الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
ثُمَّ أَفِيضُوا۟ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:199] "ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر، وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفَع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون، وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشاً، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِلِّ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقُطَّان بيته."
فقوله - تبارك، وتعالى -: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ ، جاء بعد قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:198] يعني إذا انتقلتم من عرفة إلى مزدلفة: فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ [سورة البقرة:198] ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199] فهل هذه الإفاضة هي من مزدلفة إلى منى فتكون على هذا "ثم" على بابها للترتيب مع المهلة، والتراخي، أم أن الإفاضة هنا هي نفسها التي ذكرت قبل، وهي الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة حيث قال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فتكون "ثم" على هذا ليست للترتيب، أم أن في الكلام تقديماً، وتأخيراً؟
فأما القول بأن في الكلام تقديماً، وتأخيراً فهذا لا يلجأ إليه إلا للضرورة، لكن يحتمل أن يكون هذا من باب عطف جملة على جملة من غير قصد للترتيب، أي أن "ثم" تكون لمجرد العطف فقط من غير نظر إلى الترتيب، وبالتالي نقول: إن الله أمرهم بالذكر إذا أفاضوا من عرفات كما أن الله أمرهم بأن يفيضوا من عرفات، ووجههم بجملة أمور: منها أن يذكروه إذا أفاضوا من عرفات في المزدلفة، ووجههم أن تكون إفاضتهم من عرفة من الحل إلى مزدلفة لا أن يقفوا دون ذلك كما كانت تفعل الحمس حيث كانوا يقولون: نحن قطان البيت، وأهل الحرم فلا نخرج منه إلى الحل، فكان الناس يذهبون إلى عرفة، وهم يقفون عند طرف الحرم، فالناس يفيضون من عرفة إلى مزدلفة، وهؤلاء لم يخرجوا أصلاً إلى عرفة، فالله قال لهم: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، فيكون هذا من باب عطف جملة على جملة دون مراعاة للترتيب؛ لأنه لا زال يتحدث عن الإفاضة من عرفة، فهناك أمرهم بالذكر، وهنا أمرهم أن تكون إفاضتهم من عرفات، لا كما كانت تفعله الحمس، فقوله: ثُمَّ أَفِيضُواْ بهذا الاعتبار يمكن أن يكون المخاطب به هم الحمس، أي قريش، ومن ولدت، وبالتالي "ثم" ليست للترتيب، وإنما هي لمجرد العطف.
وإذا قلنا: إن "ثم" على وجهها، وإن الإفاضة إنما هي إفاضة أخرى غير الأولى، أي الإفاضة من مزدلفة إلى منى فيكون الخطاب على هذا لجميع الناس، أي أنه يأمرهم بعد أن يقفوا في المشعر الحرام في مزدلفة أن يفيضوا منه إلى منى، ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً أمراً لجميع الناس بأن يفيضوا من عرفة إلى مزدلفة.
فإذا قلنا: إن الأمر هنا بالإفاضة من عرفة إلى مزدلفة تكون "ثم" على بابها من الترتيب، وقوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يمكن أن يكون المراد به إبراهيم ﷺ الذي نقتدي به في المناسك.
وإذا كان على الأول، أي أفيضوا من عرفة، فيكون المعنى أفيضوا كما تفيض سائر قبائل العرب أو سائر الأمة خلافاً لهؤلاء الحمس الذين كانوا يخالفون، ويبقون في الحرم، وعلى هذا تكون "ثم" على ظاهرها من الترتيب.
وبعض أهل العلم يقول: إن في الآية تقديماً، وتأخيراً، وممن قال بهذا ابن جرير الطبري - رحمه الله - مع تغاير أقوال هؤلاء، وتفاوتها في هذا التقديم، والتأخير، لكنهم قالوا بأصله، وتفاوتت أقوالهم في سياق الجملة، مع أنه خلاف الأصل، فابن جرير الطبري - رحمه الله - يرى أن الترتيب هكذا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197]، وبعد ذلك: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199] ثم: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [سورة البقرة:197]، وهذا فيه شيء من التكلف.
والتقديم، والتأخير له أمثلة تذكر، منها ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد، ففي قوله تعالى مثلاً عن عيسى ﷺ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] فقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ، هذه الوفاة إما أن نقول: إن المراد بها ليست الوفاة الحقيقية المعروفة، وإنما مستوفيك بروحك، وبدنك، أو متوفيك يعني في النوم، بمعنى أنه رفعه في حال النوم التي تسمى الوفاة الصغرى، فيكون على هذا الكلام مرتباً، أو يقال: في الكلام تقديم، وتأخير، وتقديره: (وإذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك في النهاية، أي بعد أن ينزل إلى الأرض، فالوفاة بهذا الاعتبار تكون حقيقية، وهي الوفاة المعهودة، ولا أعني أن هذا القول في الآية راجحاً، وإنما المقصود أن هذا أحد الأمثلة التي يدعى فيها التقديم، والتأخير، -  والله تعالى أعلم -.
وهناك صورة أخرى أيضاً أو، وجه آخر يمكن أن يقال فيه إن "ثم" للترتيب، لكن ليس الترتيب في الواقع، والخارج، وإنما هو الترتيب في الذكر، حيث يذكر أخباراً يرتب بعضها على بعض دون أن يقصد أن ذلك مرتب في الواقع، والخارج، كأن تقول لإنسان: فعلت كذا ثم فعلت كذا ثم فعلت كذا ثم فعلت كذا، وأنت لا تقصد أن هذه الأمور مرتبة بهذه الطريقة، والسياق أحياناً يبين أنك إنما تريد أن تعدد عليه، فأنت ترتب هذه الأمور في الذكر دون أن تقصد أن ذلك وقع في الخارج مرتباً كما ذكرته معطوفاً بـ"ثم"؛ ولذلك ينبغي أن يُعلم أن "ثم" يمكن أن تكون لترتيب الأخبار، أو الجمل بعضها على بعض دون أن يكون الأمر كذلك في الواقع، ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17]، فالإيمان هو مطالب به من البداية، وإلا لم يقبل منه عمل أصلاً، ولذلك فإن بعض أهل العلم يقول: هذا من باب ترتيب الجمل، والأخبار بعضها على بعض، - والله أعلم -.
"روى البخاري عن عائشة - ا - قالت: كانت قريش، ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمَّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات."
كانوا يُسَمَّون الحُمْس قيل: لأنهم يتحمسون لدينهم، يعني أن أكثر قبائل العرب تمسكاً، وتديناً في نظر العرب، وتقديرهم هم قريش؛ نظراً لما لهم من المكانة، وما أعطاهم الله من القيام على البيت. 
"فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه ﷺ أن يأتَي عرفات، ثم يقف بها، ثم يُفيض منها، فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199].
وكذا قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم."

