"قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ أي: لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره، وهو مروي عن ابن عباس، وجابر ، وبه يقول عطاء، وطاوس، ومجاهد - رحمهم الله -، والدليل عليه أن تخصيص، وقت الحج بأشهر معلومات من بين سائر شهور السنة يدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة."
قوله - تبارك، وتعالى -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ أي: وقت الحج أشهر معلومات، وهذا يدل على أن الحج موقَّت بوقت، وهذا منشأ الكلام على هذه المسألة التي أشار إليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهي هل يصح أن يحرم بالحج قبل أشهره التي هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، أو عشر من ذي الحجة أم لا؟
هذه مسألة خلافية مشهورة، وظاهر الآية أن ذلك لا يكون إلا في أشهره، كميقات الصلاة، - والله أعلم -.
"وروى الشافعي - رحمه الله - عن ابن عباس - ا - أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يُحْرِم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197].
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس - ا - قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج.
وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: "من السنة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس - ا - تفسيراً للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديث مرفوع، روى ابن مردويه عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج[1]، وإسناده لا بأس به، لكن رواه الشافعي، والبيهقي من طُرق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله - ا - يسأل: أيُهَلّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: "لا" [2]، وهذا الموقوف أصحّ، وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي يتقوّى بقول ابن عباس - ا -: "من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره"، - والله أعلم -.
وقوله: أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ قال البخاري: قال ابن عمر - ا -: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة، وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولاً عن ابن عمر - ا -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة" إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، وقال: هو على شرط الشيخين."
القول المشهور عن جماعة من الصحابة، ومن بعدهم أن أشهر الحج شهران، وعشرة أيام، وبعضهم يقول: إن شهر ذي الحجة من أشهر الحج بكامله، وهذا أيضاً قال به جماعة من الصحابة فمن بعدهم، والمسألة معروفة في كتب الفقه، وليس من شأننا هنا أن نذكر، أو نستطرد في الكلام في المسائل الفقهية، وعلى كل حال هو قول معروف، وممن قال به من الصحابة ابن مسعود، وابن عمر، وقال به جماعة من كبار التابعين منهم عطاء الذي هو أعلم الناس في زمانه بالمناسك، ومذهب الإمام مالك أيضاً أن شهر ذي الحجة بكامله من أشهر الحج.
"قلت: وهو مَرْويّ عن عُمَر، وعليّ، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس - أجمعين -، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حَيّان، واختار هذا القول ابن جرير."
ذكر هنا جماعة مثل: ابن مسعود، وعطاء، ومجاهد، والربيع، مع أنه جاء عن هؤلاء الذين ذكرهم جميعاً أنهم قالوا: إن أشهر الحج هي ثلاثة أشهر على أن شهر ذي الحجة بكامله من أشهر الحج، وهذا يوجد بكثرة في كتب التفسير، وفي كتب الخلاف في الفقه، ولذلك فإن مثل هذا يحتاج إلى تحرير من خلال النظر في هذه الروايات هل تصح أم لا؟، ثم ينظر في المتقدم، والمتأخر من الروايات التي تروى عن هذا الصحابي، أو التابعي، فإن عرف ذلك عمل بالمتأخر، فإن لم يعرف فإنه ينقل عنه هذا، وهذا.
ومما يوجد أحياناً في مسألة ما أنه يقول: هذا قال به الخلفاء الأربعة، وفلان، وفلان، وفلان، وإذا نظرت في أدلة القول الثاني تجد أنه يعدد أيضاً بعض من ذكرهم في القول الأول، وإذا نظرت في الروايات المنقولة عنهم تجد أن كثيراً منها قد لا يصح أصلاً، ومن ثَمّ فإن الإنسان لا يحكم لأول، وهلة بمجرد ما يرى من الأسماء أن هذا هو فعلاً مذهب هؤلاء جميعاً من الأئمة.
