سفرة واحدة، فهذا هو التمتع بمعناه العام، ومعناه الخاص المشهور ما سبق، فيشمل هذا، وهذا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ولاحظ ما نُقل عن ابن الزبير - ا - هو نظر إلى السياق فَإِذَا أَمِنْتُمْ يعني هو أحصر فإذا أمِن، وقد فاته الحج فماذا يصنع؟ يذهب، ويتحلل بالعمرة، ثم بعد ذلك يحرم من قابل.

"فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة."

ابن جرير - رحمه الله - يقول: "بأن (ما) هذه في محل رفع، أي: فعليكم ما استيسر من الهدي"[46]. كما في نظائره من القرآن: كقوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ: يعني فعليكم فدية فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أي: فعليه، أو فعليكم ثلاثة أيام، ويحتمل النصب على التقدير: فاهدوا ما استيسر من الهدي، والهدي: جمع هدي هدية، وهدي، وذلك أن مهديه يتقرب به إلى الله - تبارك، وتعالى - كصاحب الهدية، أهل العلم يفرقون بين الهبة، والهدية، والصدقة، ونحو ذلك، يقولون: الهدية ما قُصد بها التلطف، والتقرب، وتقريب القلوب، والتودد، ونحو ذلك.

والهبة: عطية من غير التفات إلى هذا المعنى.

والصدقة: ما قصد به الأجر، والثواب. فهذا المُهدي هو يتقرب بذلك إلى مولاه كتقرب صاحب الهدية إلى المُهدى إليه، هكذا قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -. 

"ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وقتها من إحرامه إلى يوم عرفة فإن فاته صام أيام التشريق.

لأن أيام التشريق هي أيام عيد لا يجوز صومها، لا يحل صومها إلا لمن فقد الهدي، والأولى به أن يُقدم ذلك قبل يوم النحر، فيصوم السابع، والثامن، والتاسع مثلًا، لكن لو أنه لم يتيسر له صيام هذه الأيام، أو لأنه لم يفقد نفقته مثلًا إلا في يوم النحر ماذا يصنع؟ يصوم أيام التشريق، فمن فقد الهدي، فمن لم يجد الهدي سواء لم يجد القيمة: ثمن الهدي، أو لم يجد الهدي نفسه، عنده ماله لكن لم يجد هدي يشتريه، ولهذا قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فجاءت العبارة تشمل النوعين، قال: فإن فاته صام أيام التشريق.

ابن جرير - رحمه الله - أطلقه على التخيير، يعني هو مخير في ذلك إن شاء صام أيام التشريق، وإن شاء صام قبل يوم النحر[47] أنه مخير، وجاء عن ابن عباس، وابن عمر أنهما يومان قبل عرفة معه: السابع، والثامن، والتاسع.

"إِذا رَجَعْتُمْ أي: إلى بلادكم، أو في الطريق."

رجعتم إلى بلادكم هذا هو الظاهر المتبادر - والله أعلم - وقد جاء ذلك عن جماعة من السلف: كابن عمر، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع[48].

وهنا قال: أو في الطريق. أجازه الإمام أحمد - رحمه الله - وإسحاق بن راهويه يقولان: يجزيه لو أنه صام في الطريق[49]؛ لأنه في حكم من رجع. يعني غادر مكة فإذا شاء أن يصوم في الطريق فذلك يصدق عليه قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ يعني لا يُشترط أن يصل إلى بلده، بل قال مالك: "إذا رجع من منى فلا بأس"[50]. يعني خرج من منى، وانتهى من أعمال الحج برمي الجمار، وذهب إلى مكة، بعض الناس يقيمون في مكة مدة بعد الحج، فمثل هذا عند مالك لا إشكال، لكن قد يُقال: بأن الظاهر المتبادر أن الرجوع يُراد به الرجوع من الحج بالكلية، لكن قال ابن جرير: لو صامها في حجه أجزأ[51] يعني كأنه نظر إلى أن هذا أرفق به؛ لأنه جعل السبعة في الرجوع، فهذا يُشعر بأن المقصود بالرجوع إذا رجع إلى أهله؛ لأن ذلك أرفق به من صيامها في الطريق، أو من صيامها في مكة لو أنه بقي هناك، لكن كأن هؤلاء نظروا أنه قد تفرغ من أعمال الحج فذلك لا يشغله عنه؛ لأن الحاج بحاجة إلى أن يتقوى على أداء النسك، فالصوم يضعفه، فجعل السبعة إذا رجع، فإذا كان قد تفرغ، وترك منى، وأراد أن يبقى في مكة مدة بعد الحج، فصام فهو متفرغ بهذا الاعتبار، يعني كأنهم نظروا إلى هذا المعنى، وهكذا المسافر إذا كان هذا لا يشق عليه باعتبار أن من أهل العلم من قال: بأن المسافر له أن يصوم من غير كراهة، وقد كان النبي ﷺ يصوم في السفر تطوعًا، وكذلك بعض أصحابه: كابن رواحة: "وما منا صائم إلا النبي ﷺ وابن رواحة"[52].

وكذلك أيضًا من سأل النبي ﷺ عن الصيام في السفر، وأنه يكثر الصوم، فالنبي ﷺ جعله مخيرًا إن شاء صام، وإن شاء أفطر[53] وهذا الذي عليه عامة أهل العلم أن الرجوع المقصود به الرجوع إلى موطنه.

وبعضهم قال: إِذَا رَجَعْتُمْ أي: إلى رحالكم.  وفي الحديث: فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله[54] هذا صريح بهذا المعنى.

وفي حديث ابن عباس - ا -: وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم[55] فيكون الرجوع إلى بلده.

"تِلْكَ عَشَرَةٌ فائدته: أن السبع تصام بعد الثلاثة فتكون عشرة، ورفع لئلا يتوهم أن السبعة بدل من الثلاثة، وقيل: هو مثل الفذلكة، وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا، وقيل: كاملة في الثواب."

