الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا۟ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ۖ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ [سورة البقرة:198]: روى البخاري عن ابن عباس - ا - قال: كانت عكاظ، ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198] في مواسم الحج.
وروى أبو داود، وغيره عن ابن عباس - ا - قال: كانوا يتقون البيوع، والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، وهكذا فسرها مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وروى ابن جرير عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر - ا - سُئِل عن الرجل يحجُّ، ومعه تجارة، فقرأ ابن عمر: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198].
وهذا موقوف، وهو قوي جيد، وقد روي مرفوعًا.
روى أحمد عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نُكرَى فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرَّفَ، وترمون الجمار، وتحلقون رءوسكم؟ قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، فدعاه النبي ﷺ، فقال: أنتم حجاج[1]."

قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ المشهور في معناها هو ما ذكره ابن كثير هنا، وهو الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفا، أي أنه التجارة في الحج، وإن كان هناك من حمل ابتغاء الفضل هنا على معنى آخر يتصل بالعبادة، ولكن المعروف، والمشهور في معنى الآية هو التجارة في مواسم الحج.
وقد جاء في بعض القراءات غير المتواترة ما يبين أن المراد بذلك التجارة في موسم الحج.
قال: عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نُكرَى، فهل لنا من حج؟ أي أن الواحد منهم كان يخرج أجيراً مع الحجيج، وربما أسقط شيئاً من أجرته من أجل أن يمكنوه من الحج، فهو يخرج ليرتزق مع هؤلاء الناس حتى يحصل على بعض المال، لكن لا يكون مشتغلاً بالخدمة في سائر الوقت، فسأل أبو أمامة ابن عمر: هل لنا من حج؟ أي أنه يتساءل عن التشريك في النية هل تبطل حجه أم لا؟ فابن عمر  أجابه بهذه الآية، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198].
ومن قرأ حديث الأعمال بالنيات، ومسألة مراتب العمل المتعلقة بهذا الحديث يجد أن هذه الصورة هي المرتبة الثانية، فالمرتبة الأولى: أن يقصد وجه الله بالعمل، ولا يلتفت إلى شيء آخر فهو يحج للحج فقط. 
والمرتبة الثانية: أن يلتفت إلى أمر يحصل على سبيل التبع مما يجوز الالتفات إليه، فهو يحج، ويريد أيضاً التجارة، فهذا لا إشكال فيه، لكنه دون الأول، وكمن يجاهد، وهو أيضاً يريد الغنيمة، لكن مع إرادة وجه الله فهذا جهاده صحيح، ويؤجر عليه، لكنه أيضاً ليس كمن تمحضت نيته بإرادة وجه الله - تبارك، وتعالى -، ومثل ذلك من يصوم ليصح بدنه مع نية التقرب إلى الله تعالى، فهو أيضاً ليس كمن تمحضت نيته بإرادة وجه الله تعالى، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، ولا تحبط العمل خلافاً للرياء، والسمعة فإن ذلك يفسد العمل، ولا يجوز الالتفات إليه بحال من الأحوال.
"وروى ابن جرير عن أبي صالح مولى عمر قال: قلت: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟.
وقوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:198] إنما صرف عرفات، وإن كان علماً على مؤنث؛ لأنه في الأصل جَمْعٌ كمسلمات، ومؤمنات، سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل، فصرف. اختاره ابن جرير.
وعرفة: موضع الوقوف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ، وأهل السنن بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يَعمر الديَلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه[2].
ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلوع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لأنّ النبيّ ﷺ وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال: لتأخُذوا عني مناسككم[3]، وقال في هذا الحديث: فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك[4]."

قوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:198] يعني إذا أفضتم من عرفات إلى مزدلفة، فالمقصود بالمشعر الحرام بهذا الاعتبار هو مزدلفة، وسيأتي الكلام على هذا عند تفسير الآية التالية، وهي قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199]، مع بيان وجه الآية، وهل فيها تقديم، وتأخير، أو أنها على هذا الترتيب.
"وعن عروة بن مُضَرِّس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جَبَليْ طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فقال رسول الله ﷺ: من شَهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً، أو نهاراً فقد تم حجُّه، وقضى تفثَه[5] رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي."
مسألة: هل يجوز لغير الضَّعَفَة أن يدفعوا إلى منى إذا غاب القمر، أو بعد منتصف الليل؟ وهل يقال: إنه يستحب أن يبقوا بها حتى يسفر جداً بعد أن يصلوا صلاة الفجر؟ هذه مسألة فيها كلام معروف لأهل العلم، ومما يحتج به من يقول: إنه لا يجوز ذلك لغير الضعفة أن النبي ﷺ قال: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ليلاً، أو نهاراً فقد أتم حجَّه، وقضى تفثه[6].
فقوله: من شهد صلاتنا هذه يعني صلاة الفجر يوم النحر في المزدلفة.
وقوله: ووقف معنا حتى ندفع أي عند المشعر الحرام حتى يسفر جداً، وقد وقف - عليه الصلاة، والسلام - حتى أسفر جداً.
فهذا من أقوى ما يستدل به من قال: إنه يجب على الحاج أن يبقى في المزدلفة إلى الفجر، ويسن له أن يبقى حتى الإسفار، ولا يرخص بالدفع قبل ذلك إلا للضعفة، وعلى كل حال فهذه مسألة خلافية مشهورة، لذلك ينبغي لمن كان من غير الضعفة أن يحتاط لنفسه.
"ثم قيل: إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق، أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب : بعث الله جبريل  إلى إبراهيم ﷺ فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عَرَفة."
يعني أنه كان يطوف به في المناسك فجاء به إلى عرفة فقال له: عرفت؟ قال: نعم، ثم ذهب به إلى المزدلفة، ثم ذهب به عند الجمار، وهكذا كان يطوف به في المناسك، ويعرفه ﷺ المناسك في الحج، فكان يسأله في كل مرة، ويقول له: هل عرفت؟ ولهذا سميت عرفة، وبعضهم يقول غير هذا، - والله تعالى أعلم -.
"وقال ابن المبارك: عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: إنما سميت عرفة؛ لأنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك، فيقول: عَرَفْت عَرَفْت، فسميت عرفات."
قد يقول قائل: إن جبريل كان يريه المناسك، ولم يختص ذلك بعرفة فقط، فلماذا خص هذا الاسم بعرفة، ولم يطلق على مزدلفة، أو منى مثلاً؟
فالجواب هو كما يقول أهل اللغة: إن الأسماء لا تعلل، فمن الأسماء ما هو مرتجل، ومنها ما هو منقول، - فالله تعالى أعلم -.
وبعضهم يقول: قيل لها ذلك؛ لأن آدم، وحواء تعارفا فيها، وهذه روايات إسرائيلية، وبعضهم يقول: سميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيها حيث يجتمعون فيها، فهي عيد مكاني زماني يتكرر كل سنة في نفس الوقت، وفي مكان واحد، ولذا قال النبي ﷺ: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام[7].
"وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي مجلز ، - فالله أعلم -.
وتسمى عرفات المشعر الحرام، والمشعر الأقصى، وإلال، على وزن هلال، ويقال للجبل في وسطها: جبل الرحمة."

