الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا۟ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ۚ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197].
"قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ أي: لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره، وهو مروي عن ابن عباس، وجابر ، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد - رحمهم الله -، والدليل عليه أن تخصيص، وقت الحج بأشهر معلومات من بين سائر شهور السنة يدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة."

قوله - تبارك، وتعالى -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ أي: وقت الحج أشهر معلومات، وهذا يدل على أن الحج موقَّت بوقت، وهذا منشأ الكلام على هذه المسألة التي أشار إليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهي هل يصح أن يحرم بالحج قبل أشهره التي هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، أو عشر من ذي الحجة أم لا؟
هذه مسألة خلافية مشهورة، وظاهر الآية أن ذلك لا يكون إلا في أشهره، كميقات الصلاة، - والله أعلم -.
"وروى الشافعي - رحمه الله - عن ابن عباس - ا - أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197].
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس - ا - قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج.
وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس - ا - تفسيراً للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، روى ابن مردويه عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج[1]، وإسناده لا بأس به، لكن رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله - ا - يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: "لا" [2]، وهذا الموقوف أصحّ، وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي يتقوّى بقول ابن عباس - ا -: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره"، - والله أعلم -.
وقوله: أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ قال البخاري: قال ابن عمر - ا -: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة، وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولاً عن ابن عمر - ا -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة" إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، وقال: هو على شرط الشيخين."

القول المشهور عن جماعة من الصحابة، ومن بعدهم أن أشهر الحج شهران، وعشرة أيام، وبعضهم يقول: إن شهر ذي الحجة من أشهر الحج بكامله، وهذا أيضاً قال به جماعة من الصحابة فمن بعدهم، والمسألة معروفة في كتب الفقه، وليس من شأننا هنا أن نذكر، أو نستطرد في الكلام في المسائل الفقهية، وعلى كل حال هو قول معروف، وممن قال به من الصحابة ابن مسعود، وابن عمر، وقال به جماعة من كبار التابعين منهم عطاء الذي هو أعلم الناس في زمانه بالمناسك، ومذهب الإمام مالك أيضاً أن شهر ذي الحجة بكامله من أشهر الحج.
"قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس - أجمعين -، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حَيّان، واختار هذا القول ابن جرير."
ذكر هنا جماعة مثل: ابن مسعود، وعطاء، ومجاهد، والربيع، مع أنه جاء عن هؤلاء الذين ذكرهم جميعاً أنهم قالوا: إن أشهر الحج هي ثلاثة أشهر على أن شهر ذي الحجة بكامله من أشهر الحج، وهذا يوجد بكثرة في كتب التفسير، وفي كتب الخلاف في الفقه، ولذلك فإن مثل هذا يحتاج إلى تحرير من خلال النظر في هذه الروايات هل تصح أم لا؟، ثم ينظر في المتقدم، والمتأخر من الروايات التي تروى عن هذا الصحابي، أو التابعي، فإن عرف ذلك عمل بالمتأخر، فإن لم يعرف فإنه ينقل عنه هذا، وهذا.
ومما يوجد أحياناً في مسألة ما أنه يقول: هذا قال به الخلفاء الأربعة، وفلان، وفلان، وفلان، وإذا نظرت في أدلة القول الثاني تجد أنه يعدد أيضاً بعض من ذكرهم في القول الأول، وإذا نظرت في الروايات المنقولة عنهم تجد أن كثيراً منها قد لا يصح أصلاً، ومن ثَمّ فإن الإنسان لا يحكم لأول، وهلة بمجرد ما يرى من الأسماء أن هذا هو فعلاً مذهب هؤلاء جميعاً من الأئمة.
بل إن أئمة المذاهب تُنقل عنهم أحياناً أشياء مع وجود روايات أخرى نُقلت عنهم بخلاف ذلك ربما كانت أثبت من هذا المنقول، ولذلك فإن المذاهب إنما تنقل من الكتب المعتمدة عند أهلها، وأصحابها، أما نقل ذلك من كتب أخرى فإنه مظنة لوقوع الخطأ.
وكذلك الأمر في الفرق، والخلاف في العقائد، فإنك إذا نظرت في كتاب الملل، والنحل للشهرستاني تجد أشياء كثيرة جداً مما يضاف إلى أهل الفرق مما لا يقولون به، ولا يثبت عنهم، أو أن القائل به هو بعض هؤلاء.
فالحاصل أنهم ينقلون من كتب خصومهم ممن ألف في الفرق، أو ألف فيهم، أو رد عليهم، فهم ينقلون من كتب خصومهم، ويضيفون إليهم ما ليس فيهم، ولذلك تجدهم إذا عرضوا مذهب أهل السنة يعرضونه مشوهاً، والكُرَّامية مثلاً تُنسب إليهم أشياء لا توجد في كتبهم، وإنما نُقلت من كتب مخالفيهم، وهذه الطريقة ليست دقيقة في العلم، والخلاف.
"قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين، وبعض الثالث للتغليب كما تقول العرب: زرته العام، ورأيته اليوم."
على كل حال القول الأول: إنها إلى عشر ذي الحجة هو قول مشهور يقول به عامة أهل العلم من أصحاب المذاهب، وغيرهم، وقد سمى هنا جماعة مع أن بعضهم نُقل عنه غير ذلك، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، أعني أبا حنيفة، والشافعي، وأحمد.
ويترتب على مسألة تحديد أشهر الحج عمل، وهو هل له أن يؤخر باختياره بعض أعمال الحج إلى ما بعد اليوم العاشر من ذي الحجة، أم لا يجوز له التأخير؟
"للتغليب كما تقول العرب: زرته العام، ورأيته اليوم، وإنما وقع ذلك في بعض العام، واليوم؛ قال الله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، وإنما تعجل في يوم، ونصف يوم."
على كل حال هذه الآية يستدل بها من يقول: إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، بمعنى أن ذلك يحرم، وهو المعروف من مذهب الشافعي - رحمه الله -، وقال به جماعة من السلف - ، وأرضاهم -، وبه يقول الأوزاعي، ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يجوز لكن مع الكراهة من غير تحريم.
وعلى كل حال جاء عن الإمام أحمد أن ذلك يكره، وكذلك نقل عن الإمام مالك - رحمه الله - أنه يكره، وأن ذلك يجزئه.
وبعضهم يقول: إنه يجوز أن يحرم بالحج في سائر العام متى شاء كالعمرة، لكن ليس معناه أنه يحج في شهر صفر، أو ربيع مثلاً، فهذا لم يقل به أحد، وإنما المقصود الإحرام فقط، أي أنه يلبي بالحج متى شاء لكن ليس معنى هذا أن يقف في عرفة في غرة ر بيع مثلاً، وإنما يقف في اليوم التاسع من ذي الحجة.
ومن قال بجواز الإحرام سائر العام يحتج بمثل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189]، فهؤلاء يقولون: إن الله  جعل الأهلة مواقيت للناس، والحج، فيستطيع الإنسان أن يحرم بالحج في أي وقت من العام من غير كراهة، وعلى كل حال هذا قول فيه نظر - والله تعالى أعلم - مع أن القائل به أئمة، فأحياناً بعض الأقوال تستغربها، وتجد أن القائل بها من الكبار كإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، فإذا رأى الإنسان مسألة من هذه المسائل لا يستعجل بالشناعة، وإنما يتريث، وينظر، وربما ترك ما يعتقده من القول بعد مدة، وانتقل إلى هذا الذي كان يشنع عليه، إلا إذا كان الشيء لا دليل عليه أصلاً بحيث كان مخالفاً للنصوص الصريحة الواضحة فنعم، أما مثل هذه المسائل فهي كما هو، واضح أن المسألة هذه ذكرت لها عمدة الأدلة فلا تشنيع إذن، - والله أعلم -.
"وقوله: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] أي: أوجب بإحرامه حَجًّا."
قوله: أوجب بإحرامه حَجًّا؛ يعني أوجب بإحرامه على نفسه حجاً.
"فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج، والمضي فيه."
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله -، وهو قوله: أي: أوجب بإحرامه حَجًّا؛ بمعنى أوجب بإحرامه على نفسه حجاً كما أسلفت هو أقرب ما تفسر به الآية، وهناك معان أخرى تذكر فيها، لكن هذا من أقربها مأخذاً، ومن أسهلها، ومن أوضحها، وذلك أن من شرع في الحج بأن لبى به فقد لزمه إتمامه؛ كما قال تعالى في الآية السابقة: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، - والله تعالى أعلم -.
وفيما يتعلق بقوله: أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ على قول من قال: إنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، يكون توجيه صيغة الجمع بأحد، وجهين:
الوجه الأول: باعتبار جبر النقص، بمعنى أنه إذا، وجد أيام من الشهر الثالث فبالنظر إلى تكميل النقص، وجبره كما هو معروف عند العرب صحَّ أن يطلق على ذلك أشهر، ومثل هذا سيأتي في قوله - تبارك، وتعالى -: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، وذلك أن الحاج إذا رمى الجمرات بعد الزوال في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة فإنه لا يحتاج أن ينتظر إلى الغروب ليكتمل اليوم الثاني، ومع ذلك اعتبر أنه تعجل في يومين من باب جبر النقص.
والوجه الثاني: أن أقل الجمع عند بعض أهل العلم من أهل اللغة اثنان، وهو قول منقول عن الإمام مالك أيضاً كما في المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري
يعني عند الإمام مالك - رحمه الله -، ويدل عليه قوله - تبارك، وتعالى -: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11]، وقوله: إِخْوَةٌ جمع، ومعلوم أن الذي يحجب الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس، وجود أخوين.
" قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب، والإلزام."
يعني ألزم نفسه بذلك، أي شرع فيه بالتلبس بإحرامه، وإن شئت أن تقول: لبى بالحج، أو أهلَّ به، فكل هذه العبارات تؤدي المعنى، ولا حاجة أن نجعل من الأقوال في الآية إشكالاً، فهو ملزم بالإتمام متى شرع بالإهلال بالتلبية، وبالشروع بالتلبس، فهو متى دخل في إحرامه فعليه أن يستوفى ذلك.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] يقول: من أحرم بحَجّ، أو عمرة، وقال عطاء: الفرض الإحرام، وكذا قال إبراهيم، والضحاك، وغيرهم"
يقول: الفرض الإحرام، ولا شك أن من أحرم بهما فقد فرض، وأوجب ذلك على نفسه.
"وقوله: فَلاَ رَفَثَ [سورة البقرة:197] أي: من أحرم بالحج، أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع."
بعض أهل العلم فسر الرفث بمعنى هو من أشهر معانيه، وهو الجماع، ومن أهل العلم من يحمله على العموم، حيث إن لفظ "رفث" نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي، والنهي، والشرط، والاستفهام تدل على العموم، وهذا النفي هنا مضمن معنى النهي، أي: فلا يرفث جميع أنواع الرفث، فيدخل فيه الجماع، ومقدماته، ويدخل فيه الكلام في ذلك.
هل الكلام عن الجماع ممنوع، وإن لم يكن بحضرة النساء؟:
من أهل العلم من خصه بحضرة النساء، بمعنى أنه لا يتكلم معها في شيء من ذلك، وقد نُقل عن ابن عباس بيت فسئل عن هذا فبين أن ذلك إنما يحرم بحضرة النساء، وإلا فإن البيت الذي قاله كان بعبارة صريحة ليس فيها أي كناية.
"والرفث هو الجماع، كما قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ [سورة البقرة:187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء.
روى ابن جرير عن نافع أن عبد الله بن عمر - ا - كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك للرجال، والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم."