السبعة بدل من الثلاثة باعتبار أنه قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يعني إن المجموع سبعة، فقد يتوهم متوهم هذا، يعني يصوم ثلاثة في الحج، وأربعة إذا رجع فيكون مجموع ذلك سبعة، وهذا خلاف المقصود، فالمراد ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع فالمجموع عشرة فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لرفع هذا التوهم.

يقول: وقيل: هو مثل الفذلكة، وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا. هذه الفذلكة على هذا التفسير، يذكر عددًا مفرقًا، ثم يذكر حاصله مجموعًا، فذلكة، وهذا لا يكون في الأعداد فقط بل يكون أيضًا في غيره من الكلام.

يقول: وقيل: كاملة. تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ في الثواب. ابن جرير - رحمه الله - ذهب إلى أنه خبر بمعنى الأمر[56] أي: أن الله أمركم بتكميل صومها فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ هذا خبر عند ابن جرير بمعنى الأمر، يعني أنتم مأمورون بتكميلها.

"لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني غير أهل مكة، وذي طوى بإجماع، وقيل: أهل الحرم كله، وقيل: من كان دون المواقيت، وقوله: (ذلك) إشارة إلى الهدي، أو الصيام، أي: إنما يجب الهدي، أو الصيام بدلًا منه على الغرباء، لا على أهل مكة، وقيل: ذلك إشارة إلى التمتع."

وقيل: أهل الحرم كله. المسجد الحرام يطلق على الحرم بكامله، وقيل: من كان دون المواقيت. لكن المسجد الحرام لا يقال على ما كان دون المواقيت، وإنما على ما يصدق عليه أنه من أرض الحرم المعروفة المحددة بأعلام تدل عليها.

وبعضهم يقول: المراد من حوله ممن هم دون مسافة قصر.  وهذا اختاره أبو جعفر بن جرير –رحمه الله -[57] والواحدي[58] والشيخ عبد الرحمن بن سعدي[59] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[60] قالوا: من حوله ممن هم دون مسافة قصر. يعني أعطوهم حكم من كان مستوطنًا مكة، لكن من قال: بأنه من كان دون الميقات فقوله أوسع من هذا، من أبعد المواقيت كما هو معلوم ذو الحليفة، وهو لا شك أنه مسافة سفر، قصر، يبعُد عن مكة نحو أربعمائة كيلو، أو أكثر، لكن هذا القول من هم دون مسافة قصر لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فهؤلاء لهم حكم أهل مكة، الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - يخصه بالحرم[61] منطقة الحرم أخذًا بظاهر الآية، وهؤلاء العلماء الذين قالوا: دون مسافة قصر. نظروا إلى أن المعنى: أن هذا في حكم أهل مكة فهو لا يسافر إلى أهله.

يقول: وقوله: ذَلِكَ إشارة إلى الهدي، أو الصيام. يعني إشارة إلى الحكم، وهو وجوب الهدي، أو الصيام، يعني هذا التفريق الآن ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، أما إذا كان أهله دون مسافة قصر مثل هذا فله حكم أهل مكة بهذا الاعتبار، لكن إذا أخذنا بظواهر الأحاديث السابقة منها: وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم وسبعة إذا رجع إلى أهله فظاهره أنه إذا صار إلى ذلك الموضع، ولو كان دون مسافة قصر، يعني هل جُدة الآن تُعتبر مسافة قصر؟ حاليًا لا يعدونها مسافة قصر في عرفهم، تقارب البنيان فلا يعدونها مسافة قصر، فعلى هذا لو كان في جدة فهل يقال: يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى جدة؟ ولو صامها في مكة هو دون مسافة قصر.

وهكذا لو كان من أهل بحرة، أو نحو ذلك، الذين هم خارج منطقة الحرم، كذلك التنعيم، الجزء الذي من الشرايع خارج الحرم، ونحو هذا، هذه الأماكن خارج حدود الحرم، هل يقال: يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع؟ هو في مكة لكن خارج حدود الحرم، فكأن هؤلاء نظروا أعني ابن جرير، ومن وافقه إلى أن هذا في حكم أهل مكة، فهو لا يسافر إلى أهله.

ذلك إشارة إلى الحكم فهو وجوب الهدي، أو الصيام. أي: إنما يجب الهدي، أو الصيام بدلًا منه على الغرباء لا على أهل مكة، هذا باعتبار أصل الحكم مع أن هذا ليس محل اتفاق، لكن هذا قول عامة أهل العلم: أن أصل الحكم، وليس التفريق بصومها، يعني أن هذا ليس عليه صوم أصلًا، بأي اعتبار؟

كثير من أهل العلم يقولون: أهل مكة ليس عليهم تمتع أصلًا، إنما يكون التمتع لغيرهم، والعلماء أيضًا مختلفون هل لأهل مكة عمرة، أو لا؟ باعتبار أن العمرة هي الزيارة، فيقولون: كيف يخرجون إلى الحل من أجل أن يحرموا بالعمرة، ثم بعد ذلك يرجعون إلى البيت؟ على كل حال يقول: إنما يجب الهدي، أو الصيام بدلًا منه على الغرباء، لا على أهل مكة باعتبار أن أهل مكة ليس عليهم تمتع أصلًا، ولكن قد يُفهم من كلام أهل العلم أن أهل مكة يتمتعون، وهذا خلاف عامة أهل العلم ليس عليهم تمتع، لكن ظاهر كلام بعض أهل العلم أن أهل مكة يتمتعون، لكن لا يكون عليهم الهدي، وتجد في كلام الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي[62] تفسير ما يُشعر بهذا، وهو غريب.