يقال لعرفات: المشعر الحرام، لكن ليست هي المراد بقوله: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:198]، فالمشعر الحرام هنا يطلق على المزدلفة، ويطلق أيضاً على معنى أخص، وهو جزء من مزدلفة، وهو المكان الذي يقال له: جبل قزح، كما يقال لعرفة: المشعر الأقصى تفريقاً بينها، وبين مزدلفة، ويقال لعرفة - كما في بعض النسخ -: المشعر الحلال بدلاً من المشعر الحرام، وهذه التسمية هي الأنسب؛ لأن عرفة أصلاً ليست من الحرم، وإنما المزدلفة هي التي من الحرم، فتكون عرفة هي المشعر الحلال، والمشعر الأقصى، ومزدلفة هي المشعر الحرام.
"وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: "كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا، فأخر رسول الله ﷺ الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس"[8]، ورواه ابن مردويه، وزاد: "ثم وقف بالمزدلفة، وصلى الفجر بغَلَس، حتى إذا أسفر كل شيء، وكان في الوقت الآخر دفع"، وهذا حسن الإسناد.
وفي حديث جابر بن عبد الله - ا - الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه: "فلم يزل واقفاً - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القُرْصُ، وأردف أسامة خلفه، ودفعَ رسول الله ﷺ، وقد شنق للقصواء الزّمام، حتى إنّ رأسها ليصيب مَورِك رحله."

إذا شنق للناقة الزمام فمعناه أنها لا تستطيع الانطلاق في السير، وإنما يضعف سيرها.
"حتى إنّ رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة كلما أتى حَبْلاً من الحبال أرْخَى لها قليلاً حتى تصعد."
قوله: كلما أتى حبْلاً من الحبال؛ أي: حبال الرمل المستطيل الممتد، والرحل تحتاج إلى مزيد من الجهد من أجل المشي عليه، وتجاوزه، فلرفقه ﷺ يرخي لها حتى تستطيع أن تسير بسهولة، ويسر.
"أرْخَى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المُزْدَلِفة، فصلى بها المغرب، والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له الصبح بأذان، وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعا الله، وكبره، وهلله، ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلُع الشمس [9].
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد - ا - أنه سُئِل كيف كان يسير رسول الله ﷺ حين دَفَعَ؟ قال: "كان يسير العَنَق فإذا، وجد فجوة نَصَّ"[10]، والعنق: هو انبساط السير، والنص فوقه."

يعني أنه لا يسرع في مشيه ﷺ، وإنما يمشي مشياً معتدلاً، فإذا وجد فرجة أسرع قليلاً.
وركوبه ﷺ القصواء في مزدلفة عند الدعاء بعد الفجر، وكذلك في عرفة يؤخذ منه أن الأفضل أن يدعو الإنسان في عرفة، وكذا في مزدلفة بعد الفجر، وهو راكب السيارة، ونحوها إذا تيسر له ذلك.
"وروى عبد الرزاق عن سالم قال: قال ابن عمر - ا -: المشعر الحرام المزدلفة كلها."
ربما يكون ذلك كما يقول بعض أهل العلم: إنه مأخوذ من الشعار، والشعار هو العلامة، فتقول: هذا شعار لكذا بمعنى علامة.
وهناك جملة من أعمال الحج يشرع إقامتها في مزدلفة، من صلاة، ودعاء، وذكر، ومبيت، فكل هذه يفعلها الحاج في المزدلفة، حيث صلى فيها النبي ﷺ المغرب، والعشاء، وصلى فيها الفجر بعد أن بات فيها، وذكر الله حتى أسفر جداً، فهذه الأعمال هي من جملة شعائر الحج، التي تقام في مزدلفة.
"وقال هُشَيم عن حجاج عن نافع عن ابن عمر - ا - أنه سئل عن قوله: فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:198] قال: فقال: هو الجبل، وما حوله."
 يقصد بالجبل جبل قزح الذي أشرت إليه آنفاً.
"وروي عن ابن عباس - ا -، وسعيد بن جُبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع ابن أنس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين."
يعني حد مزدلفة من جهة عرفة ما بين المأزمين، وهما الجبلان اللذان بينهما مضيق يدخل منه الحجاج، وهو من أوضح ما يكون للداخل إلى مزدلفة، وهما ليسا من مزدلفة، وإنما هما خارجان عنها، فمما بعدهما تبدأ مزدلفة، وهذا المكان هو من أوضح، وأوسط الطرق - أي ما بين هذين الجبلين -، وهذان الجبلان يمتدان إلى نهاية مزدلفة من جهة وادي محسر، ومزدلفة ما بينهما.
"وقد روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي ﷺ: قال: كل عرفات موقف، وارفعوا عن عُرَنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن مُحَسِّر، وكل فجاج مكة مَنْحر، وكل أيام التشريق ذبح[11].
وقوله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:198] تنبيه لهم على ما أنْعَم الله به عليهم، من الهداية، والبيان، والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل ، ولهذا قال: وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ [سورة البقرة:198] قيل: من قبل هذا الهدي، وقبل القرآن، وقبل الرسول ﷺ، والكل متقارب، ومتلازم، وصحيح."