يعني أن ابن عمر –ا - يرى أنه لا يختص منع الكلام في ذلك بحضرة النساء فقط، وإنما يرى منع التحدث بهذا حتى عند الرجال، وعلى كل حال الآية تحتمل هذا، ولا أعلم شيئاً يخصصه بحضرة النساء إلا ما نقل عن ابن عباس - ا -، ومعلوم أنه إذا خالف صحابي صحابياً آخر فإنه يلجأ إلى الترجيح بين أقوال الصحابة، ولا يكون قول الواحد منهم حجة على الآخر.
"وقال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار."
قوله: وما دونه من قول الفحش؛ أي من قول الفحش المتصل بهذا الباب، وأما قول الفحش الآخر فيدخل في عموم قوله: وَلاَ فُسُوقَ [سورة البقرة:197].
"وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض، وهو مُحرِم."
استعمال الكنايات عن الجماع، ونحو هذا يقال له ذلك، فكيف بالكلام الصريح؟، وقد فسر قوله تبارك، وتعالى عن نساء الجنة: عُرُبًا أَتْرَابًا [سورة الواقعة:37]، بأن معناه أنهن متحببات إلى أزواجهن، يتغنجن بالكلام عند أزوجهن، وعلى كل حال فإن الكنايات تكون أحياناً أقبح من التصريح، وفي بعض الكتب التي جمعت في هذا الباب خاصة من الكنايات يستحي الإنسان أن يدخلها في بيته.
"وقال طاوس: هو أن تقول للمرأة: إذا حللت أصبتك، وكذا قال أبو العالية."
هذا من باب التفسير بالمثال، ويقال غير هذا مما هو أشد منه.
"وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - ا -: الرفث: غَشَيان النساء، والقُبَل، والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس - ا - أيضًا، وابن عمر - ا -: الرفثُ: غشيانُ النساء، وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية عن عطاء، ومكحول، وعطاء الخراساني، وعطاء بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن أنس، ومقاتل بن حيان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم."

على كل حال هو لا يختص به كما سبق، وقد مرَّ ما نقل عن ابن عمر من أنه: التحدث به عند الرجال، والنساء، وابن عباس يرى أنه عند النساء خاصة، بل نقل كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن المقصود بالرفث التحدث به بحضرة النساء خاصة بإجماع، ومذهب ابن جرير في نقل الإجماع معلوم أنه يقصد به قول أكثر أهل العلم.
"وقوله: وَلاَ فُسُوقَ [سورة البقرة:197] قال مِقْسَم، وغير واحد عن ابن عباس - ا -: هي المعاصي."
أي المعاصي بإطلاق، وبعض السلف يخص ذلك بنوع منه، ولكن الآية ظاهرها العموم؛ فالفسوق نكرة في سياق النفي، فهي للعموم، فيدخل فيها النظر الحرام، والغيبة، والكذب، والاستهزاء بالناس، إلى غير ذلك من الفسوق الذي يقع من كثير ممن يحرم بالحج، أو العمرة.
"وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان."
نعم، ظاهر الآية العموم، ومن أهل العلم من يحمله على معنى خاص يختص بالإحرام، وبعضهم يحمله على معنى يختص بالحرم، فعلى الأول: الفسوق المراد به أن يفعل شيئاً من محظورات الإحرام، كالصيد، ولبس المخيط، والطيب، وحلق الشعر، وما أشبه ذلك، كما هو قول ابن جرير - رحمه الله -، وعلى الثاني: يحمل الفسوق على ما يتصل بالحرم كقطع الشجر، وقتل الصيد، ولكن لا دليل على هذا التخصيص، والأصل حمل العام على عمومه حتى يأتي دليل يخصصه، والآية ليس فيها قرينة توجب صرف هذا العموم إلى معنى خاص.
لكن هؤلاء العلماء لم يقولوا هذا من عند أنفسهم هكذا من غير أي مستند، وإنما قال من قال: إن هذا يختص بالحرم، أو الإحرام بسبب أنه ممنوع أصلاً من الغيبة، والنظر الحرام، والفجور بأنواعه، والذنوب، والمعاصي بكل صورها، وأشكالها، فهذه كلها لا تختص بالإحرام حتى يُنهى عنه في الإحرام، بل هو مستصحب للمنع، والتحريم، فإذن هنا لا بد من شيء جديد آخر يختص بالإحرام، وهو قتل الصيد، والطيب، وما أشبه ذلك من محظورات الإحرام، أو مما يختص بالحرم.
 ولا شك أن من سمع هذا التوجيه لهذا القول اتسع صدره، وتبين له أن له وجها من النظر، بينما قبل ذلك ربما ينظر الإنسان إلى القول الذي لم يعرف مأخذه فيقول: هذا مخالف للنص، ولماذا يقولون هذا؟ ولماذا هؤلاء يتحكمون بآرائهم؟ والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فهؤلاء أئمة، وأذكياء، وأهل تقوى، وورع، والواحد منهم أكبر من الجبل.
"وروى ابن، وهب عن يونس عن نافع أن عبد الله بن عمر - ا - كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم، وقال آخرون: الفسوق هاهنا السباب، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيحين: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[3]."
هذا القول هو أشبه ما يكون بالتفسير بالمثال، ونصُّ النبي ﷺ على أن سباب المسلم فسوق، لا يدل على أن الفسوق يختص بالسباب من بين سائر الذنوب، فهناك ما هو أعظم من السباب، وهو أولى بالفسوق، فالفسق أصله الخروج عن الطاعة، وكلام أهل اللغة في ذلك معروف حيث يقولون: فسقت الفأرة، ويقال لها: فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها للإفساد، وهكذا الخروج عن طاعة الله يقال له: فسوق، وقد يكون ذلك فسوقاً أكبر، أو فسوقاً أصغر، ولهذا يقول الله : إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ [سورة الحجرات:6]، فهو يشمل الكافر، والعاصي مع أن الأصوليين يذكرون هذا في أشهر أمثلتهم عند الكلام على مفهوم الموافقة الأولوي الظني، فيقولون: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ يعني إن جاءكم كافر فمن باب أولى، إلا أنهم يقولون: لا يقطع بذلك؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه فهو يتحرز من الكذب، وبالتالي يحتمل أن نكون مطالبين بأن نتثبت في خبر الكافر المتدين الذي دينه يحرم عليه الكذب، ويحتمل عدم ذلك، لكن الصحيح أن الآية تشمل الكافر، والعاصي، - والله أعلم -.
"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام، قال الله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة الأنعام:145]، وقال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب."
هذا كله يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال.
"والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم."
يعني أن هذا جواب عن أولئك الذين خصوه بالحرم، أو الإحرام، فقالوا: إن هذه محرمة أصلاً في سائر السنة، وفي كل الأحوال، فلا يختص التحريم بها في حال الإحرام، فيقال: هذا آكد كما قال الله  عن الأشهر الحرم: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [سورة التوبة:36] مع أن ظلم النفوس بمعصية الله  محرم في سائر الشهور، لكنه يتأكد في الأشهر الحرم.
"كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم.، وإن كان في جميع السنة منهيًّا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد؛ ولهذا قال: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [سورة التوبة:36]، وقال في الحرم: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحـج:25].
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم، ولدته أمه[4].
وقوله: وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197] المراد بالجدال المخاصمة.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود في قوله: وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ قال: أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه."