بل إن أئمة المذاهب تُنقل عنهم أحياناً أشياء مع وجود روايات أخرى نُقلت عنهم بخلاف ذلك ربما كانت أثبت من هذا المنقول، ولذلك فإن المذاهب إنما تنقل من الكتب المعتمدة عند أهلها، وأصحابها، أما نقل ذلك من كتب أخرى فإنه مظنة لوقوع الخطأ.
وكذلك الأمر في الفرق، والخلاف في العقائد، فإنك إذا نظرت في كتاب الملل، والنحل للشهرستاني تجد أشياء كثيرة جداً مما يضاف إلى أهل الفرق مما لا يقولون به، ولا يثبت عنهم، أو أن القائل به هو بعض هؤلاء.
فالحاصل أنهم ينقلون من كتب خصومهم ممن ألف في الفرق، أو ألف فيهم، أو رد عليهم، فهم ينقلون من كتب خصومهم، ويضيفون إليهم ما ليس فيهم، ولذلك تجدهم إذا عرضوا مذهب أهل السنة يعرضونه مشوهاً، والكُرَّامية مثلاً تُنسب إليهم أشياء لا توجد في كتبهم، وإنما نُقلت من كتب مخالفيهم، وهذه الطريقة ليست دقيقة في العلم، والخلاف.
"قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين، وبعض الثالث للتغليب كما تقول العرب: زرته العام، ورأيته اليوم."
على كل حال القول الأول: إنها إلى عشر ذي الحجة هو قول مشهور يقول به عامة أهل العلم من أصحاب المذاهب، وغيرهم، وقد سمى هنا جماعة مع أن بعضهم نُقل عنه غير ذلك، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، أعني أبا حنيفة، والشافعي، وأحمد.
ويترتب على مسألة تحديد أشهر الحج عمل، وهو هل له أن يؤخر باختياره بعض أعمال الحج إلى ما بعد اليوم العاشر من ذي الحجة، أم لا يجوز له التأخير؟
"للتغليب كما تقول العرب: زرته العام، ورأيته اليوم، وإنما وقع ذلك في بعض العام، واليوم؛ قال الله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، وإنما تعجل في يوم، ونصف يوم."
على كل حال هذه الآية يستدل بها من يقول: إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، بمعنى أن ذلك يحرم، وهو المعروف من مذهب الشافعي - رحمه الله -، وقال به جماعة من السلف - ، وأرضاهم -، وبه يقول الأوزاعي، ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يجوز لكن مع الكراهة من غير تحريم.
وعلى كل حال جاء عن الإمام أحمد أن ذلك يكره، وكذلك نقل عن الإمام مالك - رحمه الله - أنه يكره، وأن ذلك يجزئه.
وبعضهم يقول: إنه يجوز أن يحرم بالحج في سائر العام متى شاء كالعمرة، لكن ليس معناه أنه يحج في شهر صفر، أو ربيع مثلاً، فهذا لم يقل به أحد، وإنما المقصود الإحرام فقط، أي أنه يلبي بالحج متى شاء لكن ليس معنى هذا أن يقف في عرفة في غرة ر بيع مثلاً، وإنما يقف في اليوم التاسع من ذي الحجة.
ومن قال بجواز الإحرام سائر العام يحتج بمثل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189]، فهؤلاء يقولون: إن الله جعل الأهلة مواقيت للناس، والحج، فيستطيع الإنسان أن يحرم بالحج في أي وقت من العام من غير كراهة، وعلى كل حال هذا قول فيه نظر - والله تعالى أعلم - مع أن القائل به أئمة، فأحياناً بعض الأقوال تستغربها، وتجد أن القائل بها من الكبار كإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، فإذا رأى الإنسان مسألة من هذه المسائل لا يستعجل بالشناعة، وإنما يتريث، وينظر، وربما ترك ما يعتقده من القول بعد مدة، وانتقل إلى هذا الذي كان يشنع عليه، إلا إذا كان الشيء لا دليل عليه أصلاً بحيث كان مخالفاً للنصوص الصريحة الواضحة فنعم، أما مثل هذه المسائل فهي كما هو، واضح أن المسألة هذه ذكرت لها عمدة الأدلة فلا تشنيع إذن، - والله أعلم -.