نعم الكل متقارب، ومتلازم، وصحيح؛ لأن النبي ﷺ هو الذي جاء بالقرآن، وهذه الأمور التي عرفوها من أعمال الحج، من وقوفهم بعرفة، ثم الدفع إلى مزدلفة إلى غير ذلك بعد أن كان الناس يقفون من الحمس في مزدلفة، أو في حدود الحرم، ولا يخرجون إلى عرفة، كل ذلك إنما جاء بهداية الله لهم حينما بعث نبيه ﷺ فعرفهم مناسكهم، فهذه المعاني معانٍ لا إشكال، ولا خلاف بينها. 
القراءات في قوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وأوجه إعرابها:
ذكر أبو حيان في قوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ أربع قراءات، وقال:
الأولى: قرأ أبو جعفر بالرفع، والتنوين في الثلاثة: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج).
الثانية: وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب، والتنوين في الثلاثة: (فلا رفثاً ولا فسوقاً ولا جدالاً في الحج).
الثالثة: قرأ الكوفيون، ونافع بفتح الثلاثة - وهي قراءتنا -: (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج)، من غير تنوين.
الرابعة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو برفع الأولين، وفتح الثالث، أي: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالَ في الحج).
أوجه الإعراب للقراءات الأربع:
وجه رفع الجميع مع التنوين (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج) في ملخص من تفسير أبي حيان يقول: على وجهين: إما أن تكون "لا" غير عاملة، ورفعه ما بعدها على الابتداء، والخبر في الحج، أو أن تكون "لا" عاملة عمل ليس فيكون في الحج في موضع نصب خبراً لها.
يقول أبو حيان: جزم به ابن عطية، وهو ضعيف، ثم ذكر أسباباً كثيرة لضعفه في أن "لا" لا تعمل عمل ليس إلا في القليل.
وجه نصب الثلاثة: (فلا رفثاً ولا فسوقاً ولا جدالاً في الحج)، يقول أبو حيان: هي منصوبة على المصادر، والعامل فيها أفعال من لفظها، والتقدير، فلا يرفث رفثاً، ولا يفسق فسوقاً، ولا يجادل جدالاً، ويكون في الحج متعلقاً بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال، والتنازع.
القراءة الثالثة، وهي فتح الثلاثة فلا رفثَ، ولا فسوقَ، ولا جدالَ في الحج، على أن "لا" نافية للجنس تعمل عمل إن.
أما القراءة الرابعة، وهي رفع الأوليْن بالتنوين، وفتح (ولا جدالَ)  بغير تنوين، ففيها أوجه:
الأول: أن يكون الرفع في الأوليْن على أن "لا" مهملة، والرفع بالابتداء، والخبر محذوف.
والوجه الثاني: أن تكون "لا" في الرفث، والفسوق عاملة عمل ليس، وفتحت، ولا جدال على أن لا نافية للجنس.
الوجه الثالث: رفع الأوليْن على تقدير فلا يكونن رفثٌ، ولا فسوقٌ، وفتح الثالث على تقدير أنّ لا نافية للجنس، فالأوليْن فيهما النهي، والثالث فيه الإخبار.
يقول أبو عبيد في هذا الوجه الأخير: وإنما افترقت الحروف عندهم عند من قرأ هذه القراءة؛ لأنهم جعلوا قوله: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ)، بمعنى النهي، أي لا يكون فيه ذاك، وتأولوا قوله: (ولا جدال) أي: لا شك في الحج، ولا اختلاف أنه في ذي الحجة، وهي القراءة التي اختارها ابن جرير - رحمة الله تعالى عليه - .
يقول: فإذا كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالَفة بين إعراب الجدال، وإعراب الرفث، والفسوق ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات - أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما.
وإن كان صواباً قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضاً بإعراب مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.
  1. أخرجه أحمد في المسند (ج 2 / ص 155) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب ومن سورة البقرة (2975) (ج 5 / ص 214) والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الحج - باب فرض الوقوف بعرفة (4012) (ج 2 / ص 424) والدارمي في كتاب المناسك - باب بمَ يتم الحج (1887) (ج 2 / ص 82) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2975).
  3. أخرجه مسلم دون قوله: عني في كتاب الحج - باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله ﷺ: لتأخذوا مناسككم (1297) (ج 2 / ص 943).
  4. سبق تخريجه برقم (2).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (891) (ج 3 / ص 238) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6321).
  6.  سبق تخريجه.
  7. أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب صيام أيام التشريق (2421) (ج 2 / ص 295) والترمذي في كتاب الصوم -  باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق  (773) 0ج 3 / ص 143) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب  النهي عن صوم يوم عرفة (3004) (ج 5 / ص 252) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2419). 
  8. تفسير ابن أبي حاتم (ج 2 / ص 37) وصحيح ابن خزيمة (ج 4 / ص 262) وقال الألباني: إسناده حسن لغيره.
  9. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب حجة النبي ﷺ (1218) (ج 2 / ص 886).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب السير إذا دفع من عرفة (1583) (ج 2 / ص 600) ومسلم في كتاب الحج - باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعاً بالمزدلفة في هذه الليلة  (1286) (ج 2 / ص 936). 
  11. أخرجه أحمد (ج 4/ ص 82) وابن حبان (ج 9 / ص 166)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، سليمان بن موسى - وهو الأموي المعروف بالأشدق - لم يدرك جبير بن مطعم، وقد اضطرب فيه ألواناً.