يعني أن الجدال يحمل على العموم فيما يكون ممنوعاً، وهو المراء، لكن المجادلة التي تكون بمعنى المحاورة التي يراد بها التوصل إلى الحق، كما قال الله : وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، فهذا لا إشكال فيه، لكن أن تجادل صاحبك الجدال العقيم الذي يهدف من ورائه كل واحد من المتجادلين إلى زحزحة صاحبه عن قوله، وإخراجه منه، وفتله من ذلك، ويريد أن ينتصر لقوله، ولنفسه، ويصحح مذهبه، فهذا هو الممنوع، وهو الذي عليه عامة أهل العلم في تفسير الجدال هنا، خلافاً لما ذكره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث حمله على معنى آخر فقال: ليس هذا للنهي عن الجدل بمعناه العام، وإنما هو نهي عن الجدل في الحج خاصة من حيث أصل مشروعيته، وأنه من دين إبراهيم ﷺ، وأنه موقَّت بوقت هو وقته، وهذا المعنى مردُّه إلى أن أهل الجاهلية كانوا يغيرون في الأوقات، كما بين ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37]، فربما جاء وقت الحج في شهرٍ محرمٍ بسبب أنهم كانوا يغيرون الشهور فيؤخرون ذا الحجة إلى محرم، وهذا أحد الأوجه التي فُسِّر بها قول النبي ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض[5]، فبعضهم قال: المراد به أن ذا الحجة في السنة التي حج فيها النبي ﷺ وقع كما هو بعد أن كانوا يغيرون، ويؤخرون شهراً شهراً، وفي تلك السنة التي حج فيها النبي –عليه الصلاة، والسلام - وقع في وقته، هذا أحد الأقوال في توجيه هذا الحديث، وبيان معناه.
وعلى كل حال فإن قول ابن جرير: ليس المقصود بالنهي عن الجدال أن تجادل صاحبك، وإنما المراد لا تجادل في مواقيت الحج أنها صحيحة، ولا تجادل في أصل مشروعيته.
"وكذا روى مِقْسَم، والضحاك عن ابن عباس - ا -، وكذا قال أبو العالية، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، ومكحول، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعمرو بن دينار، والضحاك، والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة، والزهري.
وقوله: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [سورة البقرة:197] لما نهاهم عن إتيان القبيح قولاً، وفعْلاً حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة.
وقوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] روى البخاري، وأبو داود عن ابن عباس - ا - قال: كان أهل اليمن يَحُجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197].
وروى ابن جرير، وابن مَرْدُويه عن ابن عمر - ا - قال: كانوا إذا أحرموا، ومعهم أزوادهم رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] فَنُهوا عن ذلك، وأمِرُوا أن يتزودوا الدقيق، والسويق، والكعك." 

فهذه الآية جاءت في سياق الآيات التي تتحدث عن الحج، وسبب النزول المذكور هاهنا يتصل بهذا الموضوع اتصالاً ظاهراً، حيث إنهم كانوا يفعلون ذلك في حجِّهم، ويقولون: نحن أضياف الله، ومن ثمََّ يعتقدون بأنه لا يليق أن يحملوا معهم الأزواد، وذلك من أول سفرهم، أو من حين إحرامهم، وليس المراد بذلك ما عرف عن العرب من غير الحمس أنهم إذا دخلوا أرض الحرم، وليس الإحرام، فالإحرام قد يحرم الواحد من مكان بعيد، وقد يكون الميقات بعيداً، كميقات أهل المدينة، ولكن كان من طقوسهم التي كانوا عليها في الحج أن غير الأحمسي - والحمس هم قريش، وما ولدت - كانوا يلقون الأزواد إذا دخلوا أرض الحرم؛ ذلك أن الحمس كانوا إذا دخلت أشهر الحج لا يسلؤون، ولا يأقطون بمعنى أنهم ما كانوا يأخذون من الألبان الجبن، ولا الزبدة، ولا يأخذون الأقط، ولا غير ذلك، وإنما كانوا يطعمون ذلك الحجيج، فقد كانوا يطعمونهم الألبان، ويسقونهم النبيذ، ونحو ذلك، وكانوا يتنافسون في هذا مجاناً، وكانوا يرون أنه لا يليق أن يدخل الحاج من غير الحمس أرض الحرم، ومعه طعام، ولذلك كانوا يتكفلون له بذلك كله، حيث كانوا يرون أن ذلك من صميم، وظيفتهم في القيام على البيت مع قلة ذات اليد.
والآية هاهنا يختلف الكلام فيها عن هذا الأمر بالنسبة للحمس، وذلك أن بعض العرب كبعض أهل اليمن كانوا إذا أحرموا تركوا أزوادهم باعتبار أنهم أضياف الله، وبالتالي فإن الله سيررزقهم، ويهيئ لهم، فيكون الواحد منهم عالة على أزواد الناس، وهذا هو الذي أشارت إليه الآية، وعليه فيكون قوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ أمر لهم بحمل الأزواد معهم في سفرهم إلى الحج.
وابن جرير - رحمه الله - يحمل هذه الآية على ما يتصل بالحج خاصة من حمل الأزواد، بحيث إنه يذكر في معناها: وتزودوا ما فيه بلاغكم إلى حجكم، أي ما فيه البلغة إلى حجكم، أو إلى أداء فرض ربكم، فإنه لا بر لكم في ترك التزود في أسفاركم للحج بحيث تسألون الناس، وتركنون إلى أزوادهم، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم. 
وقوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أي لا خير لكم بإلقاء الأزواد، أو بترك التزود، وإنما خير الزاد هو التقوى، وذلك بأن تتقوا ربكم في سفركم إلى الحج بترك ما نهاكم عنه من محظورات الإحرام، ومن غيرها.
ومن أهل العلم من حمل الآية على معنى أوسع من هذا، أي: تزودوا في الحج، وفي غير الحج فإن خير الزاد التقوى، أي فإن خير الزاد ما اتقى به المرء أسباب الهلكة في سفره فيضطر إلى السؤال، وعلى هذا الاعتبار فالمقصود بخير الزاد التقوى هنا أي إن خير الزاد ما تتقي به الهلاك، وتتقي به سؤال الناس، والحاجة إليهم، فإن الحاجة إلى الناس مذلة، لكن ليس هذا هو المعنى المتبادر من الآية.
ومن أهل العلم من يحمل قوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] على معنى تزودوا لآخرتكم من دنياكم، ثم وجههم إلى أفضل الزاد الموصل إلى رضوان الله ، وهو التقوى، فهؤلاء جعلوا القضية تتعلق بالعبودية لله - تبارك، وتعالى -، وهذا له نظائر في القرآن -، وهؤلاء يبدو أنه غلب عليهم نعم هذه الحال فحملوا نظائر ذلك على هذه المعاني فيما يتصل بالعبادة في مثل قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، فالمعروف أن المعنى أنه طلب منهم أن يبتغوا من فضل الله بالتجارة بالبيع، والشراء بعد أن نهاهم عنه إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، إلا أن بعضهم قال: ليس هذا هو المراد من قوله: وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ، وإنما المراد منهم أن يبتغوا من فضل الله مما يقربهم إليه، بعيادة المريض، وصلة الأرحام، واتباع الجنائز، وما أشبه ذلك مما يكون به التعبد لله ، والتقرب إليه.
وكذلك الأمر في مثل قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]، فالمقصود بالآية: خذ من دنياك ما يحصل به الكفاف، والبلاغ فإن الإنسان مضطر إلى ذلك، وهذا هو المعنى المشهور، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن المعنى، ولا تنس نصيبك من الدنيا فيما يبلغك إلى الله ، والدار الآخرة من الأعمال الصالحة، فهم في مثل هذه النظائر يحملونها على العمل الصالح.
وعلى كل حال فظاهر الآية - والله تعالى أعلم -، وسبب النزول يدل على أنه في قوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] جمع لهم بين التوجيه إلى التزود في سفرهم، وفي حجهم مما يحتاجون إليه من الطعام، ونحو ذلك، ثم أرشدهم إلى معنى أشار إليه بهذه المناسبة فإن الشيء بالشيء يذكر، فقال لهم: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وهذا كما في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة المدثر: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4]، فإن الله  يذكر هذا، وهذا، أي يذكر ما يتصل بأمور تحصل بها مصلحتهم في الدنيا من اللباس، أو التقوت، أو نحو ذلك، ويذكر أمراً يتعلق بآخرتهم مما يتصل بهذا المعنى. 
ومن نظائر ذلك أيضاً قوله - تبارك، وتعالى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23] حيث جمع بين أمر محسوس، وأمر معنوي، فمعنى ناضرة أي من البهاء، والنضارة، ومعنى إلى ربها ناظرة أي النظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة، ومن نظائر ذلك أيضاً قوله تعالى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [سورة الإنسان:11]، فالنضرة تكون في الوجه بالحسن، والبهاء، والإشراق، والسرور يكون بالنفس، ففي الآية الأولى جمع لهم بين نضارة الوجه، وبين أعظم لذة، وهي النظر إلى وجه الله - تبارك، وتعالى -، وهنا لقاهم نضارة الوجه، وبهجة النفس.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26]، فهو ذكر اللباس الذي يلبسه الإنسان، أو يتقي به الحر، والبرد، وذكر لباس التقوى الذي لا يستغني عنه العباد.
 ومن نظائر ذلك قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [سورة الصافات:6] فهي زينة ظاهرة، ثم قال: وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [سورة الصافات:7].
ومن ذلك قوله - تبارك، وتعالى - لآدم ﷺ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [سورة طـه:118]، فجمع له بين نفي الجوع عنه، وهو شعور داخلي، ونفى عنه العري، وهو أمر يتصل بالظاهر، وهذا كثير في القرآن، فالمقصود أن قوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] معناه تزودوا من الأقوات ما فيه بلاغكم إلى حجكم، ثم نبههم بهذه المناسبة إلى أن خير ما يُتزود به في هذه الدار هو تقوى الله ؛ لأن الآخرة دار لا تصلح للمفاليس، - والله أعلم - .
"وقوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة، والتقوى، وذكر أنه خير من هذا، وأنفع.
وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197]: يقول: واتقوا عقابي، ونكالي، وعذابي لمن خالفني، ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول، والأفهام.
  1. انظر سنن الترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟ (932) (ج 3 / ص 271)، وانظر تصحيح الألباني له في صحيح الترمذي برقم (932).
  2. أخرجه الشافعي في مسنده (ج 1 / ص 121)، والبيهقي في معرفة السنن، والآثار (ج 7 / ص 392).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب، واللعن (5697) (ج 5 / ص 2247)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان قول النبي ﷺ: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (64) (ج 1 / ص 81).
  4. أخرجه البخاري في أبواب الإحصار، وجزاء الصيد - باب قول الله تعالى: فَلاَ رَفَثَ [سورة البقرة:197] (1723) (ج 2 / ص 645)، ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج، والعمرة، ويوم عرفة (1350) (ج 2 / ص 983).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة براءة [التوبة:] (4385) (ج 4 / ص 1712)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات – باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).