"وقوله: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] أي: أوجب بإحرامه حَجًّا."
قوله: أوجب بإحرامه حَجًّا؛ يعني أوجب بإحرامه على نفسه حجاً.
"فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج، والمضي فيه."
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله -، وهو قوله: أي: أوجب بإحرامه حَجًّا؛ بمعنى أوجب بإحرامه على نفسه حجاً كما أسلفت هو أقرب ما تفسر به الآية، وهناك معان أخرى تذكر فيها، لكن هذا من أقربها مأخذاً، ومن أسهلها، ومن أوضحها، وذلك أن من شرع في الحج بأن لبى به فقد لزمه إتمامه؛ كما قال تعالى في الآية السابقة: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [سورة البقرة:196]، - والله تعالى أعلم -.
وفيما يتعلق بقوله: أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ على قول من قال: إنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، يكون توجيه صيغة الجمع بأحد، وجهين:
الوجه الأول: باعتبار جبر النقص، بمعنى أنه إذا، وجد أيام من الشهر الثالث فبالنظر إلى تكميل النقص، وجبره كما هو معروف عند العرب صحَّ أن يطلق على ذلك أشهر، ومثل هذا سيأتي في قوله - تبارك، وتعالى -: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:203]، وذلك أن الحاج إذا رمى الجمرات بعد الزوال في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة فإنه لا يحتاج أن ينتظر إلى الغروب ليكتمل اليوم الثاني، ومع ذلك اعتبر أنه تعجل في يومين من باب جبر النقص.
والوجه الثاني: أن أقل الجمع عند بعض أهل العلم من أهل اللغة اثنان، وهو قول منقول عن الإمام مالك أيضاً كما في المراقي:
أقل معنى الجمع في المشتهر | اثنان عند الإمام الحميري |
" قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفَرْض هاهنا الإيجاب، والإلزام."
يعني ألزم نفسه بذلك، أي شرع فيه بالتلبس بإحرامه، وإن شئت أن تقول: لبى بالحج، أو أهلَّ به، فكل هذه العبارات تؤدي المعنى، ولا حاجة أن نجعل من الأقوال في الآية إشكالاً، فهو ملزم بالإتمام متى شرع بالإهلال بالتلبية، وبالشروع بالتلبس، فهو متى دخل في إحرامه فعليه أن يستوفى ذلك.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [سورة البقرة:197] يقول: من أحرم بحَجّ، أو عمرة، وقال عطاء: الفرض الإحرام، وكذا قال إبراهيم، والضحاك، وغيرهم"
يقول: الفرض الإحرام، ولا شك أن من أحرم بهما فقد فرض، وأوجب ذلك على نفسه.
"وقوله: فَلاَ رَفَثَ [سورة البقرة:197] أي: من أحرم بالحج، أو العمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع."
بعض أهل العلم فسر الرفث بمعنى هو من أشهر معانيه، وهو الجماع، ومن أهل العلم من يحمله على العموم، حيث إن لفظ "رفث" نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي، والنهي، والشرط، والاستفهام تدل على العموم، وهذا النفي هنا مضمن معنى النهي، أي: فلا يرفث جميع أنواع الرفث، فيدخل فيه الجماع، ومقدماته، ويدخل فيه الكلام في ذلك.
هل الكلام عن الجماع ممنوع، وإن لم يكن بحضرة النساء؟:
من أهل العلم من خصه بحضرة النساء، بمعنى أنه لا يتكلم معها في شيء من ذلك، وقد نُقل عن ابن عباس بيت فسئل عن هذا فبين أن ذلك إنما يحرم بحضرة النساء، وإلا فإن البيت الذي قاله كان بعبارة صريحة ليس فيها أي كناية.