وبهذا الاعتبار يكون المراد بقوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني سائر القبائل، أو سائر الناس، والمعنى لا تنفردوا دونهم، وتقفوا في حد الحرم، وإنما أفيضوا من حيث أفاض الناس، فهنا إن قلنا إن "ثم" للترتيب فلا بد أن نقول بالتقديم، والتأخير، أو يقال: إن هذا ترتيب في الذكر فقط، أي ترتيب جملة على جملة، وخبر على خبر، وأمر على أمر فقط دون أن يكون ذلك مراعى به ما يقع في الخارج، - والله أعلم -.
"واختاره ابن جرير، وحكى عليه الإجماع."
الذي حكى عليه ابن جرير الإجماع أنهم يفيضون من عرفة إلى مزدلفة، هذا الذي قاله ابن جرير، ثم بعد ذلك ذكر القول بالتقديم، والتأخير، وكأنه أراد أن يوجه - مع هذا - القول الذي يستشكل في"ثم" بأن يجعل "ثم" على ظاهرها للترتيب، فقال: الكلام فيه تقديم، وتأخير، والقائلون بالتقديم، والتأخير هم قليل حتى إن بعضهم رده صراحة، وقال: هذا لا يصح, مثل ابن عطية، وهو خلاف الأصل.
لكن ابن جرير مع أنه كان يستحسن القول الآخر، وهو أن الإفاضة المراد بها الإفاضة من مزدلفة إلى منى، وهذا القول قال به كثيرون، ومع ذلك قال ابن جرير: هذا قول جيد، ووجهه حسن، ولكنا لا نستجيز مخالفة الإجماع، ومعلوم أن مقصود ابن جرير بالإجماع قول الأكثر، وإلا فالقائلون بالقول الثاني كثيرون جداً أيضاً، - فالله أعلم -.
لكن العجيب أنك ترى كثيراً من أهل العلم يقولون: إن ابن جرير يقول بالقول الآخر، وهي أن الإفاضة من مزدلفة، ولا أدري ما الذي أوقعهم في هذا، فربما أنهم نظروا إلى أنه جعل "ثم" على بابها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه استحسن القول الثاني بعد أن ذكر، وجهه، وأنه قول حسن، فربما نظروا إلى هذا دون ما قبله، وما بعده حيث إن أسلوب ابن جرير - رحمه الله - كما هو معروف أنك تجده يتحدث عن معنى، وكأنه يرجح هذا القول ثم يذكر بعده قولاً آخر فربما رجع للقول الذي قبله، وهكذا تجده يعلق بعد كل قول من أقوال أبي جعفر في التفسير، ويعلق تعليقاً مشابهاً له في موضع بعد القول الثاني، أو الثالث، أو في النهاية بعد أن يذكر الأقوال، فإذا جمعت عباراته التي يرجح بها، وقارنت بينها تبين لك مراده، لكن ربما يقف الإنسان على جملة من أربعة، أو خمسة، أو عشرة أسطر، مما يقرر فيها توجيه هذا القول، أو ترجيحه، أو ردَّ غيره، فيظن الإنسان أحياناً أن هذا هو قوله من أوله إلى آخره، وليس الأمر كذلك، بل يحتاج أن ينظر في التعليقات الأخرى التي علق فيها على باقي الأقوال، وما قاله في النهاية، حتى إنك تجد أحياناً كلامه في غاية التشابه هنا، وهنا.
"وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: أضللتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النبي ﷺ واقف، قلت: إن هذا من الحُمْس ما شأنه هاهنا؟"[1] أخرجاه في الصحيحين."
جبير بن مطعم كان من قريش، فكان ذلك عادتهم، ومألوفهم، فهو مستغرب أن النبي ﷺ، واقف مع الناس بعرفة.
"ثم روى البخاري عن ابن عباس - ا - ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار، - فالله أعلم -.
وقوله: وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:199] كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله ﷺ كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا[2]، وفي الصحيحين أنَّه ندب إلى التسبيح، والتحميد، والتكبير ثلاثًا، وثلاثين[3]، وقد أوردناه في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة."