مرات الإستماع: 0

"الْحَجُّ أَشْهُرٌ [البقرة:197] التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

وقيل: العشر الأول منه.

وينبني على ذلك: من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة، فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على القول بجميع الشهر، واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك[1] على كراهة.  ولم يجزه الشافعي[2] وداود[3] لتعيين هذه الأشهر لذلك، فكأنها كوقت الصلاة."

قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر. يعني هذا باعتبار أن الحج هو العبادة المعروفة: قصد البيت الحرام لأداء النسك المعروف في وقت مخصوص، فهذا هو الحج، فحينما قال: الحج أشهر. الحج ليس بزمان، وإنما هو عبادة من أقوال، وأفعال مخصوصة لقاصد البيت الحرام، فاحتاج هذا إلى التقدير: الْحَجُّ أَشْهُرٌ. يعني أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر.

قال: وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.  ويمكن أن يكون التقدير: وقت الحج أشهر معلومات، فالآية تتحدث عن زمن، ووقت الحج، الزمن الذي يكون فيه هذا النسك، وهذا القول بأن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. يعني ثلاثة أشهر، هذا مروي عن جماعة السلف: كابن مسعود[4] وابن عمر[5] وعطاء[6] والربيع بن أنس[7] ومجاهد[8] والزهري[9] وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك - رحمه الله -: أنها ثلاثة أشهر[10] وعلى هذا الاعتبار فلا إشكال في التعبير بصيغة الجمع الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فلا إشكال هي ثلاثة أشهر، وأقل الجمع لدى عامة أهل العلم من الفقهاء، وأهل اللغة ثلاثة، فكانت بهذا الاعتبار، وهذا يترتب عليه أحكام.

قوله: وقيل: العشر الأول منه: يعني العشر الأول من ذي الحجة، فيكون أشهر الحج: شهرين، وعشرة أيام، وهذا مروي عن عمر، وعلي، وابن الزبير، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، والضحاك، والسدي، وابن سيرين، والزهري، وقتادة، والربيع، ومقاتل، واختاره أبو جعفر ابن جرير، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد[11] وهو رواية عن ابن عمر[12] فهذا قول الجمهور: أنه في شهرين، وعشرة أيام، هذا قول عامة السلف وجمهور الفقهاء، وعلى هذا يكون التعبير هنا بالأشهر لا يخلو من إشكال باعتبار أنه عبر بالجمع عن شهرين، وعشرة أيام، يعني أقل من ثلاثة، فبعض أهل العلم ممن يذهب إلى أن أقل الجمع ثلاثة قالوا: هذا باعتبار جبر الكسر. الشهر الثالث عشرة أيام، فبجبر الكسر يكون عومل على أنه شهر، فجاءت صيغة الجمع.

وبعض أهل العلم يقولون: إن أقل الجمع اثنان، ومن ثم فلا إشكال عندهم في هذا، بل يحتجون بمثل هذا على قولهم، كما يحتجون بمواضع أخرى: كقوله - تبارك، وتعالى -: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] فهي تُحجب من الثلث إلى السدس بأخوين فأكثر، فعبر بإخوة صيغة الجمع، وهذا يصدق على اثنين بالاتفاق، وهذا مضى الكلام عليه، وقال صاحب المراقي: 

أقل معنى الجمع في المشتهر الاثنان في رأي الإمام الحمير[13]

الإمام الحميري أي الإمام مالك - رحمه الله -.

وقوله: وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة - يعني على القول بأنه في شهرين، وعشرة أيام - إلى آخر ذي الحجة، فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على القول بجميع الشهر.

وقوله: واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر. يعني باعتبار أن الله حدد ذلك في وقت معين فهو كميقات الصلاة، فلو أنه صلى قبل الوقت فإن صلاته لا تصح بالاتفاق، فالحج هل يصح أن يكون قبل أشهره أن يحرم به؟ لو أحرم في رمضان على أنه متمتع، اعتمر في رمضان، وجلس، ثم أحرم بالحج في اليوم الثامن، أو أنه أحرم بالحج في رمضان مفردًا، أو قارنًا هل يصح هذا؟ العمرة في رمضان لو بقي في مكة بنية التمتع، اعتمر، فهل يكون متمتعًا، أو لا؟

يقول: فأجازه مالك على كراهة. مع أنه روي عن الإمام مالك - رحمه الله - وأبي حنيفة القول بالجواز في سائر العام، وهذا مروي عن إسحاق بن راهويه، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد[14] قياسًا على العمرة، قالوا: كما يصح الإحرام بالعمرة في سائر شهور العام فكذلك الحج.

والقول بالجواز مع الكراهة كما أنه مروي عن مالك - رحمه الله - كذلك عن أبي حنيفة، وأحمد[15].

يقول: ولم يجزه الشافعي، وداود. يعني ابن علي الظاهري، وكذلك ممن منع الأوزاعي، وعطاء، وطاوس، ومجاهد[16] وظاهر هذا يعني التحديد بكون الحج في أشهر معلومات يدل على أنه لا يصح إيقاعه في غيرها - والله تعالى أعلم - فوقته، ولم يطلق كما هو الشأن في العمرة، فمما تفترق به العمرة عن الحج أن العمرة تكون في سائر الأوقات، وأما الحج فله وقت مخصوص، فلو أحرم في رمضان، واعتمر فإنه لا يكون متمتعًا على هذا الاعتبار - والله أعلم -.