يقول: وقيل: ذلك إشارة إلى التمتع. باعتبار أن أهل مكة، أو أهل المسجد الحرام ليس عليهم تمتع، وهذا مروي عن ابن عباس[63] وطاوس[64] وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -[65] لكن ابن جرير كما هو معلوم أنه يحمل قوله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أنه لم يكن بينه، وبين المسجد الحرام مسافة قصر، ولو لم يكن في أرض الحرم نفسه، فهؤلاء لهم حكم أهل مكة في أنه ليس عليهم تمتع فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

  1.  - تفسير الطبري (3/ 328).
  2.  - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 125) برقم (12689) وابن كثير في تفسيره (1/ 531).
  3.  - أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به، برقم (1336).
  4.  - نشر البنود على مراقي السعود (1/ 44).
  5.  - تفسير ابن كثير (1/ 531).
  6.  - تفسير الطبري (3/ 328) وتفسير ابن كثير (1/ 532).
  7.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب مهل أهل مكة للحج، والعمرة، برقم (1524) ومسلم، كتاب الحج، باب مواقيت الحج، والعمرة، برقم (1181).
  8.  - الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 174).
  9.  - انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي (1/ 339) وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي (1/ 339).
  10.  - انظر: البيان، والتحصيل (1/ 309) والذخيرة للقرافي (2/ 403) والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 374). 
  11.  - مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 90).
  12.  - البيان، والتحصيل (4/ 75) والذخيرة للقرافي (3/ 186) والتاج، والإكليل لمختصر خليل (4/ 292).
  13.  - الأم للشافعي (2/ 174) و(2/ 184).
  14.  - أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، برقم (2731) ومسلم، كتاب الجهاد، والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم (1786).
  15.  - انظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 257) والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق، وتكملة الطوري (3/ 60) وكنز الدقائق (ص: 246) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وحاشية الشلبي (2/ 77).
  16.  - تفسير الطبري (3/ 348) وتفسير ابن كثير (1/ 533).
  17.  - تفسير ابن كثير (1/ 533).
  18.  - المصدر السابق.
  19.  - المصدر السابق.
  20.  - المصدر السابق.
  21.  - المصدر السابق.
  22.  - المصدر السابق.
  23.  - المصدر السابق.
  24.  - تفسير ابن كثير (1/ 533).
  25.  - المصدر السابق.
  26.  - المصدر السابق.
  27.  - المصدر السابق.
  28.  - أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر، أو يعرج، برقم (940) والنسائي، كتاب مناسك الحج، فيمن أحصر بعدو، برقم (2860) وابن ماجه، أبواب المناسك، باب المحصر، برقم (3077) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6521).
  29.  - أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، بابُ الإحصار، برقم (1863) والطبراني في المعجم الكبير، برقم (3214) وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1628).
  30.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 534).
  31.  - الصدر السابق.
  32.  - المصدر السابق.
  33.  - المصدر السابق.
  34.  - المصدر السابق.
  35.  - الجامع لمسائل المدونة (5/ 605).
  36.  - الأم للشافعي (2/ 237) و الحاوي الكبير (4/ 350).
  37.  - أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الفتيا، وهو واقف على الدابة، وغيرها، برقم (83) ومسلم، كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي، برقم (1306).
  38.  - تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (1/ 267).
  39.  - شرح عمدة الفقه لابن تيمية - من كتاب الطهارة، والحج (3/ 332).
  40.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق، والتقصير عند الإحلال، برقم (1728) ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير، برقم (1302).
  41.  - تفسير الطبري (3/ 374).
  42.  - تفسير البغوي - طيبة (1/ 222).
  43.  - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 84).
  44.  - أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] برقم (1814) ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  45.  - انظر: التعليقة الكبيرة في مسائل الخلاف علي مذهب أحمد (1/ 404).
  46.  - تفسير الطبري (3/ 371).
  47.  - المصدر السابق: 8/ 707).
  48.  - تفسير ابن كثير (1/ 539).
  49.  - المغني لابن قدامة (3/ 418).
  50.  - المدونة (1/ 431).
  51.  - تفسير الطبري (3/ 436).
  52.  - أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا صام أياما من رمضان، ثم سافر، برقم (1945) ومسلم، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر، برقم (1122).
  53.  - أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر، برقم (1121).
  54.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب من ساق البدن معه، برقم (1691) ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، برقم (1227).
  55.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ [البقرة: 196] برقم (1572).
  56.  - تفسير الطبري (3/ 437).
  57.  - تفسير الطبري (3/ 442) وتفسير ابن كثير (1/ 540).
  58.  - التفسير الوسيط للواحدي (1/ 300).
  59.  - تفسير السعدي (ص: 91).
  60.  - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 127).
  61.  - تفسير العثيمين: الفاتحة، والبقرة (2/ 395).
  62.  - تفسير السعدي (ص: 91).
  63.  - تفسير ابن كثير (1/ 540).
  64.  - المصدر السابق.
  65.  - المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة سورة البقرة القتال ذكر بعده الجهاد الآخر كما قال النبي ﷺ: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة [1] فذكر آيات الحج بعد آيات القتال فهما جهادان، فقال الله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196].

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أدوا الحج والعمرة تامين خالصين لله -تبارك وتعالى، فإن منعكم وحال دون الإتمام بعد الدخول في النسك والتلبس بالإحرام، إن حصل ما يمنع من إتمامه من عدو أو مرض أو نحو ذلك فالواجب في هذه الحال هو الهدي، ذبح شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل تقربًا إلى الله -تبارك وتعالى، وبذلك يكون المحصر قد حل من إحرامه، فيحلق أو يقصر بعد ذلك؛ لأنه لا يجوز له أن يحلق ولا أن يقصر حتى يبلغ الهدي محله، فإن كان في أمن وقدرة على الوصول إلى البيت فإن محله في يوم النحر كما هو معلوم، وإن أحصر فإنه يذبح هذا الهدي في الموضع الذي أحصر فيه، وهذا يعطيه لمن كان في تلك الناحية من الفقراء، كما فعل النبي ﷺ في الحديبية لما صده المشركون عن البيت نحر هديه ﷺ وحلق رأسه[2].