هذا وجه حسن في توجيه ذكر الأمر بالاستغفار بعد قضاء المناسك مع أنهم كانوا في عبادة من أجلِّ العبادات، فكما أن النبي ﷺ كان إذا فرغ من صلاته استغفر فهنا كذلك، وذلك لا شك أنه يقتضي دفْعَ العجب، والاستمرار على الطاعة، فيفرغ من عبادة ثم يدخل في أخرى، كما أن هذا يحتاج إليه العبد، وذلك أن العبادة التي يقوم بها لا تخلو من نقص، وتقصير، فهو يستغفر الله من ذلك.
ومن أهل العلم من يقول: إن الأمر بالاستغفار في قوله هنا: وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ [سورة البقرة:199] يعني أنهم لمّا كانوا في مقامات حريٌّ أن يستجاب للعبد بها أمروا بالاستغفار، فالإنسان يدعو في الطواف، وعلى الصفا، والمروة، وبين ذلك، ويدعو أيضاً في عرفة، وفي آخر مقامه في مزدلفة، ثم أيضاً إذا رمى الجمار في أيام التشريق يقف بعد الأولى، والثانية، ويدعو طويلاً قريباًِ من سورة البقرة، فهذه مواطن لهذه العبادات الشريفة، وهي حري أن يستجاب للعبد بها، فربما كان الأمر بالاستغفار بسبب ذلك.
وبعض أهل العلم يقول: هذا موجه للحمس الذين كانوا يقفون في الحرم، حيث أمروا بالاستغفار من وقوفهم دون عرفة، وهذا بعيد غاية البعد؛ لأن الخطاب هنا يشرع لهم فيه، ويبين لهم المناسك، وما ينبغي لهم فعله، فهو لا يخاطب أولئك المشركين الذين وقفوا في المزدلفة؛ ثم إن هؤلاء لا حج لهم  أصلاً؛ لأن الحج عرفة، فحجهم باطل، وليس لهم إلا التعب، فهذا لا يكفي فيه مجرد الاستغفار، بل لازالوا على إحرامهم، وفاتهم الحج، وعليهم أن يكملوا هذا الحج الفاسد، ويتحللوا منه بالطواف بالبيت، ثم عليهم على قول بعض أهل العلم أن يأتوا بحجة أخرى، وهذا إذا أردنا أن ننزل الحكم على المشركين، مع أن عباداتهم أصلاً مردودة؛ لأنهم أهل إشراك، والله لا يقبل من المشركين شيئاً.
"وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة[4].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو - ا - أن أبا بكر قال: "يا رسول الله، عَلمني دعاء أدعو به في صلاتي" فقال: قل: اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم[5]، والأحاديث في الاستغفار كثيرة."
  1. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الوقوف بعرفة (1581) (ج 2 / ص 599)، ومسلم في كتاب الحج - باب في الوقوف، وقوله تعالى "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (1220) (ج 2/ ص 894).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته (591) (ج 1 / ص 414).
  3. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب من لم ير رد السلام على الإمام، واكتفى بتسليم الصلاة (807) (ج 1 / ص 289)، ومسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته (595) (ج 1 / ص 416).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب أفضل الاستغفار  (5947) (ج 5 / ص 2323).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب الدعاء في الصلاة (5967) (ج 5 / ص 2331)، ومسلم في  كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (ج 4 / ص 2078).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فيه قولان:

أحدهما: أنه أمر للحُمس، وهم قريش، ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم، ولا يقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حل، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نقف إلا بالحرم، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس، ويفيضوا منها، وقد كان النبي ﷺ قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقًا من الله تعالى له.

والقول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس، ومعناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، فـ (ثم) على هذا القول على بابها من الترتيب، وأما على القول الأول فليست للترتيب، بل للعطف خاصة، قال الزمخشري: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإنما معناها التفاوت بين ما قبلها، وما بعدها، وأن ما بعدها آكد[1]."

 يقول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وذكر القولين؛ الأول: أنه أمر للحُمس. المقصود بالحُمس قريش، ومن ولدت، وكنانة، وجديلة بن قيس سموا بذلك قيل: لأنهم كانوا يتحمسون في دينهم، وقيل: نسبة إلى الكعبة لكونها حمساء باعتبار لون الأحجار، أحجار الكعبة تميل إلى السواد فنسبوا إليها، هكذا قال بعض أهل العلم - والله أعلم - لكن يقال لهم الحمس، وكانوا يقفون بالمزدلفة؛ لأنها حرم، ولا يقفون مع سائر الناس، قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لاحظ قبله قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فهذه الإفاضة صريحة في أن المقصود من عرفة إلى مزدلفة، لكن الذي وقع فيه الخلاف هي الإفاضة الأخرى قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فـ "ثم" هذه تحتمل أن يكون ذلك باعتبار التراخي في الزمان، وعلى هذا يكون المقصود الإفاضة من مزدلفة إلى منى؛ لأنها تأتي بعد الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، فهم أفاضوا، أمرهم بذلك قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يعني مزدلفة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إلى منى، فسماه إفاضة، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره: أنه خطاب لجميع الناس بهذا الاعتبار من المزدلفة إلى منى، خطاب لجميع الناس.

ويحتمل أن المقصود بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - فيكون من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني لفظ (الناس) لفظ عام فقد يطلق العام، ويراد به الخصوص، يمثلون لهذا دائمًا، أو كثيرًا بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران: 173] قال لهم الناس، يقولون: نعيم بن مسعود، الذين قال لهم الناس فعبر بالناس عن واحد، والذين صيغة جمع الاسم الموصول، قالوا: المقول له واحد، وهو أبو بكر الصديق إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان، فهذا من العام المراد به الخصوص، غير العام المخصوص، العام المخصوص عام، وجاء نص يخصصه وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] مخصص بقوله: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ففرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص، فهذا بهذا الاعتبار أن الناس ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - وإذا فُسر بإبراهيم ﷺ فهذا يحتمل أن يكون المراد الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، يعني لا تفعلوا كما فعلت قريش أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم ﷺ حيث أفاض من عرفة، أو عموم الناس يعني أفيضوا من حيث أفاض الناس فهذا يحتمل أيضًا أن يكون عموم الناس الذين يقفون من غير الحمس يقفون في عرفة فأفيضوا من حيث أفاضوا يعني من عرفات، أو أنه عام مراد به الخصوص أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - من عرفة، أو يبقى على عمومه مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ من عرفة، أو من مزدلفة إلى منى، فسواء فُسر الناس بإبراهيم ﷺ أو فُسر بعموم الناس فهذا يحتمل المعنيين، لكن تفسيره بإبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - يكون المعنى فيه أقرب بأن المقصود الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، فيكون ذكر الإفاضتين في الآيتين يراد به إفاضة واحدة، الأول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يعلمهم في إفاضتهم كيف يصنعون في مزدلفة، وفي الثاني: يكون ذلك من قبيل الأمر للحمس أن تكون إفاضتهم من حيث أفاض غيرهم من الحجيج، ابن جرير - رحمه الله -[2] اعتبر أن في الآية تقديمًا، وتأخيرًا، والتقدير: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ۝  لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لكن ابن جرير - رحمه الله - في القول بالتقديم، والتأخير يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ - هكذا على هذا الترتيب - وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ يكون مؤخرًا وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ۝ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:197 - 198] يعني، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس مؤخر، ولكن هو مقدم في المعنى، يعني أنه أمر لهم بالإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، ثم أعلمهم - تبارك، وتعالى - أنهم ما يفعلوا من خير يعلمه الله، وأمرهم بالتزود، لكن هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الكلام الترتيب، لكن كأنه أراد أن يخرج من هذا الإشكال فقال: فيه تقديم، وتأخير.  والأصل في الكلام الترتيب.