"والرفث هو الجماع، كما قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ [سورة البقرة:187]، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء.
روى ابن جرير عن نافع أن عبد الله بن عمر - ا - كان يقول: الرفثُ إتيانُ النساء، والتكلم بذلك للرجال، والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم."
يعني أن ابن عمر –ا - يرى أنه لا يختص منع الكلام في ذلك بحضرة النساء فقط، وإنما يرى منع التحدث بهذا حتى عند الرجال، وعلى كل حال الآية تحتمل هذا، ولا أعلم شيئاً يخصصه بحضرة النساء إلا ما نقل عن ابن عباس - ا -، ومعلوم أنه إذا خالف صحابي صحابياً آخر فإنه يلجأ إلى الترجيح بين أقوال الصحابة، ولا يكون قول الواحد منهم حجة على الآخر.
"وقال عطاء بن أبي رباح: الرفثُ: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار."
قوله: وما دونه من قول الفحش؛ أي من قول الفحش المتصل بهذا الباب، وأما قول الفحش الآخر فيدخل في عموم قوله: وَلاَ فُسُوقَ [سورة البقرة:197].
"وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض، وهو مُحرِم."
استعمال الكنايات عن الجماع، ونحو هذا يقال له ذلك، فكيف بالكلام الصريح؟، وقد فسر قوله تبارك، وتعالى عن نساء الجنة: عُرُبًا أَتْرَابًا [سورة الواقعة:37]، بأن معناه أنهن متحببات إلى أزواجهن، يتغنجن بالكلام عند أزوجهن، وعلى كل حال فإن الكنايات تكون أحياناً أقبح من التصريح، وفي بعض الكتب التي جمعت في هذا الباب خاصة من الكنايات يستحي الإنسان أن يدخلها في بيته.
"وقال طاوس: هو أن تقول للمرأة: إذا حللت أصبتك، وكذا قال أبو العالية."
هذا من باب التفسير بالمثال، ويقال غير هذا مما هو أشد منه.
"وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - ا -: الرفث: غَشَيان النساء، والقُبَل، والغَمْز، وأن يُعَرّض لهَا بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عباس - ا - أيضًا، وابن عمر - ا -: الرفثُ: غشيانُ النساء، وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية عن عطاء، ومكحول، وعطاء الخراساني، وعطاء بن يسار، وعطية، وإبراهيم النَّخَعي، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن أنس، ومقاتل بن حيان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهم."
على كل حال هو لا يختص به كما سبق، وقد مرَّ ما نقل عن ابن عمر من أنه: التحدث به عند الرجال، والنساء، وابن عباس يرى أنه عند النساء خاصة، بل نقل كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن المقصود بالرفث التحدث به بحضرة النساء خاصة بإجماع، ومذهب ابن جرير في نقل الإجماع معلوم أنه يقصد به قول أكثر أهل العلم.
"وقوله: وَلاَ فُسُوقَ [سورة البقرة:197] قال مِقْسَم، وغير واحد عن ابن عباس - ا -: هي المعاصي."
أي المعاصي بإطلاق، وبعض السلف يخص ذلك بنوع منه، ولكن الآية ظاهرها العموم؛ فالفسوق نكرة في سياق النفي، فهي للعموم، فيدخل فيها النظر الحرام، والغيبة، والكذب، والاستهزاء بالناس، إلى غير ذلك من الفسوق الذي يقع من كثير ممن يحرم بالحج، أو العمرة.
"وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري، ومكحول، وابن أبان، والربيع بن أنس، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان."