يقول: لتعيين هذه الأشهر لذلك فكأنها كوقت الصلاة.  وهذا أيضًا مروي عن جماعة من الصحابة : كابن عباس، وجابر[17] وجاء عن ابن عباس - ا - أنه قال: "لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج"[18]. أخذًا من ظاهر الآية.

والصحابي حينما يقول: من السنة. فإن ذلك يكون له حكم الرفع إلى النبي ﷺ ابن عباس يقول: "فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج". فعلى قول الأكثر يكون لهذا حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم -.

"قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي: ألزم بالحج نفسه، وفي بعض النسخ ألزم الحج نفسه"

فرض بمعنى أحرم فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي: أحرم بالحج، وهذا نقل عليه ابن جرير – رحمه الله - الاتفاق[19] يعني على هذا المعنى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني أحرم بالحج، والذي أحرم بالحج يكون قد ألزم نفسه به حينما دخل في النسك، فيكون الخروج منه بما ذُكر سابقًا من التحلل حال الإحصار بالذبح، والحلق، أو التقصير. 

"فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الرفث: الجماع، وقيل: الفحش من الكلام، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء مطلقًا، وقيل: المجادلة في مواقف الحج، وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله."

يقول: الرفث الجماع. قرأه ابن كثير، وأبو عمرو، والبصريان فلا رفثٌ ولا فسوقٌ بالرفع على أن (لا) ناهية، نهي عن الرفث، في قراءة الباقين بالفتح على أن (لا) نافية، وحتى على قراءة الفتح، أو النصب باعتبار ما سبق أنها نافية يكون النفي مضمنًا معنى النهي، هو نهي عن الرفث، مثل هذه الصيغة حينما ترد بطريق الخبر فإن ذلك يكون أثبت، وأوكد كأنه أمر قد تم، وفرغ منه، فما عليكم إلا أن تمتثلوا يعني أخبر عنه إخبارًا، فهو شيء متعين ثبت - والله أعلم -.

وقوله هنا: بأن الرفث هو الجماع. بعضهم يقول: غشيان النساء.  وهذا بنفس معنى الجماع، يعني خصوه بهذا، وهو مروي عن جماعة بهذا المعنى، وذلك منقول عن: سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبي العالية، وعطاء الخرساني، وعطاء بن يسار، والربيع بن أنس، والزهري، والسدي، والإمام مالك، ومقاتل - إذا قلت: مقاتل دائمًا أقصد به ابن حيان. الإمام المعروف، وليس مقاتل بن سليمان - وكذلك أيضًا الحسن، وقتادة، والضحاك[20] كل هؤلاء يفسرونه بالجماع، بعضهم يقول: مع مقدماته: كالقبلة، والمباشرة، ونحو ذلك، وهذا مروي عن ابن عمر، وابن عباس وعطاء، وعمرو بن دينار[21] وابن جرير[22] - رحمه الله - حمله على العموم: أنه ليس الجماع فقط، وإنما يشمل ذلك ما يريده الرجل من المرأة سواء كان ذلك من الفعال، أو من الأقوال، يتكلم معها بشيء من هذا، لكن نقل الإجماع على جواز التحدث من غير حضرة النساء، يعني لو تحدث مع الرجال بشيء مما يكون من أرب الرجل، ونحو ذلك من المرأة فهذا لا يكون داخلًا في النهي، وروي عن ابن عباس - ا - أنه ذكر البيت المشهور، فلما سئل عن هذا أخبر بأن النهي إنما هو ما كان بحضرة النساء[23].

يقول: وقيل: الفحش من الكلام، والفسوق هي المعاصي. هذا يشبه الاتفاق، فأصل الفسق هو الخروج عن الطاعة، يعني الجماع في حال الإحرام معصية، والمباشرة معصية، والقبلة معصية، والتحدث مع النساء بهذا الشأن معصية، فهو داخل في جملة الفسوق، ولكن هنا ذكره بعده فيشمل جميع المعاصي، فهذا المروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول الدمشقي، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخرساني، ومقاتل بن حيان[24] وهو اختيار ابن كثير[25] لكن ابن جرير - رحمه الله - يخصصه بنوع من المعاصي، وهي: محظورات الإحرام[26]: كالصيد، والطيب، والحلق، وهذا باعتبار أنه في خصوص الحج، والنسك، الكلام في هذه القضية فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وهو يتحدث عن الحج فهو فسوق خاص لا خروج عما حده الله - تبارك، وتعالى - في هذا النسك، لكن ظاهر الآية العموم وَلَا فُسُوقَ ولهذا جاء عن ابن عمر - ا -: بأنه اتيان معاصي الله في الحرم[27].

وبعضهم عبر بالسباب، والواقع أنه من قبيل التفسير بالمثال، فسباب المسلم فسوق، لكن معلوم أن ذلك لا يختص بالسباب، فالفسوق يكون بالقول، وكذلك بالفعل، النظر إلى الحرام، والتحدث الذي يكون فيه ما يسخط الله - تبارك، وتعالى - وجاء عن عبد الرحمن بن زيد: بأنه الذبح للأصنام[28]. يعني ذكر أمرًا يتعلق بالعبادة، وما كانوا يتقربون إليه في نسكهم، وحجهم، لكن كأنه احتج بقوله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] لكن هذا لا يختص به فيكون من قبيل التفسير بالمثال، وجاء عن الضحاك أنه التنابز بالألقاب[29] وهذا أيضًا يشبه أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، هذا الفسوق، والجدال قال: المراء مطلقًا. يعني في أي أمر من الأمور يعني لا يختص بالحج وَلَا جِدَالَ نهي عن المجادلة، والمقصود المجادلة التي لا توصل إلى الحق، ولا يراد منها إقراره.

يقول: وقيل: المجادلة في مواقيت الحج. يعني باعتبار أن الله أقرها، وكان أهل الجاهلية ينسؤون الأشهر كما هو معلوم كما قال الله - تبارك، وتعالى -: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] فهذه الأشهر لا جدال فيها، والنبي ﷺ قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض[30] فهذا الجدال يشمل الجدال بالباطل بأنواعه، وكذلك أيضًا الجدال في زمن الحج، وهذا كله داخل فيه، وقد فُسر بالمخاصمة، وبه قال ابن عباس - ا - وأبو العالية، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخرساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والربيع، وقتادة، والزهري، ومقاتل، والسدي، والحسن، وطاوس، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب القرظي، وسعيد بن جبير، والضحاك[31] لكن ابن جرير - رحمه الله - خصه بنوع من الجدال، وهو الجدال في الحج، ووقته[32] كما سبق.

يقول: وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله. هذا يرجع مواقيت الحج كما ذكرت، وعلى كل حال إذا كان مواقف الحج فما كان بينهم من اختلاف في ذلك حيث كانت تقف قريش في الحرم لا تخرج منه، والناس يقفون في عرفة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ هذا يحتمل، وإلا فالذي يذكر عادة هو مواقيت الحج، الجدال في مواقيت الحج - والله أعلم -.

"وَتَزَوَّدُوا قيل: احملوا زادًا في السفر، وقيل: تزوّدوا للآخرة بالتقوى، وهو الأرجح لما بعده."

تزودوا في حجكم، وقد جاء في الصحيح عن ابن عباس - ا -: كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. فهذه الرواية في سبب النزول صحيح ثابت، وهو نص صريح في هذا أن المقصود بالتزود وَتَزَوَّدُوا يعني بالأزواد التي تحتاجون إليها من الطعام، والشراب، ونحو ذلك، وسبب النزول كما هو معلوم قطعي الدخول في المعنى، ولا يصح إخراجه بالاجتهاد، وهذا مثال على الإخراج بالاجتهاد أن المقصود هنا قول التزود للآخرة قال: وهو الأرجح لما بعده. يعني فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى يُشعر بأن التزود المطلوب هو التقوى، لكن هذا اجتهاد، وسبب النزول صريح في أن المقصود الأزواد المعروفة، فلا يصح إخراج ذلك بالاجتهاد، وذكر ابن جرير - رحمه الله - في المعنى: أنه لا بر لله - تبارك، وتعالى - التقرب إليه بالعمل الصالح في ترككم التزود لأنفسكم مع مسألة الناس، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم. لاحظ الآن أنه ذكر قضيتين: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أن التقرب إلى الله - تبارك، وتعالى - على وجه التوكل بترك حمل الأزواد أن هذا لا تضرر فيه، ولا طاعة، فهو ليس بمطلوب من قِبَل الشارع، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أن تستصحبوا التقوى معكم، وخصه بسفر الحج باعتبار أن السياق فيه، وإلا فظاهر الآية الإطلاق فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فهذا في الحج، وفي غير الحج، ولكنه في الحج آكد؛ لأن الآية جاءت بهذا السياق - والله تعالى أعلم -.