وهكذا المريض أو من كان به أذىً من رأسه يحتاج مع إلى الحلق فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ كالقمل كما وقع ذلك لكعب بن عجرة ، فقد جيء به إلى النبي ﷺ والقمل يتناثر على وجهه، فالنبي ﷺ قال له: أتجد شاة؟، فقال: "لا"[3] ثم ذكر له بعد ذلك على التدريج من الأعلى إلى الأدنى، فإن فدية الأذى هي بذبح شاة، أو بصيام ثلاثة أيام، أو بإطعام ستة مساكين من فقراء الحرم، فيكون مخيرًا بين هذه الأمور الثلاثة، يعطي لكل مسكين نصف صاع من طعام يكون قوتًا، وهكذا الشاة فإنها توزع على فقراء الحرم، فإذا أمن الناس فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ؛ وذلك باستباحة ما حُرِّم عليه بسبب الإحرام حينما يتحلل من العمرة فيحل له الوطء والطيب ونحو ذلك، ويكون قد جمع بين النسكين في سفر واحد، فهنا يكون عليه الهدي، ولذلك ألحق به عامة أهل العلم الجمهور القارن، مع أن القارن لا يتحلل من عمرته، فعمله على الأرجح هو كعمل المفرد إلا أن عليه الهدي، ففي هذه الحال يكون عليه الهدي، وهذا الهدي للشكران وليس للجبران.

الفدية التي تكون بسبب الأذى فدية الأذى لحلق الرأس أو نحو ذلك هذه يقال لها: فدية جبران، بمعنى أنها تجبر النقص الذي وقع، فدية الأذى هذه يخير فيها بين ثلاثة أمور هي التي ذكرناها آنفًا.

وهناك فدية لترك الواجب هذه للجبران لكنه لا يكون مخيرًا فيها، وإنما يكون عليه ذبيحة فدية، يذبح شاة أو يذبح بقرة أو يذبح بدنة، قد يكون ذلك مخيرًا فيه وقد يكون الواجب عليه بدنة كما في الجماع، وقد يكون الواجب شاة، في أحكام تفصيلية معروفة في مظانها.

فالمقصود أن هذا الذي يتمتع عليه أن يذبح هديًا لشكر الله -تبارك وتعالى- على ما منَّ عليه وأعطاه ووسع عليه، فتحلل وأتى بنسكين، تحلل من العمرة قبل الحج، وأتى بنسكين في سفر واحد، فهو يشكر الله -تبارك وتعالى- على ذلك، فمن لم يجد هذا الهدي باعتبار أنه ما وجده متاحًا يباع أو ما وجد القيمة، كأن تكون قد قصرت نفقته أو ضاعت أو سرقت أو نحو ذلك ففي هذه الحال يصوم ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان ذلك الفقد بعد فإنه يصوم في أيام التشريق بعد يوم النحر ثلاثة أيام، وإلا فالأصل أن أيام التشريق كما هو معلوم يحرم صومها، لكن في مثل هذه الحال يستثنى، فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، إذا رجع إلى بلده بعد فراغه من أعمال الحج، فهذه عشرة كاملة ثلاثة وسبعة لا بد من استيفائها.

ذلك الهدي وما ترتب عليه من الصيام كله لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، يعني لم يكن من أهل مكة، فهذا أهل مكة الذي يذكره الفقهاء أنه لا تمتع عليهم وإن لم يكن هذا محل اتفاق.

وَاتَّقُوا اللَّهَ اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن خالف أمره وارتكب نهيه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد والهدايات بهذه الآيات آيات الحج في سورة البقرة نجد الأمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- في اثني عشر موضعًا في آيات الحج هذه بكمالها في سورة البقرة، والله -تبارك وتعالى- ذكر ما يتعلق بالحج في سورة البقرة وفي سورة الحج، لكن الذي في سورة البقرة ذكر الله -تبارك وتعالى- الأمر بالتقوى وبأسباب التقوى من الذكر والاستغفار ومجانبة ما يناقض ذلك من الفسوق والجدال ونحو هذا، يعني التقوى ومكملات وما يتفرع عنها في اثني عشر موضعًا في هذه الآيات من سورة البقرة، فهذا يدل على أن قضية التقوى تتعلق بالعبادات تعلقًا وثيقًا، لاسيما الحج، وفي آيات القتال التي قبلها وَاتَّقُوا اللَّهَ الأمر بالتقوى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194]، وهنا أيضًا الأمر بالتقوى، فيحتاج العبد إلى ملازمة التقوى في كل أحواله، في العبادة بأن يأتي بها على الوجه المشروع على الوجه المطلوب.

وكذلك يحتاج إلى التقوى من أجل ألا يقع في المحظور، وألا يرتكب ما حرمه الله -تبارك وتعالى- ولا يتعدى حدوده التي حدها، فالتقوى تكون ملازمة للعبد في كل أحواله حتى مع التلبس بالعبادة والنسك.

كثير من الناس يظن أنه إذا لبس الإحرام وتلبس بالنسك أنه صار بذلك تقيًا، والواقع أنه قد يقارف مع هذا الإحرام من موبقات تتعلق بالقلوب أو بالجوارح وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر، فما يقوم بالقلب لربما الرياء والسمعة والعجب بالعمل والنفقة والجهود التي يبذلها في الحج، إما في خدمة الحجيج أو في تعليمهم أو في يعني كم محاضرة ألقاها في ذلك الموسم، أو في يومه وليلته، وكم أنفق من النفقات، وكم بذل في هذه الحملة باهظة التكاليف، وكم وزع على هؤلاء الحجاج من الطعام والمياه والمشروبات المتنوعة إلى غير ذلك مما قد يقع في قلب الإنسان فيكون ذلك من جنايات القلب، وقد يبطل ذلك عمله.