وعلى كل حال عرفنا القول الأول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أنه أمر للحمس.

يقول: وقد كان النبي ﷺ قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقًا من الله تعالى. يعني قبل أن يبعث - عليه الصلاة، والسلام - حج فشوهد يقف في عرفة، هذا القول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أن المقصود به ما ذُكر: الإفاضة من عرفة، وليس من مزدلفة، هذا الذي اختاره ابن جرير[3] وابن كثير[4] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[5] - رحمه الله الجميع - وذكر أنه بإجماع الحجة.

ابن جرير يقول: هذا بإجماع الحجة. مع أنه لا إجماع لكن نحن نعرف أن ابن جرير يطلق الإجماع، ويريد به قول الأكثر، قول الجمهور.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أمر للحُمس الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، وليس من مزدلفة إلى منى، فبهذا الاعتبار ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ تكون لعطف خبر على خبر، وترتيبه عليه كما يقول الحافظ ابن كثير، يعني ليست للترتيب في الزمن، والمدة، وإنما يعطف الأخبار عطف خبر على خبر ليس فيه مهلة، ومدة زمنية تقول مثلًا: أتيت المسجد، ثم صليت ركعتين، ثم صليت الفريضة. فهذا للترتيب في الزمن، صليت الصبح، ثم الضحى، ثم الظهر، ثم العصر، هذا للترتيب في الزمن، لكن قد تأتي لمجرد عطف خبر على خبر يعني بمجرد عطف جملة على جملة، وليس للترتيب، فكأنه أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، هكذا يكون الكلام، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي[6] وغير هؤلاء، كما ذكرنا من قول ابن جرير: بأنه إجماع الحجة[7]. يعني قول الأكثر، ويدل لذلك ما في الصحيحين من حديث عائشة - ا - قالت: الحُمس هم الذين أنزل الله فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قالت: "كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم"[8] فلما نزلت: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ رجعوا إلى عرفات.

فهذا واضح، فيكون محمله الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، والإشكال الذي يرد في قوله: (ثم) أنها ليست للمهلة في المدة، والزمن، وإنما عطف خبر على خبر.

وذكر القول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فيكون معناها أفيضوا من المزدلفة إلى منى، خطاب لجميع الناس فيكون الناس ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يحتمل أن يكون إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - لكن هذا يحتمل كما سبق، حتى على القول أنه إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - أن يكون الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة.

يقول: تكون الإضافة أفيضوا من المزدلفة إلى منى. هذا رواه البخاري عن ابن عباس - ا -[9] واختاره من المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -[10] هؤلاء مشوا على أن (ثم) على بابها من الترتيب يعني في الزمن ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ هذه الإفاضة الثانية من مزدلفة إلى منى.

يقول: أما على القول الأول فليست للترتيب بل للعطف خاصة. كما قلنا عطف الجمل، أو عطف الأخبار، ونقل عن صاحب الكشاف قال: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم. فهذه ليست للترتيب في الزمن فإن معناها التفاوت بين ما قبلها، وما بعدها، وأن ما بعدها أوكد، فبهذا الاعتبار يكون الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه من الأفعال، على كل حال هذا الذي ذكرته من أن الترتيب في الذكر لا في الزمان هذا توجيه للقول الأول، وليس الثاني، على الثاني: أنها في الزمان.

  1.  - تفسير الزمخشري (1/ 247).
  2.  - تفسير الطبري (3/ 529).
  3.  - المصدر السابق (3/ 534).
  4. تفسير ابن كثير (1/ 556).
  5. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 445).
  6.  انظر: تفسير ابن كثير (1/ 555 - 556).
  7.  انظر: المصدر السابق (1/ 556).
  8.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب في الوقوف، وقوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة: 199] برقم (1219).
  9.   أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الركوب، والارتداف في الحج، برقم (1544).
  10.   تفسير السعدي (ص: 92).

مرات الإستماع: 0

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:199].

ثُمَّ أَفِيضُوا ليكن اندفاعكم من عرفات، الذي أفاض منها إبراهيم ، هذا على القول بأن الناس يراد به إبراهيم ، فقد كان الحُمس، وهم قريش، ومن ولدت، يقفون عند حدود الحرم، ولا يخرجون إلى عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، بزعمهم أنهم أهل الحرم، فلا يخرجون منه، ويخرج سائر الناس من الحجيج من قبائل العرب إلى عرفة، فيقفون بها يوم التاسع، ثم بعد ذلك يفيضون إلى مزدلفة.