إذن لا يقال: بأن التزود هنا المقصود به التزود للآخرة بالتقوى.  ولكن على طريقة القرآن أنه يربط بين هذا، وهذا وَتَزَوَّدُوا فلما أمرهم بالتزود بالأزواد المعروفة ذكّر بالزاد الآخر في سفرهم الأعظم، وهو التقوى، تقوى الله - تبارك، وتعالى - كما أيضًا في قوله في آيات الحج كما سبق: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 203] فذكّرهم بمحشرهم بعد تفرقهم حيث لا يجمعهم جامع إلا الله - تبارك، وتعالى - بالحشر، وكذلك الحج يذكر بالحشر من اجتماع الناس، وكثرتهم، وما إلى ذلك - والله أعلم -. 

  1.  - بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (2/ 90).
  2.  - انظر: الحاوي الكبير (4/ 28) والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (1/ 367) والبيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 166).
  3.  - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 498).
  4.  - تفسير الطبري (3/ 447).
  5.  - المصدر السابق.
  6.  - المصدر السابق (3/ 448).
  7.  - المصدر السابق (3/ 447).
  8.  - المصدر السابق (3/ 448).
  9.  - المصدر السابق.
  10.  - القوانين الفقهية (ص: 87) ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/ 17) والنوادر، والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 340) والجامع لمسائل المدونة (4/ 382).
  11.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 542).
  12.  - تفسير الطبري (3/ 446) وتفسير ابن كثير (1/ 541).
  13.  - نشر البنود على مراقي السعود (1/ 234).
  14.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 541).
  15.  - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 498).
  16.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 541).
  17.  - المصدر السابق.
  18.  - المصدر السابق، وصحح إسناده.
  19.  - تفسير الطبري (3/ 456).
  20.  - انظر: تفسير الطبري (3/ 464 - 467) وتفسير البغوي (1/ 226) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 544).
  21.  - تفسير ابن كثير (1/ 544).
  22.  - تفسير الطبري (3/ 469).
  23.  - تفسير ابن كثير (1/ 544).
  24.  - المصدر السابق.
  25.  - المصدر السابق (1/ 545).
  26.  - تفسير الطبري (3/ 476).
  27.  - المصدر السابق (3/ 473).
  28.  - المصدر السابق (3/ 475).
  29.  - المصدر السابق(3/ 476).
  30.  - أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4406) ومسلم، كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات، باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال، برقم (1679).
  31.  - انظر: تفسير ابن كثير (1/ 546).
  32.  - انظر: تفسير الطبري (3/ 476).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197].

فلما أمر بإتمام الحج والعمرة لله -تبارك وتعالى، وذكر الأحكام المتصلة بالحج، ذكر ميقاته، فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، على قول كثير من أهل العلم، فهو شهران وعشرة أيام.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني من أوجب على نفسه الحج بدخوله في النسك بالإحرام، فيحرم عليه محظورات الإحرام، وما ذكره الله -تبارك وتعالى- من الجماع الرفث، ومقدمات الجماع ودواعيه القولية والفعلية، كما يحرم عليه الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- بأنواع المعاصي، وهي الفسوق، فهو الخروج عن الطاعة، كذلك يقال له في لغة العرب، يقال: فسقت الفأرة من جُحرها إذا خرجت للإفساد، فهو خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى.

وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ الجدال الذي لا يوصل إلى مطلوب، ولا يبتغى به إقرار الحق، ودفع الباطل، وإنما الجدال الذي يكون سببًا لحضور النفوس، ويراد به الغلبة، ويوغر الصدور، ونحو ذلك، فهذا ممنوع منه في حال الإحرام، بل هو مذموم في كل حال؛ ولذلك فإن الجدال لم يذكر في كتاب الله -تبارك وتعالى- في الغالب إلا مذمومًا، كقوله: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ [سورة الرعد:13] وإنما جاء الأمر به وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125] بهذا القيد، بالتي هي أحسن، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن [سورة العنكبوت:46] وهذا قليل في كتاب الله ، وإلا فالغالب أنه جاء على سبيل الذم.

ثم قال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [سورة البقرة:197] أي: وما تفعلوا من خير مطلقًا من أنواع البر والطاعة ومن محاب الله -تبارك وتعالى، فيجازي كلاً على عمله، ثم أمر بالتزود، فقال: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى خذوا لأنفسكم زادًا من الطعام والشراب الذي تحتاجون إليه لسفر الحج، وخذوا زادًا أيضًا من التقوى بالأعمال الصالحة التي تقربكم إلى الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.

وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197] فهذا أمر منه -تبارك وتعالى- بتقواه، وخاطب به أصحاب العقول الراجحات يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ أي: يا أصحاب العقول.

فيُؤخذ من قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ على هذا القول المشهور أنه في شهرين وعشرة أيام، يكون عبّر عنه بالجمع، فقال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ وهو شهران وبعض الشهر، فهذا معروف في مخاطبات العرب وطرائقها في الخطاب أنها تجبر الكسر، فإذا كان الحج في شهرين وعشرة أيام فيجبرون ذلك، فكأنه صار في ثلاثة، فهذا جواب ذكره طائفة من أهل العلم، كأبي جعفر ابن جرير -رحمه الله [1] وذكر غيره أن مبنى ذلك على أن أقل الجمع في اللغة اثنان، وقد سبق ذكر ما يدل على ذلك في بعض المناسبات، كقوله -تبارك وتعالى- في ميراث الأم فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ [سورة النساء:11] يعني لأم الميت السُّدُسُ وبالإجماع أنها تحجب حجب نقصان، من الثلث إلى السدس بوجود اثنين من الأخوة فأكثر، فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [سورة النساء:11] فالأخوان يحجبانها من الثلث إلى السدس، فأطلق عليهم صيغة الجمع إِخْوَةٌ وهذا معروف، ومنه قول صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري[2]

يعني الإمام مالك -رحمه الله، وهذا عليه جماعة من أهل اللغة والأصوليين والفقهاء: أن أقل الجمع اثنان.

ويُؤخذ من الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ أن الحج هو العبادة الوحيدة التي حُدد لها أشهر، مع أن الإنسان يمكن أن يأتي بالحج في ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، لكن لما كانت هذه فريضة العمر، ويأتيها الناس من كل فج عميق، ومن نواحي بعيدة، فيأتون ويمكثون في بيت الله -تبارك وتعالى- قبل الحج وبعده، وسع الله -تبارك وتعالى- لهم فيه، فكان في شهرين وعشرة أيام.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني: لو أنه أحرم في أول ليلة من شوال، يعني حينما ظهر الهلال المؤْذِن بدخول شهر شوال، وخروج شهر رمضان، يعني بعد غروب الشمس انقضى رمضان، ودخل شوال، فدخل معه موسم الحج، فلو أنه إذا عُلم دخول شهر شوال بعد المغرب ليلة عيد الفطر، قال: لبيك حجة، ينعقد إحرامه بالحج، بحسب ما أحرم به، فلو قال: لبيك حجة يقصد الإفراد مثلاً، أو القران، فإنه لا يتحلل إلا في يوم النحر، فإن قال: لبيك عمرة، وهو يريد بذلك التمتع، ولم يرجع إلى بلده، فإنه يكون حاجًا متمتعًا، فيمكث حتى يأتي بالحج، فيحرم في اليوم الثامن من ذي الحجة.

وهكذا ينقضي موسم عظيم، وهو شهر رمضان، وبمجرد ظهور الهلال يدخل موسم عظيم، ولو نظرنا إلى السنة في التاريخ الهجري الذي وضعه عمر ، ووافقه عليه الصحابة ، تبدأ السنة في شهر محرم، وتنتهي في شهر ذي الحجة، فتجد أنها تبدأ بأفضل الشهور أن يصام بعد رمضان شهر الله المحرم، وهو شهر حرام، وليس من أشهر الحج، وفيه يوم إذا صامه يُكفِّر سنة ماضية.

ثم بعد ذلك تختم السنة بهذه المواسم شعبان، يستحب صومه، فهو كالتمرين والنافلة قبل الفرض (رمضان)، ثم بعد ذلك يصوم رمضان وهو أفضل شهور العام، وفيه ليلة القدر، وفيه الليالي العشر الأخيرة منه.

ثم بعد ذلك بمجرد خروجه تدخل أشهر الحج، وإذا دخل ذو القعدة منها دخلت الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم بعد يختم العام بالحج من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه [3] والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة [4] ومن لم يحج فصيام عرفة يكفر سنة ماضية، وسنة آتية، فانظروا إلى ألطاف الله، وأفضاله، فأين هذا من الاحتفال بأعياد عباد الصليب؟ الذي يقولون: بأن ربهم ثلاثة، وهذه الثلاثة تمثل إلهًا واحدًا، في معادلة لا يفهمونها، ولم يستطع إلى اليوم أن يدركها وأن يفهمها أحد من الخلق أجمع، فعجبًا من يستعيض عن هذا الهدى الكامل، ويتبع من وصفهم الله بالضلال، فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7].