وهكذا أيضًا إطلاق البصر وإطلاق اللسان، ولربما أيضًا إطلاق اليد بأذية الناس ودفعهم، بل وضربهم فهذا وغيره خلاف تقوى الله -تبارك وتعالى، ولذلك كثر الحديث عن التقوى في آيات الحج، وعن توابعها، ولوازمها، ومسبباتها من أجل أن يحفظ العبد حجه.

فهذه التقوى حينما تتأكد في هذا العمل يدرك الإنسان أنه يجب عليه أن يأتي به على الوجه المشروع، لا يكون حجه من أجل اختصار المناسك، واختصار العمل، فهو يذهب في آخر وقت الإمكان ويرجع أول الناس، لربما ترك الرمي أو جمع الرمي، ترك بعض الأعمال ثم يأتي بحج مبتسر ويرجع قبل أن يرجع الناس، يفتخر أنه في اليوم الثاني عشر أدرك العصر في بيته مثلاً، أو صلى العصر في مسجد حيِّه أو نحو ذلك، متى طاف حتى يدرك يسافر ثم يصل، والبعض لربما صلى العيد في بلده، ذهب فطاف قبل الفجر ولا أدري كيف وصل، والباقي ما يتعلق بالرمي وما يلزمه لربما دفع فدية فيه، فهذا خلاف تقوى الله ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ليست القضية أن نأتي بحج بطريقة على خلاف الوجه المشروع ونحذف أعمالاً شرَّعها الله -تبارك وتعالى- وأوجبها، ونتعدى حدوده من غير مبالاة، ولربما ترك الإنسان المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى مع قدرته على ذلك، ووجود المكان، فهو لا يرد أن يفعل هذا بل لربما بقي في خارج مكة في الطائف في الهَدا يُسكن في مكان في منتجع في فندق ويأتي في آخر الليل يمر على عرفة ثم يرجع الحج عرفة، ثم يأتي بعدما يذهب الزحام ويطوف طواف الإفاضة ويسعى والباقي يُجبر بدم عنده، فحج بهذا الاعتبار، العبادة لا تكون بهذه الطريقة.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذا أمر بالإتمام، الإتمام هنا يشمل أن يؤتى بهذا العمل هذا النسك على الوجه المشروع المطلوب من غير ابتسار، ليست القضية أن نصل قبل الناس، وأن نلقي على عواتقنا هذه الأعمال والمناسك ونتخلص منها، القضية أن يؤتى بالعمل على الوجه الصحيح، فإن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان على وفق ما شرع وبالإخلاص.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ويدخل في إتمام الحج أنه إذا دخل في النسك فليس له أن يتحلل منه إلا في حال الإحصار، فهذا المحصر كما ذكر الله -تبارك وتعالى- يذبح في الموضع الذي أحصر فيه ثم يحلق أو يقصر، لكن الكثيرين يتساهلون في هذا فيذهب الواحد في أيام المواسم والزحام للعمرة ولربما أخذ أولاده ونحو ذلك، فإذا جاءوا ووصلوا إلى مكة ورأى الزحام يقول: رأيت مشقة فذهبت إلى المطار، هكذا من عند نفسه، دخل مكة ولا يوجد إحصار، ذهب في وقت الذروة في وقت الزحام الشديد فراعه ما رأى من كثرة الناس فرجع، ويظن أن يتحلل بهذه الطريقة، والواقع أنه لا يزال محرمًا حتى يأتي بالنسك، فإن الإحرام لا يصح رفضه، بمعنى أنه لو نوى الخروج منه لا يخرج يبقى على إحرامه، الصلاة مثلاً لو كان الإنسان يصلي ونوى الخروج منها فإنه لا يحتاج إلى تسليم، إذا أقيمت الصلاة ونوى الخروج من الصلاة بعض الناس يسلم عن يمينه أو عن يمينه وشماله وهو قائم، هذا غير صحيح، وإنما يكفي أن ينوي بقلبه الخروج من الصلاة، فيكون قد خرج ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأن التسليم للإتمام.

فهذا النسك إذا دخل فيه الإنسان لزمه بالاتفاق بنص الآية، واختلف العلماء فيما وراء ذلك يعني غير الحج والعمرة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذه الأعمال العبادات الصوم والصلاة والاعتكاف والطواف ونحو ذلك هل له أن يقطعه إذا ابتدأ فيه دخل فيه، هل له أن يقطعه؟ بالنسبة للفريضة ليس له أن يقطع إلا لعذر، يعني مثلاً الصيام لا يجوز له أن يقطع الصوم صوم الفرض سواءً كان نذرًا أو كان من رمضان إلا لعذر يباح فيه الفطر كالمرض أو السفر المبيح للفطر، لكن بالنسبة للصلاة لا يجوز له أن يخرج من الفرض إلا لعذر صحيح، مثل: لو أنه تبين أن الوقت لم يدخل، أو أنه ظن أن الناس قد صلوا فشرع في الصلاة ثم أقيمت الصلاة في المسجد ففي هذه الحال له أن يخرج منها؛ ليصلي مع الجماعة، ففي هذه الحال وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ في هذه الحال لو أنه في صلاته أدرك أو اكتشف أنه لم يخشع فأراد أن يصلي صلاة خاشعة فليس له أن يعيد وليس له أن يقطع، عليه أن يُتم الفرض، لكن في النوافل النافلة في الصيام أو النافلة في الصلاة أو نحو ذلك هذا خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يجوز له القطع والإتمام أفضل، والذين قالوا: لا يجوز له القطع احتجوا بقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [سورة محمد:33]، والآية ليست في هذا المعنى.

وبعض أهل العلم كالمالكية يقولون: إنه يجب الإتمام في أعمال محددة معينة ذكرتها في بعض المناسبات.