نعم، ظاهر الآية العموم، ومن أهل العلم من يحمله على معنى خاص يختص بالإحرام، وبعضهم يحمله على معنى يختص بالحرم، فعلى الأول: الفسوق المراد به أن يفعل شيئاً من محظورات الإحرام، كالصيد، ولبس المخيط، والطيب، وحلق الشعر، وما أشبه ذلك، كما هو قول ابن جرير - رحمه الله -، وعلى الثاني: يحمل الفسوق على ما يتصل بالحرم كقطع الشجر، وقتل الصيد، ولكن لا دليل على هذا التخصيص، والأصل حمل العام على عمومه حتى يأتي دليل يخصصه، والآية ليس فيها قرينة توجب صرف هذا العموم إلى معنى خاص.
لكن هؤلاء العلماء لم يقولوا هذا من عند أنفسهم هكذا من غير أي مستند، وإنما قال من قال: إن هذا يختص بالحرم، أو الإحرام بسبب أنه ممنوع أصلاً من الغيبة، والنظر الحرام، والفجور بأنواعه، والذنوب، والمعاصي بكل صورها، وأشكالها، فهذه كلها لا تختص بالإحرام حتى يُنهى عنه في الإحرام، بل هو مستصحب للمنع، والتحريم، فإذن هنا لا بد من شيء جديد آخر يختص بالإحرام، وهو قتل الصيد، والطيب، وما أشبه ذلك من محظورات الإحرام، أو مما يختص بالحرم.
ولا شك أن من سمع هذا التوجيه لهذا القول اتسع صدره، وتبين له أن له وجها من النظر، بينما قبل ذلك ربما ينظر الإنسان إلى القول الذي لم يعرف مأخذه فيقول: هذا مخالف للنص، ولماذا يقولون هذا؟ ولماذا هؤلاء يتحكمون بآرائهم؟ والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فهؤلاء أئمة، وأذكياء، وأهل تقوى، وورع، والواحد منهم أكبر من الجبل.
"وروى ابن، وهب عن يونس عن نافع أن عبد الله بن عمر - ا - كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم، وقال آخرون: الفسوق هاهنا السباب، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيحين: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[3]."
هذا القول هو أشبه ما يكون بالتفسير بالمثال، ونصُّ النبي ﷺ على أن سباب المسلم فسوق، لا يدل على أن الفسوق يختص بالسباب من بين سائر الذنوب، فهناك ما هو أعظم من السباب، وهو أولى بالفسوق، فالفسق أصله الخروج عن الطاعة، وكلام أهل اللغة في ذلك معروف حيث يقولون: فسقت الفأرة، ويقال لها: فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها للإفساد، وهكذا الخروج عن طاعة الله يقال له: فسوق، وقد يكون ذلك فسوقاً أكبر، أو فسوقاً أصغر، ولهذا يقول الله : إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ [سورة الحجرات:6]، فهو يشمل الكافر، والعاصي مع أن الأصوليين يذكرون هذا في أشهر أمثلتهم عند الكلام على مفهوم الموافقة الأولوي الظني، فيقولون: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ يعني إن جاءكم كافر فمن باب أولى، إلا أنهم يقولون: لا يقطع بذلك؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه فهو يتحرز من الكذب، وبالتالي يحتمل أن نكون مطالبين بأن نتثبت في خبر الكافر المتدين الذي دينه يحرم عليه الكذب، ويحتمل عدم ذلك، لكن الصحيح أن الآية تشمل الكافر، والعاصي، - والله أعلم -.
"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام، قال الله تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة الأنعام:145]، وقال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب."
هذا كله يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال.
"والذين قالوا: الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم."
يعني أن هذا جواب عن أولئك الذين خصوه بالحرم، أو الإحرام، فقالوا: إن هذه محرمة أصلاً في سائر السنة، وفي كل الأحوال، فلا يختص التحريم بها في حال الإحرام، فيقال: هذا آكد كما قال الله عن الأشهر الحرم: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [سورة التوبة:36] مع أن ظلم النفوس بمعصية الله محرم في سائر الشهور، لكنه يتأكد في الأشهر الحرم.
"كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم.، وإن كان في جميع السنة منهيًّا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد؛ ولهذا قال: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [سورة التوبة:36]، وقال في الحرم: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحـج:25].
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم، ولدته أمه[4].
وقوله: وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197] المراد بالجدال المخاصمة.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود في قوله: وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ قال: أنْ تماري صاحبك حتى تغضبه."
يعني أن الجدال يحمل على العموم فيما يكون ممنوعاً، وهو المراء، لكن المجادلة التي تكون بمعنى المحاورة التي يراد بها التوصل إلى الحق، كما قال الله : وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، فهذا لا إشكال فيه، لكن أن تجادل صاحبك الجدال العقيم الذي يهدف من ورائه كل واحد من المتجادلين إلى زحزحة صاحبه عن قوله، وإخراجه منه، وفتله من ذلك، ويريد أن ينتصر لقوله، ولنفسه، ويصحح مذهبه، فهذا هو الممنوع، وهو الذي عليه عامة أهل العلم في تفسير الجدال هنا، خلافاً لما ذكره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث حمله على معنى آخر فقال: ليس هذا للنهي عن الجدل بمعناه العام، وإنما هو نهي عن الجدل في الحج خاصة من حيث أصل مشروعيته، وأنه من دين إبراهيم ﷺ، وأنه موقَّت بوقت هو وقته، وهذا المعنى مردُّه إلى أن أهل الجاهلية كانوا يغيرون في الأوقات، كما بين ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37]، فربما جاء وقت الحج في شهرٍ محرمٍ بسبب أنهم كانوا يغيرون الشهور فيؤخرون ذا الحجة إلى محرم، وهذا أحد الأوجه التي فُسِّر بها قول النبي ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض[5]، فبعضهم قال: المراد به أن ذا الحجة في السنة التي حج فيها النبي ﷺ وقع كما هو بعد أن كانوا يغيرون، ويؤخرون شهراً شهراً، وفي تلك السنة التي حج فيها النبي –عليه الصلاة، والسلام - وقع في وقته، هذا أحد الأقوال في توجيه هذا الحديث، وبيان معناه.
وعلى كل حال فإن قول ابن جرير: ليس المقصود بالنهي عن الجدال أن تجادل صاحبك، وإنما المراد لا تجادل في مواقيت الحج أنها صحيحة، ولا تجادل في أصل مشروعيته.
"وكذا روى مِقْسَم، والضحاك عن ابن عباس - ا -، وكذا قال أبو العالية، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، ومكحول، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعمرو بن دينار، والضحاك، والربيع بن أنس، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن يسار، والحسن، وقتادة، والزهري.
وقوله: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [سورة البقرة:197] لما نهاهم عن إتيان القبيح قولاً، وفعْلاً حَثَّهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة.
وقوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] روى البخاري، وأبو داود عن ابن عباس - ا - قال: كان أهل اليمن يَحُجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197].
وروى ابن جرير، وابن مَرْدُويه عن ابن عمر - ا - قال: كانوا إذا أحرموا، ومعهم أزوادهم رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] فَنُهوا عن ذلك، وأمِرُوا أن يتزودوا الدقيق، والسويق، والكعك."