مرات الإستماع: 0

"فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ التجارة في أيام الحج أباحها الله تعالى، وقرأ ابن عباس: فضلًا من ربكم في مواسم الحج. "

قوله: فضلًا من ربكم في مواسم الحج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ جاء عن ابن عباس - ا - أنه قال: "كانت عكاظ، ومجنة - يعني الأسواق التي كانت للعرب، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية - فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ"[1].

فهذا هو سبب النزول أنهم تحرجوا، ظنوا أن هذا الاشتغال خلاف مقصود العبادة، والنسك، والحج، فأنزل الله هذه الآية، إذن هي في التجارة في الحج، وهذه القراءة قراءة ابن عباس - ا -: (فضلًا من ربكم في مواسم الحج) يعني بالتجارة، وقد نفى ابن جرير - رحمه الله - الخلاف في هذا المعنى أن المقصود التجارة، أو ربح التجارة[2].

والتشريك في النية لا إشكال فيه: أن يقصد العبادة، ويكون مع ذلك له مقصود على سبيل التبع يجوز، ويباح قصده مثل التجارة في الحج، والغنيمة في الجهاد، ونحو ذلك، هذا يجوز على سبيل التبع.

"أَفَضْتُمْ اندفعتم جملة واحدة."

أصل الإفاضة جريان الشيء بسهولة، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد - أنه سُئل كيف كان يسير رسول الله ﷺ حين دفع؟ قال: "كان يسير العَنَق - يعني كان إذا دفع من عرفة يسير العنق - فإذا وجد فجوة نص"[3]. فالعنق هو انبساط في السير يعني من غير إسراع، والنص فوقه يعني أسرع منه، يعني كان يسير سيرًا معتدلًا فإذا وجد فجوة أسرع قليلًا، أما هذا التهافت، والإسراع الشديد، وحطم الناس بهذه الطريقة، وتعريض النفس، والآخرين للخطر فهذا غير مشروع.

"قوله تعالى: مِنْ عَرَفاتٍ اسم علم للموقف، والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف، والتأنيث."

عرفات هذا اسم مكان، يقول: التنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف، والتأنيث. يعني أنه ممنوع من الصرف لعلتين: التعريف، والتأنيث، عالمية علم، وكذلك أيضًا مؤنث عرفات، والممنوع من الصرف لا يُنوّن فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فهنا نوّن فهنا يقول: بأن هذا التنوين في مقابلة النون في جمع المذكر. يعني ليس بتنوين صرف، هكذا قال - رحمه الله - وهذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يقول: بأن هذا التنوين تنوين صرف. أنه صُرف هذا اللفظ، وإن كان علمًا على بقعة معينة، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في علة صرفه مع أنه علم على مؤنث قال: "باعتبار أنه في الأصل جمع كمسلمات، ومؤمنات سُمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف"[4]. يعني صُرِف مراعاة للأصل، عرفات أنه جمع كمسلمات، ومسلمات مصروف، لكن سمي به فهذا علة الصرف - والله أعلم -.

"قوله: الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي المزدلفة، والوقوف بها سنة."

المشعر الحرام قيل له ذلك من الشِعَار، وهو العلامة، والدعاء عنده من شعائر الحج، وقيل: له الحرام لحرمته، هكذا قال أبو جعفر بن جرير[5] - رحمه الله -.

والمقصود بالمشعر الحرام هنا مزدلفة جميعًا لا يختص بمكان معين كما جاء عن بعض السلف كابن عمر - ا - وجاء في رواية عنه: "أنه الجبل، وما حوله"[6] فالمشعر الحرام يطلق بإطلاقين: بإطلاق خاص، وهو ما حول الجبل يعني الذي فيه المسجد الآن، ويطلق بإطلاق عام على المزدلفة، ولا شك أن المزدلفة يقال لها: المشعر الحرام، وأن الوقوف في أي موضع منها يجزئ، ولا إشكال، وهذا مروي عن ابن عباس - ا - وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة[7].

يقول: والوقوف بها سنة. هنا سنة بمعنى أنه مشروع، وأنه عمله النبي ﷺ أو المقصود السنة عند الفقهاء يعني التي لا يؤاخذ تاركها، يؤجر من فعلها، ولا يؤاخذ من تركها، عند المالكية، والمؤلف مالكي، يقولون كما قال صاحب المراقي:

وسنة ما أحمد قد واظبا

عليه والظهور فيه وجبا[8]

المالكية يفرقون بين المستحب، والسنة، والنافلة، والرغيبة فيجعلون كل إطلاق من هذه الإطلاقات يصدق على نوع من العبادة، فالسنة عندهم بهذا الاعتبار مقيدة بهذين القيدين: مواظبة النبي ﷺ عليه، والظهور فيه يعني أظهره أمام الناس، النبي ﷺ لم يحج إلا مرة واحدة يعني بعد فرض الحج، والمواظبة هنا ليست متحققة، لكن الوقوف بالمزدلفة واجب، ولكنه يسقط مع العجز.