وأما قريش فإنها تكون في مزدلفة، عند حد الحرم، ولا تقف في عرفة، فخاطبهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199] قال جمع من السلف فمن بعدهم: بأن المراد بالناس هو إبراهيم ، وأن هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، عام يعني من جهة اللفظ النَّاسُ لكن يُراد به خاص، وهو إبراهيم ، كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173] فالصيغة عموم، في كل هذه المواضع، فقيل: الذي قيل له ذلك هو أبو بكر الصديق ، والَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ القائل واحد، وهو الناقل، وأصل ذلك: إِنَّ النَّاسَ يعني: أبا سفيان قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وذلك في حمراء الأسد بعد وقعة أحد، يعني: عزموا على استئصال المسلمين، والإغارة على المدينة، فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [سورة آل عمران:173] فالقائل واحد، وهو أبو بكر الصديق ، على هذا القول، فيكون هذا أيضًا من قبيل العام، الذي يراد به الخصوص، يعني يراد به واحد.

وهكذا هنا: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ على القول: بأن المراد به إبراهيم ، والقول الآخر: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أي سائر الناس ممن وقفوا في عرفة، فقفوا معهم، ولا تقصروا الوقوف عند حد الحرم، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ هذا على القول بأن هذه الإفاضة كالإفاضة الأولى، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قال في الآية التي قبلها: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:198] فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يعني مزدلفة، فهي المشعر الحرام، وهي من أرض الحرم، وعرفة من الحل، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ هذه الإفاضة من عرفات قطعًا بالاتفاق، بنص الآية.

ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا فـ(ثم) هذه تفيد التراخي، والتراخي نوعان: نوع في الزمان، وهو المهلة في الزمن، يعني بعد الوقوف في عرفة أفيضوا إلى مزدلفة، والآية التي قبلها: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فكل ذلك في الإفاضة من عرفة، الأول أعلمهم فيه بما يكون عند انتقالهم من عرفة إلى مزدلفة من الذكر عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة، وفي الثانية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أرشدهم إلى أن تكون الإفاضة من عرفة، وليس على ما كان يفعله الحُمس من الوقوف عند حد الحرم دون الخروج إلى مزدلفة، ولم يقل: ثم أفيضوا من عرفات؛ ليبطل ذلك العمل الجاهلي من جهة؛ وليدل على الوقوف باللزوم؛ لأنه إذا قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فإنه يكون قد دلّ على ثلاثة معانٍ:

الأول: أن هذه الإفاضة من حيث أفاض الناس تقتضي وقوفًا في عرفة، فدلّ عليه بهذا الاعتبار.

الثاني: إبطال ما كان عليه عمل الحُمس في الجاهلية، وقيل لهم: الحُمس قيل: لأنهم كانوا يتحمسون لدينهم، فقريش تعتبر نفسها هي التي تمثل ملة إبراهيم ، وأنها هي التي تقيم للناس دينهم، وكذلك أيضًا أفاد الانتقال إلى مزدلفة بعد عرفة.

الثالث: أن المقصود من ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الإفاضة من مزدلفة إلى منى، فتكون الإفاضة بهذا الاعتبار في الزمن، وعلى الأول في الرتبة؛ لأنه ذَكَرَ الإفاضة من عرفة فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا هم قد أفاضوا، فيكون المقصود بـ(ثم) هنا ليس المهلة في الزمنية، والترتيب الزمني، وإنما الرتبي، يعني لتكن إفاضتكم من عرفة، وليس من حد الحرم، فالمقصود على المعنى الثاني: أن تكون هذه الإفاضة الثانية من مزدلفة إلى منى، وتكون (ثم) مفيدة للتراخي الزمني، وتكون الأعمال مرتبة بهذا الاعتبار، وعلى هذا النسق، وهذا قول له حظ من النظر، وكأن السياق يؤيده، لكن القولان معروفان، وكل قول قال به جماعة من السلف، والأول اختاره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله[1].

وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:199] واسألوا الله أن يغفر لكم ذنوبكم، وأن يستر عيوبكم، يتجاوزه عن السيئات، وستره العيوب، فلا يفتضح العبد، ثم رجاهم بهذه المغفرة، وذكر العلة، فقال: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: استغفروه؛ لأن من صفته الغَفر والرحمة، ومن أسمائه الغفور والرحيم، والغفور هو كثير الغفر، والرحيم هو كثير الرحمة، فاستغفروه واطلبوا المغفرة؛ لأن السين والتاء للطلب، فاطلبوا المغفرة منه، فإنه غفور رحيم.