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- لما نهى عباده عن إتيان القبيح قولاً وفعلاً فَلَا رَفَثَ الجماع ومقدمات الجماع، والكلام فيه بحضرة النساء، فيدخل فيه القول والفعل، سواء كان ذلك مع من يحل له كامرأته، أو من لا يحل له، كما لو كان يتواصل مع امرأة بالحرام.

وَلا فُسُوقَ والفسوق يدخل به جميع أنواع المعاصي المتعلقة باللسان، أو الجوارح، أو القلب، فالتي بالقلب كالكبر، واحتقار الناس، والعجب بالأعمال، والرياء والسمعة، فالرياء والسمعة من الشرك، والعجب يُبطل الأعمال ويحبطها، فهذه من معاصي القلب، وأما معاصي اللسان: فالكذب والغيبة، والتعليق على الناس والسخرية والتندر بهم، والازدراء بالآخرين، والتفكه بذكر جهالاتهم وحماقاتهم، وما شاهده من مزاولاتهم في الحج، والنظر إلى الحرام، سواء كان في جهاز معه، أو كان ذلك في الغاديات الرائحات في فجاج منى، أو في غير ذلك من المواضع، فهذا لا يجوز لا في الحج، ولا في غير الحج، لكنه إذا وقع في الحج يكون ذلك في أرض هي من الحرم غالبًا سوى عرفة، ويكون في موسم هو من أعظم المواسم وأشرفها وأجلها، والله قال عن الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] فهنا عدي فعل الإرادة بالباء؛ لأنه مضمن معنى (الهم) فمجرد الهم فقط بإلحاد بظلم متوعد عليه بالعذاب الأليم، حينما ينوي المعصية والإساءة والظلم، ونحو ذلك، فهذا يدخل فيه أشياء كثيرة مما يقع للإنسان.

وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ الجدال المذموم الذي يورث الكراهية والنفرة والضغائن، وتفرق القلوب، فهذا لا موضع له لا في الحج، ولا في غير الحج، لكنه في الحج يكون النهي عنه أشد وأعظم.

وفي قول الله -تبارك وتعالى: فَلَا رَفَثَ جاء بصيغة النفي، وهو مضمن معنى النهي، يعني لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، فهو نفي مضمن لمعنى النهي، وهذا أبلغ؛ لأنه جاء به على سبيل الإخبار، يعني جملة خبرية وليست جملة إنشائية، كأن هذا قد تقرر وثبت، فيكفي الإخبار عنه، وكأن هذه قضايا مفروغ منها، وأمر مقرّر، عليك أن تستجيب وتمتثل.

ثم هذه الألفاظ جميعًا (رفث) (فسوق) (جدال) كلها نكرات في سياق النفي، وهذا يفيد العموم، فيدخل فيه كل ما كان من هذا القبيل، وهذا يدعو إلى حفظ الجوارح، بحيث يستشعر العبد أنه ضيف على الله -تبارك وتعالى، وفي أطهر البقاع، وأشرف المواسم، فعليه أن يرعى حق مضيفه، وحرمة المكان، وأن يتقي الله -تبارك وتعالى، فلا يرسل لسانه بما حرم الله، ولا يرسل بصره إلى ما حرم الله، ولا يبطش بيده، ولا يخطو برجله إلى شيء يسخطه الله -تبارك وتعالى، فهذا كله -أيها الأحبة- داخل في هذا المعنى، وكثيرًا ما يغفل الناس عنه في حجهم وعمرتهم، يذهب كثيرون في مثل هذه الأوقات إلى العمرة، ولكن ربما يجادل في كل شيء، يجادل عند الحلاق، وفي الفندق، وإذا أراد أن يشتري، ويجادل صاحب الأجرة، وفي المطار، ويجادل الذي يحمل الحقائب، والذين يخدمونه في نزله، إذا تأخروا أو أبطأوا، اتصل عليهم فما أجابوا، فهو يلبس إحرامه، ولكنه أيضًا قد تلفع بألوان المخالفات، في كل شيء يجادل، يجادل الرفقة الذين معه في كل شيء، .نسكن هنا، لا نسكن هناك، نذهب الآن نعتمر، لا نذهب الفجر إلى العمرة، نذهب الساعة الفلانية؟ على ماذا؟

فهنا  فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ

 

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197].

تحدثنا عن صدر هذه الآية: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فجاء النهي عن الرفث والفسوق والجدال بصيغة النفي؛ وذلك أبلغ، فهو أمر محسوم، قد فُرغ منه، فعُبِّر عنه على أنه قد قُضي، فجاء على سبيل الإخبار، فلا ينبغي لأحد أن يقع في شيء من ذلك إذا تلبس بالإحرام فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فكأن هذه الأمور لا وجود لها أصلاً.

كذلك أيضًا وَلا جِدَالَ كما قال ابن مفلح -رحمه الله- في الآداب الشرعية: "فلو كان في الملاحاة خير لما كانت سببًا لنسيانها -أي ليلة القدر؛ ولأن الله تعالى صان الإحرام عن الجدال"[5] .

وقد ذكرتُ بأن الجدال لا يكاد يُذكر في القرآن إلا على سبيل الذم، هذا هو الغالب، حتى قال بعضهم: إن أصله مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض الصلبة؛ وذلك أن الجدال يحصل فيه ما يحصل من حضور النفوس، وطلب حظوظها، من الانتصار لها، والغضب من أجلها، وما أشبه ذلك، وما يؤثره ذلك من المنافرة والتباغض والتباعد، والشريعة تأمر أهل الإيمان بأن يكونوا مجتمعين متحابين وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103] ولما وجد الجدال وكثر بسبب ما دخل على المسلمين من منطق اليونان، وترجمة تلك الكتب، تفرقت الأمة إلى طوائف كثيرة، واشتغل قوم بالجدال، وكثر الكلام والاختلاف، حتى عُرف أولئك بأهل الكلام.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنه ينبغي على العبد في حال الإحرام أن يبتعد عن كل ما يفرق قلبه؛ ولهذا نهي عن الجدال لما يحصل فيه من تشويش الفكر، فيكون قلبه حاضرًا للعبادة، والاتصال بالله -تبارك وتعالى، وأن يؤدي هذه المناسك بقلب حاضر، فلا يكون تطوافه في هذه المناسك من غير حضور قلب، فيكون جافًا.

وأيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- قال بعد هذا النهي: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لما نهاهم عن هذه الأشياء جاء بهذا الخبر الذي يتضمن حثًا على فعل الخير، كما هي عادة الشارع إذا نهى عن شيء أمر الناس بما يكون فيه صلاحهم ونفعهم، فإن النفوس خلقت للفعل، ولم تخلق للترك، فالترك مقصود لغيره، فلا بد من عمارة القلوب والجوارح بالإيمان، والعمل الصالح، وأما الترك فهو من باب التخلية؛ ولذلك لا يحسن في التربية أن يُركز المربي على النهي والمنع دائمًا، وما أشبه ذلك، وإنما يحُث الناس على ما فيه نفعهم وصلاحهم، وينهاهم عما يضرهم، فلا بد من النهي، لكن لا يكون ذلك مقتصرًا عليه.

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ كما قال بعض أهل العلم: بأن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه، كان أحرص على العمل، وأكثر التذاذًا به، وأقل نفرة عنه، وكان اجتهاده في أداء الطاعات، وفي الاحتراز عن المحظورات أشد؛ ولهذا قال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإذا استشعر الحاج أن أعماله الصالحة من طواف وسعي وذكر ووقوف بعرفة، ومبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وما يحتف به من النفقات، وألوان التقربات إلى الله -تبارك وتعالى- فالله يعلمها.

وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإذا استشعره العبد هان عليه ما يبذل من المال، فالله يعلم ذلك، وما يناله ويحصل له من الألم والتعب والمشقات، حينما يستشعر أن الله يطلع عليه، ويعلم ذلك، فإنه يهون عليه التعب، ويلتذ بذلك كله، فلا يرى الله -تبارك وتعالى- منه ما لا يليق من التذمر والتسخط، وكذلك التحسر على ما أنفقه في هذا السبيل، وأن يستكثر ذلك، فمثل هذا لا يكون ممن يستشعر نظر الله إليه، وعلمه بما يبذله ويعمله، وإذا كان هؤلاء من العمال ينظر إليهم هذا الرئيس، فإنهم يجدون ويجتهدون، وحينما يقول الرئيس لمرؤوسه: الأعمال والجهود التي تبذلها معلومة لدي، فإن هذا يبعث الطمأنينة في نفسه، ويزيده جدًا واجتهادًا، فهو لا يُهضم، ولا يضيع من حقه وجهده شيء، فكيف بعلم الله وإحاطته؟!