من صلاتنا وصومنا وحجنا وعمرة لنا كذا اعتكافنا[4]
طوافنا مع ائتمام المقتدي ....................

يعني إذا دخلت في وراء الإمام ليس لك أن تقطع.

...................... فليزم القضاء بقطع عامد

يقولون: يجب عليه القضاء، فمثل هذا فيه نظر، والراجح أنه لا يجب القضاء في النوافل، لكن لو أنه شرع في الحج أو العمرة ولو نافلة فيجب عليه الإتمام. 

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (2534).
  2. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب إذا أحصر المعتمر، برقم (1809).
  3. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالىفَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  4. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (2/ 90)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412هـ - 1992م.
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1728)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).
  6.  أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  7. تفسير ابن كثير (1/ 536).
  8. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 21).

لا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة البقرة:196].

شرعنا في الكلام على أول هذه الآية الكريمة، وعرفنا أن قوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ يدل على الإخلاص لله -تبارك وتعالى، فهذا تذكير بالتوحيد قبل الشروع بذكر الأحكام التفصيلية، هذا تذكير بالإخلاص وتنصيص على أهميته في الأعمال والعبادات، لاسيما الحج والعمرة.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لا لغيره، وعرفنا ما يدخل في معنى الإتمام، أن يؤتى بهذه العبادات تامة من غير إخلال، وأن يستمر من دخل في الإحرام والنسك فلا يقطع ذلك إلا بالإحصار، إذا حصل له الإحصار فعند ذلك يكون كما أمر الله -تبارك وتعالى- يذبح فدية أو هديًا كما قال الله -تبارك وتعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، ويوزع في المكان الذي هو فيه ثم يحلق أو يقصر، فمن إتمام الحج والعمرة ظاهرًا الاستمرار في أعمالهما والبقاء على الإحرام، وكذلك إتمام أعمال الحج والعمرة على الوجه المشروع، وأما باطنًا فيكون ذلك بالإخلاص للمعبود -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

كما يؤخذ من هذه الآية الكريمة: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لاحظ أنه قال هنا: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ما قال: فإذا أحصرتم، والفرق بينهما أن "إن" تقال فيما يقع قليلاً أو نادرًا، وأما "إذا" فتكون لما يقع كثيرًا، وهذا باعتبار أن الإحصار إنما يكون وقوعه قليلاً فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فالأصل عدم الإحصار، ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشرع في النسك عند الإحرام أن يشترط من غير عذر، يعني إذا كان الإنسان في حال من العافية والصحة والقوة والنشاط أنه ليس له أن يقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. قالوا: ولأن النبي ﷺ أيضًا لم يفعل ذلك، ولم يرشد إليه أصحابه، وإنما ذكره لمن كانت شاكية، والمسألة فيها كلام معروف لأهل العلم، ومنهم من رخص في ذلك مطلقًا.

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، هذا يدل على التيسير وأن مبنى الشريعة على اليسر، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185] كما قال في الصيام، فهذه الشريعة بأحكامها وتشريعاتها مبناها على ذلك، فهنا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ما الذي يتيسر له من الهدي؟ شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل كل ذلك يجزيه.

ثم أيضًا تأمل الأمر هنا بالإتمام وكذلك في قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] مع أن الحج قد يكون بالنسبة إليه تطوعًا كذلك العمرة، لكن أوجبه على نفسه بمجرد الدخول في النسك، فمن هنا يجب عليه أن يلتزم ذلك، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197].

في هذه الآية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ذكر أحكامًا تتعلق بالحج وختم ذلك بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ فالعبادات إنما شرعت لتحقيق التقوى، وكما ذكرنا في الصيام: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]، فهذه التقوى إذا حصلت ظاهرًا وباطنًا كان العبد محققًا للعبودية لله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197] كل ذلك في الحج.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [سورة البقرة:196]، وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ هذا نهي والأصل أن النهي للتحريم إلا لصارف، فهو يدل على أن حلق الرأس لا يجوز للمحرم إلا إذا بلغ الهدي محله، وذلك في يوم النحر، والتقصير كالحلق لكنه ذكر الحلق وحده قال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ما قال: ولا تقصروا، مع أن التقصير لا يجوز حتى يبلغ الهدي محله، ففهم بعض أهل العلم من ذلك الإشارة إلى أن الحلق أفضل من التقصير، يعني أنه ذكر الحلق ولم يذكر التقصير مع اتحادهما في الحكم لأن الحلق أكمل وأفضل فذكر أكمل الأمرين، وقد قال النبي ﷺ: اللهم اغفر للمحلقين، قالها ثلاث، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، فقال: والمقصرين [5] فبهذا يُعلم من القرآن على هذا الطريق في الاستنباط أن الحلق أفضل من التقصير، وأما الدليل من السنة فهو ما ذكرته آنفًا.

ثم أيضًا رخَّص الله -تبارك وتعالى- للمريض ومن به أذىً من رأسه من هوام الرأس أن يحلق فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، فهذا يدل أيضًا على التيسير والتخفيف، وأنه ما جعل علينا في هذا الدين من حرج، فإذا كان الإنسان يحتاج إلى الحلق أو إلى شيء من محظورات الإحرام لعذر معتبر فإنه يفعل ويكون عليه فدية أذى، وفدية الأذى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، هذه فدية الأذى، وفرقنا بينها وبين الهدي فهو للشكران وهذه للجبران، وبين أيضًا الفدية لترك واجب فتلك للجبران تجبر النقص، ففدية الأذى هي التي يخير فيها بين الثلاثة صيام أو صدقة أو نسك، لاحظ هنا ذكر ثلاثة أشياء، الصدقة تكون لفقراء الحرم أن يطعم ستة مساكين، والنسك الذبيحة أيضًا لفقراء الحرم في فدية الأذى غير هدي الإحصار، هدي الإحصار يذبح ويوزع في المكان الذي أحصر فيه، ولو كان خارج الحرم، لكن فدية الأذى هذه تكون لفقراء الحرم، فذكر ثلاثة أشياء اثنين منها تكون للمحتاجين والفقراء، فدل على عناية الشارع بهذا الجانب، وكما قال الله  في سورة الحج: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [سورة الحج:36] وهكذا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [سورة الحج:28]، فهذا يدل على أن إطعام الطعام والإحسان إلى المساكين والفقراء والمحتاجين من فضائل الأعمال، لاسيما في الحج، فقد شرَّع الله -تبارك وتعالى- من التشريعات ما يكون سببًا للإحسان إلى هؤلاء وسد جوعتهم.