"قوله: كَما هَداكُمْ الكاف للتعليل."

يدخل فيه الهدايتان: كَمَا هَدَاكُمْ هداية الإرشاد، علمكم شرائع الإسلام، ومناسك الحج، ومواقفه، وكذلك هداكم بمعنى وقفكم للزوم الحق، واتباعه، والعمل به، ومن ذلك النسك الحج، فهذا توفيق من الله لمن حصل له ذلك وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ فتكون الكاف للتعليل يعني لكونه هداكم، فاذكروه بألسنتكم، وقلوبكم، وجوارحكم، وبعض أهل العلم حمله على أن الكاف للتشبيه كَمَا هَدَاكُمْ يعني ذكرًا على الوجه المشروع الذي أرشدكم إليه من غير زيادة، ولا نقصان وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني على الوجه، والصفة التي هداكم إليها بمعنى أن لا يبتدع، ويأتي بعبادات لم يشرعها الله - تبارك، وتعالى - أن يكون العمل على الوجه المشروع كَمَا هَدَاكُمْ فتكون الكاف للتشبيه تأتي بالعبادة على الوجه الذي شرعه الله فلا تكون كالتعليل، وإنما للتشبيه، والمشهور أنها للتعليل، لكن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ لكونه هداكم فتكون للتعليل، وكذلك على الوجه الذي شرعه لكم.

"قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ (إن) مخففة من الثقيلة؛ ولذلك جاء اللام في خبرها.

لَمِنَ الضَّالِّينَ دخلت اللام في خبرها بهذا الاعتبار.

قوله: مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل الهدى."

وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قبل الهدى يعني من قبل هذا الهدى، أو قبل القرآن، أو قبل الرسول ﷺ كل هذه العبارات ترجع إلى شيء واحد، فالهدى في القرآن قد جاء على يد الرسول ﷺ حيث أرسله الله به، فهذا كله متقارب، ومتلازم، وصحيح، ولا إشكال في هذا، كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قبل الهدى، قبل القرآن، قبل النبي ﷺ.

  1.  - انظر: تفسير الطبري (3/ 510) وتفسير ابن كثير (1/ 549) وتفسير البغوي (1/ 228) وتفسير القرطبي (2/ 413).
  2.  - تفسير الطبري (3/ 509).
  3.  - أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب السير إذا دفع من عرفة، برقم (1666) ومسلم، كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، واستحباب صلاتي المغرب، والعشاء جميعا بالمزدلفة في هذه الليلة، برقم (1286).
  4.  - تفسير ابن كثير (1/ 551).
  5.  - تفسير الطبري (3/ 515).
  6.  - المصدر السابق.
  7.  - انظر: تفسير ابن كثير (1/ 554).
  8.  - نشر البنود على مراقي السعود (1/ 39).

مرات الإستماع: 0

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة:198].

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أي: ليس عليكم حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وذلك بالتجارة في الحج، فَإِذَا أَفَضْتُمْ أي: دفعتم من عرفات بعد غروب شمس اليوم التاسع إلى مزدلفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ بأنواع الذكر من التسبيح والتلبية والدعاء والتكبير والتهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهو المزدلفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ على الوجه الصحيح المشروع الذي هداكم إليه، واذكروه أيضًا لكونه قد هداكم هداية الإرشاد، فبيّن لكم الذكر المشروع، والعبادة المشروعة، ومناسك الحج على ملة إبراهيم بعد أن غير المشركون فيها وبدلوا، وهداكم أيضًا إلى الدين الصحيح، ووفقكم لاتباعه، فهذا كله فضل من الله -تبارك وتعالى- يتطلب ذكرًا وشكرًا، يذكرهم بهذا وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي: قبل هذا الهدى من الله -تبارك وتعالى- لَمِنَ الضَّالِّينَ في ضلال، لا تعرفون الحق، ولا تميزونه.

هكذا -أيها الأحبة- لما نهى الله -تبارك وتعالى- عن الجدال في الآية التي قبلها وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197] كان ذلك مظنة للنهي عن التجارة؛ لأن التجارة يصير فيها من حضور النفوس، ومن حظوظها ما يتطلب المماكسة والمجادلة والمطالبة، ونحو ذلك، فهي تفضي في الغالب إلى النزاع في القيمة، أو السلعة، أو نحو ذلك، فبيّن أن هذه التجارة ليست بمنهي عنها في موسم الحج، ولكن الجدال هو الذي ينهى عنه.

وأيضًا لما أمرهم في الآية التي قبلها بتقواه قد يظن ظان أن ذلك يمنع من طلب الرزق في الحج والتجارة في موسمه، فجاءت هذه الآية مبينة أن الأمر بالتقوى الذي قد سبق ليس بمنافٍ للتكسب والتطلب لفضل الله -تبارك وتعالى- في موسم الحج، فهذا لا إشكال فيه، ما لم يشغل عن المقصود والمطلوب بالأساس، الذي هو عبادة الله -تبارك وتعالى، وأداء النسك.

فيكون مقصود العبد: طلب الرزق متوكلاً على الله، راجيًا فضله، دون أن يركن إلى نفسه، أو يثق بحذقه ومعرفته بألوان المكاسب، وما إلى ذلك، وإنما يطلب فضل الله.