فهذه الآية جاءت في سياق الآيات التي تتحدث عن الحج، وسبب النزول المذكور هاهنا يتصل بهذا الموضوع اتصالاً ظاهراً، حيث إنهم كانوا يفعلون ذلك في حجِّهم، ويقولون: نحن أضياف الله، ومن ثمََّ يعتقدون بأنه لا يليق أن يحملوا معهم الأزواد، وذلك من أول سفرهم، أو من حين إحرامهم، وليس المراد بذلك ما عرف عن العرب من غير الحمس أنهم إذا دخلوا أرض الحرم، وليس الإحرام، فالإحرام قد يحرم الواحد من مكان بعيد، وقد يكون الميقات بعيداً، كميقات أهل المدينة، ولكن كان من طقوسهم التي كانوا عليها في الحج أن غير الأحمسي - والحمس هم قريش، وما ولدت - كانوا يلقون الأزواد إذا دخلوا أرض الحرم؛ ذلك أن الحمس كانوا إذا دخلت أشهر الحج لا يسلؤون، ولا يأقطون بمعنى أنهم ما كانوا يأخذون من الألبان الجبن، ولا الزبدة، ولا يأخذون الأقط، ولا غير ذلك، وإنما كانوا يطعمون ذلك الحجيج، فقد كانوا يطعمونهم الألبان، ويسقونهم النبيذ، ونحو ذلك، وكانوا يتنافسون في هذا مجاناً، وكانوا يرون أنه لا يليق أن يدخل الحاج من غير الحمس أرض الحرم، ومعه طعام، ولذلك كانوا يتكفلون له بذلك كله، حيث كانوا يرون أن ذلك من صميم، وظيفتهم في القيام على البيت مع قلة ذات اليد.
والآية هاهنا يختلف الكلام فيها عن هذا الأمر بالنسبة للحمس، وذلك أن بعض العرب كبعض أهل اليمن كانوا إذا أحرموا تركوا أزوادهم باعتبار أنهم أضياف الله، وبالتالي فإن الله سيررزقهم، ويهيئ لهم، فيكون الواحد منهم عالة على أزواد الناس، وهذا هو الذي أشارت إليه الآية، وعليه فيكون قوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ أمر لهم بحمل الأزواد معهم في سفرهم إلى الحج.
وابن جرير - رحمه الله - يحمل هذه الآية على ما يتصل بالحج خاصة من حمل الأزواد، بحيث إنه يذكر في معناها: وتزودوا ما فيه بلاغكم إلى حجكم، أي ما فيه البلغة إلى حجكم، أو إلى أداء فرض ربكم، فإنه لا بر لكم في ترك التزود في أسفاركم للحج بحيث تسألون الناس، وتركنون إلى أزوادهم، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم.
وقوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى أي لا خير لكم بإلقاء الأزواد، أو بترك التزود، وإنما خير الزاد هو التقوى، وذلك بأن تتقوا ربكم في سفركم إلى الحج بترك ما نهاكم عنه من محظورات الإحرام، ومن غيرها.
ومن أهل العلم من حمل الآية على معنى أوسع من هذا، أي: تزودوا في الحج، وفي غير الحج فإن خير الزاد التقوى، أي فإن خير الزاد ما اتقى به المرء أسباب الهلكة في سفره فيضطر إلى السؤال، وعلى هذا الاعتبار فالمقصود بخير الزاد التقوى هنا أي إن خير الزاد ما تتقي به الهلاك، وتتقي به سؤال الناس، والحاجة إليهم، فإن الحاجة إلى الناس مذلة، لكن ليس هذا هو المعنى المتبادر من الآية.
ومن أهل العلم من يحمل قوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] على معنى تزودوا لآخرتكم من دنياكم، ثم وجههم إلى أفضل الزاد الموصل إلى رضوان الله ، وهو التقوى، فهؤلاء جعلوا القضية تتعلق بالعبودية لله - تبارك، وتعالى -، وهذا له نظائر في القرآن -، وهؤلاء يبدو أنه غلب عليهم نعم هذه الحال فحملوا نظائر ذلك على هذه المعاني فيما يتصل بالعبادة في مثل قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، فالمعروف أن المعنى أنه طلب منهم أن يبتغوا من فضل الله بالتجارة بالبيع، والشراء بعد أن نهاهم عنه إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، إلا أن بعضهم قال: ليس هذا هو المراد من قوله: وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ، وإنما المراد منهم أن يبتغوا من فضل الله مما يقربهم إليه، بعيادة المريض، وصلة الأرحام، واتباع الجنائز، وما أشبه ذلك مما يكون به التعبد لله ، والتقرب إليه.