ثم تأمل هذه الآية فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ جاء التدرج فيها من الأسهل إلى ما فوقه، فالأسهل هو الصيام؛ لأنه لا يبذل فيه مالاً، ثم إطعام ستة مساكين، ثم بعد ذلك النسك ذبيحة إما شاة وإما بدنة، ولما أمر النبي ﷺ كعب بن عجرة حيث كانت هوام رأسه تؤذيه ويتناثر القمل على وجه فقال له النبي ﷺ: انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام  [6]والحديث مخرج في الصحيحين، فهنا أرشده النبي ﷺ إلى الأفضل، وفي هذه الآية ذكر الأسهل والأيسر للناس، وهذا المعنى أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله[7].

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ هذا في الحج فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ المتيسر، فهذا يدل على التيسير كما ذكرنا، وكذلك أيضًا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ففيه التيسير بذكر البديل وهو الصيام، فإن العجز عن العبادة تارة يكون موجبًا أو مرخصًا للمُكلف بأن ينتقل إلى بدل، من لم يستطع الصلاة قائمًا يصلي جالسًا، ومن لم يستطع جالسًا فعلى جنب، من لم يستطع استعمال الماء فإنه يتيمم، ومن العبادات ما يسقط إلى غير بدل في حال العجز: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286].

فهنا في الهدي فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فأحاله على البدل صيام عشرة أيام، وهذا من التيسير، ومن التيسير أيضًا أنه فرقها ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، فجعل الأقل في الحج؛ لأنه في سفر، وأعمال الحج والمناسك، ثم بعد ذلك إذا رجع صام الأكثر.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ بهذه العبارة الوجيزة يدخل فيه من لم يجد الهدي نفسه، ما وجد شاة أو بقرة أو بدنة من الإبل من أجل أن يذبحها، أو باعتبار أنه لم يجد القيمة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فيدخل فيه هذا وهذا بهذه العبارة الوجيزة، فمن لم يجد الثمن أو لم يجد الهدي فإنه يصير إلى البدل، فهذه الآية تدل على التيسير، وكذلك ما قبله من قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ هذا التدرج فهو في بيان الرخصة، ولهذا تدرج فيه من الأسهل إلى ما فوقه.

قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فعطف هنا السبعة على الثلاثة، فلو بقينا مع هذا فقط: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فيحتمل أن تكون السبعة خارجة عن الثلاثة، أو أن تكون السبعة مع الثلاثة التي قبلها فيكون عشرة، يعني الأول فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يعني وما يكمل السبعة، يكمل الثلاثة فيصوم أربعة فيصير المجموع سبعة، هذا قد يُفهم، وأفهام الناس تتفاوت وتختلف، ولهذا قال بعده: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فرفع هذا الاحتمال، فدل على أن السبعة لا تدخل فيها الثلاثة المتقدمة.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية سعة رحمة الله  بأن جعل ذلك على سبيل التجزئة كما جعل الفدية على التخيير أيضًا، كما جعل المكلف أيضًا في الحج مخيرًا بين أن يبقى بعد يوم النحر يومين أو يبقى ثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203].

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:196] جملة خبرية لكنها متضمنة معنى الإنشاء يعني الأمر فَصِيَامُ يعني فعليه صيام، ولم يذكرها بصيغة الأمر الصريح، أخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك لتأكد ذلك في حقه وتعينه، فصار يكفي الإخبار عنه، هو شيء ثبت في ذمته فأخبر عنه ذكره على سبيل الإخبار، أمر مفروغ منه فذكره بصيغة الخبر، وهذا يقولون: من باب المبالغة في الإيجاب والفرض ولزوم ذلك في ذمة المكلف. 

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (2534).
  2. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب إذا أحصر المعتمر، برقم (1809).
  3. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالىفَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  4. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (2/ 90)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412هـ - 1992م.
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1728)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).
  6.  أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  7. تفسير ابن كثير (1/ 536).
  8. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 21).

ما زال الحديث متصلاً بأول آيات الحج في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة)؛ وذلك قوله -تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] وقد تكلمنا عن صدر هذه الآية، ثم بلغ الكلام قولَه -تبارك وتعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فهذا كما سبق لمن لم يجد الهدي.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ التخفيف والتيسير، حيث فرّقها الله -تبارك وتعالى، ومن جهة أخرى حيث جعل القليل في الحج، والكثير إذا رجع إلى أهله، وهذا موضع من مواضع التيسير في الحج، وهو التيسير الصحيح الذي ينضبط بأدلة الشرع.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فيه التفات، وعرفنا أن الالتفات: تحولٌ في الكلام من الغائب إلى المخاطب، والعكس، أو من الواحد إلى الجمع، والعكس، إلى غير ذلك من صروف التحولات في الخطاب.

فهنا في قوله -تبارك وتعالى: فَمَن تَمَتّع، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ كل ذلك للغائب، ولكن قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ للمخاطب، وهذا الالتفات يذكر العلماء فيه إجمالاً: أنه يُنشط السامع، وهو من صروف البلاغة في الكلام، وكذلك يذكرون في كل موضع لطيفة تتعلق بهذا الالتفات، كأن يكون مثلاً قد أكدّ ذلك عليهم في حال الرجوع، فوجه الخطاب إليهم، فالسابق يتحدث عن أولئك الذين لم يجدوا الهدي، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ من الناس، لكن حينما جاء بالحكم الذي يلزمه، قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ فوجه الخطاب إليهم.