فبيّن الله -تبارك وتعالى- في آيات الحج أحكام الحج، ثم أمر بعد ذلك بالذكر فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثم بيّن أنّ الاشتغال بذكره هو المتعيّن، وهو المطلوب، دون أن يُشتغل بذكر غيره، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ فهو الذي هدى، وهو الذي يستحق الذكر.

وفي قوله بعد ذلك: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [سورة البقرة:200] فقد كانوا إذا رجعوا من عرفات، ووصلوا إلى المشعر منى، يتذاكرون الأحساب والأنساب والآباء والأجداد، ونحو ذلك، ويتفاخرون فيهم، ويذكرون مآثرهم، فأمرهم -تبارك وتعالى- أن يشتغلوا بذكره، فهو المتفضل المنعم الهادي، وهو صاحب الآلاء المتعددة، التي لا يحصيها العاد، ولا يمكن أن يستحضرها أحد من الخلق بوجوهها المتنوعة، الظاهرة والباطنة، فلو بقي العباد يذكرونه بالليل والنهار، فإنهم لا يوفون بحقه -جل جلاله وتقدست أسماؤه، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [سورة إبراهيم:34].

ثم ذكر بعد ذلك حال بعض الناس، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:200] فعلمهم الدعاء أن يقولوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] وذكر حظ أولئك من الدعاء، حيث اقتصروا على المطالب الدنيوية، ونسوا المطلوب الأعظم في الآخرة، من النجاة من النار، ودخول الجنة، فجاءت بهذا الترتيب، فكان المقدم هو ما يتعلق بالعبادة والنسك، وذلك الذي يحصل به عمارة النفوس، وترويضها على طاعة مليكها ومولاها ، ثم بعد ذلك يكون الاشتغال بالذكر، فيجمع بين الذكرين: ذكر الجوارح، وذكر اللسان، وما يرجع إليه كل واحد منهما، من ذكر القلب، الذي هو الأساس، ثم بعد ذلك يكون الذكر الثالث، وهو السؤال والدعاء، فمن حقق العبادة ظاهرًا وباطنًا فأشغل جوارحه بطاعة ربه ومليكه ، واشتغل لسانه بذكره، مع عمارة القلب بهذا الذكر، فمثل هذا إذا رفع يديه وقال: يا رب، فإن دعاءه لا يكاد يرُد، فيكون العبد جامعًا بين هذه الأمور الثلاثة جميعًا، ولا غنى للعبد عن واحد منها، فإن من عرف الله -تبارك وتعالى- في السراء عرفه الله في الضراء، والذي يعبد الله -تبارك وتعالى- في سني العمر، وفي أيام العافية، فإن الله -تبارك وتعالى- يعرفه في حال ضره، فيجيب دعاءه، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء، يعرفك في الشدة،[1] فهذا كله -أيها الأحبة- تربية لهذه النفوس بهذه العبادات المتنوعة، فيكون العبد متنقلاً بينها، فهو من عبادة إلى عبادة، ومن عبادة إلى ذكر، إلى سؤال ودعاء، وبهذا يحصل كمال العبودية.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:198] أن يكون الإنسان في بيعه وشرائه مترقبًا لفضل الله -تبارك وتعالى، راجيًا له، فإن هذا الرزق هو فضل من الله، فإذا أيقن العبد بذلك، واستشعره، فإن ذلك يحمله على التحقق بأسبابه من الاستغفار والتوبة، ونحو ذلك: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا [سورة الأعراف:96] فهذا الإيمان والتقوى يكون سببًا لأفضال الله -تبارك وتعالى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [سورة الأعراف:96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة:66] وما يحصل للناس من الأرزاق، فإن ذلك من الله وحده، وإنما ينال ذلك بالتقرب إليه، وطاعته، والكف، والانزجار عن معصيته، ولا يكون ذلك بمحادته ومعصيته، وبالبطر بهذه النعم، والطغيان، والتضييع، والتفريط والغفلة عن طاعة المنعم المتفضل -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

هكذا من يريد أن يكون في حال من الرخاء والدعة والرزق الدارّ، فإن هذا -أيها الأحبة- له من المتطلبات ما لا بد من تحقيقه، وما يحصل للناس من نقص في أرزاقهم إنما ذلك بسبب ذنوبهم، وتقصيرهم في حق الله -تبارك وتعالى، فمثل هذا إنما يرفع بالتوبة، والإقبال على الله ، وليس بشيء آخر.

وانظروا إلى أحوال أمم كانت منعمة في القديم والحديث، والأنهار كانت تجري في تلك البلاد، ومع ذلك تحولت إلى بلاد يعمها الفقر والفوضى والخوف، والله -تبارك وتعالى- لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

وارجعوا إلى ما قبل نحو سبعين سنة في هذه البلاد، أو أقل أو أكثر، وانظروا إلى حال الناس كيف كانوا يبحثون عن شيء يأكلونه، ويسافرون هنا وهناك يطلبون الرزق، وما كان أحد يتوقع أن الناس يجدون في مثل هذه البلاد شيئًا يسد جوعتهم، ثم بعد ذلك تتحول بمدة وجيزة إلى بلد يقصدها القاصي والداني لكثرة ما فيها من الأرزاق والخيرات، وما يجدونه فيها من العلم والدين والإيمان والتوحيد، ونحو ذلك، فهذا يحتاج إلى وقفة واعتبار ونظر في الأسباب التي أوصلت إلى ذلك، وهي أشياء إذا تأملها الإنسان لا تخطر في باله، كان الناس ينتظرون الحجاج من بعض البلاد من أجل أن يأخذوا منهم الصدقات، وهذا شيء تعرفونه، ولا أحد يتوقع أن هذه البلاد القاحلة أنها تتحول إلى هذه الحال التي يتقلب الناس فيها بنعم الله -تبارك وتعالى- المتنوعة، حتى صار ذلك سببًا لدى بعض من لم يعرف نعم الله عليه أن يبطر بهذه النعم، كما ترون في بعض الصور التي لا تعمم، ولا يقال: إنها سمة للناس، وإنما ذلك لون شاذ، ولا بد من إنكاره ومعالجته.