فيُؤخذ من هذه الآية أنه ذكر لفظ الإفاضة دون الوقوف ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فلم يقل: ثم قفوا في عرفة على التفسير الأول، وإنما قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لأنه لو قال مثلاً: ثم قفوا حيث وقف الناس يعني في عرفة، ربما يُظن أن هذا الوقوف يجزئ في كل وقت، فيجوز تقديمه، ومعلوم أن الوقوف إنما يكون بعد الزوال على الأرجح، بمعنى أنه لو جاء ضحى إلى عرفة، ثم خرج منها قبل الزوال، فإن ذلك لا يجزئه، فعبر بالإفاضة ليدل على الدفع بعد تمام الوقوف، ومعلوم أن وقت الإفاضة إنما يكون في آخر يوم عرفة بعد غروب الشمس، فعبّر هنا بهذه اللفظة، وأمرهم بالإفاضة منها، فعلم بذلك أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج، فلا يتجاوز ولا يقصر عنها؛ لأن كل واحد منهما لا يفيض منها.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ على المعنى الأول سواء قيل: النَّاسُ هو إبراهيم ، أو قيل النَّاسُ عموم الناس الذين يقفون في عرفة غير الحُمس، فقريش أرادت أن تتميز عن بقية الحجاج، فيكون لهم وقوف خاص، فهذه الآية ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لا تميز في الحج، الناس جميعًا يتجردون من كل لباس، سوى لباس الإحرام الذي يشبه الكفن، رداء وإزار، يستوي فيه الفقير والغني، ولا يُطلب في الحج التميز على الناس بشيء من الأمور، وإنما يكون سعي العبد وبذله وجهده وعنايته بالإخبات والتقوى والتواضع والتذلل والذكر والعبادة لله -تبارك وتعالى، أما أن يتميز بأعمال دون الآخرين، أو بمزاولات، أو بهيئات، أو نحو ذلك، فإن هذا لا وجود له في الحج، فالرأس مكشوف، وليس عليه عمامة تميزه، والجسد كما قد علمتم، قد تجرد من كل شيء، فلتتجرد النفوس من كل حظ، فذلك مقام لا يصلح فيه إلا الذل لله رب العالمين، فحال الناس واحدة في حج بيت الله الحرام، سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [سورة الحج:25].

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: مخالفة الإسلام لأعمال الجاهلية، وهذه أمور كثيرة ومعلومة، والمسائل التي خالف فيها النبي ﷺ أهل الجاهلية، قد جمعها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالة مستقلة، فإن الشرع قد خالفهم في أمور كثيرة، مما كانوا عليه، ففي هذا المقام في الإفاضة، وأيضًا لما كانوا يتفاخرون إذا رجعوا من عرفات ومزدلفة بمآثر الآباء والأجداد أمرهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكرًا، باعتبار أن (أو) هنا للإضراب، بمعنى (بل) يعني بل أشد ذكرًا من ذكرهم لآبائهم، يلهجون بذكر الله -تبارك وتعالى، والثناء عليه بدلاً من الثناء على الآباء والأجداد، وذكر الأحساب والأنساب.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعد الوقوف بعرفة يأمرهم بالاستغفار، وطلب المغفرة، فالحاج بعرفة يدعو الله ويبتهل إليه ويذكره، وينزل ربنا -تبارك وتعالى- عشية عرفة، وهو موضع مظنة للعتق من النار، ومغفرة الذنوب، وما رؤي الشيطان أصغر، ولا أحقر منه في يوم عرفة، ومع ذلك ففي هذا اليوم الذي هو مظنة أن يقال للناس: انصرفوا مغفورًا لكم، يقول: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ النبي ﷺ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر قطعًا، ومع ذلك يستغفر في المجلس الواحد، أو في اليوم والليلة مائة مرة، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا[2].

فالعبد لا يستغني عن الاستغفار؛ لأنه مهما فعل، وتقرب، وعمل، وبذل وأحسن وأنفق، فإنه لا يؤدي نعمة الله عليه، لا في دينه، ولا في دنياه، فلو نظر الإنسان إلى هذه النعم هذه في مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب، أو في هذه الأعضاء والأبعاض التي تعمل في جسده دون كلفة، ولا جهد، بل لو نظر فقط في عينه كيف تبصر؟ ودرس عمل العين، وما ركبت منه لهاله ذلك، وعجز عن شكر هذه النعمة، ولو بقي ساجدًا إلى أن يموت، فكيف بوظائف الأعضاء؟ هذا الكبد، والكلى، والرئة والجهاز التنفسي، والقلب، لو وكل إليه واحد من هذه لأعياه ذلك؛ ولما استطاع أن يأكل ويشرب، ويتحدث مع الناس وينام، فهذه نعم يعجز الإنسان عن شكرها، فيحتاج دائمًا إلى استغفار، وشعور بأنه ما وفى بشكرها، فيحتاج إلى مغفرة.