لكن إذا كان ما يفعله العباد من الخير يعلمه الله، فكذلك ينبغي أن يحترز، بحيث لا يقع في قلب العبد خلاف ذلك من المقاصد الفاسدة، وإن كان ظاهر العمل في الخارج صحيحًا، فيحج وربما يمشي في المناسك، ويتنقل فيها، ولكنه يتحدث بهذا، ويصور ويرسل الصور ليقال: فلان حاج، يرفع يديه ويدعو ويأمر من يصور، فيكون ذلك مخلاً بعمله، وقد يفسد نيته وقصده، والأعمال بالنيات، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيحترز الإنسان من جميع المحظورات القلبية، وما يتصل باللسان، فلا يصدر عنه إلا كل جميل، وكذلك ما يصدر عن جوارحه.

ولو أن الإنسان بقي على هذه الحال لحج حجًا في غاية الإتقان والضبط في العمل، من حيث اتباع السنة، والعمل المشروع، ولم يحصل من إخلال وتجاوز لحدود الله ، وكذلك من جهة صون اللسان والجوارح والقلب عما لا يليق، لكن انظروا كم يقع منا من التخليط بسبب غفلتنا عن هذا كله، نخلط كثيرًا في النيات، وفيما يصدر عن اللسان، والجوارح.

وخص الخير في قوله: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ولم يقل: وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، وفي هذا المزيد من الحث على فعل الخير، فذكر أشرف الأمرين، وإلا فالله -تبارك وتعالى- يعلم ما يصدر عن الإنسان من أعمال السوء، وهذا من لطفه -تبارك وتعالى- بعباده.

و(خير) في قوله: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ نكرة في سياق الشرط، فتفيد العموم، فإذا سبقت بـ(من) مِنْ خَيْرٍ فإن ذلك يجعلها نصًا صريحًا في العموم، فتشمل أي خير، فيدخل في هذا الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، والعبادات القلبية التي يجب العناية بها من الخوف والرجاء، وقبل ذلك الإخلاص للمعبود، وكذلك التوحيد والإخبات، وما أشبه هذا، فهذا كله -أيها الأحبة- يحتاج العبد أن يراعيه؛ لأنه من أعظم الخير، فإن جنس الأعمال القلبية أفضل من جنس أعمال الجوارح، كما هو معلوم، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ولو كان ذلك مما لا يطلع عليه الناس، مما عمله سرًا.

وأيضًا فإن هذه الآية عقّبها الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فأمر الحجاج بأن يتزودوا لسفرهم بالزاد المحسوس الطعام والشراب، وما يحتاجون إليه من الأقوات، فهذا من بذل الأسباب، وتعاطي الأسباب أمر دعا إليه الشرع، وهو لا ينافي التوكل، فلا يسافر الإنسان بغير زاد، بدعوى أنه متوكل على الله -تبارك وتعالى- في أسفاره التي يسافر فيها، سواء كان ذلك في الحج، أو في غيره.

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى هذه الجملة جاءت في هذه الآية، وكما جاء في سبب النزول: أن قومًا من أهل اليمن كانوا يأتون إلى الحج بغير زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، وإذا صاروا إلى مكة سألوا الناس، فهذا خلاف التوكل، والشريعة تدعو أهل الإيمان لفعل الأسباب، التي يكون بها غناهم عن سؤال الناس، والافتقار إليهم، فيحفظ الإنسان مروءته، وكماله اللائق، وكرامته التي ينبغي أن يتعاهد الأسباب التي تتحقق بها.

ولما ذكر هذا الزاد الحسي، أشار إلى الزاد الآخر في السفر الطويل، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فهذه الأسفار في الدنيا مهما طالت هي قصيرة، ومع هذا أمر بالتزود لها، فمن باب أولى السفر الطويل، وهو السفر إلى الآخر، فهذا يحتاج إلى زاد، ولكن ليس بالطعام والشراب، وإنما بالتقوى، والعمل الصالح، والإيمان بالله -تبارك وتعالى، فكلنا مسافر إلى الله، وأعمالنا التي نحملها هي الأزواد، وهي التي نقتات بها هناك، أيًّا كانت هذه الأعمال صالحة أم فاسدة، فالذي يعمل الأعمال الصالحة يجد ذلك عند الله، والذي يعلم الأعمال السيئة يجد ذلك عند الله، فينبغي على العبد أن يبادر ويتوب ويستغفر ويجدد العهد مع الله -تبارك وتعالى، ويعمل ما استطاع بطاعته ويتقيه، فقد يرحل في أي لحظة، ولا يدري الإنسان هل يخرج من هذا المسجد أو لا؟

فهنا يُرشد إلى الاستعداد لذلك السفر وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى جمع بين الزادين، كما في قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [سورة الأعراف:26] هذا اللباس الظاهر المادي، ثم قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] فقرن بين اللباسين، وهنا قرن بين الزادين، الزاد الحسي، والزاد المعنوي.

وتضمن قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى إبطال ما كان يفعله بعضهم في حجهم من عدم التزود، وذلك يكون قطعًا لتعلق القلب بالمخلوقين أن يعطوه أن يمنحوه، وأن يحسنوا إليه، ونحو ذلك، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، حتى كان السوط يسقط من أحدهم فلا يقول لصاحبه: ناولنيه[6]  وهذا هو الاستغناء الكامل عن الناس.

وتضمنت هذه الآية أيضًا: الحث على التزود بالطاعات؛ ولما ذُكر هذا في الحج كانت المناسبة -كما سبق- أن بعضهم يحج بلا زاد، وكذلك يدل هذا على أن العمل الصالح، والتقرب إلى الله بجميع أنواعه في الحج: متأكد ومطلوب، فالحاج يحتاج إلى أن يتزود ما استطاع، لا أن يتخفف من الأعمال الصالحة، فالكثيرون -أيها الأحبة- يريد أن يحج بأقل كلفة، سواءً كانت مادية (من المال)، أو كانت هذه الكلفة من الأعمال التي يعملها، فيسأل عن الشيء المجزئ فقط، وتقضى الأوقات الطويلة في أفضل المواسم، وأشرف المواسم، والبقاع بأحاديث قد لا تنفعه، بل قد تضره، ويُقضى زمان طويل بالنوم والكسل عن الطاعة.

قال رجل ليونس بن عبيد -رحمه الله: أوصني، فقال له: اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ فإذا سئل: ما خير الزاد؟ فيقال: التقوى، إذن ليس خير الزاد هو ألوان وأصناف المطعوم من أنواع المستلذات، وليس خير الزاد هو ما يكتنزه الإنسان من الأموال، فإنه لا يأخذ معه في قبره منها شيئًا، ولو قل، وليس خير الزاد إطلاق اللسان في أعراض المسلمين، وإنما خير الزاد تقوى الله -تبارك وتعالى، فمن استطاع أن يتزود منه ويكثر، فعليه أن يبادر ما دام ذلك في وقت الإمكان.

والزاد في الحج للاستغناء عن الناس مطلوب، من أجل أن يتفرغ الإنسان للعبادة والذكر والطاعة.

والمقصود -أيها الأحبة- أن هذه الأجسام لها زاد من الطعام والشراب، لكن الأرواح لها زاد آخر من الطاعات والإيمان، وتقوى الله -تبارك وتعالى، فإن الكثيرين يعتنون بزاد الأجسام، ويتقلبون بألوان اللذات من المطعوم والمشروب، ولكن ذلك لا يحقق لهم الطمأنينة والراحة والسكون، وإنما تبقى أرواحهم جائعة، وتبقى صدورهم في حال من الوحشة والضيق، والسبب هو أنهم اعتنوا بنوع من الزاد للأجسام، وتركوا الأرواح جائعة مقفرة من غير زاد، فإذا أقفرت الأرواح حصل بسبب ذلك من الضيق والوحشة ما لا يقادر قدره.

وأيضًا توجيه الخطاب هنا لأولي الألباب وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ مع أن التقوى مطالب بها الجميع، لكن خص أصحاب العقول الراجحة؛ لأنهم الذين يعرفون قدر ذلك وأثره، وهم الذين يمتثلون ويستجيبون، وينظرون إلى الغاية البعيدة، والمستقبل الحقيقي في الآخرة، فلا يتعجلون اللذات في هذه الدنيا، على حساب آخرتهم، فإن من النقص في عقل الإنسان أن يأخذ العاجل، ويترك الآجل، بدعوى أن الآخرة غيب، وهذا شهادة، والآخرة نسيئة، وهذا نقد، فيأخذ ما وقع في يده من حلال أو حرام، ويفعل ما يحلو له، ثم بعد ذلك يقدم على الله -تبارك وتعالى- من غير زاد، فأصحاب العقول الراجحة يعلمون أن هذه الدنيا زائلة، وأن الآخرة باقية، فيعملون ويجدون ويجتهدون، من أجل تحصيل الجنة، ومرضاة الله -تبارك وتعالى. 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 120).
  2. نشر البنود على مراقي السعود (1/ 234).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور برقم: (1521) ومسلم في كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة برقم: (1350).
  4. أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها برقم: (1773) ومسلم في الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1349).
  5. الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 383).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس برقم: (1043).