فأقول -أيها الأحبة- فضل الله -تبارك وتعالى- إنما يطلب بالطرق الصحيحة التي توصل إليه، والرزق هذا ليس بمهارة العبد ولا بحذقة ولا قدراته ولا إمكاناته إطلاقًا، وإنما له متعلقات وأسباب لا تخفى، وما يعانيه الناس من شدة في المعايش، أو في الاقتصاد، أو نحو ذلك، في أي بلد كان، فالطريق في الخروج من ذلك هو تجديد الصلة بالله ، والإقبال عليه، والتوبة، والاستغفار، ولزوم طاعته.

وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة: 198] يدل على أن التشريك في النية في العبادة بأمر مباح على سبيل التبع: لا يؤثر فيها، بمعنى أن ذلك لا يكون ممنوعًا، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أنواع التشريك في النية، وقلتُ: منه ما هو محرم يبطلها، قل أو أكثر، ومنها ما لا يكون كذلك، والناس في هذا على مراتب، فالمرتبة العليا؛ وذلك الإنسان الذي يفعل العبادة، ولا يلتفت إلى شيء بعد ذلك، فهو يصوم ويصلي ويحج ويجاهد ويطلب العلم لوجه الله، ليس له مطلوب ولو كان مباحًا ولو حصل على سبيل التبع، مثل الذي يحج وله تجارة يتكسب منها، وكالذي يجاهد ويريد أيضًا الغنيمة، ونحو ذلك، فهذا أعلى المراتب.

والمرتبة الثانية: هو الذي يعمل العمل يريد به وجه الله، ولكنه يلتفت إلى مطلوب مباح على سبيل التبع، فيحج يريد وجه الله ويريد التجارة، ويجاهد يريد وجه الله، ويريد المغنم، فهذا لا إشكال فيه.

المرتبة الثالثة: هو الذي يفعل هذه الأفعال ويريد الدنيا، وهذا الذي يروج هذه الأيام للأسف، قم الليل من أجل صلاح الأولاد، وصم من أجل أن يصح البدن، وصل من أجل تتحرك وتتمرن مفاصل معينة، ونحو ذلك، وتخرج لصلاة الفجر من أجل وجود غاز الأوزون، وهكذا في سائر العبادات، يعني يتعبد الناس من أجل هذه الأجساد والأجسام، والمطالب الدنيوية، فيخرج الزكاة من أجل أن ينمو المال، ويصل الرحم لينسأ له في أثره، فهو لا يريد إلا هذا، وهذا كما قال الله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود: 15، 16] والنبي ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[2].

والنوع الرابع: هو الذي يعمل لله، ولكنه يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه، وهو الرياء، أو السمعة، فهذا يبطل العمل ويفسده إذا دخل في أول العبادة، وإن دخل في أثنائها فإن دفعه كان عارضًا خاطرًا، فإن دفعه صحت على الأرجح، وإن استرسل معه بطلت العبادة، هذا في العبادات التي تركب بعضها على بعض، كالطواف في أشواطه، والصلاة في ركعاتها، بخلاف: قراءة القرآن، فلو قرأ وجهًا يريد وجه الله، فدخل داخل فتحولت نيته، فله ما قرأ أولاً، وعليه ما قرأ بعد ذلك.

وحديث: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار[3]، وهم قارئ ومجاهد ومنفق، فهؤلاء الثلاثة، ثم تأتي بعد ذلك مرتبة خامسة، وهي أسوأ مما قبلها، وهو أن يعمل لا يريد إلا الرياء والسمعة، ويقرأ فقط؛ ليقال: قارئ، ويتعلم العلم ليقال: عالم، وينفق ليقال: جواد، فهذا قد تمحض عمله للرياء، وهذه خمس مراتب فيما يتعلق بالتشريك بالنية.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة: 198] توسعة الله -تبارك وتعالى- على عباده، فيظهر من هذه الآية رحمته بهم، حيث أباح لهم التكسب في الحج، فالله -تبارك وتعالى- جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، وهذا القيام الأقرب أنه يشمل قيام الدين، وقيام دنياهم، فيحصل لهم بهذه الكعبة والبيت الحرام من قيام الدين وظهوره، طالما أن هذه الكعبة قائمة، وهذا البيت يقصده الناس، وأيضا تقوم به معايشهم ومصالحهم من وجوه مختلفة، بما يحصل لهم من الاجتماع والتشاور، ويلقى بعضهم بعضًا، ويتعارفون، وينقلون أنواع التجارات، فينتفع الوافد على هذا البيت، وينتفع أهله؛ وذلك باب واسع، ويمكن أن يوسع أيضًا، ويكون لهم من الاقتصاد والتجارة ما لا يقادر قدره، مما لا يمكن أن يحصل لأحد من أهل الدنيا.