ثم هذه الأعمال والعبادات العظيمة والدعاء والذكر يعتورها ما يعتورها من التقصير، وربما يحصل شيء من الالتفات إلى النفس، والإعجاب بالعمل، أو الإنجاز، وأنه قد وقف بعرفة، ووصل إلى مزدلفة في وقت قياسي قبل الناس، وصل إليها، وهي فارغة في سبع دقائق، والناس يصلون عند فروع الفجر، فهنا يحتاج إلى استغفار، وشكر لله بأن هداه وأنعم عليه، ووفقه فحج، وأن الله يسر له هذا العمل وبلغه، فهو لا يؤدي شكر هذه النعم، فأمرهم بالاستغفار وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ والاستغفار سبب لغفران الذنوب، وجلب النعم، والمطالب الدينية، والدنيوية فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝  يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:10-12] فهل تُحصل المطالب إلا بالاستغفار؟ والعبد حينما يعرف قدره، ويعرف ربه، فإنه لا يسعه إلا أن يلهج بالاستغفار قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، من هذا التقصير، لكن الجاهل ربما يعمل عملاً ولو يسيرًا، ويرى أنه قد قام بكل شيء، فيعجب بعمله، ويتحدث عن نفسه، ويصور نفسه في تلك المقامات والأعمال والحج، وفي كل ناحية، منذ أن ركب مركبته إلى أن يرجع، وهو يصور ويرسل، ويرفع يديه، ويأمر من يصور، أين هذا من الإخبات والانكسار والذل والاستغفار؟

وبعد الصلاة -وهل شيء أعظم من الصلاة الركن الأول بعد الشهادتين؟- كان النبي ﷺ إذا انصرف من الصلاة استغفر ثلاثًا، فأول الذكر الذي يقال بعد الصلاة الاستغفار، وهكذا بعد قيام الليل الطويل،  يقوم الليل ويستغفر في السحر، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [سورة آل عمران:17] فالذي قد أمات ليله بالغفلة، أو بالمعصية ماذا يفعل؟! هذا بعد قيام ليل طويل يستغفر في السحر، يستغفر من ماذا؟ يستغفر أنه ما قام بما يليق وينبغي في حق هذا الرب العظيم الكريم الحليم المتفضل الذي قد غمرنا بالألطاف التي لا نحصيها ولا نعدها، فنحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى الاستغفار في كل أحوالنا ومقاماتنا، فنحن في غاية التقصير والإساءة، مع حلمه، وإحسانه إلينا.

ويؤخذ من هذه الآية وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:199] أنه قرن الحكم بالعلة، وهذا كثير في القرآن، لكنه في هذا الموضع يبعث على الإقدام، والإقبال والتشمير في اللهج بالاستغفار، فلا مجال لليأس والقنوط من رحمة الله، مهما تعاظمت الذنوب، فاستغفروه فهو غفور رحيم، فهذه الأسماء لها آثارها ومقتضياتها، فإن من التعبد لله -تبارك وتعالى- باسمه الغفور والرحيم أن يستغفر، والله المستعان.

ونختم هذا المجلس هذه الليلة بما جاء عن وهيب بن الورد -رحمه الله- أنه قرأ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة البقرة:127] ثم بكى، وقال: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن، وأنت مشفق أن لا يُتقبَّل منك[3]، أجل عمل يقوم به خليل الرحمن، ويقول: يا رب تقبل منا إنك أنت السميع العليم، فأين هذا من الذي ضمن قبول الحج، وضمن أنه قد غفر له، وعند نفسه أنه يفعل ما شاء، ثم يحج، وكذلك الذي يسأل إذا كان يوم عرفة يكفِّر سنة ماضية وسنة آتية فلماذا نصوم عاشوراء؟ فهذا يستكثر يصوم يومًا واحدًا، هو لا يعلم هل قُبل منه صوم عرفة أصلاً، أو رُد عليه، هذه ليست بحال من عرف ربه! 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 192).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب قيام النبي ﷺ الليل حتى ترم قدماه برقم (1130) ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة برقم (2819).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 427).