ثم قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وعرفنا ما فيه، فالسبعة والثلاثة عشرة، لكن لما كان يحتمل أن تكون الثلاثة يضاف إليها ما يكملها إلى سبعة وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ يعني: تكملون العدد إلى سبعة، فهذا احتمال، واحتمال أن تكون الثلاثة يضاف إليها السبعة، فتكون عشرة، فقطع هذا الاحتمال، فقال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وهذا يسمونه فذلكة، ومعنى الفذلكة هي كلمة مركبة، يعني فذلك عشرة، هذه فذلكة العدد، وهناك فذلكة في غير العدد، فكأنه يقول: فذلك عشرة كاملة، وفائدتها: أن الواو هنا -كما سبق- تحتمل أن تكون بمعنى (أو) التي للتخيير، فيحتمل المعنى: فصيام ثلاثة أيام، أو سبعة، أو صيام ثلاثة أيام إلى سبعة، يعني ما يكمل العدد بسبعة، فأزيل هذا التوهم بهذه الفذلكة تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وبهذا يُعلم العدد الإجمالي للعددين المفرقين، أنه يلزمه أن يصوم عشرة أيام.

وأيضًا ليُعلم أن العدد عَشَرَة هنا لا يقصد به الكثرة، قد تقول لإنسان: أتيتك عشر مرات، قلت لك ذلك عشر مرات، تقصد الكثرة، لكن هنا العدد، سبعة وثلاثة، فالمجموع عشرة، فيراد به ذلك، فعُلم على سبيل التفصيل، وعُلم على سبيل الإجمال، وهذا من حسن التفهيم والتعليم والبيان، والعرب أمة أمية لا تحسب، وجاءت هذه الشريعة على معهودهم في مخاطباتهم من غير تكلف.

والعرب تذكر السبعة، ومضاعفات السبعة، تقصد بذلك التكثير، فعُلم هنا أن المقصود سبعة هو العدد المعروف، وليس الكثرة، وقوله: كَامَلِة زيادة في التوكيد، فهي صفة مؤكِدة تفيد المبالغة في ضبط العدد، والمحافظة عليه، أن يصوم عشرة أيام كاملة، من غير نقص، ولا شك أن العشرة هي أول الأعداد الكاملة، به تنتهي الآحاد في العدد، وكل هذا من باب التأكيد على هذا الحكم.

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أمر بالتقوى بعد أن بيّن هذه الأحكام، وقد ذكرنا من قبل أن مبنى هذه التشريعات على التقوى، لا سيما الحج، وأنها المقصود الأعظم، فإن هذه التعبدات التي شرَّعها الله -تبارك وتعالى- لعباده، إنما هي لتربية التقوى في نفوسهم، فليست هي مزاولات وأفعال مجردة، وإنما ذلك للتقوى، كما قال الله  في الهدي: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج:37] فالتقوى هي المقصودة، سواءً كان ذلك في الهدي، أو كان ذلك في غيره من الأعمال: من الطواف والسعي والصيام، وسائر العبادات كالصلاة، وغيرها.

وكذلك أيضًا في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أظهر في موضع يصح فيه الإضمار، يعني لم يقل: واتقوا الله، واعلموا أنه شديد العقاب، فجاء الاسم مظهرًا في جملتين، وهذا لا إشكال فيه، فهو من الناحية البلاغية في غاية الفصاحة، والقرآن هو أفصح الكلام، وأبلغه، كما هو معلوم، والإظهار في موضع يصح فيه الإضمار يفيد تربية المهابة في مثل هذا الموضع بذكر الاسم الكريم مظهرًا، من أجل مراعاة الله -تبارك وتعالى- في حدوده وتشريعاته التي شرعها؛ ولئلا يفهم من الإضمار لو حصل تقييد شديد عقابه بخشيته مما مضى، لكنه قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فالباعث على المخافة هو العلم، وهذا يدل على أن العلم من أسباب الخشية؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود قال: "العلم الخشية"[8] يعني: أنه يورث الخشية، فالعلم الصحيح الذي يقرب إلى الله، هو ما أورث الخشية منه، فالعلم الذي لا يزيد الإنسان خشية، وإنما يزيده بعدًا وغفلة وإعراضًا وتيهًا، فهذا من العلوم التي لا تنفع.

فهذه الآية هي أطول آيات الحج، وذكرت التيسير، ومختومة بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فدلّ على أن التيسير ليس بالتشهي، وأن شرائع الله -تبارك وتعالى- ليست بأذواق الناس، وأمزجتهم، ونحو ذلك، فيتخيرون منها ما يوافق أهواءهم، ويتركون ما عدا ذلك، بل إن شرائعه يجب أن تلتزم، وأن تؤدى على الوجه الذي شرَّعه -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وأيضًا هذا يدل على أن العلم بشدة عقابه -تبارك وتعالى- من العلوم النافعة المطلوبة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب فقد أمر الله -تبارك وتعالى- به بخصوصه، فوجود هذا في خلد الإنسان، وقلبه: بحيث أن يكون معلومًا له: أن الله شديد العقاب، هذا يجعله يترك معصيته، ويفعل طاعته، وما أمره به، ويكون ممتثلاً، وعلى حال مرضية، فهذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة. 

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (2534).
  2. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب إذا أحصر المعتمر، برقم (1809).
  3. أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالىفَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  4. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (2/ 90)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412هـ - 1992م.
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم (1728)، ومسلم، كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم (1302).
  6.  أخرجه البخاري، أبواب المحصر، باب قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، برقم (1814)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، برقم (1201).
  7. تفسير ابن كثير (1/ 536).
  8. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 21).