وكذلك الأمر في مثل قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]، فالمقصود بالآية: خذ من دنياك ما يحصل به الكفاف، والبلاغ فإن الإنسان مضطر إلى ذلك، وهذا هو المعنى المشهور، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن المعنى، ولا تنس نصيبك من الدنيا فيما يبلغك إلى الله ، والدار الآخرة من الأعمال الصالحة، فهم في مثل هذه النظائر يحملونها على العمل الصالح.
وعلى كل حال فظاهر الآية - والله تعالى أعلم -، وسبب النزول يدل على أنه في قوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] جمع لهم بين التوجيه إلى التزود في سفرهم، وفي حجهم مما يحتاجون إليه من الطعام، ونحو ذلك، ثم أرشدهم إلى معنى أشار إليه بهذه المناسبة فإن الشيء بالشيء يذكر، فقال لهم: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وهذا كما في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة المدثر: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4]، فإن الله يذكر هذا، وهذا، أي يذكر ما يتصل بأمور تحصل بها مصلحتهم في الدنيا من اللباس، أو التقوت، أو نحو ذلك، ويذكر أمراً يتعلق بآخرتهم مما يتصل بهذا المعنى.
ومن نظائر ذلك أيضاً قوله - تبارك، وتعالى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23] حيث جمع بين أمر محسوس، وأمر معنوي، فمعنى ناضرة أي من البهاء، والنضارة، ومعنى إلى ربها ناظرة أي النظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة، ومن نظائر ذلك أيضاً قوله تعالى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [سورة الإنسان:11]، فالنضرة تكون في الوجه بالحسن، والبهاء، والإشراق، والسرور يكون بالنفس، ففي الآية الأولى جمع لهم بين نضارة الوجه، وبين أعظم لذة، وهي النظر إلى وجه الله - تبارك، وتعالى -، وهنا لقاهم نضارة الوجه، وبهجة النفس.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26]، فهو ذكر اللباس الذي يلبسه الإنسان، أو يتقي به الحر، والبرد، وذكر لباس التقوى الذي لا يستغني عنه العباد.
ومن نظائر ذلك قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [سورة الصافات:6] فهي زينة ظاهرة، ثم قال: وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [سورة الصافات:7].
ومن ذلك قوله - تبارك، وتعالى - لآدم ﷺ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [سورة طـه:118]، فجمع له بين نفي الجوع عنه، وهو شعور داخلي، ونفى عنه العري، وهو أمر يتصل بالظاهر، وهذا كثير في القرآن، فالمقصود أن قوله: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197] معناه تزودوا من الأقوات ما فيه بلاغكم إلى حجكم، ثم نبههم بهذه المناسبة إلى أن خير ما يُتزود به في هذه الدار هو تقوى الله ؛ لأن الآخرة دار لا تصلح للمفاليس، - والله أعلم - .
"وقوله: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة، والتقوى، وذكر أنه خير من هذا، وأنفع.
وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:197]: يقول: واتقوا عقابي، ونكالي، وعذابي لمن خالفني، ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول، والأفهام.
- انظر سنن الترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟ (932) (ج 3 / ص 271)، وانظر تصحيح الألباني له في صحيح الترمذي برقم (932).
- أخرجه الشافعي في مسنده (ج 1 / ص 121)، والبيهقي في معرفة السنن، والآثار (ج 7 / ص 392).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب ما ينهى من السباب، واللعن (5697) (ج 5 / ص 2247)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان قول النبي ﷺ: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (64) (ج 1 / ص 81).
- أخرجه البخاري في أبواب الإحصار، وجزاء الصيد - باب قول الله تعالى: فَلاَ رَفَثَ [سورة البقرة:197] (1723) (ج 2 / ص 645)، ومسلم في كتاب الحج - باب في فضل الحج، والعمرة، ويوم عرفة (1350) (ج 2 / ص 983).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة براءة [التوبة:] (4385) (ج 4 / ص 1712)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات – باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).