ومن أهل العلم من يحمل مثل هذه الآيات على أمور تتعلق بالتعبد، فقالوا: آتنا في الدنيا حسنة ليس المراد به الزوجة الحسناء، أو المال أو ما أشبه ذلك، وإنما فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً يعني العبادة، والتوفيق للطاعة، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة يعني الجنة.
وقد مرت بنا في الدرس الماضي آيات حملها بعض أهل العلم على نظائر هذا مثل قوله تعالى: أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وقوله: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]، وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، فهذا منحى لبعض أهل العلم يفسِّر به مثل هذه الآيات، وإن كنا لا نقول إن هذا هو المعنى الراجح فيها.
فالمقصود أن الحسنة في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة:201] غير محددة، فيدخل فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، ويُسرُّ به، ويستحسنه من أمور هذه الدنيا، وحطامها من المال، والولد، والزوجات، والمراكب، ويدخل في ذلك أيضاً ما يوفق إليه من العبادات، والطاعات، فكل ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الآخرة فهي الجنة.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم، والآثام، وترك الشبهات، والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: "من أُعطي قلبا شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار"، ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء.
روى البخاري عن أنس بن مالك قال: "كان النبي ﷺ يقول: اللَّهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار[1]".فهذا اللون من التفسير هو من أحسن ما يقال في تفسير هذه الآية، وإذا جرى المفسر على هذا النمط في كثير من المواضع التي يمكن فيها أن تجمع الأقوال سواء كانت من خلاف التنوع، أو خلاف التضاد فإن هذا هو التحقيق في التفسير، وهذا تجده كثيراً في تفسير ابن كثير - رحمه الله - وتجده أيضاً في تفسير ابن جرير، وتجد ذلك أيضاً في كلام الحافظ ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً في أضواء البيان، وأمثال هذه الكتب التي كتبها أئمة محققون، وهذا بخلاف بعض الكتب التي أولع أصحابها بتشقيق الأقوال وتعدادها فلا تجد فيها مثل هذا، ولهذا إذا قرأ في تلك الكتب من لا بصر له في التفسير ربما لا يزيده ذلك إلا حيرة في معرفة الراجح من هذه الأقوال الكثيرة.
وعلى كل حال فهذا مثال على هذا النوع من التحقيق، وذلك أن الله لم يخصص حسنة دون حسنة، وإنما قال: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً فيدخل فيه كل ما ذكره المفسرون مما يصدق عليه أنه حسنة.
والمعنى الذي ذكره أيضاً في قوله: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ مما يتعلق باتقاء الشبهات، والمحرمات إلى آخره، هذا كله مما يذكر قد بُني على ما يذكر في الأصول من أن النص تسلط عليه أنواع الاستنباط المأخوذة من أنواع الدلالة المعروفة، فيؤخذ منه ومن معناه المطابق، والمتضمن، واللازم، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء، والتنبيه، فإذا قال: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فإن لازم ذلك أن يقيه أسباب دخول النار.
"وروى أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ عاد رَجُلاً من المسلمين قد صار مثل الفَرْخ، فقال له رسول الله ﷺ: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيَّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله! لا تطيقه - أو لا تستطيعه - فهلا قلت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قال: فدعا الله، فشفاه" [انفرد بإخراجه مسلم][2].
وروى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: جاء رَجُل إلى ابن عباس - ا - فقال: إني أجَّرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحجَّ معهم، أفيجزي ذلك؟ فقال: أنت من الذين قال الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202]، ثم قال الحاكم: [صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه][3]."سبق الكلام في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198] عن الذي يكري نفسه في الحج، وهذه الرواية مفسِّرة لتلك الرواية، فهو يكري نفسه بالحج، ويضع من أجرته على أن يمكنوه من الحج.
واسم الإشارة في قوله - تبارك وتعالى -: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ [سورة البقرة:202] يرجع كما قال بعض أهل العلم إلى الذي أراد الدنيا بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [سورة البقرة:200] وإلى الذي أراد الدنيا والآخرة بقوله: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201].
والأقرب - والله أعلم - أن اسم الإشارة يرجع إلى المذكور الآخِر وهو قوله: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201] وهذا على قاعدة أن اسم الإشارة يرجع إلى أقرب مذكور، وهذا الذي عليه كثير من المحققين سلفاً وخلفاً، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وابن كثير لم يتعرض لهذه المسألة.
وسريع الحساب من قوله تعالى: وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202] يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن مجيءَ اليوم الآخر الذي يقع فيه الحساب وهو يوم القيامة سريع وقريب، ومعلوم أن كل ما هو آت قريب، والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب، وأن هذه الدنيا قصيرة، وسريعة الانقضاء، والزوال.
والمعنى الثاني المتبادر والأشهر، وهو الذي عليه كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم الله، بخلاف حال المخلوقين، فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن هذا يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة، والله لا يحتاج إلى إحصاء، وعد، وضبط بيدٍ، أو آلة، يضبط فيها هذا الحساب؛ فحساب النفوس جميعاً عنده سبحانه كحساب نفس واحدة، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها (4250) (ج 4 / ص 1644) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار(2690) (ج 4 / ص 2070) واللفظ للبخاري.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا (2688) (ج 4 / ص 2068).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (3099) (ج 2 / ص 305).