فهذا البيت الحرام يتمنى الناس القرب منه، ويمكن أن تأتي بأدق التخصصات في العالم والخبرات في جميع المجالات، وقد لا يطلبون كثيرًا من المال كل ذلك من أجل هذا البيت، وتستطيع أن تأتي بأبناء المعمورة بالأذكياء النجباء بالنابغين، فتعلمهم، ثم يذهبون، وينشرون العلم بتخصصاته المختلفة، وهم مغتبطون بذلك، مما لا يستطيعه أحد إطلاقًا، وإذا كان ذلك ممن يحمل عقيدة فاسدة يزايد عليها أهل الحق، ويشغب عليهم في حجهم ومناسكهم، ونحو ذلك، فإنه لا يمكن أن يقف أمام هذه القوة، سواء كانت في مجال الدين والاعتقاد، أو في مجال الدنيا والاقتصاد، والعلم، ونحو ذلك، ولعله يأتي مناسبة -إن شاء الله- أتكلم على هذا بشيء من التفصيل، لكن هذا يدل على سعة رحمة الله وفضله، فهذا الموسم لم يفوت عليهم، وإنما له أن يأتي بما يتكسب به، وأهل البيت ينتفعون، فيفد عليهم هؤلاء، وتقوم تجاراتهم ومصالحهم وينتفعون، ويحصل لهم من المكاسب ما لا يخفى.

وفيها أيضًا ربط الأسباب بالمسببات: فالله -تبارك وتعالى- لو شاء لأنزل الرزق على عباده من غير كد ولا تعب، ولكنه جعل لذلك أسبابًا بالتجارة، ونحوها، فأباح لهم ذلك، وهم في حال العبادة أيضًا، مما يدل على أن هذا الدين لا يجعل من أهله قاعدين، لا يعملون، ولا يجدون، ولا يأخذون بأسباب القوة، وإنما هم أهل عبادة، وأهل جد وعمل بالأسباب.

وفي قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة: 198] يدل على أن المشعر الحرام -وهو مزدلفة- موضع للذكر والحج، وإنما أقيم الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، ونحو ذلك لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى، كما دل على ذلك حديث رسول الله ﷺ، فينبغي أن يكثر العبد من ذكر الله في الحج، ومن مواطن الذكر: عند المشعر الحرام في مزدلفة، وذلك بعد صلاة الصبح حيث صلاها النبي ﷺ بغلس يعني في أول الصبح في الظلام، قبل أن يسفر، ثم رفع يديه، وجعل يذكر ويدعو حتى أسفر جدًا، ثم انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس، فهذا من مواطن الذكر التي ينبغي الحرص عليها، ولا يشغله عن ذلك تسارع الناس للخروج، ونحو هذا، فإن مثل هذه المقامات ينبغي أن يحرص العبد عليها، إلا إذا كان معه ضعفة يخشى عليهم. ويُؤخذ من هذه الآية: أن الذكر المشروع هو الذكر الذي شرعه الله -تبارك وتعالى، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يحتمل معنيين:

المعنى الأول: اذكروه كما هداكم، يعني على الصفة التي شرعها وبينها لكم، فإن الله لا يعبد إلا بما شرع، فهذا يكون في أنواع العبادات التي منها الذكر باللسان، فليس لأحد أن يخترع من عنده أورادًا وأذكارًا، ويشتغل بها ويوقت لذلك أوقاتًا، أو مواضع، أو أحوال، فهذا غير صحيح، وإنما يذكره كما شرع.

ويشمل أيضًا المعنى الآخر: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ يعني في مقابل هدايته لكم، فكان اللائق أن تذكروه، فيكون هذا الذكر من قبيل الشكر، وكذلك هدانا لدين الإسلام، كأنه يقول: إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، وهداكم للعبادة ونوعها وصفتها من الذكر وغيره، وهداكم أيضًا إلى الإسلام.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [سورة البقرة: 198] أن عرفة هي مقام للذكر والدعاء، وقد وقف النبي ﷺ بعد ما صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا جمع تقديم، عند الصخرات، مستقبلاً القبلة، ورفع يديه حتى غابت الشمس، وهو على راحته ﷺ، فهذا موقف للابتهال والدعاء والذكر، ومع ذلك إذا انصرفوا من عرفات انصرفوا من ذكر وطاعة وعبادة عظيمة جدًا، يؤمرون بالذكر، فهذه المواسم مع ما فيها من الذكر والعبادة إلا أن ذلك لا يعني أن يتوقف العبد عن ذكر الله فيها، فهو يذكره في الطريق ملبيًا ومكبرًا ومهللاً، وكذلك يذكره في هذه المواضع التي يشرع فيها الذكر، فكيف إذا كان في مجلس غفلة، أو في حال نزهة، أو في حال سوق وتجارة وبيع وشراء، إذا كان بهذه العبادات العظيمة يؤمر بالذكر المتتابع، فهذا يدعونا إلى أن تكون الألسن مشتغلة دائمًا بذكر الله .

وأيضًا في هذه الآية: تذكير الإنسان بحاله السابقة، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة: 198] فلا تقل: أنا مستقيم ومتدين وملتزم، وأنا حججت عشرات المرات، وأنا لا يفوتني الموسم ونحو ذلك، لا بد أن يستحضر الإنسان نعمة الله عليه، بأن هداه ووفقه وألهمه رشده، ويسأل ربه القبول والثبات، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وكان النبي ﷺ يكثر أن يقول في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[4]، فلا يزال العبد مخبتًا يخاف على نفسه من أن يقلب قلبه، ويصرف عن الحق، فلا يكون في قلبه أدنى التفات إلى نفسه وعمله، فيكون معجبًا بذلك، فيحبط هذا العمل. 

  1. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2803) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  2. أخرجه البخاري في كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟ برقم: (1) ومسلم في كتاب الإمارة بقوله قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية برقم: (1907).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم (1905).
  4. أخرجه الترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140) وصححه الألباني.